ماذا يعني "فهم الميكانيك الكمومي"؟
- 1
ميشيل بيتبول
يمكننا [...] إعلان شيء ما حول ما يجري في العالم، ولكن ليس حول العالم
بما هو ما يجري فيه شيء ما.
ج. بوفريسّ
J. Bouveresse
-
Wittgenstein, la rime et la raison
ذكرنا
فيما سبق بشكل متواتر فكرة (كانت مألوفة لدى كل من بور وهايزنبرغ) أن
الميكانيك الكمومي يعبِّر عن وضعية تشابك لا ينفصم للوسائل التجريبية
للاستكشاف مع الوسط الذي تستكشفه. وقد نُسبَت مجازًا الصعوبة الظاهرة
في استخدام الميكانيك الكمومي من أجل تحرير وكشف سمات خاصة محتملة
للواقع إلى "القرب المعمي" من هذا الواقع، بدلاً بالأحرى من نسبها إلى
بعده المفرط. لا بد لنا بالتالي من إعطاء شكل واتساق للتصور الجديد
للنظرية الفيزيائية التي تفرض نفسها بعد هذا التحوُّل في التمثيلات
الإبستمولوجية. فما الذي يمكن أن تكون عليه نظرية ما إذا لم تعد نظرية
theoria
بالمفهوم الأساسي لها، أي تأمل منهجي لصيرورة طبيعية يفترض أنها
خارجية؟ وماذا يجب أن يشبه نمط تنظيم عقلي للنشاطات التجريبية
وللظاهرات الناجمة عنها التي، كما يكتب كاسيرر
Cassirer،
لن يكون موضوعها أن "[...] تقطع حدود عالم التجربة لكي تجهز لنا منفذًا
نحو عالم التجاوز، بل أن تعلِّمنا اجتياز هذا العالم التجريبي بكل ثقة،
وسكناه بشكل مريح[1]"؟
نقترح بدايات أجوبة على هذه الأسئلة في المقطعين 7 - 3 و7 - 4.
ولكن، أن نغير بشكل جذري إلى هذا الحدِّ طريقتنا في تصميم النظرية
الفيزيائية، فهذا يعني أن نغير في الوقت نفسه طبيعة ما ننتظر الحصول
عليه عندما نطلب من النظرية أن تساعدنا في "فهم" شيء ما في الظاهرات
الفيزيائية. ربما كان ذلك يعني الاقتراب من هذا اليوم، الذي أعلن عنه
بور منذ عام 1922، حيث سنستطيع أخيرًا أن "[...] نفهم ماذا تعني كلمة
«فَهِمَ»"[2].
إن المهمة الأولية التي يجب إنجازها، في المقطعين 7 - 1 و7 - 2، سوف
تكون بالتالي تحليل شعور "عدم الفهم" الذي عبَّر عنه العديد من
الفيزيائيين بمواجهة الميكانيك الكمومي.
7- 1 فهمُ نصٍّ، وفهمُ نظرية فيزيائية
لننطلق من التعريف الذي يوضح لنا ما هو الميكانيك الكمومي لجيل - مان
M. Gell-Mann:
"الميكانيك الكمومي، هو هذا العلم الغامض والمحيِّر، الذي لا يفهمه أحد
منا بشكل حقيقي، إنما الذي نعرف كيف نستخدمه"[3].
إن مثل هذه الجملة يبدو أنها تطرح تحديًا على إحدى نظريات الفهم الأكثر
شيوعًا في الوقت الراهن، عبر التقريب الذي تقيمه بين "معرفة الاستخدام"
و"عدم الفهم".
وفق قول مأثور تناولته شروحات كثيرة لويتغنشتاين الثاني، فإن "معنى
الكلمة هو استخدامها في اللغة"[4].
فبالنسبة لويتغنشتاين، إن فهم معنى كلمة أو جملة هو أولاً معرفة
استخدامها في عدد من الظروف الحقيقية أو المممكنة، والتصرف بعد ذلك
بشكل صحيح اتجاه بيانها ونطقها بواسطة أحد المتحدثين، وهو أخيرًا (إنما
ليس إجباريًا) تقديم تفسير مرضٍ لها[5].
