ماذا يعني "فهم الميكانيك الكمومي"؟
- 2
ميشيل بيتبول
ترجمة: موسى الخوري
يمكننا [...] إعلان شيء ما حول ما يجري في العالم، ولكن ليس حول العالم
بما هو ما يجري فيه شيء ما.
ج. بوفريسّ
J. Bouveresse
-
Wittgenstein, la rime et la raison
7. 3 تفسير "الحالات النسبية" والفهم التأويلي
يمكن لصعوبة خاصة في الميكانيك الكمومي أن تكمن حقًا في واقع أن
منظومته التبادلية تعمل في الحقيقة على مستويين اثنين، وليس بالأحرى
على مستوى واحد. فإضافة إلى المستوى المذكور أعلاه لصفوف المعدات
التجريبية المستخدمة، يجب أن نأخذ أيضًا بعين الاعتبار مستوى النتائج
التي أصبحت ممكنة من خلال إدخال كل من التجهيزات والمعدات الخاصة في
التجربة. وقد ميَّز بور بشكل كامل السوية الأولى من التبادلات من خلال
تأكيده على نسبية التحديدات تجاه المستوى والوضعية اللذين هما مستوى
ووضعية المجرِّب الإنساني، ومن خلال تضمينه في تعريف الظاهرة نفسه ذكر
صفَّ التجهيزات التجريبية الموافقة لمعايير الاتصال. لكنه تجاهل أو كاد
السوية الثانية. وعلى العكس، فقد تركَّز تفسير إيفيريت[1]
للميكانيك الكمومي على السوية الثانية للتبادلات، مسدلاً حجابًا على
السوية الأولى. لقد بيَّن مع ذلك كل من هذين الموقفين الجزئيين عيوبه.
فمع اهتمامه القليل بسوية التبادلات المتعلقة بتعددية النتائج الممكنة
في حالة تجريبية وضمن شروط بدئية معطاة، فإن بور لم يساهم أبدًا في
حلِّ (ولا حتى أعلن بوضوح طريقته من أجل حلِّ) "مشكلة القياس في
الميكانيك الكمومي"، التي تطرح في إطار صورية فون نيومان والتي يعبر
عنها بالتجربة التذهنية المعروفة بـ "تعارض قطة شرودنغر"[2].
ومن جهته، فقد ترك إيفيريت في الظل، برفضه إعطاء أقل خصوصية لمستوى
التحليل المتعلق بتعيين حالات تجريبية قابلة للإيصال، وذلك بالاهتمام
فقط بتعددية الظاهرات التي أصبحت ممكنة من خلال كل تصور تجريببي، ترك
مسألة تحديد الممكن رصده وركز تحليله حصريًا على تطور الأشعة الموجِّهة
للحالة، والتي تتحلل مع ذلك وفق قاعدة الأشعة الموجِّهة الخاصة بأحد
ممكنات الرصد هذه. وهكذا، فقد حرَّض ما أصبح متعارفًا على تسميته بـ
"مشكلة القاعدة المفضَّلَة"[3].
ترتكز هذه المسألة (التي لا تزال دون حلٍّ كاف حتى اليوم) على اشتقاق
ممكنات الرصد، وقاعدتها من الأشعة الموجهة الخاصة المرتبطة بها، ابتداء
من صورية الأشعة الموجهة للحالة وحدها، دون أن يُدخِل أبدًا فرضيةً
مساعدة مصدرُها الفيزياء الكلاسيكية، فرضية تترجِم الشروط البراغماتية
للتواصل أو تعبِّر عن القيود التي تفرضها السوية الجهارية للجهاز.
مع ذلك، فإنه من الممكن تمامًا أن نأخذ بعين الاعتبار سويتي التبادلية
الإثنتين معًا الداخلتين في الميكانيك الكمومي طالما كنا نعتمد قراءة
دنيا، غير متيافيزيائية، لتفسير إيفيريت، وكنا نوسِّع حقل البحث
والتقصي في هذا التفسير. تشتمل هذه التوسعة على القبول بثنائية سويتي
التحليل، السوية الانعكاسية والسوية الوصفية أيضًا؛ والقبول بشكل خاص
أن اعتماد قاعدة موجهات شعاعية خاصة معطاة (أو اعتماد ما هو قابل
للرصد) يمكن أن يعكس القيود البراغماتية المرتبطة بالنشاط التجريبي،
بدلاً بالأحرى من أن يعكس "الحالات" المفترض أنها حالات جوهرية للأجسام
وللأدوات الداخلة في هذا النشاط. وفي هذه النسخة الموسعة من تفسير
إيفيريت، فإن مشروع مطابقة "قاعدة تفسير" مناسبة يحل محل مشروع إثبات
"قاعدة مفضَّلَة (جوهريًا)". وفي ظل مثل هذا الشرط، يظهر تفسير إيفيريت
كوسيلة مقبولة لـ فهم الميكانيك الكمومي، بالمعنى الموسَّع الذي قدَّمت
لنا التأويلية نموذجه.
