french arabic

نيكوس كازانتزاكيس والشعر

 

يورغوس ستاسيناكيس*

 

في 27 تشرين الأول 1957 مات نيكوس كازانتزاكيس في فرايبورغ في برايسغاو. وفي 30 من الشهر نفسه كتب الشاعر ألان بوسكيه في صحيفة كفاح:

إنه لوجه من أرقى وجوه الأدب وأنبلها قد دخل لتوِّه إلى الأبد في ذاكرة بشر هذا الزمان... كثيرًا ما جيء على ذكر ترشيح كازانتزاكيس لجائزة نوبل؛ وكونه لم يفزْ بها هو اليوم ضمانة إضافية لعظمته الدائمة. فهو، إلى جانب كافكا وبروست، على حدٍّ سواء مع ذلك المغمور الكبير الآخر هرمان بروخ، واحد من عمالقة كتَّاب هذا القرن.

من جانبه، كتب ألبير كامو في 16 آذار 1959 إلى إيليني كازانتزاكي:

لقد كنت أكنُّ الكثير من الإعجاب و – إذا أجزتِ لي – نوعًا من المودة لآثار زوجكِ. ولا أنسينَّ يومًا بعينه، كنت أسفتُ فيه على نيلي جائزة كان كازانتزاكيس يستحقها أكثر بمئة مرة، فإذا بي أتلقَّى منه أكثر البرقيات كرمًا... بغيابه يختفي واحدٌ من أواخر فنانينا الكبار. وأنا من أولئك الذين يستشعرون، وسيواصلون استشعار، الفراغ الذي خلَّفه.

ويستمر مثقفون آخرون في محبة آثار كازانتزاكيس. أما الجمهور العريض فيعرفه من خلال الإعدادات السينمائية لـأليكسيس زوربا والمسيح يُصلَب من جديد والإغواء الأخير. لكنه يعرف أقل من ذلك بكثير حبَّه للشعر وإبداعَه الشعري.

فإذا كان المطَّلعون ذوو الإلمام يعرفون الأوذيسة الضخمة فإن الـترتسينِس (الأناشيد) متجاهَلة. وغالبًا ما يتم تجاهُل الإشارة إلى أن آثار كازانتزاكيس جميعًا مشرَّبة بالشعر.

وفي الواقع، من الصعب فرز هذا الجزء أو ذاك من آثاره. فكازانتزاكيس كان مفكرًا تامًّا، غَشِيَ الأنواع الأدبية كافة، خارج نطاق الحلقات والمدارس الأدبية، مناوئًا للاتِّباع، منشقًّا، إنسانًا حرًّا. كان يفتش عن الكنوز الداخلية، عن الله. ملتمسًا القلب، وليس العقل، كان عاشقًا للطبيعة، للحيوانات، للبسطاء من البشر. كان، باختصار، شاعرًا حقيقيًّا.

 

إن بحثنا، المؤسَّس على كتابات الشاعر وعلى شهادات المقرَّبين إليه، يطرح منحى كازانتزاكيس الشعري، وذلك تحت مظاهر أربعة: حبه الدائم للشعر، دور الشاعر، شعراؤه المفضَّلون، وإبداعه الشعري.

حبٌّ دائم للشعر

شُغِفَ نيكوس كازانتزاكيس، منذ ريعان شبابه، بالشعر. كان لا يزال تلميذًا في مدرسة الصليب المقدس الفرنسية في جزيرة ناكسوس (1892-1897) عندما قرأ أكابر الشعراء الفرنسيين: شاتوبريان، هوغو، لامرتين، موسِّيه.

وفي العام 1902، عندما صار طالبًا في كلية الحقوق في جامعة أثينا، كتب إلى صديقه أنطونيس أنيمويانيس (والد يورغوس أنيمويانيس، مؤسِّس متحف نيكوس كازانتزاكيس في فارفاري–ميرتيا في كريت):

أحاول طرد الشعراء من مكتبي، والشعرَ من قلبي. فليتنحَّ هوغو لسافينيي، ولامرتين لجيرِنغ، والشعرُ للواقع. ومع ذلك، أمامي، في اللحظة التي أكتب إليك فيها، فتحتُ دانتي ومانزوني، فيما مكتبي مزيَّن بهوغو وسولوموس. ومع ذلك فمن الضروري أن أصير محاميًا. صراع رهيب يحتدم فيَّ، وآمل أن أحبَّ الحقوق. غير أن الشعر يستحوذ عليَّ. إنه مثل ساحرة عاشقة جميلة، في نهديها ينسى المرء كلَّ العذابات وفي نظرتها يشعر بارتعاشة اللذة.