فإذا نقلنا هذه الملاحظات من ممارسة اللغة الشائعة إلى ممارسة وتطبيق
الفيزياء، فإننا سوف نحب لو استطعنا القول إن التمكن الكامل من استخدام
نظرية فيزيائية هو بحد ذاته ولوحده البرهان على أن مستخدمها يفهمها.
أليست الحالة التي يصورها جيل - مان، وهي حالة مَقدِرَة على الاستخدام
بدون فهم، أليست ضمن هذه الظروف غير قابلة للتصور؟ ألا يجب أن نعزل
شهادة أولئك الذين يدَّعون عدم فهم الميكانيك الكمومي في الوقت الذي
يترجمون فيه يوميًا قابليتهم المتميزة لاستخدامه من خلال أعمال جديدة
تنبؤية أو تكنولوجية؟
دعونا لا نتسرع كثيرًا؛ فعلينا ألا نشكِّك بالأسباب التي لدى الكثير من
الفيزيائيين في الشكوى من عدم فهمهم للميكانيك الكمومي، وذلك بسبب
تصوُّر لا يزال مختصرًا ويعمل من جانب واحد للفظة "فهم". زد على ذلك
أنه "تصور" ليس بلا شك سوى الرسم الكاريكاتوري لتصور ويتغنشتاين. فمهما
كانت في الواقع التحفظات المبرَّرة اتجاه مماثَلَة نفسانية للفهم مع
"تجربة داخلية"[6]،
فإن ويتغنشتاين لم يهمل المسافة التي تفصل المترجِم المتحرِّر
والمنفصِل عن المستمِع في هذه الوضعية. فقد ثمَّن بشكل كامل الاختلاف
بين المعايير التي يضعها مترجِم موضع التطبيق لمعرفة إذا كان مثل هذا
المستمع يفهم ما يقال له، وما يسميه المستمع نفسه "فهمًا". وقد تجنَّب
الاستخدام الخاطئ للألفاظ المشتمل على عدم تناول ظاهرات الفهم إلا
ابتداء من وضعية من يحاكم ويحلل من الخارج صحة إجابات مستمع على
استثارة لغوية. وعلى العكس تمامًا، فقد أمكن اعتبار فلسفته الثانية
كنصيحة بالعودة إلى الوطن والأصول موجَّهة إلى المترجم المنفي
والمغترب؛ إنها أمرٌ بـ "[...] تنفيذ نوع من «إعادة التحوُّل إلى
الإنساني»، أي إعادة إدماج مجتمع في الفهم بعد أن كان قد استُبعد منه
[...]"[7].
فإذا كان المترجم يريد أن يعرف ما هو "الفهم"، فإنه لا يستطيع ببساطة
أن يوائم المعايير ويعاين ويقدِّر الأعراض السريرية كطبيب منفصل عنها؛
إنما عليه قبل كل شيء أن يغوص ويغمر نفسه في ممارسة اللغة[8].
وإذا ما فعل ذلك، فإنه يوشك بأن يلحظ بسرعة كبيرة المسافة التي تظل
قائمة بين الفهم ومعيار الاستخدام الجيد: "[...] إننا نفهم مغزى كلمة
معينة عندما نسمعها أو نلفظها؛ إننا ندركه في ومضة، وما ندركه بهذه
الطريقة هو بكل تأكيد شيء ما مختلف عن «الاستخدام» الممتد في الزمان"[9].