وبالنسبة للذين يعرفون القراءات الأكثر شيوعًا لتفسير إيفيريت سيجدون،
والحق يقال، أنه من المفاجئ أن نستطيع تطعيمها بتوسعة لمنظومة بور في
التبادليات وأن نرى فيها استجابة دقيقة للنمط التأويلي في الفهم في
مجال علوم الطبيعة. ألا يُعتبر تفسير إيفيريت للميكانيك الكمومي عادة
كمرادف لـ "تفسير تعددية العوالم"؟ والرؤيا المدوخة بعض الشيء لتفجُّر
للعالم إلى "عوالم" كثيرة، في كل مرة نقيس فيها متغيرًا يمكن أن يأخذ
أكثر من قيمة، ألا تشكِّل المحاولة الأكثر جرأة[4]
حتى هذا اليوم لكي يحصِّل الفيزيائي مهما كلفه الأمر فهمًا نزقًا
وطائشًا للنظرية الكمومية؟ في غالب الأحيان يتم طرح تفسير إيفيريت في
مواجهة التفاسير التي ألهمها "فكر مدرسة كوبنهاغن" كما هو الأمر عندما
تُواجَه الإبستمولوجيا بالأنطولوجيا، وتُواجَه "الوضعية" بالواقعية،
وتمامًا كما يقابَل الحزب المحافظ على الأيقونات (الأفكار الثابتة)
والعابد لها ويقوده شرودنغر[5]
بالحزب المحارب للأيقونات (الأفكار الثابتة) ومهدمها الذي يقوده كل من
بور وهايزنبرغ، البراءة التخيلية بالجدية الفلسفية، القصد الوصفي
باللاأدرية التنبؤية. إن تفسير إيفيريت يشكل كما يبدو إحدى الوسائل
الأكثر سرعة التي وجدناها حتى الآن لكي نختصر تأملاً حول مفهوم
"الفهم"، بالأحرى منها النتيجة الأفضل لهذا التأمل.
لنتأمل الموضوع عن قرب أكثر مع ذلك. هل يندمج فعلاً تفسير إيفيريت مع
تفسير كثرة العوالم وتعددها؟ ليس هناك ما هو أقل يقينًا. إن ما يصدم
للوهلة الأولى عندما نستعرض ما كتب حول تفسير إيفيريت، هو أننا لا نجد
هنا تفسيرًا واحدًا بل عدة تفاسير للميكانيك الكمومي،
مندمجة
جزئيًا ومتمايزة جزئيًا. "تشتمل المهمة الأولى، كما أشار إلى ذلك بل
Bel
في مرات عديدة، على تحديد ما هو هذا التفسير، لأنه [لا يزال] محاطًا
بالغموض[6]."
إن اللوحة الملحمية لتعددية العوالم ليست سوى إحدى قراءاتها الممكنة؛
قراءة لم تكن ماثلة إلا بشكل منقَّط، بين قراءات أخرى كثيرة، ضمن
مقالات إيفيريت التاريخية[7].
كانت المسيرة الأصيلة والمبدعة لإيفيريت تتركز في الواقع على تحليل
مفصَّل للصيرورات التجريبية في الإطار المحدد بواسطة الميكانيك
الكمومي. وكان اهتمامه الغالب ينصبُّ على ألا يستخدم شيئًا أكثر من
قانون التحرك المستمر في الميكانيك الكمومي (معادلة شرودنغر)، وتجنُّب
تعديله أو إيقافه من خلال صيرورات غير مستمرة من "تقليص حزمة الموجات"،
وليس في إعطاء ترجمة تصويرية له. يتميز تفسير إيفيريت بانشداد نحو
اقتصاد كبير في الوسائل، وذلك من خلال حلم باستقلالية النظرية
الكمومية، بالأحرى من كونه من خلال بعض التساهل تجاه مضاعفة الكينونات.
وحتى عندما حاول إيفيريت التعبير عن نتيجة دراسته للصورية بواسطة اللغة
اليومية العادية، فقد ظل متحفظًا. فالكلمات التي استخدمها أكثر من
غيرها عن طيب خاطر، والتي ظهرت منذ عنوان أول مقال له، هي: علاقة،
ونسبي، ونسبية الحالات. وما كان يريد التركيز عليه هو قبل كل شيء ما
يلي: بنتيجة تفاعل من نمط التفاعلات التي تحدث أثناء الصيرورات
التجريبية، لا يسمح الميكانيك الكمومي بأن ننسب لجسم ما تحديدًا خاصًا
به، بل فقط تحديدًا نسبيًا (متعلقًا). إنه تحديد متعلق بتحديدات
الأجسام الأخرى (على سبيل المثال، الأجهزة التجريبية) التي تفاعلت معه.
أما التعددية، التي تُعَدُّ عادة مثل السمة البارزة في تفسير إيفيريت،
فهي منطقيًا سمة ثانوية. إنها تنتج عن محاولة الاستفادة من بنية
الصورية من أجل توضيح نسبية الحالات في اقتران من البيانات والعبارات
الشرطية. وبدلاً من محاولة القول "الجسم
A
لا يمكن أن ينسب إلى نفسه حالة معينة إلا بالنسبة إلى حالة الجسم
B"،
فإننا نستفيد من الميزات الجبرية للميكانيك الكمومي لكي نعلن: "أن
الجسم
B
يكون له التحديد
b1
إذا كانت للجسم
A
التحديدية
a1،
وأنه يكون للجسم
B
التحديدية
b2
إذا كان للجسم
A
التحديدية
a2،
إلخ.". فبدلاً بالأحرى من التمسك بالتأكيد الفردي لنسبية الحالات، نضع
القائمة المتعددة للحالات النسبية.
