french

الحبُّ: طريقنا إلى الحضارة

البُعد المؤنَّث عند الرجل: مصدر الإبداع[1]

پول سالومون[2]

 

لِمَ لا؟

الحب زهرةٌ من زهرات الحضارة، مافتئت تتفتح وتكشف عن بتلاتها أمام أعيننا المبهورة. لكن الحبَّ أيضًا يستحيل أحيانًا إلى برعم جامد، إلى وعد لا نَفِي به أبدًا، وتنال منه سلوكاتُنا البالية. ففي داخل كلِّ زوجين تتصارع قوتان: واحدة في وضَح النهار وأخرى في ظلمة جوف الأرض. فعلاقة مسيطِر/مسيطَر عليه وسيد/مسود علاقة لن تكفَّ منذئذٍ عن مدِّ جذورها إلى قطاعات النشاط في الحياة كافة. فلحدِّ الآن، مازال "قانون الأم" و"قانون الأب" يتعايشان معًا دون أن يتوصلا إلى استبعاد أحدهما الآخر، كما لم يحدث بينهما أي تحالف حقيقي على الإطلاق. فالأم أخضعت نفسَها إلى حدِّ إلغاء قانونها أحيانًا، لكن قوتها المبتلَعة ظلت موجودة، لاطية على استعداد لأن تنبثق متفجرةً عند أية فرصة تُتاح لها. لقد بُنِيَت العلاقةُ الزوجية على هذا اللاتناظر المرعب وعلى هذه البؤرة القابلة للانفجار. فكل شخص خاضع خانع يغذِّي في أعماقه، وإنْ عن غير وعي منه، أسبابَ تمرده؛ وكل استئثار بالسلطة يتضمن تصعيدًا للاستبداد كردِّ فعل على هذه الثورة الكامنة، وساعة الثأر آتية لا محالة، بحيث يصير المسيطِر بدوره مسيطَرًا عليه، مدفوعًا بجاذبية لا تقاوَم للخوض في الممكنات كافة. لكن هذه الوضعية تتصف حصرًا بأنها تظل مكبوحة ومتألِّمة، بما يُراكِم العنف. فلا السيطرة ولا الخنوع سيئان في حدِّ ذاتهما حينما يكونان عابرين؛ لكنهما، عندما يصيران مؤسَّسين، فإنهما يغذيان الحرب.

الإلهة الأم المبتلَعة

نحن قطعًا ورثةُ هذين الزوجين الجهنميين، المحكوم عليهما بالصراع الدائم، لأن هذا التنافس القديم بين قانون الأب وقانون الأم لم يَهْتَدِ بعدُ إلى تسوية، ولاسيما أن "الوجه القاتم للإلهة القديمة لم يعد إلى الظهور من جديد في حضارتنا" (ماري لويز فون فرانتس).

فالذي حدث أن ذكورة الكائن البشري، التي أطلق عليها كارل غ. يونغ اسم أنيموس animus، تنامت كثيرًا، ولاسيما في الغرب؛ أما أنوثة الكائن البشري، التي أطلق عليها يونغ اسم أنيما anima، وكذلك غريزة الحب Eros في الحياة، فلا يزالان في حاجة لأن ينموا ويعرفا نفسيهما، لكي يتيحا لنا أن نصبح أكثر إنسانية.

نحن جميعًا – رجالاً كنَّا أم نساءً – معوقون من جراء قصور معرفتنا بهذه "الأم" الكامنة فينا: فنحن لا نعرف كيف نكتشفها ولا كيف نستوعبها ونجتازها. نحن في سلوكاتنا مازلنا أسْرَى لهذا الشوط الأول العلائقي الاندماجي المدمِّر. ففي السيرورة التي تقود الكائن إلى تنمية نفسه وتطويرها كفرد كامل، أكثر حرية ووعيًا في باطنه، يظل ضعف الأنيما [أنوثة الرجل الكامنة] وغريزة الحب [إيروس] يشكلان عائقًا يجعلنا نتعثر ونَعْرُج باستمرار. فكل أشكال الفشل التي تعكِّر صفو الزوجين تضرب بجذورها في اختلال التوازن ذاك لدى الزوجين الأولين المؤسِّسين، ذلك الخلل الكامن في رحم الأم. فالنظام الأبوي ليس بشكل ما سوى مؤسَّسة رجعية هائلة مناوئة لقوة الأم البدائية الهائلة. لكن ردَّ الفعل الرجعي ليس إبداعًا موفقًا بالضرورة؛ فالنظام الأبوي استعبادٌ مقنَّع لم يمنح السعادة لا للرجال ولا للنساء، والوعي الجمعي الحالي بصدد البحث عن تجاوُز لهذا الوضع الشاذ.

