|
إضاءات
ماذا يمكن للفلسفة أن تفعل للسياسة؟ ماذا يمكن للفلسفة أن تفعل لعالمها أو لعصرها؟ وإذا كان الجواب: لا شيء، فإنَّ السؤال يُصبح عندها: ما الفائدة من الفلسفة إذن؟ كما كان الحال عليه دائمًا في تاريخ الفلسفة، وحدهم كبار الفلاسفة هم من يُقدِّمون أجوبة مختلفة على نفس السؤال. هكذا فقد أجاب هيغل مثلاً على مسألة دور الفلسفة في مؤلَّفه الشهير مبادئ فلسفة الحقِّ بما يلي: "إنَّ بومة منيرفا لا تفرد جناحيها إلا بعد أن يرخي الليل سدوله". بهذه النظرة يصوِّر هيغل الفلسفة بوصفها تأتي لاحقة على الحدث، بل وبعد فوات الأوان وهو يؤكِّد ذلك باستطراده أن الفلسفة لا تظهر "إلا بعد أن يُكمل الواقع سيرورة تعيُّنه". الآن لو قبلنا بما طرحه "هيغل" من لاحقية الفلسفة على الواقع فإنَّ السؤال يظلُّ مطروحًا: إذا كان الحال كذلك فماذا يمكن للفلسفة أن تُقدِّم لعصرها وعالمها الذين تأتي متأخرة عنهما بخطوة؟ يجيب هيغل على هذا السؤال بقوله إنَّ الفلسفة بوصفها "فكرة العالَم" لا تستطيع أن تقدِّم أكثر من وصفٍ وفهمٍ وتأويلٍ للعصر الذي وجدت فيه.
تناقلت وسائل الإعلام خبرًا مفاده أنَّ عائلة الأمير عبد القادر الجزائري وجَّهت إلى الرئيس عبد العزيز بوتفليقة رسالة تطالبه فيها بالتدخل لدى السلطات السورية لإنقاذ حياة خلدون الحسني، أحد أحفاد الأمير عبد القادر، بعدما أصدرت إحدى المحاكم العسكرية السورية حكمًا عليه بالإعدام بتهمة التعدِّي على "حقوق الأمة السورية". أعاد هذا الخبر إلى الذاكرة اسم الأمير الجزائري والدور الذي لعبه في الدفاع عن مسيحيي دمشق أثناء الأحداث الطائفية التي امتدت من جبل لبنان إلى سوريا في صيف 1860.
شكَّلت منطقة شرق المتوسط، والتي تحتل المنطقة المعروفة باسم سورية الطبيعية قسمًا هامًا من خارطتها، منطقة استقطاب وعبور للعديد من الشعوب والحضارات. ويحصي علماء التاريخ ثمانٍ وثلاثين حضارة مرت فيها، منها ما عَبَرها ومنها ما استقر ليشكل أقلية قومية فيها، وليترك بصماته في ثقافتها. وكانت هذه المنطقة قبلة لشعوب هاجرت إليها هربًا من غوائل التاريخ. كما كانت أيضًا مهد الديانات التوحيدية الثلاث الكبرى، منها انطلقت رسالاتها، وفيها حدثت كبرى صراعاتها الداخلية والبينية. واليوم، كما في الأمس، لا تزال المنطقة مسرحًا لصراعات قائمة، وأخرى تلوح في الأفق، يتداخل فيها الديني مع القومي وتنذر بانفجارات يتجاوز شررها حدود المنطقة ليصيب مناطق بعيدة في العالم.
هذه المحاضرة هي، ابتداء، إنشاء أدبيات علم الإنسان حول موضوع ملغز في الوجود الإنساني، أطلقت عليه أدبيات الثقافات المختلفة مصطلح "الحياة". وقد استقر استخدام هذا المصطلح في الخطاب الإنساني عمومًا، وتم تداوله حاملاً معه دلالات مبهمة وغير واضحة. وبما أن إنتاج المصطلح واستخدامه في إرث الإنسانية كان يشكل خلقًا لوجود جديد، يبدأ من إنتاج اللفظ، ثم دافعًا بالتصور عند المستخدم ليصبح اللفظ ودلالته جزءًا من معرفة الإنسان الفرد والعلم الإنساني، يتم تداوله حسب الآليات التي ينتجها التطور الإنساني في حركته الدائبة التي لا تتوقف. والذي دفع علم الإنسان لتجنب استخدام مصطلح "الحياة"، وصياغة مصطلح "طريقة العيش" للاستخدام في خطابه العلمي، هو الظلال التي رافقت استخدام مصطلح "الحياة" حين تم استخدامه كمفردة في خطاب ثقافة معينة. وهو ما جعل علم الإنسان – في استجابته لخصائص منهجية – يصوغ مصطلح "طريقة العيش"، لتجنب ما سينتج عن ذلك من تداخل وغموض.
