الصدفة الموضوعية ومبدأ السبب الكافي
ميشيل بيتبول
ترجمة: موسى الخوري
إن فكرة التحديدية السببية الكلاسيكية ليست صحيحة ولا خاطئة بالنسبة
للفيزياء الحديثة، بل هي ببساطة مجردة من المعنى الفيزيائي.
كوجيف، فكرة التحديدية
تبقى
خطوة أخيرة علينا اجتيازها: ألا وهي إيضاح بعض السمات التي تعدُّ غامضة
في الميكانيك الكمومي وذلك بأن نحل محل تصوّر النظرية الفيزيائية كوصف
غير مرتبط بالعالم، التصور الذي يجعل من تصوّر النظرية الفيزيائية
بيانًا تنبؤيًا بالارتباطات الممكنة في العالم. وإحدى أهم هذه السمات
هي اللاتحديدية. وسنحاول بالتالي في هذا الفصل الوجيز بيان أن
اللاتحديدية الكمومية يمكن أن تُفهم بسهولة كمؤشِّر على لاإنفصالية
الظاهرة وشروط تظاهرها، بدلاً بالأحرى من فهمها كانعكاس للنظام (أو
للفوضى) من طبيعة منفصلة.
8- 1 الصدفة الذاتية والصدفة الموضوعية
لا يمكن تعريف الصدفة الموضوعية بسهولة إلا من خلال عكس المعنى، ويشكل
ذلك مؤشرًا أوليًا على الصعوبة التي يجب تخطيها.
فما الذي نفهمه إذًا بعبارة "الصدفة الذاتية"؟ إن الصدفة الذاتية هي
صدفة ظاهرية، صدفة تنجم عن الجهل، تخفي تحت سلسلة من الأحداث العشوائية
حسب الظاهر صيرورة طبيعية تحرضها أسباب و/ أو تحكمها قوانين. فهذه
الصدفة تتطابق مع الصدفة اللابلاسية، التي تعبر عن نفسها بالدرجة
الأولى بصيغة ضمير المتكلّم: "إننا ننظر إلى شيء ما على أنه أثر الصدفة
عندما [...] نجهل [...] الأسباب التي أنتجته[1]."
وعندما قام لابلاس رغم كل شيء، لكي يتوافق مع الاستخدام الشائع،
بالاستناد إلى الصدفة بصيغة الغائب، فقد كان ذلك فقط يشي بالطابع
الموهم: "ليس للصدفة [...] أية واقعية بذاتها." فاللجوء إلى تصوُّر
الصدفة لا يترجم بالتالي هنا سوى الإقرار بالتخلي الوقتي عن متابعة
البحث. ومن المفروغ منه أن البحث حول الأسباب يمكن أن يصل إلى نتيجة.
وذلك إما لأن وسائل متوفرة تسمح، مع حدٍّ أدنى من المثابرة، بإيصاله
منذ الآن إلى هدفه. وإما لأن النظرية الفيزيائية المعمول بها لها بنية
تحديدية رياضيًا، ولهذا فإنها تفسح المجال لإدراك إمكانية (ببناء
الوسائل الأداتية المناسبة) تتبع سلسلة الأسباب المحددة بشكل جيد.
وإما، أخيرًا، لأنه بقبول مبدأ السبب الكافي فإننا نعمل في منظورات
تحديد مستقبلي لدروب وطرق وصول غير معروفة إلى أسباب مجهولة. وليس لهذا
الموقف الأخير أية قيمة للوهلة الأولى سوى القيمة الإرشادية والكشفية؛
فهو لا يعمل حتى إشعار آخر إلا كدليل وكمشروع ناظم بالنسبة للبحث. وهو
مع ذلك يُستكمَل بشكل متواتر في تأكيد ميتافيزيائي: يوجد هناك في
الخارج، بشكل مستقل عن القدرة التي يمكن أن تكون لدينا على تأكيدها
ووصفها، أسباب حقيقية للأحداث.