تأمل ويتغنشتاين، دون أن يحمِّل نفسه المحتوى الإيجابي لهذه الملاحظة،
فيما تحمله من مضمون سلبي. فعلى عكس الإغراء الذي يمكن أن ينجم عن مثل
هذه الملاحظة إذا أخذت بحرفيتها، فإن ويتغنشتاين يحاذر جيدًا من الخلط
بين الفهم و"الشعور" بإمساك شيء ما وإدراكه في لمح البصر. فهو لم يقع
أبدًا في العيب الذي شجبه ريكارناتي[10]
F. Récarnati:
العيب الذي يشتمل على إرادة إعداد نظرية للمعنى ترتكز على تمثيل أو
تقديم إشارة مفتوحة عبر شفافيتها على المعنيِّ المتعلق بها. وهو يحاول
الإشارة إلى أنه، من منظور المستمع، أو القارئ أو المتحدِّث، لا يبدو
أن فهم لفظة ما يتطابق مع استخدامها الصحيح في الماضي ولا مع بيان واضح
لقواعد استخدامها الصحيح. وضمن هذا المنظور، فإنه لن يكون من غير
الدقيق جدًا التأكيد (على الأقل وفق نمط مجازي) أن الفهم يظهر بالنسبة
للمستمع أو القارئ مثل شفافية. وببساطة، من أجل المضي أبعد فأبعد في
اتجاه الخيارات الكبرى لفلسفة ويتغنشتاين الثاني، سيكون علينا التعبير
بمصطلحات الممارسة بدلاً بالأحرى من مصطلحات رؤيا تأملية: القول على
سبيل المثال إن فهم خطاب أو نص ما، من قلب ممارسة المستمع أو القارئ،
يعني القدرة على الإندراج في أشكال حياة تتوافق معه. "فأن «نحيا في
صفحات كتاب ما» يعني فعلاً شيئًا ما" كما كتب ويتغنشتاين في نهاية تأمل
حول القصد[11].
وبالإجمال، فإن فهم لفظة أو جملة، ربما يعني أن تكون لدينا الأهلية
للفظها بطريقة تكون فيها، إذا نظرنا إليها من الخارج، قابلة للوصف من
خلال توافقها مع قاعدة استخدام، لكن هذا لا يعني بالتأكيد أن نكون
موجَّهين صراحة بواسطة القاعدة عندما نلفظها[12]،
ويعني أيضًا المحاولة بدرجة أقل لإعلان القاعدة.
إن لازدواجية محصلات الفهم اللغوي وفق وجهة النظر أو المشاركة العملية
مكافئها في الفيزياء. فبالنسبة لشخص عادي، تُعَدُّ مقدرة الفيزيائي
المعاصر على التنبؤ بالأحداث وفقًا لقاعدة مؤشرًا معياريًا على أن درجة
فهمه للطبيعة هي درجة عالية جدًا؛ بل وهذا ما يقوله هنا الفيزيائي الذي
يعوَّل عليه. والفيزيائي يقول بالضبط (وفق جيل - مان
M. Gell-Mann
بعد فاينمان
R. Feynman
وكثيرون آخرون) إنه مع معرفته التعبير عن القاعدة ومع كونها تقوده
وتوجهه فإنه لا يفهم.
نجد تمثيلاً للفرق بين القدرة على التصرف بشكل متوافق مع قاعدة ما وأن
نكون موجَّهين بواسطتها بشكل صريح، بين معيار للفهم وفهم مباشر، في
التجربة الذهنية الشهيرة التي اقترحها سيرل[13]
J. Searle.
وهي التجربة المعروفة بـ "الغرفة الصينية"، والتي يمكن تلخيصها على
النحو التالي. يوجد شخص فرنسي داخل غرفة لا تحتوي سوى على شيئين: شاشة
تظهر عليها أشكال كتابة تصويرية صينية وكتيِّب يبين باللغة الفرنسية
مجموعة من قواعد استخدام هذه الأشكال التصويرية. والكتيب لا يتطابق في
شيء مع قاموس ما أو مع أي شيء آخر مساعد في الترجمة، إنما هو يشتمل فقط
على متتالية من التعليمات تحدد أية سلاسل من الإشارات تكون مقبولة في
"المخرج"، إذا كانت هذه السلسلة من الإشارات قد قُبلت في "المدخل".
تشتمل اللعبة بالتالي بالنسبة للشخص الفرنسي في الغرفة على "الإجابة"
على متتاليات الأشكال التي تندرج على شاشته مع متابعته الدقيقة
لتعليمات الكتيب بين يديه. والنتيجة: إذا تم النظر من الخارج إلى هذه
النتائج من قبل متحدث صيني، فإن "الإجابات" التي يقدمها الشخص الفرنسي
(أو بالأحرى المقدمة بواسطة الغرفة بكاملها، مع الكتيب الموجود فيها)
تكون متوافقة بشكل كامل مع معايير "فهم" ممتاز للغة الصينية[14].
غير أن سيرل يلاحظ أننا لو سألنا الشخص الفرنسي فإنه سوف يؤكد بشدة أنه
لم يفهم شيئًا من الجمل الصينية التي كانت تندرج على الشاشة. وهذا فيما
يتعلق بالجمل التي كانت ترد في "المدخل" كما بالنسبة للجمل التي كانت
تظهر في "المخرج"، بعد أن اتبع خطوة خطوة تعليمات كتيبه. فالنتيجة
واضحة بالتالي وتفرض نفسها. فنحن لا نستطيع القول ما هو الفهم إلى ما
وراء معاييره الخارجية، لكن يمكننا بشكل كامل القول من جديد ما ليس هو
الفهم. فهو ليس التشغيل الوحيد الصحيح لقواعد الاستخدام. وحتى الخصوم
الأكثر محاربة لأطروحة سيرل يعترفون بذلك تلميحًا. فالفهم الكامل لخطاب
معلن بلغة أجنبية غريبة عنا لا يظهر، بالنسبة لمستمع، من خلال توافر
صريح لمجموعة من قواعد الاستخدام، بل بالضبط من خلال اختفاء هذه
القواعد. وفقًا لنقاش التجربة الذهنية لسيرل الذي يقترحه كل من
هوفستادتر
Hofstadter
ودينّيت
Dennett،
"فإن كل شخص يقوم بالتجربة سيدرك الوصف التالي: سرعان ما سوف تصبح
أصوات اللغة الثانية غير مسموعة - نسمع من خلالها بدلاً بالأحرى من
الاستماع إليها، كما نرى عبر النافذة بدلاً بالأحرى من رؤية النافذة"[15].
وهنا أيضًا نجد الملاحظة التي وفقها حتى إذا لم تكن هناك أية نظرية
للمعنى تقلِّص هذا المعنى إلى شعور بـ "الإدراك المباشر" صحيحة، فإن
الفهم يظهر للمتحدِّث من خلال شيء مثل شفافية القواعد.
حاول بعض الكتاب (بشكل خاص نعوم تشومسكي) أن يروا في هذا الجمع بين
توافق
السلوكات
اللغوية مع قواعد الاستخدام، وغياب التوجيه أو الدليل الصريح عبر هذه
القواعد، الدليل على أن هذه القواعد تقود بشكل لاواع وترشد الاستماع
والإجابات[16].
إن التوافق الظاهر لسلوك ما مع قواعد، في حين أن صاحب هذا السلوك يؤكد
أن لا شيء قاده أو أرشده عبر القواعد، يمكن حتى أن يستخدم كتعريف لـ
"إرشاد غير واع". مع ذلك فإن مثل هذه الأطروحات ذات السوية النفسانية
هي طروحات متعجلة وغير حذرة، لأنه من الممكن جدًا ألا يكون لتفسير سلوك
خارجي متوافقٍ مع قواعد معينة أية علاقة مع البرمجة العصبية الدماغية
والتنفيذ الدقيق لهذه القواعد، حتى وإن كان ذلك بطريقة لاواعية. وإذا
أخذنا حرفيًا بالتقرير المقدم من قبل المستمع، سوف نرغب بالأحرى بالقول
إن القواعد كانت غائبة؛ وأنها لم تعد تلعب أي دور في الفهم. ولكن كيف
يصبح سلوك لغوي متوافقًا مع قواعد معينة إذا لم تكن هذه القواعد ماثلة
بطريقة أو بأخرى عند مؤلفها وواضعها؟ إن ذلك قابل للتصوُّر إذا كانت
التضمينات السلوكية لهذه القواعد قد اندمجت بشكل كامل مع "شكل للحياة"
(بالمعنى الذي يقصده ويتغنشتاين)؛ هذا إذا كان التوجيه الصريح أو
المتضمن بواسطة قاعدة ما قد تم استبداله ببساطة باعتماد طريقة ما
للوجود ثمة، بين نتائجها، التوافق الخارجي للسلوك اللغوي مع هذه
القاعدة. ووفق هذه المقاربة الكليانية، فإننا "نفهم" لغة أجنبية عندما
لا تعود قواعد الترجمة تقود استخدامها؛ عندما تصبح كلماتها وجملها
جزءًا لا يتجزأ من سلوك عام في الطبيعة وفي المجتمع. فنحن نفهم حكاية
ما عندما يحل محل التحليل المعجمي والنحوي والأسلوبي الاعتماد اللحظي
والوقتي لشكل حياة متوافق مع الشكل الذي أراد الراوي إعطاءه وتقاسمه مع
مستمعيه، وبالقدر نفسه مع الأشكال التي يكون المستمعون مستعدين للتعرف
عليها على أنها أشكال يمكن أن تكون أشكالهم هم، وذلك بالنظر إلى
التربية التي تلقوها وإلى توافقات الوسط الذي يكتنفهم. نفهم نصًا عندما
يعمل كنقطة مرور أصبحت متضمنة باتجاه عالم تخيلي أو بائد، باتجاه مكان
متميز عن الذي يعيش فيه حاليًا الراوي وقراؤه الممكنين، إنما يعترف فيه
الجميع بالقدرة على متابعة مشروع وجودهم.