في العام 1907، منحتْ جامعةُ أثينا الجائزةَ الأولى لمسرحيته كسيميروني (" طلوع النهار"). وقد صرَّح الأستاذ الذي سلَّمه جائزته: "إننا نتوِّج الشاعر، لكننا نطرد من هذا الهيكل العفيف الشابَ الذي تجاسر على كتابة أشياء كهذه."

طوال فترة دراسته للحقوق في باريس (1907-1908)، توفَّر على حضور دروس برغسون في الكوليج دو فرانس. وقد وضع أنثولوجيا للشعراء الفرنسيين: بودلير، دُهْ هيريديا، دُهْ نُواي، مالارميه، رَمْبو، سولي برودوم، فرلين، إلخ؛ وهي موجودة في متحف كريت التاريخي، في هيراكليون.

ولقاؤه مع أنغيلوس سيكِليانوس – ذلك الشاعر اليوناني الكبير الآخر – ورحلتهما إلى جبل آثوس يؤكدان حبَّه للشعر وشغفه به.

في أثناء أسفاره كلِّها كان يقرأ الشعر. ففي العام 1925، كتب إلى إيليني ساميو، رفيقته التي صارت بعد الحرب زوجته الثانية:

مساءً، حتى منتصف الليل، أقرأ أيَّ شيء: فلسفة، كتبًا شيوعية، شعرًا.

وابتداءً من العام 1926 كرَّس نفسه للشعر: الأوذيسة وترتسينِس. وسنعود إلى ذلك لاحقًا.

إن سِيَرَ رحلاته في اليونان وأوروبا وآسيا تنضح بجمال شعري استثنائي. فلنتذكر أوصاف الصحراء، والبدو، وجيل سيناء، والأماكن المقدسة. من كريت كتب:

ليس أمامي إلا دانتي وسونيتات شكسبير. لن أقرأ طوال النهار غير ذلك من أجل أن أعزِّم على العاصفة.

وبعد الحرب، في العام 1945، كان كازانتزاكيس في أثينا يشارك في اجتماعات أدبية سُمِّيتْ بـالأوذيسيات. وقد كتبتْ رفيقتُه الوفية إيليني:

إبان أكثر من سنة اعتاد أصدقاء، شبانٌ وشيب، قدماء وجديدون، القدومَ لزيارة شاعرهم العزيز. أحيانًا يقف أحدهم وينصرف في عزِّ الجلسة. إنه عادة ما يكون شاعرًا حديثًا أبعد ما يكون عن الرداءة. كان نيكوس يحترم آراء تلامذة إليوت الذين يأخذون على ملحمته إنها "ضد الحداثة". فهو، إذ كان يعبد الشبيبة، لم يكن يكره أن يراهم أندادًا له.

في العام التالي، 1946، كان كازانتزاكيس موجودًا في إنكلترا. وهو كثيرًا ما أوْرَدَ في رسائله ذكرَ لقاءاته مع شعراء:

رأيت بالأمس جون ميسفيلد: علاَّمة رائع ورجل ظريف؛ تحدثنا عن الشعر الإنكليزي. ذهبت إلى وادمان كوليدج، وزرت أستاذ الشعر بورا. متَّقد، ذكي، وذهن مثقف، إنه يفقه الشعر. لا يحب تشارلز مورغان. وقد قرأنا أبياتًا. إنه يعتبر لويس وإيدِث سِتْوِل خيرة الشعراء...