وعلى العكس، فإن ذكر صدفة موضوعية يشير إلى معنى وجود حواجز غير قابلة
للتجاوز تمانع إنجاز البحث في مجال علم الأسباب (الإتيولوجي
étiologique).
إن مجرد عدم الجاهزية المادية لوسائل التقصي والبحث لا يبرر وحده أن
نصف صدفة ما بأنها "موضوعية"، لأنها تعلن عن نفسها حتميًا بصيغة ضمير
المتكلم. فـ "نحن" لا نملك إجراءات تقنية تسمح بتحديد أسباب حادث ما.
لكن هذه الـ "نحن" العائدة على المجتمع التكنولوجي العلمي الحالي هي
"نحن" طارئة ومتموضعة ومزاجية. وبالتالي لا يمكن أن توظّف من قبل
العالمية التي تفترضها الموضوعية.
ونجد عند الطرف الآخر لطيف أسباب التخلي عن البحث "عدم وجود الأسباب"
الصريح والبسيط. إن عدم الوجود هذا، إذا ما أثبت، يضمن موضوعية الصدفة
في أشد معانيها النقدية المسبقة: أي المعنى الذي يمكننا القول وفقه بأن
الصدفة هي أمر "أصيل وذاتي"، وأنه "أنطولوجي"، وأنه يميز الطبيعة
"بذاتها". نعبر عن الفكرة أحيانًا وفق نمط لاهوتي (الله يلعب بالنرد[2])،
وأحيانًا وفق نمط طبيعي ("الميول"، التي تؤمّن استقرارية التواترات
وليس الأحداث نفسها، هي قوى "حقيقية" ملازمة للطبيعة[3]).
المشكلة تأتي من أن مثل هذه التأكيدات تظل، مثلها مثل بدائلها، بمنأى
عن كل إمكانية لإثباتها تجريبيًا. إن مسألة معرفة إذا كانت الصدفة هي
"أنطولوجية" أم لا، وإذا كانت "القوانين النهائية للطبيعة" غير تحديدية
بشكل جوهري وأصيل أم لا، هي مسألة لا يمكن حسمها وبتّها. إن التطور
الحديث للعلوم المتعلقة بالعشوائية تصور بوضوح عدم إمكانية الحسم هذه.
ويتم البرهان في الواقع أن ظواهر تحديدية يمكن أن تنتج عن تطبيق قانون
الأعداد الكبيرة على حوادث عشوائية وعرضية، وأنه على العكس يمكن لظواهر
غير تحديدية أن تترجم صيرورات شواش تحديدية كامنة أو تحتية[4].
مع ذلك، ثمة خيارات وسطية، أقوى من الخيار الأول وأقل تأملية من
الأخيرة، تظل متوفرة وقائمة. والخيار الأساسي بينها يتمثل في ربط
أطروحة الصدفة الموضوعية باستنتاج أو معاينة السمة اللاتحديدية
للنظريات الفيزيائية المقبولة حاليًا، أي لكافة النظريات المشتقة من
الميكانيك الكمومي. فالميكانيك الكمومي هو نظرية غير تحديدية وفق هذا
المعنى المزدوج بأنها لا تسمح عمومًا بالتنبؤ بكل نتيجة تجريبية خاصة
بشكل يقيني، وبأن شكلانيتها لا تتضمن أي مؤشر استذكاري مشارك في مبتدأ
سلسلة افتراضية للأسباب التي أمكن لها أن تصل إلى كل نتيجة من النتائج[5].
وبشكل أدق، فإن الميكانيك الكمومي لا يتضمن دائمًا إعادة الإنتاج
الدقيقة للنتائج التجريبية في إثر تحضيرات أعظمية متطابقة. إن هذه
النظرية تترجم وضعًا لا يمكن فيه لكل حادث أن ينفصل عن الظروف الخاصة
واللاعكوسة والتي لا يمكن ضبطها.