وبالمثل، أم نرغب القول بالتماثل، فإننا نفهم نظرية فيزيائية عندما
يسمح "تفسير" متوافق مع بنيتها الرياضية باعتبار هذه الأخيرة كوسيلة
بسيطة للمرور إلى ما ورائها؛ وسيلة أصبحت غير ظاهرة لنقل الفيزيائي إلى
عالم يمكن التعرف عليه من قبله كنسخة مختلفة معقولة لإطار أشكاله
للحياة وحركاته وأعماله في تسمية الأشياء المسماة والتنبؤ بها. يتأتى
الأثر الثقافي لهذا المرور من كونه كان ينظر إليه غالبًا كانفتاح نحو
"حقيقة" أكثر جوهرية من أشكال حياة هو لا يشكل مع ذلك بكل تأكيد سوى
امتدادها.
7- 2 حول اللافهم في الأدب وفي الفيزياء
من عدم الفهم الابتدائي للغة أجنبية أو حكاية أو نص أو نظرية، توصلنا
إلى فهم يُنظر له افتراضيًا ككتم وإخفاء لأداته الرمزية. ما الذي سيحدث
الآن في حالة الفشل المتأخر للفهم، إذا أدركنا أننا لم نكن قد فهمنا كل
شيء أو أننا كنا فقط قد اعتقدنا بأننا فهمنا؟ لنفترض على سبيل المثال
أن مستمعًا فرنسيًا لم يكن يسمع الأصوات الصينية خلال بضعة دقائق، وأنه
أدرك المدلول بالمرور من فوق الدال، وأنه استقر في شكل حياة متوافقة من
حيث الظاهر مع الخطاب الذي كان قد وُجِّه إليه. وفجأة يظهر تنافر أو
عدم انسجام ما. فتتمة الخطاب وحركات المتحدث الصيني لا تعود متوافقة
على الإطلاق مع ما كان المستمع الفرنسي يتوقعه في أثر ومسار فهمه
المزعوم للجمل الأولى. يعود المستمع عندها "إلى الأرض". والقواعد التي
اختفت تعود فتظهر له. ويعود للاستماع إلى الظاهرات، وإلى اللجوء
للتحليل النحوي، وليدرس وفق رسوم وتكاليف جديدة الإطار الثقافي الصيني.
ويدرك أخيرًا أن ما كان يعتقد أنه فهمه كان يقع ضمن إطار التفسير فقط؛
تفسير كان يدرك قدرًا جيدًا من بعض الجمل، إنما لم يعد على الإطلاق
يستطيع إدراك شريحة أوسع من السلوك الإيمائي واللفظي. وهكذا فإننا نصل
من الاستماع الأرعن إلى التفكُّر؛ ومن الفهم البسيط نصل إلى الفهم
التفسيري، إذا كان صحيحًا أن "[...] خاصية التفسيري هي أنها بشكل من
الأشكال تتناول مسائل الفهم ابتداء من ظاهرات اللافهم"[17].
لنأخذ مثالاً آخر: وفي هذه المرة لا تُطرح مسألة اللغة. ليكن هناك شخص
لغته الأم هي اللغة الفرنسية ويقرأ حكاية باللغة الفرنسية. غير أن
الحكاية مليئة بالتناقضات. فبدلاً من متابعتها بشكل مستمر، نجدها مقطعة
بأحكام الكاتب الشخصية أو بهروبٍ حالم، ثم تعود الحكاية إلى مجراها
بشكل غير مترابط جزئيًا مع ما كانت قد وصلت إليه في المرحلة السابقة.
ويتم قطع عبور الكلام باتجاه مشهد السرد بشكل منتظم؛ أما النافذة
اللسانية التي كانت تنفتح على ديكور الحكاية فتعتَّم بواسطة تقطعات ولا
تتضح من جديد ومؤقتًا إلا من أجل إظهار ديكورات جديدة ومشاهد جديدة. إن
القارئ الذي لا يرفض الاستمرار في القراءة ولا يقتنع بموقف جمالي أو
آثاري[18]،
ويريد "فهم" الخطاب أو النص المقترح عليه، لا يملك في هذه الحالة سوى
خيارين. إما أن يوافق على تفكيك فهمه إلى أجزاء مساوية من الوحدات
السردية التي تملك تجانسًا داخليًا، وإما أن يستمر في بحثه عن الوحدة.
ولكن في الوضع الذي وصفناه أعلاه، فإن هذه الاستراتيجية الأخيرة لها
ثمنها. فهي تجبر القارئ على التخلي بشكل كامل عن رؤية تمثيل "القصة
(القصص)" التي كان الكاتب قد أراد وضعها تحت بصره. وهي تجبره على خسارة
إمكانية الانتقال إلى المشهد الطوباوي لقصة أو لعدة قصص لكي يتساءل حول
الوضع الخاص الذي كُتبَ النص ابتداء منه. وبسبب عدم وجود مؤامرة ما،
فإن مبدأ الوحدة، المولِّد لمجموعة من التحولات التي ترجع كل عنصر من
النص إلى كافة العناصر الأخرى فيه، لا يمكن أن يكون سوى المؤلف نفسه
(أو ربما الهدف الذي سبق تشكُّل مجموعة من الكتَّاب). إن ربح شيء ما
كفهم إجمالي لنص يستتبع بالنتيجة هنا أن نطرح على أنفسنا السؤال
التالي: من هو الكاتب؟ ما الذي أراد التعبير عنه، انطلاقًا من أية
تجربة فريدة، وفي أية حالة فكرية؟ في إطار أي منعطف من حياته جمع
كِسَرًا متفرقة من النص ليؤلِّف منها كتابًا؟ وما هي الشروط التي اقتيد
وفقها هذا الإنسان، أحد أقراننا، إلى جمع مادة ما كتبه؟ ليس لأننا كنا
نأمل بتتبع سلسلة سببية تبدأ من الوسط الاجتماعي، من التيارات الثقافية
ومن الصدمات الفردية التي تعرَّض لها المؤلف، للوصول إلى عمله
التأليفي. لكننا نأمل بالدرجة الدنيا، عبر هذه الصيرورة الانعكاسية، أن
نقرر ونجد مرتكزًا لنا في لعبة من التبادلات القابلة لتوضيح سلسلة
التموضعات في العالم التي يعتبرها مواضعه مع سلسلة التموضعات التي يمكن
أن نعتبرها مواضعنا. وفي العمق، فإن كل ما نريد معرفته، هو في أية ظروف
كان بإمكاننا التصرف مثله هو وفي أية ظروف كان بإمكانه التصرف مثلنا
نحن. فكل ما نبحث عنه هو أن "نفهمه" بالمعنى التأويلي والتفسيري؛
واعتباره ليس كمجرد شيء منتج للنصوص تحت تأثيرات معينة، بل كموضوع
مشارك نعرف كيف نتبادل معه جملة أسباب وأهداف ونوايا[19].
وإذا ما نظرنا بشكل استعادي، فإن الفهم الفوري، ودون إلزام بنص يفضي
إلى "قصة"، يظهر كحالة نوع من الفهم التفسيري للموضوع - المؤلِّف من
خلال الموضوع - القارئ. وهذه الحالة هي الحالة التي يكون فيها المؤلف
قد توصل فعلاً إلى تعميم موضعه الخاص (أو مواضعه الخاصة) وذلك بتجسيد
الافتراضات المسبقة، القيم والرغبات، لدى قارئه المحتمل، بحيث لا يكون
هذا القارئ بحاجة حتى إلى جعل عامل تبادلية يتدخل من أجل أن "يفهمه".
إن صوت الراوي هو بالنتيجة شكل من أشكال صوت القارئ؛ صوت كان من الممكن
للقارئ أن يصيغ نغماته دون أن يكون عليه حتمًا أن يتمثل نفسه تحت سمات
شخص آخر. إن تبادل الوضعين أو الحالتين يصبح واضحًا إلى حد أنه يتحول
إلى لامبالاة بالحالتين. وفي هذا المعنى، فإن الفهم التفسيري الذاتي -
التشاركي، بعيدًا عن إفقار مخطط الفهم الانعكاسي لـ "حكاية" مموضَعة،
يشكل تعميمه المنطقي[20].
إن هذه الانعكاسات على عدم الفهم الجزئي لنص تنتقل دون صعوبة إلى
الفيزياء المعاصرة. إننا لا نفهم نظرية فيزيائية عندما لا يمكن لبنيتها
الرياضية (دون تحايل ما) أن تُعَدَّ كوسيلة بسيطة للمرور إلى ما وراء
هذه البنية؛ وعندما يبدو أنها لا تسمح بأن تتمثل "عالمًا" يمكن أن
يكون، مع كونه متماثلاً، معترفًا به من قبل عالم الفيزياء كتوسع أو
تشوه مستمر لمسرح أشكال الحياة فيه.
ضمن هذه الظروف إنما تُطرَح إشكالية حقيقية في "تفسير" النظرية. لأنه
طالما كان بالإمكان وضع ولو مجرد تفسير واحد يكون مندمجًا ومتناغمًا
بدرجة كافية مع طرقها في الاختبار التجريبي ويسمح في الوقت نفسه بفهمها
اللامنعكس، فإن النظرية تكون مقترنة بشكل لا ينفصم مع هذا التفسير.
نستطيع القول بالتالي إن التفسير يشكل جزءًا من النظرية، وأن التطوُّر
التاريخي لأحدهما يتبع خطوة خطوة التطور التاريخي للآخر. يضاف إلى ذلك
أن التضاعف المتأخر للتفسيرات المقبولة، كما حدث بالنسبة للميكانيك
الكلاسيكي في القرن التاسع عشر، يخاطر بأن يُدخِل نسبوية معينة لدى
أكثر المفكرين شفافية وصفاء تفكير. من جهة أخرى، إذا كان هناك إخفاق
مؤقت في محاولة جعل الفيزيائي يدخل إلى عالم مألوف إلى ما وراء الصورية
وقواعد الاستخدام التنبؤي للنظرية، أو أيضًا إذا كانت هذه المحاولة
(كما هو الأمر في حالة النظريات ذات المتغيرات الخفية) تستتبع درجة
مفرطة من الانفصال عن إجراءات الإثبات التجريبي للنظرية كما وتراتبية
في القيم لا يتقاسمها الجميع، فإن التفسير يكتسب عندها نظامًا وحالة
على حدة. هنا يجد التفسير نفسه وقد حُوِّل إلى موضوع، ودُرِس بشكل
منفصل، وأُبرز ضمن مقياس حدوده نفسه. ويبدو أننا بقينا هنا في
الميكانيك الكمومي منذ ما يقارب ثمانين عامًا؛ بحيث أنه مع عدم وجود أي
تفسير للنظرية يقدم بطريقة لا يمكن دحضها أهمية فهم إجمالي لاإنعكاسي،
فقد وجد التفسير نفسه يستكشف حالة موضوع الدراسة بشكل كامل.
أي موقف نختار في مواجهة مثل هذا الوضع؟ من المهم الاستنتاج أن مجموعة
المواقف المعتَمَدة من قبل الفيزيائيين تغطي بشكل وثيق جدًا المجموعة
من المواقف التي سبق ورأيناها فاعلة بمواجهة اللافهم المباشر لنص ما.
اعترض بعضهم برفض قاطع على الميكانيك الكمومي، على طريقة بعض القراء
الذين يرفضون متابعة قراءة نص ما يبدو لهم غير متماسك وغير مفهوم. وقد
علَّق بعض الفيزيائيين أملهم على نظرية مستقبلية أكثر غنى (تشبه توسعًا
للنظريات ذات المتغيرات الخفية) أو متميزة عنها بشكل جذري. في حين أن
فيزيائيين آخرين (مثل ديراك) اعتمدوا على إحساس جمالي، يتعلق بالجمال
الرياضي لصورية فضاءات هيلبرت أو بانطباع التناغم الذي ينبثق عن
القابلية التنبؤية الشاملة للميكانيك الكمومي، ليكون بديلاً عن "فهم"
هذه النظرية. واقترح فيزيائيون آخرون أيضًا تفكيك ظروف استخدام
الميكانيك الكمومي، كما نفعل بالنسبة لنص "مفكك"، بحيث يتم ربط كل من
الأجزاء التي نحصل عليها مع تمثيل جزئي، متوافق محليًا مع أشكالنا
الحياتية. تمثيل موجي أو تمثيل جسيمي؛ تمثيل لسرعة أو تمثيل لموضع؛
سببية أو إدراج للأحداث في الزمكان؟ نتعرَّف هنا على إحدى مركَّبات
استراتيجية بور في "التكاملية". يبقى أخيرًا خيار أخير، بدأ يشق طريقه
في أيامنا هذه، وإن كان لا يزال يتلمسه تلمسًا. ويشتمل هذا الخيار على
البحث عن فهم كلي للميكانيك الكمومي على حساب توسعة لمفهوم "أن نفهم"،
فهمٌ أقرب إلى الفهم التأويلي. فبدلاً من محاولة تجاوز النظرية باتجاه
"عالم" وحيد، وبدلاً من تعويض فشل هذه المحاولة بالطلب من النظرية
إعداد انفتاحات جزئية على أجزاء من عالم، بدلاً من أن نتطلب بالإجمال
من النظرية أن توفِّر لنا النسيان النهائي أو من خلال تناوب الضرورة في
أخذ موضعنا في الكون بعين الاعتبار، فإننا نتصورها على أنها النظام
المعمَّم لتبديل وتبادلية المواضع: نظام مبادلة وتبادلية يميل لأن
يَحلَّ محلَّ تمثيل "عالم" في دور بنية موحِّدة للظاهرات، تماماً كما
تحلُّ في التأويلية معاملات التبادلية الموضعية بين المؤلف والقارئ
محلَّ القصة في دور مبدأ الوحدة في النص.
لقد أعطت النسخة الأولية لنظرية النسبية الخاصة المثال الشرعي على مثل
هذا الاستبدال، وذلك من خلال التصور الأينشتيني لمجموعة تحويل لورنتز
كمنظومة تبادلية قياسية بين العناصر في مجموعة وضعيات مكانية وزمانية
وحركية. أما الميكانيك الكمومي فيرتكز من جهته على منظومة تبادلات
معقدة حيث تتعلق اللحظة الرئيسية فيها (إنما ليس الوحيدة، كما سوف نرى)
بالعلاقات الداخلية المتبادلة بين عناصر مجموعة الوضعيات التجريبية
التي تستجيب لمعايير الاتصال بين المجرِّبين. لقد تم إرساء موازاة
مفصلة بين منظومة التبادلات النسبوية ومنظومة التبادلات في الميكانيك
الكمومي[21].
فكما أن النظام التبادلي للوضعيات المكانية - الحركية يُترجَم في نظرية
النسبية بواسطة قاعدة للتحويل (تحويل لورنتز)، فإن نظام تبادلية
الوضعيات التجريبية يمكن أن يُترجم في الميكانيك الكمومي بأحد النمطين
التاليين لقواعد التحويل: "نظرية تحويلات ديراك" التي تنطبق على
العوامل ومنظومة تحويلات فورييه التي تنطبق على توابع الموجة. ومن جهة
أخرى، كما تُقرن علامة مرجعية عطالية بكل وضعية مكانية - حركية في
نظرية النسبية، فإن علامة مرجعية بوولية (أو إذا أردنا منطقًا بووليًا
تحتيًا) يقترن بكل وضعية تجريبية في الميكانيك الكمومي. وأخيرًا، كما
أنه مع تحويل لورنتز يتوافق مكان يعمل فيه هذا التحويل (زمكان
مينكوفسكي) وشعاع موجِّه يترك له التحويل المعيار (يسمى المتَّصل
الزمكاني) ثابتًا، فإنه يتوافق مع نظرية تحويلات ديراك فضاء هيلبرت
الذي تعمل فيه هذه التحويلات وشعاع موجِّه (يسمى شعاع الحالة) تترك له
هذه التحويلات معياره ثابتًا.
ترجمة: موسى الخوري
*** *** ***