في العام 1947 كان في باريس. تتذكر إيليني كازانتزاكي بانفعال:

أصدقاء قدماء يتحلَّقون حول فنجان كاكاو في الصالون الجميل لمضيفتنا مدام سوزان بيو، حيث يحق لكازانتزاكيس (لا لأحد غيره) الجلوس على "كرسي الشاعر"...

في العام 1956 نال في فيينا الجائزة الدولية للسلام، فأعلن فيما أعلن:

لهذا الاحتفال بنظري، في الآن نفسه، معنى يمسُّ شغافي: لجنة تحكيم الجوائز الدولية من أجل السلام تمنح شاعرًا يونانيًّا غصن الزيتون...

ولكي نختتم هذه الفقرة عن هذا الحب الدائم للشعر، فلنورد أقوال إحدى الشخصيات في روايته تودا رابا:

آه! الحياة بعيدًا عن الأهواء والخواطر الزائلة، الارتقاء فوق الفعل، خلق عمل فني! ألا يزن بيتُ شعر كاملٌ أكثر من فتح إمبراطورية؟

دور الشاعر

الشاعر، بنظر كازانتزاكيس، إنسان خلاَّق، مقاتل، وراءٍ. عليه أن ينخرط في الحياة اليومية في خدمة السلام، ضدَّ الظلم، وفي سبيل الحرية. الشعر، بنظره، لا يفترق عن الحياة.

في أيار من العام 1946، بوصفه رئيس جمعية الأدباء اليونان، استقبل كازانتزاكيس في أثينا بول إيلوار بهذه الكلمات:

الشاعر في زماننا لم يعد يكفينا؛ المقاتل، بدون الشاعر، يضرب خبط عشواء. لقد دخلنا في فترة لا ترحم من العمل المباشر الملتهب – في فترة الحبِّ المسلَّح.

الشعراء يسيرون في مقدمة الركب ويبذرون كلمات. لكن ينبغي لهذه الكلمات اليوم أن تكون محشوة بالمواد المتفجرة. المثقفون فقراء الدم يرتعدون. يحسبون أن الحرية يمكن أن تأتي بدون عنف، ذات صباح جميل، كما يأتي الربيع. لكن الحرية كانت دومًا ابنة الحرب والحب.

الشعراء العميقون والمرتعشون، من أمثالك أيها الرفيق بول إيلوار، فهموا هذه الحقيقة المدمَّاة، فنزلتم إلى الشارع، دخلتم في الصراع، شاركتم في القتال.

هذه اللحظة التي نجتازها هي من الحرج بمكان؛ إذ إن تألُّم البشرية بطريقة لاإنسانية بلغ حدًّا صار معه الشاعر الذي يبقى فوق الصراع كمن يرتكب فعلة لا تليق.

نقرأ في السيناكسار القديم أن زاهدًا كان دأبُه أن يرفع نحو الضوء جَنَبَة. فكان يحدِّق فيها والدموع تسيل من عينيه. سأله أحدهم:

-        لِمَ تبكي، يا أبتِ القدوس؟ ماذا ترى على هذه الجَنَبَة؟

فيجيب الزاهد:

-        أرى يسوع المسيح مصلوبًا، أرى البشرية قاطبة تتوجَّع.

هذا ما يجب على الشاعر أن يراه اليوم في كلِّ شيء وفي كلِّ مكان: الحبَّ المصلوب، الرجل والمرأة والروح تتوجَّع.

وهذا ما تراه أنت، رفيق بول إيلوار، في كلِّ شيء وكلِّ مكان. ولهذا فإن جمعية الأدباء سعيدة بأن تستقبلك اليوم وبأن تكرِّم، في شخصك، هذه الصفة المزدوجة: صفة الشاعر وصفة المقاتل.

في تموز من العام نفسه، أطلق كازانتزاكيس من الـبي بي سي، في لندن، نداءً إلى مثقفي العالم أجمع:

كما كانت الحالُ عليه في حضارات الماضي الخلاَّقة كافة، عاد الناس يرون في الشاعر نبيًّا. فلنثقْ في روح الإنسان؛ ففي الآونة العسيرة، عندما يكون مصير البشرية قيد الرهان، يتحمل الروح مسؤولياته. جزمًا إن فكرة عظيمة قد ولدت اليوم من الأرض المدمَّاة. ولهذا فإن العملية بهذا الإيلام؛ ولهذا أيضًا تحررتْ قوى الشرِّ بهذه الشراسة في السنوات الأخيرة، محاوِلةً، مرة أخرى، خنق الطفل الوليد...