يمكن ترجمة هذه الملاحظة على النحو التالي. إن الميكانيك الكمومي لا
"يموضع" صلة دقيقة بين مقدمة عملياتية ونتيجة حدثية، طالما أن موضعتها
ستعني وصفها على أنها صالحة للجميع، وفي كل مكان، وفي كافة الظروف حيث
تكون المقدمة منجزة ومتحققة. بالمقابل، فإن الميكانيك الكمومي يبني
التكرارية والتناسلية الكاملتين للعلاقة بين كل تحضير وتوزع إحصائي
معطى لنتائج تجريبية. يضمن الميكانيك الكمومي أيضًا من خلال معادلة
شرودنغر استمرارية هذه العلاقة. يمكننا بالتالي أن نؤكد، بالتوافق مع
التعريفات السابقة، أنه يتم من خلال هذه المعادلة موضعة صلة بين
المقدمة العملياتية والنتيجة الإحصائية. إن بنيتها الاحتمالية تعطي
بالتأكيد مضمونًا لفكرة صدفة موضوعية. وببساطة، فإن هذا المضمون يرتبط
بمعنى نقدي بالأحرى منه بميتافيزياء مفهوم الموضوعية. إن الصدفة التي
تسود في مجال صحة الفيزياء الكوانتية توصف بـ "الموضوعية" ليس لأنها
تعكس سمة مطلقة للطبيعة (وعلى هذا ليس لدى المقاربة العلمية أي شيء
لقوله في كل الأحوال)، بل لأنها تعبر عن نمط كوني، تصفه النظرية،
للعلاقة الإحصائية بين العمليات التجريبية ونتائجها.
إن هذه الاستراتيجية التي تهدف إلى إعطاء موضوعية للصدفة من خلال وساطة
بنية النظريات الفيزيائية المقبولة لا تخلو مع ذلك من ضعف. صحيح أن
غياب المطابقة أو التعرف على صلة محتملة مشاركة بين مقدمات ونتائج لم
تعد تنسب إلى عدم كفاية حالة راهنة لوسائلنا التكنولوجية، بقدر ما لم
تعد تتعلق بالحدود المفروضة بواسطة النظريات الفيزيائية على كافة
البحوث التي تقودها لتكون ممكنة. ولكن لا يجب أن يغيب عن ذهننا أن
النظرية الفيزيائية، مهما كانت درجة تأكيدها، فإنها تظل هشة، بل هشة
بشكل مضاعف. فهي هشة بسبب التحديدية التحتية لنماذجها عبر حقل التجربة
التي تحكمها، وهي كذلك أيضًا بسبب إمكانية دحضها بواسطة التجارب التي
تنتج بشكل إهمال أو خطأ في هذا الحقل. إن أقنمة الصدفة التي صُيّرت
موضوعية بواسطة الميكانيك الكمومي أمر يعود بالنتيجة للوهلة الأولى إلى
تأسيس عقيدة مبنية على منهج نظري لا حصريته مؤمنة ومؤكدة ولا مستقبله.
إن منهج الفيزياء الكلاسيكية، أي استخدام المعادلات التفاضلية ذات
الحلول التحديدية بطريقة مشاركة من خلال شروط بدئية، كان ييسر الاعتقاد
بتحديدية طبيعية. ثم قاد منهج الفيزياء الكمومية، أي معالجة البدائل
وحالات الضد، و"علاقات الريبة"، كما وسعة الاحتمالية، إلى تيسير
الاعتقاد بلاتحديدية طبيعية. هذا بانتظار تغيير جديد في المنهج لا
يمكننا استبعاده مسبقًا[6].