في سنوات الإعدادية، بعد منتصف الستينات من القرن الماضي، حَوَت مدرستي تلميذين يهوديين. كان الدين، على أرض سوريا، موزعًا حصصًا، بتدريسه، على الإسلام والمسيحية. ما من دين ثالث. والنقلة، التي لا محيد عنها، من مرحلة الإعدادية إلى الثانوية، تقتضي عبور الامتحان في الدين. فما الذي كان متوجبًا على هذين التلميذين اليهوديين أن يفعلا؟ تسامح الجغرافيا – الموطَّدة بالدين المختار، والعروبة المختارة نقاءً يُنْكِر أعراقًا أخرى، في أرض لم "تتكلم العربية" قبل الغزو العربي، وهي لا تتكلم، قط، إلاَّ لغةَ نَفْسِها – هذا التسامح الفريد خيَّر التلميذين في تقديم امتحانهما "الديني"، للعبور إلى الثانوية، بأحد الدينين: الإسلام، والمسيحية.
إن توازن الأمم والشعوب وتقدمها الحضاري يكمن في تنوعها الثقافي والعقيدي، لأن حضارتنا، في المحصلة، هي نتاج تراكمات آلاف السنين من هذا التنوع، وكل إلغاء للآخر هو انكماش للذات وخواء على جهلها الذاتي.
في عام 1972، وخلال عملية ترميم للمسجد الكبير في مدينة صنعاء باليمن، وأثناء عمل العمَّال في شرفة بين سقفي الهيكل الداخلي والخارجي عثروا على مقبرة، إلا أنهم لم يتعرَّفوا عليها في بادئ الأمر. لكن جهلهم كان مبرَّرًا: المساجد في الحالة العادية ليست مقابر، كما أنَّ الموقع لم يكن يحتوي أية شواهد أو أضرحة، لا وجود لبقايا جسدية بشرية، ولا مجوهرات جنائزية. في الواقع، لم تكن هذه المقبرة تحتوي إلا على هريسة مشوَّهة وغير جذَّابة من رق قديم ووثائق ورقية عتيقة – كتب مهترئة وصفحات مشتتة مكتوب عليها بالنص العربي، مصهورة ومخلوطة ببعضها جرَّاء قرون طويلة من الأمطار والرطوبة، مقضومة خلال كل هذه الفترة من الزمن من قبل الجرذان والحشرات. ورغبة منهم بمتابعة عملهم، قام العمَّال بجمع المخطوطات، حشروها داخل حوالي عشرين كيس من البطاطا، ووضعوها جانبًا على سلَّم أحد مآذن المسجد، حيث تمَّ الإقفال عليها، ونُسيت مرةً أخرى، لكن ليس لفترة طويلة، حتى عثر عليها القاضي إسماعيل الأكوع، وقد كان رئيس السلطات اليمنية للعاديات، وهو من أدرك الأهمية الفعلية لهذه المكتشفات...
تبدو النظرية النسبية في التحليل السياسي، والتي وضعها الراحل نهاد قلعي، الأكثر نجاعةً في فهم الحالة السورية المستعصية، ذلك أنه ومع الغياب شبه التام لأطراف محايدة (الصحافة) قادرة على نقل الوقائع بشكل طبيعي، فإن أفضل طريقة لفهم هذا الاستعصاء السوري تكمن في معرفة مكان الاستعصاء، وكما كنا نتعلم في دروس التربية العسكرية فإن استعصاء أي سلاح يأتي إما من السلاح نفسه أو من الذخيرة أو من الرامي، وبالتالي الخطوة الأولى باتجاه الحل هي معرفة سبب الاستعصاء...
للسكان في الضفة اليمنى من نهر هذا العالم حقوقٌ على الجميع أن يدافعوا عنها. في ضفته اليسرى لا حقوق للسكان، وعلى الجميع أن يرضوا بذلك. أحيانًا يكون العكس هو الصحيح. سياسة يقودها شرطيٌّ كونيٌّ، باسم السلام والحرية وحقوق الإنسان. عبثٌ ساحرٌ يحوِّل العالم إلى فضاء ليس فيه غير أنابيب تنفث دخان الحروب. عبثٌ يفرض على الناس أن يخيطوا شفاههم بخيوط صنعتها أيديهم. عبثٌ يُسكَب في رؤوس البشر: يخيَّل إليهم أنَّ الدجاجة تبيض فيلاً، وأنَّ الفيلَ يصدح كالطير.
منذ فترةٍ مبكرةٍ في حياتي، في بدايات الثانوية تحديدًا، عرفتُ بأن هناك قوانينًا طبيعية "ثابتة" تحكم العلاقات بين الأجسام المادية، سواء كانت كبيرة أو صغيرة. لكن فيما بعد، حين أكملت المرحلة الثانوية، عرفت أن البشرية برمتها إنما كانت مثلي تتوهم لقرون بعد عالم الفيزياء الأبرز "نيوتن" بأن العالم محكومٌ بناموسٍ موحد يتمثل في قوانين عرفت باسم قوانين نيوتن أو ما يعرف اليوم بالفيزياء الكلاسيكية! فالفطرة البسيطة كانت تتوقع بأن ما في الأجرام البعيدة في الفضاء يمكنه أن يشبه ما على الأرض، وكذلك التكوين الذري البسيط، لا بد أن تحكمه علاقات مشتقة من ناموسٍ كونيٍ أوحد. |
|
|