شعراؤه المفضلون

أحب كازانتزاكيس الشعراء اليونانيين، ولا سيما الشباب منهم الذين كانوا يسألونه النصح. وقد ترجم إلى اليونانية الحديثة (بالتعاون مع الأستاذ كاكريذيس) إلياذة هوميروس وأوذيسيته. وعلى مشارف نهاية حياته، أسرَّ إلى صديق التقى به في أنتيب بأنه وضع أنثولوجيا من مئة قصيدة لخمسة وعشرين شاعرًا يونانيًّا (هم: أغراس، ألكسيو، أفييريس، غريباريس، إفتاليوتيس، كالفوس، كاريوتاكيس، كافافي، مالاكاسيس، مافيليس، ميلاخرينوس، بالاماس، بابانطونيو، بوليلاس، بورفيراس، بريفيلاكيس، ريتسوس، سيفيريس، سيكِليانوس، سكيبيس، سولوموس، فالاوريتِس، فارناليس، فيزيينوس، فلاستوس).

كان يعشق أيضًا الشعراء الأوروبيين والأمريكيين اللاتين والشرقيين (أي العرب، الأفارقة، والآسيويين). وقد ترجم إلى اليونانية بعضًا من قصائدهم. وبالمثل، كتب عدة مقالات وملحوظات تتعلق بهم، نُشِرَت بصفة أساسية في موسوعة إلفثيروذاكي اليونانية الكبرى، وبذلك عرَّف الجمهور اليوناني على شعراء أجانب كان يجهلهم. وليس بالإمكان في مقام كهذا إيراد قائمة بكافة أسماء أولئك الشعراء. لذا سأكتفي بذكر الشعراء الروس، الفرنسيين، الإسبان، الأمريكيين الجنوبيين، الإنكليز والطليان.

حبُّ كازانتزاكيس للشعب الروسي معروف. زار الاتحاد السوفييتي مرات عدة وأُعجِبَ بالأدب الكلاسيكي والحديث لتلك البلاد. وقد كتب باليونانية كتابًا بعنوان تاريخ الأدب الروسي، يشير فيه مطولاً إلى الشعر الروسي (الشعر الشعبي للعصر الوسيط، العصر الكلاسيكي مع بوشكين، الشعراء المعاصرين لبوشكين، الواقعية الروسية، الشعر الغنائي، وأخيرًا الشعر المعاصر).

أما حبُّه للشعر الفرنسي، الذي اكتشفه في مدرسة ناكسوس الفرنسية، ثم في باريس، فقد رافقه طوال حياته. وقد كان بول فاليري، بلا مواربة، شاعره الفرنسي المفضل.

"أعشق فاليري، الشاعر والناثر؛ إنه ساحر." – أيُّ قصائد فاليري أثيرة إليك؟ "المقبرة البحرية" و"سعف". أحب أقل الـ"فاوست". في الشعر أرفع عبادة خاصة لفاليري. إنه ذروة حضارة، وغايتها. لعله مفرط في الرقة، في التصفية. إنه زهرة بلا بذور.

"إنه إله هذا البيت"، أضافت السيدة كازانتزاكي...

قبل وفاته بعام، كتب مجددًا بخصوص الكتَّاب والشعراء الفرنسيين:

مالرو، مورياك، سارتر، كلوديل، على الرغم من كلِّ شيء. وفوق الجميع: بول فاليري.

في العام 1926، إبان رحلة إلى إسبانيا، تعرَّف إلى شعراء، منهم تحديدًا خوان رامون خيمينِث، الذي كان، في نظره، "أعظم الشعراء الإسبان". وقد ترجم إلى اليونانية، ونشر في مجلة كيكلوس، العديد من قصائد خوان رامون خيمينِث، أنطونيو متشادو, بيدرو ساليناس، ميغيل دي أونامونو, مورينو فيلا, فيديريكو غارثيا لوركا, رافاييل ألبيرتي, إلخ. وكانت تلك المرة الأولى التي يُترجَم فيها الشعرُ الإسباني المعاصر إلى اليونانية.