8. 2 السياقية واللاتحديدية
إن الدرس الذي يقدمه لنا الميكانيك الكمــــومي حــــول الصدفة يتبدى
بالتـــــالي عند التحليل الأولي له أشبه بتعليم العرافين. فما سبق
وأشرنا له هو أننا لن نستطيع جعل الميكانيك الكمومي، لا هو ولا أية
نظرية علمية أخرى، يستخدم كبرهان لصالح صدفة "صحيحة" أو أنطولوجية. إن
موضوعية الصدفة التي يعالجها تظل معلقة بتغير ممكن دائمًا لنمط الموضعة
التي تعبر عنها شكلانية هذا العلم. وحتى عندما نتمسك بمجال صحة
الميكانيك الكمومي فإنه يكفي عمليًا أن نغير مستوى النظرية الموضوعية
لكي نغير بشكل كبير التقدير والتقييم الذي يمكن أن نصل إليه فيما يخص
الصفة الموضوعية أو الذاتية للصدفة التي يواجهها. فعلى سبيل المثال،
إذا كان موقع الموضعة هو موقع "المتغيرات الخفية" في نظرية ديفيد بوم
التي تعود إلى عام 1952، فإن لاتحديدية النتائج التجريبية تنسب إلى
صيرورة من الشواش التحديدي[7]،
بالأحرى من كونها تعود إلى التوزعات الإحصائية أو إلى موجهات الحالة
التي تسمح بتوليدها. وعلى الرغم من أن القدرة الكشفية الماثلة في هذه
النظرية الأخيرة ليست معروفة كثيرًا (أو لهذا "التفسير" كما انتهى بوم
نفسه إلى تسميته)، فإن محاولة افتراض أن قوانين الطبيعة، في مجال بحث
حتى وإن كان محدودًا، هي قوانين تحديدية يجازف بأن يصبح محاولة كبيرة
من جديد.
إن إمكانية بسيطة بأن تكون نظرية (أو "تفسير") مثل نظرية بوم صحيحة
تكفي إلى إيقاف عمل الحجة الاحتمالية الأقوى التي تقدم عادة في صالح
فكرة أن الميكانيك الكمومي يترجم "صدفة صحيحة" بالأحرى من مجرد "صدفة
جهل". إن هذه الحجة ترتكز، ولنذكر بذلك[8]،
على عدم صحة القاعدة المعيارية، في الحالة العامة، لمراكمة احتمالات
الأحداث المتباعدة، أو أيضًا على استحالة اختزال "حالة نقية" إلى "خليط
إحصائي". وفي الواقع، فإن النمط غير التباعدي للرابط الاحتمالي المؤسس
بواسطة الميكانيك الكمومي بين الأحداث التي تظهر بشكل تجريبي لا يتوافق
مع التأكيد بأن هذه الأحداث تنتج من نفسها على الرغم من أننا كنا
نجهلها. وهو كذلك ليس أكثر توافقية مع التأكيد الأكثر نوعية ووفقه فإن
متواليات من الأحداث من هذا النوع تنشأ من ذاتها تكون خاضعة لقانون
تحديدي مجهول. غير أن مثال نظرية بوم قد بين لنا أنه ليس ثمة ما يمنع
من تصور أنه توجد صيرورات تحتية، غير قابلة للظهور في كليتها على
المستوى التجريبي، والتي تخضع من جهتها إما بشكل مباشر إلى قوانين
تحديدية أو إلى قوانين احتمالية تتوافق مع مفهوم "صدفة الجهل". وضمن
هذا المنظور، فإن الانحرافات الملاحظة بين القواعد الاحتمالية الكمومية
والقواعد الاحتمالية المعيارية (التي تفسَّر بعبارة "صدفة الجهل") يمكن
أن تفهم أو تشرح من خلال تفاعلات متبادلة ولحظية بين الصيرورات
التحتية، و / أو من خلال التأثير الذي يجب أن تمارسه أدوات الكشف على
الصيرورات التحتية من أجل إنتاج الأحداث التجريبية التي يحكم الميكانيك
الكمومي احتمالاتها. وبالإجمال، فإن الميكانيك الكمومي لا يخرق المبدأ
العام في اللابتيّة أو اللاحسمية لعلوم العشوائية. وليس ثمة شيء في
بنية تنبؤات الميكانيك الكمومي ما يجبر على التأكيد أنه على "مستوى
نهائي أعلى" افتراضي فإن الصدفة وحدها هي ما يحكم الأحداث الطبيعية.
ومع ذلك، وفي مقاربة تحليلية ثانية، إذا عرفنا أن نقرأ ما بين السطور
في التأملات السابقة، فإن الميكانيك الكمومي يشتمل على درس هام وخال
من الغموض في آن واحد فيما يخص الصدفة. لأنه إذا كان صحيحًا أننا لا
نستطيع الاستفادة منه من أجل طرح أية أطروحة أنطولوجية (تتعلق بالكائن)
فيما يخص السمة التحديدية أو غير التحديدية لـ "قوانين الطبيعة"، فإننا
نستطيع الارتكاز عليه من أجل تقديم مؤشرات ثمينة حول موضوع حدود
الخصوبة الإبستمولوجية لمبدأ السبب الكافي. فمبدأ السبب الكافي لم
يعتبر كمبدأ خصب من قبل الأجيال السابقة من الباحثين العلميين إلا لأنه
كان يدفعهم إلى تصور شبكات من الصلات التشاركية التي تستطيع ضمّ
الظاهرات المعروفة، وتصميم نمط من التجارب التي تسمح بإثبات هذه
الروابط وبالتالي تحديد صفوف من الظاهرات الجديدة. والحال أنه من
الممكن أن نبين (من خلال محاكمات ما فوق نظرية
Métathéoriques
بالأحرى من كونها "ما بين نظرية"
intrathéoriques،
هذه المرة) أن كل نظرية تملك الإمكانية المزودوجة في التحكم من خلال
قوانين (يمكن أن تكون تحديدية) بالخصائص الذاتية للأشياء الفردانية،
وأن تُنتج التنبؤات المؤكدة مسبقًا للميكانيك الكمومي، لها ضمن
تضميناتها لاوصوليتها إلى تجربة الصيرورات التحديدية التحتية التي
تذكرها[9].
إن الصيروات التحديدية التي تصيغها النظريات ذات المتحولات (أو بالأحرى
ذات الصيرورات) الخفية لا تفتح لأي توسع كوني ظاهرات قابلة للتجريب.
وبالنتيجة، فلا عودة التحديدية ولا وضع مفهوم للصدفة الذاتية في
المقدمة أمران مستبعدان، أي غير خصبين. فالميكانيك الكمومي لا يمنع حفظ
مبدأ السبب الكافي وظيفته المثالية الناظمة والمجردة في فضاء المثاليات
الرياضية، لكنه يطرح حدودًا أمام استخدامه كدليل واقعي محسوس للبحث
التجريبي، وهو بذلك يسحب من هذا المبدأ جزءًا كبيرًا مما كان يشكل
قيمته في نظر كتاب ومفكري الثورة العلمية في القرن السابع عشر.
إن قحط مبدأ السبب الكافي في سلوك بعض اللحظات من التقصي العلمي لا
يمنع مع ذلك من استخدامه في الدرجة الثانية في بحث ارتدادي، أي في بحث
حول أسباب محله هو بالذات. فلماذا أصبح هذا المبدأ غير فعال بشكل
مزدوج، وفق توجه تنبؤي وعاكس للتنبؤ في آن معًا، وذلك في مجال الصحة
النوعية للميكانيك الكمومي؟ ثمة بمتناولنا بعض الإجابات الوافية حول
هذا السؤال.
لنلاحظ بداية أن كارل بوبر قدم تفسيرًا مقبولاً لعدم الخصوبة التنبؤية
لمبدأ السبب الكافي في حالة المعرفة الذاتية. وكتب في هذا المجال: "لقد
برهنا أن التنبؤ الذاتي أمر غير ممكن، وذلك صحيح أيضًا في الحالة التي
نتوصل فيها إلى بناء متنبئ يجمع كافة قدرات الذكاء اللابلاسي [...]، أي
متنبئ يمثل منظومة فيزيائية يتم الاعتراف عالميًا بصفته التحديدية.
كذلك فإنه من الصحيح أن برهاننا لا يمكن أن يستخدم لدحض التحديدية. لكن
يمكن استخدامه من أجل دحض التحديدية "العلمية" [...]. ذلك لأنه إذا كان
التنبؤ الذاتي مستحيلاً، فإنما ينجم عن ذلك أن المتنبئ لا يستطيع أن
يتنبأ بردود فعله على محيطه الخاص [...][10]."