أما المرحلة التالية، التي تشتمل على تحويل اجتماع واقتران البيانات
الشرطية حول الحالات النسبوية إلى اقتران من البيانات القاطعة حول ما
يحصل في تعددية من "العوالم"، من نوع "الجسم
B
يملك التحديدية
b1
في العالم حيث الجسم
A
يملك التحديدية
a1،
والجسم
B
يملك التحديدية
b2
في العالم حيث الجسم
A
يملك التحديدية
a2،
إلخ."، فلم ينظر إيفيريت إليها علنًا أبدًا. فهو يقاربها كثيرًا عندما
يذكر صيرورة من "تشبيك" وتعددية من "فروع"، لكنه يظل دائمًا أقل من
الالتزام الأنطولوجي اتجاه هذه الفروع. وهو يوافق بين كثرة "الفروع"
وتنوع ما يمكن أن يظهر من وجهة نظر مجرِّب مشارك في سلسلة التفاعلات
المدروسة، بدلاً بالأحرى مما هو قائم في كثرة "عوالم" متأمَّلَة من
الخارج بواسطة النظر المنفصل للعالِم النظري. بعبارة أخرى، فإنه يميل
إلى تيسير تحليل في الحالات، بدلاً بالأحرى من اللجوء إلى صورة قصوى
للتجريد بمواجهة خصوصية الحالات.
إن التفسير الأصيل لإيفيريت (أي تفسير "نسبية الحالات") يعارض عمليًا
في الواقع، بإحلال البيانات الشرطية محل البيانات القطعية، كافة
التفسيرات الأخرى المعروفة حتى اليوم في الميكانيك الكمومي. فبالدرجة
الأولى، يشتمل التفسير "الأورثوذكسي" الذي اقترحه للمرة الأولى فون
نيومان على عدم الإبقاء بعد صيرورة من القياسات سوى على بيان قطعي واحد
على الجسم وعلى الجهاز: "يمتلك الجسم التحديدية
a1،
ويمتلك الجهاز التحديدية
b1".
وهذا ما يستخدم فيه "اختزال شعاع الحالة الموجِّه". وبالدرجة الثانية،
في إطار التفسيرات المميزة لفان فراسين
Van Fraassen
وديك
Dieks
وكوشن
Kochen،
أو أيضًا وفق مصطلح صيرورة الـ "فك الاتساق" أو فك الارتباط
décohérence،
نعتبر أن صيرورة القياس تصل إلى فصل للبيانات التصنيفية: "الجسم يمتلك
التحديدية
a1،
والجهاز يمتلك التحديدية
b1،
أو الجسم يمتلك التحديدية
a2
والجهاز يمتلك التحديدية
b2،
إلخ". وأخيرًا، بالدرجة الثالثة، كما سبق ورأينا، فإن تفسير كثرة
العوالم يقود إلى تأكيد أن محصلة صيرورة القياس هي اقتران لبيانات
قطعية: "الجسم يمتلك التحديدية
a1،
والجهاز يمتلك التحديدية
b1
(في العالم رقم 1)، والجسم يمتلك التحديدية
a2
والجهاز يمتلك التحديدية
b2
(في العالم رقم 2)، إلخ". وحده تفسير نسبية الحالات يعلِّق كل معطى
قطعي في الوصف الشامل للحالة السائدة إثر صيرورة القياس. إن تصنيفية
البيانات لا تنطبق وفق هذا التفسير إلا بالنسبة للمجرِّب (أو
المجرِّبين) الذين شاركوا في سلسلة التفاعلات التي تشتمل عليها صيرورة
القياس؛ فهي لا تعمل إلا بالنسبة لحالة هذه التفاعلات. وبشكل أدق، فإن
ما يقترحه تفسير نسبية الحالات، هو أنه بدءًا من اللحظة حيث (في نهاية
شلال من التفاعلات بين الجسم والجهاز ثم بين الجهاز والمجرِّب) تصبح
تحديدات نسبية تابعة إلى مجرِّب، وهي تأخذ بالنسبة إليه، من وجهة نظره
المشارِكة، مظهر نتيجة محددة تمامًا قابلة للتجريب من خلال قضية قاطعة.
يكفي ما سبق قوله لإظهار الطبيعة الموجزة لسلسلة من التناقضات التي
تستخدم عادة في تمييز تفسير إيفيريت. وهذا التفسير ليس تفسيرًا لا
يبالي جوهريًا بالإبستمولوجية، وهو لا يُحلُّ بذاته الصورَ محل
التحليل. إن التعارض بين بور حاذق يقودنا خطوة خطوة في تحولنا إلى معنى
تأويلي / تفسيري للفهم، وإيفريت حالم، يبحث عن اكتساب فهم نزق
للميكانيك الكمومي على حساب أكثر التجاوزات التخيلية جرأة، هو تعارض لا
يصمد. وفي الحقيقة، فإن نمطي التفسيرين، تفسير بور كما وتفاسير إيفيريت
التي سادت، كانا بؤرة توتر لم يجرِ ضبطها بشكل حسن بين الميل إلى
الحفاظ على عالم نزقٍ للفهم حتى لو جزَّأ مجال تطبيقه، وبين الحاجة إلى
الحفاظ على وحدة الفهم حتى لو عمَّم مفهومه. وهو توتر كان قد أُلمِح
إليه سابقًا إنما الذي سنحاول فيما يلي تحديده إلى حدٍّ ما.