ومن مصحة فرايبورغ في برايسغاو، قبيل وفاته, عندما علم بمنح جائزة نوبل للأدب إلى خيمينِث وكامو, طلب من زوجته إيليني:

لينوتشكا، تعالي بسرعة وساعديني في كتابة برقية جيدة. خوان رامون خيمينِث، ألبير كامو: هاك اثنان استحقا هذه الجائزة عن جدارة. هيا نكتب برقية حارة!

في العام 1956، عندما تسلَّم في فيينا جائزة السلام, التقى بشعراء من أمريكا اللاتينية. وكتبت إيليني:

لعل أعظم فرحة شعر بها نيكوس في فيينا فرحة اللقاء بالشاعر الكولومبي خورخي زالامِيا وبالروائي الأرجنتيني ألفريدو فاريلا. لقد بلغ حبُّ كزانتزاكيس لآثار زالامِيا أنه ترجم على الفور "موت بوروندوم بوروندا" وكذلك قصائد أخرى.

وقد قاده اهتمامُه بالشعر الإنكليزي إلى ترجمة عطيل شعرًا. وفي مراسلاته ودفاتر أسفاره كثيرًا ما يشير إلى لقاءاته مع شعراء إنكليز ونقاد أدبيين، في أكسفورد وكمبردج.

ولكن من بين الشعراء كافة، كان كازانتزاكيس يفضِّل دانتي الذي ترجم له الكوميديا الإلهية.

وتروي إيليني ساميو موقف نيكوس بينما كان دَرَكِيَّان من إيجينا يقتادانه إلى المخفر في العام 1944.

سرنا في طريقنا إلى إيجينا، يطوِّقنا بانايوتي ورفيقه, فيما نيكوس ساهِمٌ، وفي يده نسخته الصغيرة من دانتي, وأنا منزعجة بشكل فظيع من مسخرة ذلك السير القسري بين حربتين.

في العام 1949، من فيشي، كتب كازانتزاكيس إلى صديقه السويدي بوريي كنوس:

للمرة الأولى في حياتي تذوقت طعم الكسل. للمرة الأولى فهمت أن هناك جسدًا ويجب أن نعتني به, ليس من أجله، ولكن من أجل النفس التي يحملها على عاتقيه. أستحم, أتنزه تحت أشجار الدلب الخضراء, أقابل الكثير من الرجال السوداويين، وأحيانًا, مثل الخوارنة مع الإنجيل, أفتح أنا الآخر "دانتي رفيق الرحلة" الصغير وأقرأ بيتين أو ثلاثة أبيات، فأنخطف إلى الجحيم والمطهر والفردوس.

وفيما تتكلَّم عن كازانتزاكيس تختم إيليني بهذه الملاحظة:

كانت أناقته فطرية. أطقمه السيئة الخياطة، كان يرتديها بيسر... لم يكن يضع ربطة عنق. وكان اسكندر ذهبي يبكِّل قميصه. كان أيضًا يضع خاتمًا مينوسيًّا ضخمًا, ويتمنطق بحزام فضيٍّ قديم من جورجيا. كانت هذه كل ثرواته. ودائمًا في يده قفازان ناصعا البياض ودانتي ضئيل رفيق رحلته. وعندما شارفتْ حياتُه على النهاية، تخلَّى عن القفازين والخاتم. وحده دانتي لازمه في فراشه حتى لفظ آخر أنفاسه.

إبداعه الشعري

كافة آثار كازانتزاكيس (الروايات, المسرحيات, أدب الأسفار) مشرَّبة بحسٍّ شعري, وكتاباته كافة نبع للشعر لا ينضب. كتب كازانتزاكيس ثلاث قصائد كبرى:

-         الأوذيسة

-         ترتسينِس

-         السونيتات.

الأوذيسة

صَرْحٌ أدبي عملاق مؤلَّف من 33333 بيتًا، أنفق نيكوس كازانتزاكيس في كتابته 12 عامًا. وقد أعاد كتابته ستَّ مرات.