بعبارة أخرى، حتى في كون مفترض تحكمه قوانين التحديدية، فإن متنبئًا لا
يستطيع التنبؤ بالظاهرات إذا كان متضمنًا بطريقة مبهمة جدًا في
إنتاجها.
غير أننا نجد مكافئًا لهذا الوضع من التضمين المفرط في الفيزياء
الكمومية، حيث تكون أجهزة الكشف عن الظاهرات هي أيضًا إشراطات لانبثاق
هذه الظاهرات. إن السمة المبهمة للظاهرة ولوسائل ظهورها (إطارية
الظاهرة) هي كما نعرف السمة المركزية للأوضاع التجريبية والتي تهدف
نظريات الميكانيك الكمومي إلى أخذها بعين الاعتبار. وهذا ما يحصل بشكل
مباشر في الميكانيك الكمومي المعياري، ويترجم ذلك بتأثير آني للوسط
الأداتي على الخصائص الممثلة في النظريات ذات المتحولات الخفية من نمط
نظرية بوم. وانطلاقًا من هذه النقطة فلا بد من محاولة تفسير اللاتنبؤية
في الظاهرات الكوانتية من خلال سياقيتها (التي أصبح لا مناص منها بسبب
عدم التوافق الجزئي بين السياقات).
كان هايزنبرغ قد استشف مثل هذه العلاقة بين السياقية واللاتنبؤية في
عام 1927 في مقالة قدم فيها للمرة الأولى العلاقات التي سميت بعلاقات
"الريبة"[11].
غير أن السياقية تأخذ في هذا النص الشكل المصوّر والمحسوس لـ "تخلخل"
ما. والتخلخل غير القابل للانضغاط والذي لا يمكن ضبطه بواسطة أداة
القياس هو، وفق هايزنبرغ تلك الفترة، ما يمنع معرفتنا بشكل كامل
لمجموعتين من المتحولات التي تشكل الحالة البدئية لجسيم، وبالنتيجة
يستنتج هايزنبرغ أن مبدأ السببية الذي يربط بشكل قسري حالة بدئية بحالة
نهائية يظل غير قابل للتطبيق في الفيزياء الكمومية. وللأسف، فإن لصورة
تخلخل الموضوع من خلال أداة القياس مانع كبير أيضًا لم يغب عن بور وعن
هايزنبرغ، وأشار إليه فيما بعد كارل بوبر. ففي العمق، تشتمل هذه الصورة
على البدء بتشكيل مشهد من كون من الأشياء المزودة بخصائص جوهرية، ثم
على تحريض التغييرات المتبادلة لهذه الخصائص من أجل تبرير استبعاد
مفهوم الخاصية بعد حصوله وتعميم مفهوم "الظاهرة" التاريخية. وعبر هذا
المفهوم، فإنه لا يتم ذكر تحريض تمثيل كون ذي كينونات مزودة بتحديدات
خاصة إلا لغاية وحيدة هي البرهان على بطلان أو، ما يعبر عن الأمر نفسه
في الإطار الذي لا يزال راسخًا لإبستمولوجية تحقّقية، عدم إمكانية
الوصول من حيث المبدأ.
إن صورة "التخلخل" تمثل في العمق لحظة "ميتا مستقرة" للتفكر حول
الميكانيك الكمومي. وهي تدعونا إلى تجاوزها في اتجاهين متعاكسين. فإما
نأخذ على محمل الجد مقدمات القياس الخاصة بها ونحاول بناء نظرية موافقة
تجريبيًا للتحديدات التي لا يمكن بلوغها التي نسلم بها، وتلك هي
الاستراتيجية (التي سبق وشرحناها) للنظريات ذات المتغيرات الخفية. أو
على العكس نأخذ بملء الجدية النتائج الكليانية لصورة التخلخل، ألا وهي
لاإنقسامية الظاهرة الكمومية، ونسبيتها غير القابلة للتجاوز لسياق
تجريبي، ونقوم عندها بإعداد تصور للنظرية الفيزيائية التي لا تلجأ من
بعد أبدًا لتمثيل مصوّر للحظات المُشكِّلة المفترَضة للظاهرة، وهي
الاستراتيجية التي اعتمدها بور منذ عام 1935، إنما ليس دون الكثير من
الضعف والتردد.