قصة قطيعة

ترتبط ممارسات خصاء العضو التناسلي الأنثوي في مختلف الثقافات برغبة الذكر في بتر هذه الطاقة الأساسية التي تجعل من المرأة كائنًا أساسيًّا حرًّا غير قابل للاختزال. لكن علوم اللاهوت الغربية فصلت، بقدر أكبر من الحذق والمهارة، المرأةَ عن أفضل ما عندها، بإدانتها لجسد المرأة وغريزتها الجنسية اللذين رأت في وجودهما إثمًا وخطيئة. فسقوط البشرية من الجنة إلى الأرض مرتبط أصلاً بخطيئة أكل التفاحة، ناهيك عن أن آدم ما كان يسعه أن يُقْدِم على هذا العمل لولا إغراء الخطَّاءة حواء؛ والتاريخ، في الغالب، لم يحفظ سوى هذا الإثم العظيم! لكن الجانب الآخر من القضية هو ذاك الجانب المرتبط بسلطة مفرطة. فالقول إن السقوط هو من جانب حواء يعني القول ضمنًا بأن حواء تمتلك أيضًا سلطة الارتقاء.

فعلى مدى آلاف السنين، ظلت الإلهات تؤدي هذه الوظيفة الإيجابية، المتمثِّلة في إيجاد صلة ما بين السماء والأرض، وتنظِّم في المعابد شعائر احتفالات الخصوبة. فالتقاء الرجال والنساء في جوٍّ من الشعائر الخاصة كان يعطي لهذا اللقاء المقدس دلالتَه كلَّها.[1]

حضارة الإبداع المشترك

كلُّ شيء يحدث وكأن البشرية لعبت دومًا دور حضارة الأم، ومن بعدها دور حضارة الأب، فكانت الأولى غير واعية ولامتمايزة، وكانت الثانية رجعية. فهل بالإمكان اليوم أن ننظر في حضارة الرجل والمرأة من خلال علاقة تعاونية، علاقة إبداع مشترك؟ وهل يمكن للاختلاف البيولوجي والنفسي أن يُعاش على غير غرار العيش تحت شعار الخوف والتهديد والاستغلال؟ نحن اليوم في مواجهة إبداع علاقاتنا من جديد في صورة أكثر اتقادًا.

لعله لم يحدث في تاريخ الإنسان أن كان الزوجان مهدَّدين مثلما هما مهدَّدان اليوم: فظاهرة الطلاق في تفاقم مستمر! ومع ذلك فمن قبيل المفارقة أنه لم يسبق للرجال والنساء أن تقاسموا كلَّ ما يتقاسمونه اليوم من أذواق ومن نشاطات. فقد كان الجنسان يعيشان على مدى قرون عديدة من الزمن، عِبْر هويتين كتيمتين، في حلقتين معزولتين في عناية الواحدة عن الأخرى؛ لكننا، منذ عقود، بتنا نتبادل الملابس والسلوكات والامتيازات. لكن هذا لا يعني، على عكس ما يعتقد الكثيرون، ميلاد "جنس موحَّد" unisex، بل يعني ظهور إمكانات جديدة في الكيفيات التي تكون بها المرأةُ امرأةً والرجلُ رجلاً. فكل شيء يجري وكأنه يجوز لنا أكثر أن نكون مزدوجي القطبية: ذكورًا/إناثًا وإناثًا/ذكورًا.

منطق المفارقة

حتى هذه اللحظة كنَّا أسرى لمنطق الإقصاء: إذا كنتُ أنا أنتمي إلى المؤنث، فأنا إذن لا أنتمي إلى المذكر، والعكس بالعكس. لم يكن يسعني أن أعرض نفسي بغير معارضة. فهل يمكن لي العيش ضمن ازدواجية قطبية، أكون فيها الشيء وضده في آنٍ واحد؟ وهل يمكن لي أن أنتقل من قطب لآخر؟ وهل يمكن لي أن أعيش في توتر القطبين معًا، في غِنَى التضاد والازدواج؟ للوصول إلى هذه الهويات الجديدة، لا بدَّ لنا من منطق جديد: منطق المفارقة. فكل التحولات العلائقية القادمة مرهونةٌ بتغيير هذا الأنموذج paradigme الذي بدأنا نتمكن من بَسْطِه بوضوح، إنما الذي سوف يستغرق كثيرًا من الوقت حتى يندمج في حياة كلِّ فرد منَّا.