ولنبدأ من عند بور. بعيدًا عن التلاعب بالكلمات، هناك جانبان متكاملان
يمكن تمييزهما في مفهوم بور للتكاملية: المظهر التصويري
iconographique
والمظهر السياقي
contextuel.
يشتمل المظهر التصويري للتكاملية على تحديد عائلتين متعارضتين من
الصور، وهما عائلتان غير متوافقتين معًا عندما تكونان معزولتين، لكن لا
غنى عن كليهما إذا كنا نرغب بتمثيل سلوك جسم مجهري في كافة الظروف. إن
وحدة "تاريخ" جسم تضيع على هذا النحو لكن مبدأ الفهم النزق يظل
محافَظًا عليه عبر تفجُّره في متواليتين من الأحداث: متوالية المواضِع
المتتالية (أو المسار) للجسم الممثَّل تحت سمات جسيمية، ومتتالية قيم
المرحلة للجسم نفسه الممثل تحت سمات صيرورة موجية. ويعود الجانب
السياقي للتكاملية، من جهته، إلى التأكيد على استحالة تجريد ظاهرة من
الشروط التجريبية للحصول عليها؛ وبالنتيجة، إلى التأكيد على واقع أن
ظاهرتين تحصلان تحت شروط تجريبية غير متوافقة تكونان ظاهرتين مقصورتين
بالتبادل كل على الأخرى. إن الشروط التي يستدعي وفقها توزع للأحداث
التجريبية مسارًا جسيميًا (أو مسارات جسيمية) تكون على سبيل المثال
مقصورة على الشروط التي يستدعي وفقها توزع آخر للأحداث التجريبية
صيرورة تداخل موجي. لكن لا شيء يمنع من تحديد ما هي التعديلات التي يجب
القيام بها على جهاز تجريبي يؤدي إلى آثار ذات مظهر جسيمي لكي يسمح
بظهور آثار ذات مظهر موجي. ويمكن على هذا النحو إعادة اكتساب وحدة
معينة، شرط القبول بأن تكون محمولة بواسطة مجموعة التحويلات للأجهزة
التجريبية بدلاً بالأحرى من أن تكون محمولة بواسطة تمثيل مستقبل الجسم؛
وباختصار شرط إحلال الموقف الانعكاسي للفهم التأويلي محل الموقف القصدي
للفهم المباشر.
ينتج النوع نفسه من التوتر في تفسير إيفيريت. فهناك في الواقع كما
أشرنا إلى ذلك أعلاه قراءتان رئيسيتان لقائمة الحالات النسبية التي
يفضي إليها التقرير الإيفيريتي لصيرورة قياس: قراءة تحوِّل إلى النظرة
الموضوعية وقراءة تشاركية. القراءة الموضوعية توجِّه الانتباه إلى
"التاريخ"؛ وهذا يعني هنا الإشارة إلى صيرورة الجسم والجهاز. وهي تهدف
للوصول إلى محاكمات قاطعة حول الخصائص التي يملكها الجسم والجهاز
بنتيجة تفاعلهما. وتوافق قائمة الحالات النسبية عندها قائمة للـ
"عوالم" التي يكافئ فيها في كل مرة مجموعة من المحاكمات القاطعة حول
الجسم وحول الجهاز. تضيع وحدة وصف الأحداث، لكن مبدأ الفهم النزق يجد
نفسه مرة أخرى محافظًا عليه على حساب تفجُّر المجال الذي يُطبَّق عليه
هذا الفهم. أما بالنسبة للقراءة التشاركية، فإنها تشتمل على التأكيد
على المجرِّب فعليًا؛ أو بالأحرى التأكيد، من أجل استبعاد كل سوء تفسير
ذاتي، على مجموعة الحالات التي يمكن أن يوجد فيها مجرِّب إذا كان
مشاركًا في سلسلة التفاعلات المحدِّدة لصيرورة القياس. توافق قائمة
الحالات النسبية في هذه الحالة قائمة الحالات الممكنة للمجرِّب خلال
انحسار هذه الصيرورة. وهي حالة يحكم فيها أنه يحق له التأكيد على أنه
حصل على النتيجة رقم 1، وحالة يحكم فيها أنه يحق له التأكيد على أنه
حصل على النتيجة رقم 2، إلخ. إن تابع الموجة الشامل الذي يتحلل إلى
قائمة من الحالات النسبية يعمل في هذا المنظور مثل عامل تساوي احتمال
جزئي لحدثين (ترجحه احتمالات) بين هذه الحالات المختلفة. وهكذا فإن
الوحدة الضائعة تُرَمَّم من جديد، لكنها ترتكز على شبكة رمزية من
التبادليات بين المواقف التي يمكن الوصول لها بالنسبة لمجرِّب مدرج في
الطبيعة، بدلاً بالأحرى من الارتكاز على نَسب الخصائص المحدَّدة تمامًا
إلى أجسام طبيعية.