نستنتج بمتابعة الاستراتيجية الثانية حتى نهايتها أنه يمكن تمامًا
إقامة صلة شكلية مباشرة بين اللاتحديدية التنبؤية والسياقية، دون
الحاجة إلى الوسيط المريب الذي تزودنا به صورة التخلخل. وقد نشرت غريت
هرمان
Grete Hermann
منذ عام 1935 كتيبًا لمّحت فيه إلى مثل هذا الرابط[12].
فقد لاحظت هذه الفيلسوفة الألمانية الشابة في الواقع أن الأسباب
المحتملة لظاهرة كمومية لا يمكن أن تستخدم في التنبؤ بها، لأنه لم يتم
أبدًا تحديدها إلا بعد وقوعها، وذلك بالنسبة إلى الظروف نفسها التي أدت
لإنتاج هذه الظاهرة أثناء القيام بقياس. بعد ذلك، تم وضع الصلة بين
السياقية واللاتنبؤية بشكل صارم من خلال مبرهنة ديتوش - فيفرييه
P. Destouches-Février،
ووفقها فإن كل نظرية تنبؤية تعنى بظاهرة محددة بالنسبة لقرائن تجريبية
يكون بعضها غير متوافق على التبادل فيما بينها، هي نظرية "غير تحديدية
بشكل جوهري"[13].
إن المخمنة السابقة، التي تفسِّر وفقها السياقية المميزة للوضع
التجريبي الذي تواجهه الفيزياء الكمومية اللاتحديدية التنبؤية، ترتكز
بالتالي على أسس أكيدة.
بالمقابل، من السهل البرهان أن هذه السياقية نفسها تجعل من إعادة تشكيل
عكس تنبؤية لسلسلة الأسباب التي أمكن أن تؤدي إلى ظاهرة ما إعادة تشكيل
باطلة (أو تعسفية). إن إعادة بناء سلسلة الأسباب التي لا تكون من حيث
المبدأ مجردة من العلاقات مع التجربة يعني في الواقع تأسيس متوالية
الظاهرات التي تقود، عبر سلسلة مشاركة من الأحداث، من السابقة المعدَّة
إلى النتيجة المستنتَنتَجَة تجريبيًا. لكن من المفترض أن الظاهرة لا
تحدد إلا بالنسبة إلى سياق
تجريبي
واستخدامها الفعلي. وبغياب السياقات التجريبية الوسيطة القابلة للفعل،
فإنه من غير المشروع استحضار ظاهرات وسيطة، وهو في الأكثر ما يسميه
رايشنباخ[14]
H. Reichenbach
"ما بين ظاهرات" تخيلية. إن إعادة بناء عكس تنبؤية لهذا النمط تظل لذلك
اتفاقية بحتة، ولن تكون إضافة إلى ذلك متوافقة مع الخوارزمية
الاحتمالية للميكانيك الكمومي إلا بشرط أن تكون متعددة القيم[15].
باختصار، فإن فإن السياقية تجعل مبدأ السبب الكافي غير فاعل أو كيفيًا،
بحسب ما نستخدمه بشكل تنبؤي أو عكس التنبؤي. وهكذا فإنه يصبح عندها
للصدفة الموضوعية للفيزياء الكمومية، على الرغم من أنها لا تدعي أي
أساس أنطولوجي، ميل للبقاء مسلم به.
*** *** ***
*
هذا الفصل هو نسخة معدلة من المقالة التالية:
M. Bitbol, "Qu'est-ce qu'un hasard objectif?", La lettre
mensuelle de l'ECF, no 161, p. 13-16, 1997.
الفصل الثامن من كتاب
القرب المُعْمي من الواقع،
ميشيل بيتبول، ترجمة موسى الخوري، معابر للنشر، دمشق، 2014