 

يصف فيه مغامرات عوليس، مغامرات الإنسان المعاصر، الساعي إلى حياة جديدة, الباحث عن الحرية, عن تجاوز نفسه.

من أجل أن يكتب هذه القصيدة – ثمرة تطوره الفكري – استلهم كازانتزاكيس رحلاتِه في أوروبا، في أفريقيا وفي آسيا، وكذلك قراءاتِه العديدة.

تبدأ المغامرة في اليونان (إيثاكا, اسبارطة, كريت)، وتتواصل في أفريقيا (مصر وأفريقيا الوسطى)، لتنتهي في القطب الجنوبي.

الأوذيسة عمل حَظِيَ في نظر كازانتزاكيس، وفي نظر الأجيال القادمة، باهتمام عظيم. عنه كتب كازانتزاكيس:

هذا الكتاب لم يُكتَب للعجائز، لكنْ للشباب، وحتى للذين لم يولدوا بعد. إنه كتاب سأحمله معي إلى القبر.

ترتسينِس

من آثار كازانتزاكيس التي لا يعرفها إلا القليلون. كُتِبَتْ بين عامي 1932 و1937. وهي مؤلَّفة من 21 قصيدة (نُشِرَتْ في العام 1960 في أثينا)، يتصدُّرها الاستهلالُ التالي الذي كتبه كازانتزاكيس نفسه في العام 1939:

وددت، في هذه الأناشيد، لو أتمكن من إظهار الاضطراب والفرح اللذين تهبني إياهما النفوس التي غذَّتْ نفسي. إنها الأمهات اللواتي غذَّينَني بمحبتهن، كما أفهمها, بالسلوك الروحي، والدأب، والإصرار – مع المقاومة – وليس المقاومة وحسب، ولكن الحب الفَرِح، وليس حب الوحدة الكاره للبشر. واليوم أنشر هذه الأناشيد. ومن بين الناس الذين أعرفهم, سبعة أو ثمانية فقط، على ما أستشعر، سوف يستبدُّ بهم الفرح لدى قراءتها. أما الآخرون فسوف يرمونها بقلق. لغتها, البحر, الإيقاع, "الملك المستور" الذي يحكمها, الطريقة الفرحة، المتعطشة, اليائسة، التي أنظر بها إلى المغامرة الفردية والعالمية, فوق كلِّ سلوى, فيما يتعدى كلَّ ثواب، بعيدًا عن كلِّ خوف – هذا كله لا يطيقونه. أتوسل إليهم أن يرأفوا بي؛ إذ لم أبذل أيَّ جهد لنيل إعجابهم. وحتى لو كنت فعلت ذلك لأخفقت. فالوحدة قد قسَّتْ طباعي بعض الشيء، والفرح الذي ينتابني عند الإبداع من العِظَم بحيث إنه لا يحق لي أن أطالب بأية أتعاب أخرى.

وهذه القصائد الـ21 هي:

15. شكسبير

16. ليوناردو

17. تودا رابا

18. هيديوشي

19. الإسكندر الأكبر

20. المسيح

21. الجد – الحفيد

8. إلى الذات

9. محمد

10. نيتشه

11. بوذا

12. موسى

13. الثُّلاث الشعري

14. إيليني

1. دانتي

2. الغريكو

3. جنكيز خان

4. بسيخاري

5. القديسة تيريزا

6. لينين

7. دون كيخوتي

السونيتات

متأثرًا بدانتي، كتب كازانتزاكيس العديد منها في أبيات إغريقية التفعيلة من 11 مقطعًا لفظيًّا. نذكر منها "أوديبوس", "ثرموبيلِس"، "الأبديون", "شجرة اللوز". وقد نُشِرَتْ في العام 1914.**

وما عدا هذه القصائد فإن آثار كازانتزاكيس الأخرى، وأعني الروايات والمسرحيات وأدب الأسفار، مشرَّبة بجمال شعري خارق.