7. 4 الوصف العلمي والقياسية
إن القراءة المقترحة لتفسير إيفيريت تشتمل على محاولة حل للتناقض
التالي: من جهة، لا يمكن لأي وصف موضوعي للعالم أن يترك نفسه يغير
اتجاهه أو يحرفه عبر واقع أننا نشكل فيه وضعًا خاصًا وطارئًا، ومن جهة
أخرى، فإنه من المستحيل أن نتجاهل الدور الذي تلعبه نتائج هذا الواقع
في التقرير التنبؤي للظاهرات التي يقدمها الميكانيك الكمومي. يشتمل هذا
الاقتراح للحل على استبدال "أننا" (صيغة نحن) بعلامات مجردة للوضع
المعرفي (الإبستمولوجي) والقيام بتحويلات بين الوضعيات. وكما سبق
ورأينا، فإن تطبيقها يتحلل إلى زمنين:
(1) الاعتماد كقاعدة أشعة موجِّهة خاصة "قاعدة تفسير" مفروضة بواسطة
جدول التجريب ومن خلال القيود البراغماتية التي تمارس عليها. يتم ذلك
على سبيل المثال عبر استخدام "مبدأ التوافق" بين الفيزياء الكلاسيكية
والفيزياء الكمومية.
(2) تعميم منظومة التبادليات بين الوضعيات الفردية في مواجهة موضوعية
ما إثر تجربة معطاة؛ منظومة يقدم فيها تبادل الضمائر الشخصية ما بين
العبارات النموذج الأكثر شيوعًا على ذلك.
وكما كتب ساندرز
S. Saunders
فيما يتعلق بهذه النقطة الثانية، فإن "الموضوعية" يجب أن تلعب في تفسير
إيفيريت للميكانيك الكمومي دور اسم إشارة، بالدرجة نفسها التي للكلمات
"أنا" أو "هنا" أو "الآن". وكما أنه ليس هناك معنى لتساؤلنا من هو
"أنا"، وما هي اللحظة "الآن"، وأي مكان هو "هنا"، بشكل مستقل عن إطار
استخدام هذه المصطلحات، فإنه لن يكون هناك معنى لمحاولة تخصيص "نتيجة
تجربة تحديث" بشكل مستقل عن الوضعية الخاصة للذي يشارك في الصيرورة
الإجمالية الموصوفة بـ "القياس". وكما أننا نرفع التناقضات المعروفة
جيدًا للأزمنة النحوية بقبول أن الصلة بين الآن وكل بيان يشتمل على فعل
نزق هي صلة قياسية بحتة، أي أنها تتغير تبعًا لإطار البيان، فإنه
يمكننا حلُّ الصعوبات المرتبطة بمسألة القياس في الميكانيك الكمومي
بقبول أن الصلة بين النتيجة المعتبرة كنتيجة حالية ونشر الإمكانات
المبرهنة بواسطة الصورية بالنسبة لتجربة معطاة هي أيضًا صلة من طبيعة
قياسية. "ففي حين أن القضيتين «الحدث
E
حدث ماض» و«الحدث
E
حدث مستقبلي» هما قضيتان متناقضتان للوهلة الأولى، فإننا بإدخال حدثين
جديدين
F
وF*
نحصل على: «
Eهو
حدث ماض بالنسبة لـ
F،
وE
هو حدث مستقبلي بالنسبة لـ
F*،
وهكذا نحل الصعوبة». وبطريقة مماثلة، فإن القضيتين «المرصود
X
له القيمة
r»
و«المرصود
X
له القيمة
s»
متناقضتان. ولكن بإدخال مرصود جديد
Y
يمكننا القول «X
له القيمة
r
بالنسبة إلى القيمة
u
لـ
Y؛
و
X
له القيمة
s
بالنسبة للقيمة
v
لـ
Y»،
وهكذا نصل إلى حل للتناقض"[9].
إن هذا الاستبدال لمفهوم الموضعة بدقة بمفهوم قياسي (و/أو عبر ذاتي)
للنظرية العلمية يرتبط بمسألة أعم في نظرية المعرفة، كما رأى ذلك
بوتنام بشكل صريح[10].
وفق بوتنام، أن يكون المرء واقعيًا علميًا يعني أنه يدعم إمكانية وصف
العالم ابتداء من منظور شمولي خارج عنه تمامًا؛ وبعبارة أخرى وصفه "من
وجهة نظر الله". والحال أنه، حتى دون مناقشة أهمية مثل هذا المشروع، من
السهل البرهان أن ميله نحو معرفة كلية - الشمول يصطدم بتقييد مبدئي. إن
بعض المركبات الأولية لمعرفتنا تفلت من إله خارج عن كل زمن، خارج عن كل
مكان ومنفصل عن كل شخص فرد لديه منظوره المحدد عن العالم. وكما أشار
كرتزمان
N. Kretzmann
في مقالة مشروحة جيدًا[11]،
فإن هذا الإله المحدَّد بنمط فهم تحت شكل من أشكال الخلود
sub specie aeternitatis
لا يستطيع أن يعرف أي وقت هو الآن؛ ولا يستطيع أن يعرف أيضًا أننا
موجودون هنا (في باريس مثلاً)، ولا (إذا استعرنا تعبير ناجيل
T. Nagel)
ماذا يعني أن أكون أنا؛ ولا حتى (إذا ما طبقنا ذلك على التراكب الخطي
للمتجهات الخاصة في الميكانيك الكمومي) أن مجتمع- نا العلمي حصل على
مثل هذه النتيجة التجريبية. وباختصار، فإن رفع (أو حلَّ) حدود المعرفة
يُفقِد معرفة ماذا يعني السكن بين هذه الحدود. إن تخصيص المعرفة
وتحديدها بالمعرفة التي يمكن أن تنتج من المواجهة وجهًا لوجه شبه
الأنانوية[12]
solipsiste
بين العالم وكائن خارج العالم سينتج عنه استبعاد قسم كامل (ربما مفرط)
من تجربتنا ومن أفعالنا الكلامية.
يمكننا أن نصيغَ بنفس الروح استعارة لاهوتية للمفهوم القياسي (أو العبر
- ذاتي). وما ننتظره من هذه الاستعارة الجديدة، المختلفة جدًا بالتأكيد
عن تلك التي كان يقود إلى تيسيرها وتشجيعها الموقف الممَوضِع البحت، هو
أنها تسمح بتعويض جزئي على الأقل للخسارة الإبستمولوجية المقبولة في
إطار "الرؤية من لاإتجاه ولامكان". وللوصول إلى هذه النتيجة، يجب أن
نحرر الله من الانعزال الجليل الذي كان قد عُزِل فيه حتى الآن. وكما
يلاحظ كاستانيدا
H. N. Castaneda،
فإن تأكيد كريتزمان، الذي وفقه لا يستطيع الله معرفة ما هو الوقت الذي
يكون الآن، لا يصح إلا إذا افترضنا أن المرجعيات القياسية (أي الاستناد
إلى لحظات، أو أماكن أو أشخاص) هي مرجعيات غير قابلة للتحويل[13]
أو غير قابل للتفويض؛ وهو لا يصح أيضًا إذا لم نترك لأنفسنا الخيار إلا
بين مرجعية قياسية شخصية بحتة ومرجعية اسمية أو وصفية غير شخصية
بالكامل. لكن هذا التناوب بين الذاتية والموضوعية، وهو تناوب نموذجي في
نظرية الأنانوية المنهجية حيث تنغلق فيها الواقعية العلمية بشكل متوافق
مع نموذج نظرية المعرفة، ليس تناوبًا لا يمكن تخطيه أو تجاوزه. ويَفترض
تجاوزه فقط أن نُدخِل اعتبارات تعود إلى نموذج الاتصال. إن المرجعية
القياسية هي مرجعية قابلة للتحويل، عبر ما نسميه "أشباه المؤشرات".
يستطيع كل منا صياغة البيانات القياسية لأشخاص آخرين بما هي قياسية،
دون أخذها على عاتقه ولا ترجمتها بعبارات وألفاظ غير شخصية، طالما أنه
يقرن نمطًا غير مباشر من التعبير يسمى
oratio obliqua
(الكلام غير المباشر) مع استخدام أشباه المؤشرات. لنشرح قليلاً بتفصيل
أكبر هذه العملية والمصطلحات الداخلة فيها.
وفق كاستانيدا[14]،
تشكل المصطلحات القياسية البحتة الجهاز الرمزي الذي من خلاله يمكننا أن
نعني كينونات كما وردت في سياقها. غير أن هذا الجهاز، إذا كان معزولاً،
سيعيبه عيب خطير في حصر المعنى بعناصر من التجربة هي في آن واحد ذاتية
ومحلية وزائلة. فلا بدَّ بالتالي أن يتم إكماله بآلية نقل، تصبح بفضلها
قدرة التعيين القياسية قابلة للتفويض في كل موضوع، وفي كل مكان، وفي كل
لحظة. إن عملية التفويض هذه هي عملية شبه قياسية[15].
وهي تعمل بإحلال نمط غير مباشر (أو
oratio obliqua)
محل النمط المباشر للتعبير (أو
oratio recta).
لنعط مثالاً على هذه الاستبدال[16]:
(1) النمط المباشر (مرجعية قياسية)
"أنا أعتقد أن كنزًا أخفيَ هنا وأنني سوف أصبح غنيًا إذا (أنا)
نبشته الآن."
(أشرنا إلى المصطلحات القياسية بالمائل. وإضافة إلى المؤشرات أنا وهنا
والآن، فإن هذه المصطلحات تشتمل أيضًا على تصريفات الأفعال في أزمنة
قواعدية بسيطة تنسبها إلى الآن.)
(2) النمط غير المباشر (مرجعية شبه دلالية)
"كان باتريك يعتقد أن كنزًا كان مخفيًا هنا وأنـ
(-ه) سوف يصبح غنيًا إذا ما نبشه حينها."
(أشرنا إلى الألفاظ شبه القياسية بالمائل. ونجد إضافة إلى أشباه
المؤشرات هو وهنا وحينها، فإنها تشتمل أيضًا على تصريفات الأفعال في
أزمنة قواعدية بسيطة أو مركبة تعيدها إلى حين في الماضي. إن مقطع
الجملة المسطر (كان باتريك يعتقد أن) يمثل أداة التصدير أو البادئة غير
المباشرة
oratio obliqua؛
ووظيفته هي تحديد الشخص والوقت الذي كانت قد فُوِّضت له القدرة على
القيام بمرجعية قياسية.)
يمكن لعملية المرجعية شبه القياسية أن تعتَبَر مثل الأثر الذي تتركه في
اللغة مرحلة بين ذاتية معمَّمة من صيرورة الموضعة. ويظهر بوضوح تبديل
الضمائر الشخصية بين المتكلم والمخاطب التكافؤ الـ بين - ذاتي خلال
محادثة يغوص خلالها المشاركون فيها بوضعية فريدة من نوعها أو تكاد؛ لكن
وحدها شبه القياسية تتوصل إلى مدِّ هذا التكافؤ إلى الحالة التي يكون
فيها المشاركون الممكنون في محادثة ما في مواجهة منفصلة، كل لحسابه، مع
وضعيات منفصلة.
وهكذا يمكننا الآن اقتراح حل لمعضلة الله، الذي لا يستطيع الاختيار إلا
بين أن يعرف كل شيء من الخارج دون أن يدرك شيئًا من وجهات النظر الخاصة
النهائية، أو ألا يعرف الأشياء إلا ابتداء من وجهة نظر خاصة فيتخلى
بالتالي عن مشروعه في كونه كلي العلم. "إن كائنًا كلي العلم والوعي لا
يعرف
كافة القضايا في التعبير المباشر
oratio recta:
فعليه أن يعرف القضايا القياسية في التعابير غير المباشرة
oratio obliqua،
على شكل قضايا شبه قياسية"[17].
إن الكائن كلي العلم لا يعرف بالنسبة لكافة "الآنات" أي وقت هو الآن،
لكنه يستطيع أن يعرف أنه في "اللحظة
t،
يعرف
X
أنها اللحظة
t
عندها [...]"[18].
وفي سياق المعنى ذاته، في تفسير الحالات ذات الصلة في الميكانيك
الكمومي، فإن الكائن الكلي العلم لا يفترض أن يعرف بطريقة جديدة،
بالنسبة لكافة النتائج التي أصبحت ممكنة عبر عملية قياس، أن نتيجة
معينة تم الحصول عليها على نحو فعال في المطلق، لكنه يستطيع أن يعرف،
عبر تحويل ابتداء من موضعه الخاص، أنه بالنسبة لمجتمع علمي رقم س، فإنه
يبدو أن النتيجة رقم س قد تم الحصول عليها. يجد إله هذه الاستعارة
اللاهوتية الثانية نفسه ينسب من خلال ذلك الجمعَ نفسه للمحلية
والعالمية الذي يقوم به كل واحد منا، طالما أنه بالمشاركة في لعبة
الفرادات، وبقدرته على التعين والتطابق مع أي منظومة من المرجعيات
القياسية، فإنه تكون لديه أيضًا القدرة على تفويض القابلية إلى
المرجعية القياسية. إلا أن الله، على عكسنا، من المفترض أن تكون لديه
إضافة إلى ذلك قدرة غير محدودة على الموافقة بشكل نوعي بين "المعرفة"
شبه القياسية و"التجربة" القياسية. وفي المحصلة، إذا لم يكن الله،
عندما كان يستخدم الاستعارة للموضوعانية، يستفيد إلا من "رؤية من لا
مكان" واحدة، فإنما يكون عليه لكي يقدم استعارة مقبولة بالنسبة لما بين
موضوعانية معمَّمَة، أن يدمج بين منظوره الخاص المحتمل (القياسي)
والمنظور من أي مكان كان" (شبه القياسي)[19].
إن الدرس الذي أريد استخلاصه من هذه التأملات هو أن معرفة ما لا تكون
شاملة بشكل معقول إلا بشرط تخليها عن كونها موضوعانية بشكل شامل؛ وأن
هذه المعرفة لا تكون شاملة بشكل معقول إلا بشرط أن تكون في جزء منها
تشاركية. يشكل التخلي عن الكمال لصالح مفهوم إحصائي وعالمي للموضوعية
خيارًا مقبولاً (وقد بيَّن فعاليته خلال عصر الفيزياء الكلاسيكية)،
إنما الذي لا بد يؤدي يومًا إلى ظهورات لـ "عودة المكبوت"
الإبستمولوجي. وهذا ما ذكرتنا به الميكانيكا الكمومية بين أشياء أخرى،
بطريقة تنبؤية رغم أنها ملحة. فإذا ما فقدنا هذا التذكير من منظورنا
مجددًا لبعض الوقت أيضًا فإن ذلك لن يشكل أبدًا تقدمًا للفكر.
7. 5 تفسير نظرية كدليل للبحث الفلسفي
لم يكن يهدف تأكيدي في هذا الفصل على تفسير إيفيريت بحال من الأحوال
إلى إبراز تفوق هذا التفسير، كما لم يهدف إلى تأكيد صحَّته. فكما أن
تمثيلاً أو تصورًا للعالم لا يتم إثباتهما بشكل مؤقت، في كل مرحلة من
مراحل المشروع العلمي، إلا بقدرتهما على توجيه النشاط التجريبي، فإن
تفسير نظرية فيزيائية لا يمكن أن يسود إلا من خلال قابليته لأن يقود
نمطًا معينًا من النشاط النظري بشكل أفضل من تفسيرات أخرى منافسة. إن
أهمية تفسير تكون بالتالي متعلقة بنوع النشاط النظري التي تسمح بتوجيهه
بشكل فعال. فعندما يبدو تفسير ما أفضل من التفسيرات الأخرى في تيسير
الاكتشاف في كافة المجالات التي يمكن للاستكشاف النظري الوصول إليها،
فعندها فقط يتأكد تفوقه ويصبح من المغري بالنسبة لكثيرين طرح مسألة
حقيقته. والحال أن مثل حالة شبه القطبية هذه هي بالضبط حالة لا نصادفها
في الفيزياء الكمومية. إن التفسيرات المتعددة المقبولة للفيزياء
الكمومية لها والحق يقال سلطة إرشادية متخصصة، تظهر في مجال إشكالي
محدود، إنما تضعف وتفسح المجال لسلطة تفسيرات أخرى في الحقول الإشكالية
المجاورة. ولا يشكل تفسير إيفيريت استثناء لهذه القاعدة. فدعوته إلى
العالمية جعلت من تفسيره ضروريًا جدًا في علم الكونيات الكمومي[20].
وقد ساعد آنَه المتعدد "التواريخ" و"الفروع" المتوازية من جهة أخرى
بشكل كبير على اكتشاف مبادئ "الحساب الكمومي"[21]،
الذي يستخدم طريقة المعالجة فائقة التوازي للمعلومة. لهذا فإن العديد
من علماء الكونيات والمختصين في الحساب الكمومي يأخذونه بشكل حرفي،
ويميلون إلى "الاعتقاد" به بالمعنى الأكثر أنطولوجية للمصطلح. لكن
تفسير إيفيريت يعتبر أيضًا كتفسير ثقيل جدًا، ولهذا السبب فهو غير
ملائم كثيرًا لتقديم الحل لكثير من المسائل المعروفة، في حين أن تفسير
فون نيومان "الأورثوذكسي" يبدو هنا متوافقًا تمامًا مع تقديم حل.
تستفيد معالَجات نظرية معينة من جهة أخرى من تمثيل لصيرورات مكانية -
زمانية وسطية بين التحضير والقياس، وفي هذه الحالة يكون التفسير ذو
المتحولات الخفية غير المحلية لديفيد بوم قابلاً لأن يقدم نقطة ارتكاز
مفيدة للباحثين ضمن ظروف لا يستطيع فيها تفسير إيفيريت ولا التفسير
الأورثوذكسي تقديم أي حل. وأخيرًا، في إطار النظريات الكمومية للحقول
وفيزياء الطاقات العالية، فإن تفسير تكاملات الطريق لفاينمان يفرض نفسه
كما يبدو كدرب مقاربة أكثر فعالية بكثير من التفسيرات الثلاثة السابقة.
وفقًا للملاحظة التي أشرنا إليها لتونا، فإن تأكيدي على تفسير إيفيريت
في هذا الفصل كان محرضه الوحيد هو البحث عن قدرة كشفية. لكن ما
فضَّلتُه هنا هو المقدرة على الدلالة في التأمل الفلسفي، وليس في مجال
معين من البحث النظري. فقد اعتُبر تفسير إيفيريت (الذي تمت مراجعته
وإكماله) كوسيلة ممتازة لإظهار علاقة ذلك، في الفيزياء الكمومية، بفكرة
عِلم مماثَل مع بيان المنظومة الموَحّدَة من التبادليات بين الذاتية أو
بين الموضعية، بالأحرى من التمثيل التأليفي لجسم "خارجي". وفي حين يميل
تفسير القائم على متحولات خفية إلى الإبقاء على الفكرة في أخدود نظرية
ثنائية للمعرفة، وتيسِّر اللاأدرية أو الشك الإبستمولوجي النسخ الأكثر
عملياتية للتفسير الأورثوذكسي، فإن إعادة قراءة تفسير إيفيريت المقدَّم
في هذا الفصل يزودنا بنقطة الارتكاز المطلوبة من أجل تطوير مفهوم
للمعرفة التشاركية، التي تُستدعى غالباً فيما يتعلق بالفيزياء الكمومية[22]،
إنما التي نادرًا ما تُتابَع حتى نتائجها الأخيرة.
من الصحيح أن بعضهم يستطيع أن يقدم اعتراضًا جوهريًا على هذه الدرب
الثالثة ويشكك بالتالي بتوفر أية استراتيجية إبستمولوجية وسطية بين
واقعية علمية بلا تسويات وذرائعية عنيدة متشبثة. إن مفهوم المعرفة
التشاركية نفسها، التي تشتمل في آن واحد على نسبية البيانات الواقعية
اتجاه وجهة نظر وبسط شبكة موحدة من التبادلات بين وجهات النظر، يبدو في
الواقع مفهومًا مسكونًا بتوتر داخلي. وهو توتر شبيه بالتوتر الذي كشفه
بلاكبرن في الموقف الانعكاسي لبوتنام[23]،
والذي يمكننا التعبير عنه بأكثر ما يكون الوضوح من خلال التساؤل
التالي: "كيف أزعم في الوقت نفسه أنني لا أستطيع التكلم عن العالم إلا
في حدود وجهة نظر موجودة لدي عن العالم، وأنني أعرف أنها وجهة نظر حول
العالم؟"[24].
الجواب الأكثر منطقية على هذا النوع من التساؤلات هو أنه، كما أنني
خلال مجرى الحوار لا أحتاج لأن أعلم ما هي وجهة النظر (أي أن أتمثلها
كأمر خارجي) لكي أفعِّل قواعد تبادل الضمائر الشخصية في استخدام اللغة،
فإنني في الفيزياء لا أحتاج لأن أعتمد عقليًا "وجهة نظر من بين وجهات
النظر" من أجل تفعيل قواعد التكافؤ الموزونة للوضعيات في استخدام صورية
النظرية الكمومية. إن التطبيق المضبوط للحالات النسبية لا يتطلب تمثيل
"العوالم" المتوازية الحاملة لوجهات النظر الموافقة، أكثر مما تتطلب
المشاركة في لعبة صياغة العبارات بين المتحاورين تأملاً مشرفًا على
وضعية المشاركين في الحوار.
*** *** ***