هل من حدٍّ ثالث، أبعد من الخير والشر، أبعد من المذكر والمؤنث، من اللامعصوم والمعصوم، من الفاعل والمفعول به، من المتَّكل والمستقل؟ إننا نعيش سحابة وقتنا متأرجحين ما بين قطب وقطب، ونميل دائمًا إلى إنكار أحدهما. وهذه الوضعية النفسية كثيرًا ما تؤدي إلى كوارث في العلاقات. لأنه يغريني أن أعزو إلى نفسي قطب الخير وأن أخلع على الآخر أو الآخرين قطب الشر. والشريك في الحياة الزوجية يصبح الموضع المثالي الذي تُخلَع عليه إسقاطاتُ الطرف الآخر اللاواعية، إيجابيةً كانت أو سلبية.[2] إبان أربعة آلاف سنة من النظام الأبوي، مثَّل المذكرُ الخيرَ ومثَّل المؤنثُ الشر. ومع ذلك، فالبساطة الخارقة لهذه العملية لم تسمح بالتبصر بالوضع وبالسيطرة عليه. أنا الرجل أحمل قسطًا من الأنوثة في ذاتي؛ وأنا المرأة أحمل قسطًا من الذكورة في ذاتي. كل شيء يجري وكأن تحقُّق الحياة يمر عبر تحقيق التكامل. تُرى كيف يتسنى لي أن أصبح ذاتي الحقيقية، وكيف يمكن لي أن أصبح خنثى[3] جَوانيًّا، كائنًا قادرًا على أن يعيش عذوبته وقوته معًا، كائنًا قادرًا على اكتشاف التزاوج الجَوَّاني ما بين قوَّتيه كلتيهما ليستمد منهما لذة الوجود، وَجْدَ الاستغراق في الموسيقى الخلفية. أليست القداسة خنثويةً؟ – قداسةً تعاش يومًا بيوم في احترام الحياة ككل، طريقًا وسطًا، رصانةً عذبةً وضحكةً حنونًا.

الاتحاد ما بين القطبين

إذا اتفق لكَِ أن تلتقي بشخص تحس/تحسين بفتنته عليكَِ، فأنتَِ لا شك تعرف/تعرفين إلى أي حدٍّ وقعتَِ فيه وفي حاجاته ورغباته، وإلى أي حدٍّ صارت الحياةُ لا تبدو مهمة إلا من خلاله. إن مثل هذا الاندماج يشكِّل خطرًا حقيقيًّا وإلغاءً للذات. إنه من الجنون أن يتحول شخصان إلى شخص واحد؛ ولكن من المفارقة أن في هذا الاندماج حكمةً أيضًا!

توازُن الزوجين، إذن، يكمن في قدرة كلِّ طرف على الاحتفاظ بجمال هذا الاندفاع الاندماجي الكبير، مع الاحتفاظ بقوة إثبات الذات بصفتها فردًا مستقلاً. والواقع أن العلاقة بالذات وبالآخر وبالسموِّ الروحي لا تنبني إلا عِبْر تعلُّم العزلة والتضامن معًا. لكن معظم الناس الذين يعيشون في كنف الزواج يهربون، مع الأسف، من هذه العزلة، راغبين أن يظلوا في رفقة الآخر وحبِّه. فالعلاقة الزوجية تتكون من شخصين غالبًا ما لا يحبَّان نفسيهما، ولذلك يسعى كلُّ طرف لأن يجد عند الآخر تعويضًا لما ينقصه من حاجة وحبٍّ لذاته، ومساعدةً تجعله يظل واقفًا على رجليه – بمعنى أن العلاقة الزوجية لم تعد في أيامنا سوى عكازين نتكئ عليهما حتى نستمر في الحياة؛ لكنهما عكازان من زجاج قد ينكسران عند أية عثرة!

كنْ كما أنتَ، كوني كما أنتِ!