وفي مقدمة الترجمة الفرنسية لمسرح كازانتزاكيس اعتبر نيكوس أثاناسيو أن النتاج المسرحي للكاتب برمَّته "قصيدة عظيمة" (فليعُد القارئ فعلاً إلى ثلاثية بروميثيوس أو نيقفوروس فوكاس). وبالمثل فإن بلدية هيراكليون قد ضمَّنتْ عددًا من مسرحياته الكتابَ الذي خصَّصتْه لآثار كازانتزاكيس الشعرية. وأخيرًا تنضح من آثاره كلِّها شاعرية رفيعة.

فالصفحات المخصَّصة للأراضي المقدسة وجبل آثوس, لبخارى وسمرقند, ولإسبانيا، من سرده لرحلاته، ذات جمال شعري لا يُنسى.

كتبت السيدة ماري لويز بيدال–بودييه في كتابها نيكوس كازانتزاكيس: كيف يصير الإنسان خالدًا (1971, ص 51):

الحياة الشعرية هي عنصره الطبيعي، إيقاع تنفُّسه نفسه. وعند قراءته يستشعر المرء أنها قد نضجتْ فيه نضجًا طبيعيًّا، مثل البذرة التي تختمر. فالفكر الأكثر تجريدًا يبطِّنه الشعر، ويتفتَّح في صور ناصعة. ولعلنا نستطيع الذهاب إلى أن التجلِّي الشعري كثيرًا ما يكون بمثابة الجواب عن سؤال الروح الموجع. ألا تكفي رؤية شجرة لوز مزهرة في كانون الأول, في حديقة بائسة، لكي يخلد إلى السكينة قلبُ كازانتزاكيس المعذَّب، وقلبُ صديقه، الشاعر سيكِليانوس, العائدين من الحج إلى جبل آثوس, إذ تجيب الشجرة عن أسئلتهما بمعجزة جمالها وشجاعتها.

في رسالته إلى بوريي كنوس في العام 1951، كتب بخصوص الإغواء الأخير:

كثيرًا ما كانت مخطوطاتي مبقعة... لأنني لم أستطع أن أمسك دموعي. بعض الأمثال التي ما كان ليسوع أن يتركها هكذا غير ناجزة, كما نجدها في الأناجيل, أكملتُها وأضفيت عليها الخاتمة النبيلة والرؤوفة الخليقة بقلبه – أقوال لعله لم ينطق بها أضعُها في فمه، لأن هذا ما كان سيقوله, لو كانت لتلاميذه قوَّتُه النفسانية وطهارتُه. وفي كلِّ مكان شعر, ومحبةٌ للحيوانات, للعشب, للبشر, ثقةٌ في النفس, يقينٌ بأن النور آتٍ... طوال سنة استعرتُ من مكتبة كانّْ كلَّ الكتب التي كُتِبَتْ عن المسيح، عن منطقة اليهودية, أخبار ذلك الزمان، التلمود، إلخ. وبذلك فإن كافة التفاصيل صحيحة تاريخيًّا؛ ولكن يجب الاعتراف للشاعر بالحقِّ في أن لا يتبع التاريخ خانعًا: فالشعر أكثر فلسفة من التاريخ.

*

في العام 1957، قبيل مغادرته أنتيب ببضعة أيام، في رحلته الأخيرة إلى الصين واليابان، كتب في الكتاب الذهبي لإحدى مكتبات أنتيب:

الشعر هو الملح الذي يحول بين العالم والتفسخ.

وأخيرًا، قبيل موته ببضع ساعات في فرايبورغ في برايسغاو، قال للأطباء:

أوَتعلمون, الشعراء لا يموتون أبدًا... على كلِّ حال تقريبًا أبدًا!

*** *** ***

ترجمة: ديمتري أفييرينوس


* رئيس لجنة التنسيق للجمعية الدولية لأصدقاء نيكوس كازانتزاكيس.

** تُرْجِمَتْ السونيتات إلى الفرنسية ونُشِرَتْ في مجلة النظرة الكريتية (التي تصدر عن الجمعية الدولية لأصدقاء نيكوس كازانتزاكيس)، عدد 27 تموز 2003؛ ونحن في صدد ترجمتها إلى العربية. (المحرِّر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود