|
الـيـونـان هنا وهناك، أمس واليوم
قبل مغادرتي باريس ببضعة أيام، قُيِّض لِلِقاءٍ بمسافر "فوق العادة" – والتعبير في محلِّه – أن يغمرني فجأةً في أغوار العالم الإغريقي وروائعه. على مسافة بضع خطوات من الشانزيليزيه، أمام باب "القصر الصغير"، منتصبًا كان، جليلَ الجذع، على الرغم من جهاز تقويمي ثقيل مخصَّص لتثبيت الكسور. قدَّم نفسه:
"مارد" منارة الإسكندرية، بطليموس (الأول أو الثاني)، أمام متحف "القصر الصغير" (معرض "مجد الإسكندرية"، باريس 1998). - يسمُّونني بطليموس. ومع أني متخذٌ هيئةً بشرية فأنا طليق من القيود الفسيولوجية التي تحدِّد مصائر البشر بكلِّ هذه المأساوية. غير أن المأساة لم تضنَّ بي، كما ترى... فبعد 16 قرنًا مضت على وجودي عند مدخل مرفأ الإسكندرية، عند أسفل المنارة الشهيرة، قُذِفَ بأطناني العشرين من الغرانيت الوردي إلى قاع البحر، من جراء واحدة من تلك الهزات الدورية التي تقلب سواحلنا المتوسطية رأسًا على عقب. والتعبير – أؤكد لك – ليس من الغلو في شيء. فقد جاء آثاريون من بلادك وانتشلوني من هناك في العام الماضي. وقد ذهبتْ بهم المجاملة حتى نقل كِسْراتي – تلك التي استطاعوا استعادتها على الأقل – إلى هذه العاصمة، حيث أعاد لي فنِّيون دقيقو الاختصاص ملامحي القديمة. سعيد أنا بلقائك، يا صاح، وسط هذا السير الهائج، الكريه الرائحة، في مقابل تَهادي المراكب الشراعية الداخلة إلى المرفأ. كم هي حزينة، عكرة، مياه نهرك بالمقارنة مع ذلك البحر بلون عيون إلهاتنا! بعد بضعة أيام، لحسن الحظ، سيعودون بي إلى هناك، حيث سألبث في هدوء منتظرًا الكارثةَ المقبلة. وعلامَ أشكو؟! أليس مصيري مصير تلك الأشياء الغامضة، المصنوعة من مزيج من المادة والروح، التي تسمونها "رموزًا"؟
تمثال بطليموس بعد انتشاله من قاع البحر (الإسكندرية 1997). ما عساني أجيب على كلام بهذه المفاجأة؟ - رافقتك السلامة، يا بطليموس الحجري! لا أكتمك أنك كنتَ من عدم النفاد بجلدك قاب قرنين أو أدنى! ففي أوروبا، ولَّى زمنُ نهب الآثار – انظر إلى المسلَّة، قريبًا جدًّا من هنا، وإلى جناح الآثار القديمة في اللوفر، أبعد قليلاً على الرصيف ذاته. عُدْ، إذن، إلى تلك المدينة، حيث استحق الملوك الحاملون اسمَك، – وهُمْ إغريق، لا ننسى ذلك! – عن جدارة، أن نعتني، بعد 2000 سنة، بصورتهم الحجرية. لقد أفلحوا في جعل الإسكندرية، طوال حوالى تسعة قرون، العاصمةَ الحقيقية للعالم الإغريقي – العاصمة الروحية، بداهةً. هيا امضِ، أيها الرمز الذي رَتَقَه سحرُ التكنولوجيا! انطقْ واجعلنا ننطق، بما أنهم صنعوك لهذه الغاية. وأنت، إذ تُعاد إلى مكانك، سوف تحدثنا عن زمن كانت فيه الحملاتُ العسكرية استهلالاً للمبادلات الثقافية. لقد اتصف قائدك الإسكندر، – تلميذ أرسطو وأخيليوس المنبعث جملةً، – إذ صال وجال بين النيل والسند، بحكمة احترام أديان وتقاليد شعوبٍ فضَّل النزولَ ضيفًا عليها على استعبادها. وعند موته، صرت أنت الفرعون – وهي منزلة أشبه ما تكون بمنزلة معلِّم إلهي في دولة اشتراكية – الذي كانه هو في لباقة. وأي عمل جبار كان عملك!
تمثال بطليموس كما يُرى الآن أمام أحد أبنية مكتبة الإسكندرية الجديدة. لكنني أشرد، ظنًّا مني أني أكلِّم سائر البطالمة الذين يخلِّدهم هذا التمثال على مسؤوليته. مَن أمر ببناء المكتبة (تلك المؤسَّسة التي كانوا من الحرص عليها حتى إن موظفيهم، لكي يُغْنوها، كانوا يستعيرون الكتب محمولةً على السفن، ثم يعيدونها بعد نسخها)، وعلى مقربة من المكتبة، مركز بحوث، الموسِيون [المتحف]، أول منشأة في العالم تحمل هذا الاسم؟ إنهم البطالمة. مَن شاد، على جزيرة فاروس، تلك المنارة التي بهرت العالم، حتى ذلك اليوم الذي أغرقتْها فيه لعبةُ الصفائح الأرضية في البحر، ومعها تمثالنا هذا؟ هم أيضًا. ومَن قام، إذ رغبوا في إعطاء الكتاب العبري جمهورًا من القراء عالميًّا، بجمع فريق من المترجمين، على جزيرة فاروس تلك بعينها، عكفوا على تحرير النسخة اليونانية الأولى لأكثر الكتب قراءة في العالم؟ هم، أيضًا وأيضًا.
منارة فاروس السكندرية الشهيرة، آخر "عجائب الدنيا السبع" (انتهى بناؤها في عهد بطليموس فيلادلفوس في العام 283 ق م، وبلغ ارتفاعها أكثر من 100 م، ويقال إن البحارة كانوا يستطيعون رؤية ضوئها على بعد 60 كم من الشاطئ). والرومان، وحوش التنظيم العسكري والمدني أولاء، استولوا على أثينا في العام 87 ق م، كما نعلم، وما لبثوا حتى توسعوا في أفريقيا وفي آسية الصغرى. وبعد ما يقرب من 300 سنة على موت الإسكندر، اضطرت كليوپاترا المسكينة، آخر بنات تلك السلالة العاشقة للحق والخير والجمال، وقد طوَّقها أفظاظٌ مدججون بالسلاح، إلى اللجوء إلى سمِّ الصِّل.
لكن الروح – ولله الحمد – لا تستسلم في سهولة! فقياصرة روما ومثقفوها كانوا أول مَن قدَّر الثقافة الإغريقية حقَّ قدرها: قبل الغزو الروماني بفترة، ذهب رجل الدولة شيشرون [106-43 ق م] إلى أثينا طلبًا للفلسفة؛ وفي العام 176 للميلاد، أحيا ماركوس أوريليوس، الإمبراطور الحكيم – وهذا قد يحدث! – أربعةَ كراسي أستاذية في الفلسفة (أفلاطوني وأرسطي ورواقي وأپيقوري) أجرى عليها المالَ من الخزينة الإمبراطورية؛ وبعد ذلك بمئة سنة، جاء أفلوطين، الذي بدأ حياته الفكرية في إسكندريةٍ ما تزال إغريقيةَ الروح، مؤسِّسًا في روما نفسها مدرسةً أفلاطونية حديثة، مدرِّسًا فيها المذهب الأخير من مذاهب فكرٍ – وهو المتحدِّر من المعلِّمَين المتكاملين فيثاغوراس وهيراقليطس – انبسط إبان أربعة قرون. وهذا الفكر بعينه، الذي يرى فيه الثيوصوفيون الجُدُد (ومنهم السيدة بلافاتسكي) تعبيرًا من تعبيرات الحكمة الإلهية، لم يكن الرومان إلا خادمين له على مساحة إمبراطوريتهم بأسرها.
اعذروني على هذا التعالُم البحت. فقد كنت راغبًا في ترسيخ قناعة – كانت قناعة البوذا أيضًا – مفادها أن الصانع الحقيقي لتاريخنا، الذي يندغم في تاريخ الكون، هو الفكر، وأن "المفكرين" الذين نجلُّهم لم يكونوا أو ليسوا إلا الأدوات المتوالية على تجلِّيه. فكما ذكَّر بعضهم في پالو ألتو، أحرى بنا أن نقول: "يُفكَّر بنا" من أن نقول: "نفكِّر"! ويطيب لي أن أضيف بأن هذه السيرورة العِبْرفردية، في عالمنا الغربي، بدأت هاهنا – هاهنا تحديدًا – على أرخبيل بحر إيجة والسواحل القارية المجاورة. كل شيء يجري وكأن الظواهر الدماغية، في نوعٍ من تواصُل الطاقة، كانت النتيجة الطبيعية للظواهر الجيولوجية؛ وكأن تقلبات القشرة الأرضية تلتْها التأملاتُ التي هي في أصل المبادرات الحضارية. كذا فإن لكوكبنا – ذلك الكائن الحي – مراكز للطاقة خلاقة، – تشاكرا، بالمصطلح الهندي؛ – وها أنا ذا أكتب هذه السطور إليكم من واحد منها.
تقع تشاكرا (مراكز طاقة) الأرض على مسار لولبي للطاقة يدور حول الكوكب (متغيرًا مع الزمن)، اصطلح حكماء الصين على تسميته بـ"تنين العالم"، حيث العالم هو "بيضة" التنين! أقلَّتْني رحلةٌ جوية إلى هيراكليون، عاصمة كريت الحديثة. على مبعدة 5 كيلومترات منها، ينتظر كنوسوس، المركز المفترَض لحضارة بحرية ساطعة، حجافلَ زواره. رجلان تركا بصماتهما على تاريخ هذا القصر–التيه: الملك الأسطوري مينوس وعالم الآثار السير آرثر إيفَنز الذي، قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها، اشتغل 25 سنة على الموقع. تخيَّل هذا العالم الشغوف النشاطاتِ التي كانت تجري في القصر الضخم؛ ثم قام فنانون بعده بتنفيذ رسوم مستلهَمة من تصوراته. والنتيجة، لا ريب، فاتنة؛ ولكن هل هي موثوقة؟ أتذكر زياراتي لغرناطة، حيث اعترف اختصاصيون في عهد الملوك الكاثوليك بجهلهم المطبق بالحياة التي انطفأت داخل قصر الحمراء قبل ذلك بأربعمائة عام.
كنوسوس: من أطلال قصر الملك الأسطوري مينوس (الألفية الثانية ق م). من هيراكليون إلى ثيسالونيكي، يسَّرت لنا طائرةٌ مروحية صغيرة التحليقَ فوق الأرخبيل من الجنوب إلى الشمال، في سرعة وعلى ارتفاع معقولين: في هذه الحالة يصير لمصطلح "ملاحة جوية" معنى. كانت سعادتي غامرة بتمييز سانتوريني وپاروس وغيرهما من الجزر، كما كانت رغبتي شديدة في الترجل على جزر أخرى: رغبة في العودة، بكلِّ بساطة.
كريت: جزيرة سپينالونغا، "صومعة المجذومين". سپينالونغا – تلك الجزيرة الصغيرة في شمال كريت – كانت فيما مضى صومعةً مخصصةً لاعتكاف نسَّاك من نوع خاص: المجذومين. يخطر ببالي صديقي ميشيل جوردان، الذي ليس مجذومًا، والحمد لله، والذي كتب حياة النساك. لكم سيسعده أن يُتاح له الاعتكافُ في هذا الموقع المهجور، الذي صار هدفًا لرحلات يومية! ميشيل هو الذي أشار عليَّ بقراءة مؤلَّف پيير حادو الهائل الأهمية: ما هي الفلسفة القديمة؟، الذي أهيب بكم أن تقرؤوه حتى تجْنوا من سطوري هذه شيئًا من الفائدة.
هل أنتم ممَّن ينتابهم الحنينُ إلى مسقط الرأس؟ إذا كنتم منهم، فبعد قراءة سطوري، سوف تعممون هذا الشعور على اليونان وعلى سائر الأمكنة التي أزهر فيها الفكرُ الإغريقي. إذ نحن جميعًا إغريق على نحوٍ ما – ونحن نخرج من ذلك بفائدة جمَّة. هيراكليون، ثيولوغوس، أيلول 1998 *** *** *** ترجمة: د.أ. [*] الدكتور پ. لونوفو (1920-2000) طبيب إنساني، فيلسوف ضاحك، رحالة لا يكل، مصور فوتوغرافي موهوب، "مواطن عالمي"، وصديق رائع، لا أستطيع، وأنا أنهي ترجمة "رسالته" هذه، إلا أن أذرف دمعة محبة على نفسه الطاهرة – لعل شعوري يصله حيث هو الآن. (المترجم) |
|
|