العملية انطلقت، ولا مفرَّ منها. صارت الفرديةُ قيمةً كاملة غير منقوصة. إذ لم يعد أحدٌ يقبل بأن يكون نصف كائن، ولا أحد يرضى بعدُ أن يعيش مع شخص آخر لمجرد الاشتراك في المصلحة، بسبب المال، أو حتى الأسرة. لقد صار الأزواج والزوجات ينفصلون أسرع فأسرع في أيامنا لأنه لم يعد أحدٌ يطيق أن يرى نفسه مقلَّصًا أو مختزَلاً باسم "الزواج". ارتهانُ شخص لشخص آخر صار لا يُطاق ولا يُحتمَل. فروح العصر تنطوي على هذا الإلزام: لا بدَّ للمرء أن يمضي حتى أقاصي ذاته، أيًّا كان الثمن! وهذا الإلزام إلزامٌ ذو طابع روحي، حتى وإن لم يُفهَم كذلك. ذلك لأن هذا الإلزام يحتِّم اكتشاف مفاتيح السفر إلى الحب – حب الذات، وحب الآخر، وحب الحياة. لقد تغيَّر معنى الزوجين خُلسةً: لم يعد الأمر مقتصرًا على إنشاء خلية مستقرة وحسب، بل بات الأمر يتعلق بتعلُّم الحب، بعيش الحب والرغبة في قلب الحياة الزوجية.

إن ما يقتل الحب وما يجعل بعضهم لا يطيق الحميمية في حياة الزوجين هو ذلك الضغط الوعظي الذي يمارسه كلُّ طرف على الطرف الآخر؛ هو هذه المراقبة، هذا الاتهام المتبادل، وهذا الاستلاب للوعي. هل يمكن لنا أن نتصور طريقةً مختلفة للحياة الزوجية لا تنطوي على أيِّ تطاول من هذا الطرف على الآخر؟ هل يمكن لنا أن نحترم الآخر بصفته شخصًا، مؤتلفًا ومختلفًا في آنٍ معًا، دون أن نمارس عليه أية سلطة، دون أن نشعر بأننا قوَّامون عليه؟ هل يمكن لنا أن نكون متوحِّدين ومتضامنين في آنٍ واحد؟ هي يمكن لنا أن نكون أحرارًا مستقلين عن الآخر ومتحالفين معه في الآن نفسه؟ أزواجًا وأصدقاء في الوقت ذاته؟

نحن هنا أمام متطلبات متناقضة من حيث الظاهر، لكن رهاننا البشري لا مكان له قطعًا إلا في تصالُح الأضداد، في تجاوز المتعارضات، وفي توطيد السلام والوئام في قلب التوترات. التجاوُر بدلاً من التضاد: تلكم عبارة عن ثورة ذهنية حقيقية، عن تحوُّل في الوعي، عن تملص من قبضة الخطيئة والإثمية اللتين تسمِّمان العلاقات. على كلٍّ من الرجل والمرأة أن يسعى نحو الآخر، مع استمرار كلٍّ منهما في السعي نحو ذاته. فالوعي الحر يلتقي دائمًا بوعي حرٍّ آخر؛ وهكذا تولد رغبةُ كلِّ طرف في الآخر في قلب هذه الحرية. أما الكَرَب الذي يدفعني لأن أحبك من غير أن أكون على يقين من أنك تبادلني هذا الحب فهو الذي يدفعني لأن أسجنك؛ غير أنني أستطيع أيضًا أن أروِّض كَرَبي بالتقائي بالمرأة التي في داخلي أو بالرجل الذي في أعماقي لأنطلق في طريق التحرر.

زوجا البحث الروحي

كلُّ زوجين فهما يجتازان أشواط البشرية كلَّها، من الشوط الاندماجي حتى الشوط الخنثوي السادس، مرورًا بالشوط الأبوي والصراعي والمتنوِّر والقمري. وإن غالبية الأزواج تتشظَّى عند الشوط الثالث. ففي حين كان الرجل مسيطِرًا في الشوط الثاني، تصير المرأة مسيطِرة في الشوط الخامس. ثم يمضي الزوجان قُدُمًا من جديد في شوط الصراع الثالث. أما العبور الكبير فيتم في الشوط الرابع المتنوِّر: إنه شوط التوعِّي والرغبة في الخروج من علاقة مسيطِر/مسيطَر عليه. لكن حسن النية لا يكفي لذلك، لأن الأمر عبارة عن تحوُّل جذري، خروج من مخطط الاحتراب منتصر/مهزوم، وإدراك للإبداع المشترك والتحالف. الشوط الخامس هامٌّ للغاية في عصرنا بصفة خاصة؛ إذ هو يشير إلى تطور في الهويات المذكرة والمؤنثة. فالمرأة المسترجلة تسيطِر والرجل المتأنث مستسلم للسيطرة. وبعض الأزواج اليوم، بدلاً من أن يعيشوا وضعًا أبويًّا، يَعبُرون رأسًا من شوط الوَلَه الأول إلى الشوط الخامس، ثم ينكصون إلى شوط النزاع الثالث. إنهم يحاولون أن يفهموا الشوط الرابع المتنوِّر ويبلغوه، فيختبرون المخطط المعاكس الذي يتقهقر هو الآخر إلى شوط النزاع. إنهم لا يبقون معًا إلا بمقدار ما يحقق كلٌّ من الطرفين تطورًا نحو خنثوية تسمح لهما بتجاوز علاقة سيد/مسود والدخول في الشوط السادس. وإن نجاح الزوجين هو عملية مُسارَرة حقيقية، بحيث إن الثنائي المؤلَّف من كائنين خنثيين لا يتم بلوغُه إلا بمقدار ما يبدأ كَرَبُ الحب وإسقاطات الإثم بالانحسار وإفساح المجال للثقة، لقبول بالآخر غير مشروط. فمغامرة الحب إنما هي سَفَر حبٍّ وعملية بحث روحي.

أنواع الحب

ومع ذلك، ينبغي عدم الخلط بين الحبِّ وبين مسرح العلاقات. فالحب مرهون بالحياة الجَوَّانية؛ إذ هو ينبثق كالمعجزة خارج إطار الكلمات والأحداث. لكنه، إلى ذلك، موضع سوء تفاهم كبير. إننا نعيش معًا ونلتزم معًا بالحبِّ ومن أجل الحب وبدافعه، لكننا نقلب الأدوار في النهاية، فنطلب من الحبِّ أن ينير حياتنا اليومية، بدلاً من أن نضع حياتنا اليومية في خدمته. إننا نغرف بطريقة باهظة الثمن من كنز يأتينا مجانًا، لكننا، في بداية اللقاء وبشكل تلقائي، نبدِّده بدلاً من أن نستثمره. ولذلك فلا غرو أن تصيبنا الدهشة والخيبة بعد حين، ونحن نرى الحبَّ يتبخر من حولنا ويتطاير في الهواء، ولسان حالنا يقول: "الحب وَهْمٌ ليس إلا!"

إننا بالغريزة كائنات تعاني جروح الحبِّ والنور. إن حنينًا عميقًا يتفاعل في سريرتنا على غير علم منَّا؛ وهو الذي يدفعنا إلى البحث عن النصف الآخر من ذاتنا الذي نجهله ونعرفه في آن. فمن أهم المهمات التي نضطلع بها على مدى الحياة بلا شك تعلُّم الحب. لكن ما بين أن نحبَّ وأن يحبنا الطرف الآخر، ما بين حبِّ الذات وحبِّ الآخرين، كيف نجد موقعنا بين هذا وذاك وكيف ننفتح على قابلية الجرح؟

في داخل كلٍّ منَّا تتعرض طاقةُ الحبِّ الكامن في أعماقنا لتجربة الحياة الزوجية "القاسية". فنحن ندخل هذه التجربة ونحن غير متهيئين لها، أي ونحن نعاني من بعض الخلل أو من كثيره. إن قاعدتنا العاطفية تقوم على أربعة أركان:

1.     الحب الذي نتلقاه من الآخر؛

2.     الحب الذي نعطيه للآخر؛

3.     الحب الذي نمنحه لذاتنا؛ و

4.     الحب الذي نتلقاه من الكون من خلال تفتحنا عليه.

