|
اللاعنف والمقاومةNonviolence and resistance
الشيءُ الحاسم الذي قدَّمَـتْه حملةُ العصيان المدني عام 1930 لشعب الهند هو إتاحة الفرصة له لاستعادة كرامته. فعندما تحدَّى المضطهَـدُ علنًا سلطةَ المستبِدِّ وعندما امتلكَ جرأةَ مواجهته مسيطرًا على كل خوف وعندما عصى أوامرَه ورضيَ بتحمُّـل الألم مِن دُون التفكير بالثأر، عندئذٍ أثبتَ ذلك المضطهَـدُ لنفسه أنه كائن ذو كرامة وحر واستردَّ اعتباره أمام نفسه واستعاد سلطتَه على حياته. ابتداءً من تلك اللحظة، ومهما كانت قوةُ المستبدِّ الماديةُ التي يمكن أن تتيحَ له فرْضَ قانونِه على المضطهَد لبضع وقت أيضًا، فإنَّ المضطهَد قد استعادَ أصلاً حريتَه. ولذلك فإنَّ استقلال الهند قد دخلَ أساسًا في التاريخ حتى وإنْ لم يكن مكتوبًا بعدُ في نص الميثاق الذي أُبرِمَ بين غاندي وبين السلطة البريطانية. وقد عرفَ الشاعرُ رابيندرانات طاغور تمامًا كيف يشير إلى هذا النصر الذي أحرزه شعبُه آنذاك: الآنَ فهِمَ الذين يعيشون في إنكلترا أنَّ أوروبا قد فقدَت نهائيًا نفوذَها المعنوي القديم في آسيا. فهي لم يعُـدْ يُنظَرُ إليها على أنها سيدة النزاهة في العالَم ورافعة المبادئ السامية، بل أصبحَ يُنظَرُ إليها على أنها المدافعة عن سيادة العِرْق الغربي والمستغلة لمن هم خارج حدودها. وهذا في الحقيقة إخفاق أخلاقي خطير لأوروبا. وفي الواقع، على الرغم من أنَّ آسيا مازالت ضعيفةً ماديًا وعاجزةً عن الدفاع عن نفسها ضد أي اعتداء يهدِّد مصالحَها الحيوية، فإنه رغم ذلك يمكن القولُ بأنها قادرة على أنْ توفِّرَ لنفسها الفرصةَ لتنظرَ إلى أوروبا من أعلى نظرةَ اعتزاز في حين أنها كانت تنظر إليها في الماضي من الأدنى نظرةَ
انكبَّ ناشطون وباحثون كُثر على إجراء دراسات حول ما أسموه "سياسات غاندي" و"اقتصاديات غاندي"، بيد أن قلة منهم طرحت الأسئلة التي ينبغي أن تُسأل فعلاً. كيف أنجز غاندي ما أنجزه في حياته؟ مِمَّ استمد قوته؟ كيف أمكن لمثل هذا الرجل العادي الضئيل البنية، المحامي المحدود الكفاءة والمُفتقِد إلى الهدف، أن يحوِّل نفسه إلى شخص قادر على الوقوف منفردًا ومنازلة أعظم إمبراطورية عرفها العالم، وأن ينتصر بدون إطلاق رصاصة واحدة؟ ذات مرة، سأل أحد الصحفيين الأمريكيين غاندي، وكان متابعًا لحركته لسنوات عدة ومن أشد المعجبين به: "هل لك أن تخبرني عن سر حياتك في ثلاثة كلمات؟" "أجل"، أجاب غاندي بضحكة خافتة. إذ لم يكن من خصاله التهرب من تحدٍ: "تنسَّك واستمتع!".
تجري في العالم المسيحي، في الوقت الراهن، حربان. صحيح أنَّ إحداهما قد انتهت، وأنَّ الأخرى لمَّا تنتهِ بعد، لكنهما اندلعتا في الوقت نفسه، وكان التضادُّ بينهما مذهلاً. إحداهما، التي انتهت الآن، كانت حربًا قديمةً ومتغطرسةً وغبيةً وعنيفةً وغير عصريةً ومتخلِّفةً ووثنية. إنها الحرب الإسبانية-الأمريكية التي، عبر قتل البشر وحسب، حلَّت مسألة: من سيحكم الآخرين، وكيف؟ أما الحرب الأخرى، التي مازالت مستمرة، والتي لن تنتهي إلا بانتهاء كل الحروب، فهي حرب حديثة، متفانية، قائمة فقط على المحبة والوعي، حربٌ مقدَّسة. إنها حربٌ على الحروب، أعلنها منذ زمنٍ بعيد (كما قال فيكتور هوغو في أحد المؤتمرات) القسم التقدمي الأفضل للعالم المسيحي ضد القسم الآخر، العنيف والمتوحش، لهذا العالم نفسه، والتي يخوضها بقوة ونجاح استثنائيين، في الآونة الأخيرة، ثلَّة من المسيحيين الدوخوبوريين القوقاز ضدَّ الحكومة الروسية الطاغية.
في العام 1976، كتبتُ قصيدة تحدثت فيها عن فتاة في الثانية عشر من عمرها – وهي واحدة من أناس القوارب الذين كانوا يعبرون خليج السيام. فتاة اغتصبها قرصان، فألقت بنفسها في البحر – (كما تحدثت) عن القرصان الذي وُلِد في قرية نائية محاذية للساحل في تايلاند، وعنِّي. وأنا لم أكن في الواقع على متن المركب – إنما كنتُ على بعد آلاف الأميال – لكن لأنّي كنتُ في حال انتباه، كنتُ على علم بما كان يجري في الخليج. |
|
|