ولا شكَّ أن ظروف الحياة الأسرية تؤدي بنا جميعًا إلى عائق أو آخر من عوائق هذه الأركان الأربعة. فقاعدتنا في الحبِّ ليست سليمة؛ ولذلك يجب علينا أولاً أن نشخِّصها ونعالجها. فمادمنا لم نتعلم الطريق الوسط وثراء المفارقة، ومادمنا لم نُولِ عنايةً واعية لمسألة "من أنا؟"، ومادمنا، بالأخص، لم نكتشف طبيعتَنا الجنسية المزدوجة الغريزية، فلن نزرع ثقتنا في أزهار الحبِّ وفي إعادة اكتشاف الطفل الشمسي الكامن فينا. فالحب لن يسمو فينا إلا شريطة أن يبعث فينا وجهنا الربَّاني الكامن.

الطريق الثالث

في داخل كلٍّ منَّا، رجلاً كان أم امرأة، تحتاج النفسُ إلى عملية تَوَعٍّ كاملة، إلى عملية تكامل ينبغي أن تتحقق ما بين المذكر والمؤنث، قبل بلوغ الوحدة، أو بالأحرى النواة الداخلية التي أطلق عليها إمام علم النفس التحليلي يونغ اسم الذات. إنها رحلة سيرورة التفرُّد individuation أو التحقق الذاتي المنوط بكلِّ كائن بشري أن يقطعها، من حيث لا يدري أحيانًا. الأشواط الستة الأولى تجيز العبور من اللاوعي إلى الوعي، مرورًا بتلك الامتحانات المتفاوتة من حيث الصعوبة. لقد ظل الشوط السادس طويلاً مستبعَدًا من النظام الأبوي والوعي الجمعي؛ وحدها ثلة من نخبة الأفراد التواقين في بحثهم تفرَّدت باختباره. لقد آن الأوان اليوم لكي نحقق عن وعي كامل هذا البرنامج على أوسع نطاق ممكن. فلعل الحبَّ المتجسد في الزوجين هو القيمة الوحيدة التي من شأنها أن تكرس نوعًا من القدسية الجماعية خارج نطاق الأديان. نحن في حاجة إلى فنِّ حب جديد. نحن في حاجة إلى إعادة اكتشاف النكاح الحَرام hieros gamos: الجماع الجنسي في روح الوحدة.

بين قطبَي الحَرام والدنيوي المتضادين، يشكِّل الزوجان المستنيران طريقًا ثالثًا. وهذا ما كان قد تبيَّنه الرؤيوي تِلار دُهْ شاردان: هناك "طريق ثالث، ليس وسطًا بل أرقى، بين زواج مستقطَب دومًا جنسيًّا للإنجاب وبين كمال دينيٍّ مطروح دومًا لاهوتيًّا بوصفه انفصالاً". إن زوجَي النفس يستيقظ على إدراك أدق. إنه أشبه ما يكون بصورة غير مرئية تحوم فوق الأزواج كافة وتتجسد في آنات النعمة. لا طاقة لي على بلوغ الآخر أبدًا، مهما كانت شدة الحب الذي يحييني؛ ومع ذلك، في آنات النعمة تلك، يمكن لنفس كلٍّ منَّا أن تنسكب في نفس الآخر. جنون الحب هو الرغبة في أن نصير الآخر أو أن نوجد عِبْر نظرته؛ حكمة الحب هي أن أعرف كيف أصير أنت وأعود إلى أنا. وبهذا أكتسب نوعًا من لطافة الكينونة في تكثُّري، فأقترب – ويا للمفارقة – أكثر ما أقترب من الشعور بالوحدة الذي هو أفقي وحنيني وموطني الأصلي وسَكَني.

*** *** ***

ترجمة وإعداد: مدني قصري[4]


 

[1] من شاء أن يطَّلع على أسرار هذه الشعائر فليرجع إلى الأساطير القديمة التي لا يتسع المجالُ للخوض فيها الآن.

[2] والأهم من ذلك كلِّه – وعلينا أن نعي هذه الحقيقة حقَّ وعيها – أن هذا الشريك يصير المرآة العاكسة لعيوب الطرف الآخر المكبوتة؛ فمادامت مكبوتة فهو لا يعيها، فيعزوها إلى الآخر. وفي هذا يكمن سوء التفاهم المسؤول عن كلِّ المصائب التي نتخبط فيها حاليًّا. (المترجم)

[3] بالمعنى الپسيكولوجي السويِّ للكلمة، وليس بالمعنى المَرَضي الشائع. (المترجم)

[4] مترجم وكاتب جزائري مقيم في الأردن.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود