طريقة عيش الإنسان
القديم – الحداثة

 

محمد ياسين الأخرس

 

هذه المحاضرة هي، ابتداء، إنشاء أدبيات علم الإنسان حول موضوع ملغز في الوجود الإنساني، أطلقت عليه أدبيات الثقافات المختلفة مصطلح "الحياة". وقد استقر استخدام هذا المصطلح في الخطاب الإنساني عمومًا، وتم تداوله حاملاً معه دلالات مبهمة وغير واضحة. وبما أن إنتاج المصطلح واستخدامه في إرث الإنسانية كان يشكل خلقًا لوجود جديد، يبدأ من إنتاج اللفظ، ثم دافعًا بالتصور عند المستخدم ليصبح اللفظ ودلالته جزءًا من معرفة الإنسان الفرد والعلم الإنساني، يتم تداوله حسب الآليات التي ينتجها التطور الإنساني في حركته الدائبة التي لا تتوقف. والذي دفع علم الإنسان لتجنب استخدام مصطلح "الحياة"، وصياغة مصطلح "طريقة العيش" للاستخدام في خطابه العلمي، هو الظلال التي رافقت استخدام مصطلح "الحياة" حين تم استخدامه كمفردة في خطاب ثقافة معينة. وهو ما جعل علم الإنسان – في استجابته لخصائص منهجية – يصوغ مصطلح "طريقة العيش"، لتجنب ما سينتج عن ذلك من تداخل وغموض.

الكائن الحي هو وجود محدود في المادة والزمن، يمتلك خصائص الكون الفيزيائي أساسًا، محصورة في هذا الكيان المحدود على سطح الأرض. والكون في كل حضوراته التي تم ضبطها بحواس الإنسان أو بالتكنولوجيا، هو وجود مستمر محافظًا عليه منذ اللحظة التي تم انطلاقه بها في الانفجار الكوني العظيم. وهو ما زال مستمرًا – حتى الآن – من خلال عمل الحركة الكونية، التي تُوجِد الجديد وتنظِّمه في البنية الوجودية المتراكمة التي يدرسها علم الفيزياء. وبسبب الفارق في الحجم بين الكون وبين الكائنات الحية، فإن وجود الكائنات الحية وإنتاجاتها التطورية محدود زمنيًا قياسًا إلى وجود الكون الفيزيائي، الذي يشكل مقياس الزمن من خلال تحديد بدايته بالانفجار الكوني العظيم، واستمراره حتى الآن. ولهذا فإن فترة وجود الكائن الحي لتأدية إنتاجه من خلال خصائص تطوره، تتم ضمن نظام محدد أطلقت عليه الأدبيات الثقافية مصطلح "الحياة"، وهذا المعنى هو ذاته الذي تم الإشارة إليه بمصطلح "طريقة العيش".

الوجود ممنوح من الحركة الكونية المنبثقة بالانفجار الكوني العظيم، وهو وجود مادي يمكن لحواس الإنسان ابتداءً، ثم لآلاته التكنولوجية، أن ترصد جزيئاته بحدود تزداد يومًا بعد يوم. أما طريقة العيش فهي النشاط الوجودي للكائن الحي، الذي يعتبر استمرار تأديته معيارًا لبقاء الوجود. وحين يتوقف الكائن الحي عن تأدية نشاط الوجودي فإن هذا انتهاء لوجوده ذاته. ولهذا فالوجود مربوط – ضرورة – بتأدية النشاط الوجودي، الذي هو الحفاظ على الوجود. وهذا كله هو ناتج للحركة الحية، التي يمتلكها الكائن الحي كوجود محدود ومحتوى في وجود كبير، تشكل من الحركة الأساس المنطلقة من الانفجار الكوني العظيم. ولهذا فإن علم الإنسان يصوغ الواقعة محدِّدًا أن الوجود الحي يمنح للواحد من الأحياء ضمن النشاط الحي على محور التكاثر. وحين يكون وجود الواحد ممتلكًا لشروطه الضرورية، فإن هذا الوجود منذ اللحظة الأولى يبدأ بتشكيل حركته الفردية، التي يحافظ بها على وجوده. الكائنات الحية (نباتًا وحيوانًا) تمتلك هذه الخصائص كلها، وهي تطلق نشاطها الوجودي بحركتها الحية للحفاظ على وجودها. والتفريق بين النبات والحيوان يتركز ابتداء في طبيعة الحركة التي يطلقها كل منهما.

وحركة الحيوان هي الأعقد في التنظيم، وهي متطورة عن الحركة الحية عند النبات. وتظهر الحركة الحية في الحيوان متضمنة خصائص الحركة الحية عند النبات الممثلة بالنمو والتضخم، وتزيد عليها عملية الانتقال في المكان المنتج للحركة الميكانيكية. وخصائص الحركة الحيوانية موجودة في كل فرد من كل جنس من أجناس الحيوان على سطح الأرض. فكل واحد يحافظ على وجوده من خلال إنتاج حركته الميكانيكية على محاور الأمن والغذاء والتكاثر، وهو خلال توليده للحركة وإطلاقها ينتج – كما هو وجود الكون الفيزيائي – ناتجًا تطوريًا جديدًا يتراكم في بنيته البيولوجية على نسق مخصوص، ويحدث في لحظات تطور معينة تغيرًا في البنية الحية، يستدعي نمطًا جديدًا من الحركة الحية، يتلاءم فيها هذا الكائن مع شروط بيئته الحاضنة له.

الإنسان كائن حي من المادة الحية ذاتها التي تتشكل منها الكائنات الحية الأخرى. وهو يمتلك حركة إنسانية تزيد خصائصها عن خصائص الحركة الحيوانية والنباتية السابقة عليها. ونقاط الاختلاف بين حركة الإنسان وحركة الحيوان، تكمن في طبيعة العلاقة مع الوجود الخارجي ذاته، الذي يتحرك فيه كلا الكائنين. فالحيوان كائن مغلق ينطلق بحركة مادية جوانية تُضْبَط وتوجه داخليًا. والخارج، الذي يشكل الحاضن له، يقدم له كل عناصر الوجود التي يحتاجها الكائن الحيواني، من خلال تنظيمٍ مخصوص للعلاقة بين الكائن والبيئة الحاضنة، ينفي أن تكون البيئة ساحة تحديات خارجية لحركة الحيوان، تستفزه وتطالبه بإنتاج حلول لتجاوزها. ويعبر علم الإنسان عن ذلك بأن إنتاج الحركة الحيوانية يتم جوانيًا داخل الكائن، وأن ضبط وتوجيه الحركة يتم جوانيًا كذلك، متلائمًا (هذا الضبط والتوجيه للحركة الحيوانية) مع خصائص البيئة الحاضنة للكائن.

الاتفاق بين الإنسان والحيوان في المادة الحية اتفاق كبير جدًا، تم ضبطه في كبر نسبة الاتفاق في مكونات الجينوم بينهما، والتي بلغت 96% بين الإنسان والقرد. وهذا ما يجعل الإنسان كائنًا حيًا، مادته هي ذات المادة الحية التي تتشكل منها الكائنات الحية النباتية والحيوانية. وهو ينمو ويتضخم كالنبات، ويتحرك بدوافعه الجوانية كما يتحرك الحيوان. والإنسان عندما يتغذى بالنبات والحيوان إنما يدخل وجودهم فيه، ليشكل حركته الحية بالمكونات ذاتها التي مر بها تطور المادة الحية. إن نقطة الافتراق بين الإنسان والحيوان، تكمن في اختلاف الحركة الإنسانية في بعض المظاهر عن الحركة الحيوانية. وتتحدد نقطة الافتراق هذه في حالة ضبط الحركة الإنسانية وتوجيهها. وهي عند الإنسان تتم خارجيًا، بينما هي عند الحيوان ملازمة لنظام الحركة المغروز في جسده. إن تشكُّل هذا الفارق المركزي بين الحركة الإنسانية وحركة الحيوان، إنما تكون من أن الإنسان كائن حي مفتوح، وليس كائنًا حيًا مغلقًا كما هو الحيوان، وأن انفتاحه أدى إلى تحول الخارج إلى ساحة تحدٍ مستمر أمام عقله الحي الفردي، الذي تصدى للرد على هذه التحديات بحلول، ليتم الحفاظ على وجود الجسم الإنساني.

يمكن تعريف مصطلح "طريقة عيش الإنسان" بأنها مجمل الدروب والمسالك التي تنطلق فيها الحركة الإنسانية للحفاظ على وجود الإنسان الفرد. وناتج هذه الحركة هي حلول لتحديات وجودية، تفتح دروبًا ومسالك جديدة، يقوم العقل الحي الفردي بإنتاج الحركة عليها. وحلول التحديات المنتجة من الحركة الإنسانية هي إنتاج براني، على العكس من إنتاج حركة الحيوان الجواني. إن إنتاج الحركة (كونية أو حية أو إنسانية) هو منتج جديد الوجود، وهو يتم في الكون الفيزيائي والكائن الحي جوانيًا بينما يتم عند الإنسان برانيًا. إن هذا هو التميز الذي امتاز به الجنس الإنساني كجنس حي مادي على باقي الأجناس الحية التي تعايشه على سطح الأرض، وكذلك امتاز به على إنتاج الكون الفيزيائي.

العلاقة الضرورية مع تحديات الوجود الخارجي – نتيجة انفتاح الإنسان ككائن حي – هي علاقة معقدة، يتم من خلالها واقعة التوحيد الكوني بين حركة الجسم الإنساني المنطلقة من دوافعه الداخلية، وبين ضبط الحركة وتوجيهها خارجيًا، لينطلق الإنسان كوجود في الدروب والمسالك التي تحقق الحفاظ عليه. إن وجود عملية ضبط وتوجيه الحركة الإنسانية، خارجيًا، قد أدى أن يكون منتج التطور الإنساني المتشكل من الحركة الإنسانية برانيًا، وأن يتشكل هذا المنتج في وجود يستوفي المتراكم الذي ينتجه الإنسان الفرد، ويصلح لامتزاج كامل إنتاجات أفراد الجنس الإنساني. لقد رصد علم الإنسان طبيعة متراكم التطور الإنساني. فوجد أنه يتم على ثلاث محاور هي: الكشف، والتنظيم، والتغذية. وقد اشتمل الكشف على تقديم التصورات عن الوجود الخارجي "الرؤية في حركة النظام"، واشتمل محور التنظيم على مراكمة ناتج التطور الإنساني في نسق مخصوص أدى إلى إنتاج وجود جديد، وعلى محور التغذية كان يتم إكمال القوالب التطورية التي تنتج على محور التنظيم، المؤسسة على ناتج التصورات في محور الكشف. إن الحركة المادية للجسم الإنساني على محاور الأمن والغذاء والتكاثر المشتركة مع الحيوان لا يمكن أن تتم في الجسم الإنساني إلا ملتحمة مع محاور المستوى الإنساني (الكشف والتنظيم والتغذية). وهذا الربط الضروري بين المستويين هو إشكالية التربية عند الإنسان على مر تاريخه، والتي تنصَّب عليها برامج وخطط متعددة المستويات.

يتحرك الجسم الإنساني المادي ليشبع دوافعه ليحافظ على وجوده، وهذا الاندفاع هو منتج الحركة الأصلي للنشاط الإنساني. ويجد الإنسان أن إشباع دوافعه للمحافظة على وجوده يفرض الانطلاق في دروب ومسالك في الخارج، ليست مغروزة في بنية النظام الحي في موقعه الجواني، ولكنها ليست مناقضة له. وهذا ما يقيم تنازعًا بين برنامجي الضبط والتوجيه (الجواني والبراني)، ويفرض استحقاق الحفاظ على الوجود الفردي استجابة نسبية ومتنامية من الفرد للضبط والتوجيه البراني، مما يجعله يحافظ على وجوده ككائن حي، ويشكل من نشاطه منتجه التطوري حسب طبيعة التحديات في دروب ومسالك المستوى الإنساني. ومن هنا فإن الفرد الواحد، وكذلك كل جيل من أجيال الإنسانية، يشهد تراكمًا من حركة الأفراد على دروب ومسالك حفظ الوجود الإنساني، يؤدي (التراكم) إلى تغيير مستمر في بنيتها، يكون في كثير من الأحيان تراكميًا، ثم يشكل هذا التراكم الكمي قفزات نوعية تغير ملامح موقع التراكم. وهذه الآلية في الإنتاج تجعل التطور الإنساني على عكس التطور الحي والكوني، يحتفظ بالجسم الإنساني ثابت الملامح لا يتغير، ويجعل تراكم ناتجه التطوري يتم برانيًا، ويجعل المتغير يتم خارجًا (الواقع الموضوعي) وليس في الجسم الإنساني.

الجسم الإنساني هو منتج الحركة المادية الحية المولدة لنشاط المستوى الإنساني، وهذا الجسم حقق هذا حين تم فتح كيانه على الوجود الخارجي، وقامت علاقة ضرورية بين حركة هذا الكائن وبين مفردات الخارج. لقد تشكل داخل الإنسان حول هذه العلاقة على نمط مخصوص، أدى إلى تحقيق عمل الحركة في مجال الرد على تحديات الخارج، من خلال آلية مخصوصة. لقد أطلقت أدبيات أرشيف الإنسانية على آلية عمل الحركة المتمحورة حول العلاقة الضرورية مع الخارج مصطلح "النفس"، وأحلَّت الإنسانية هذا المصطلح في مكانه المناسب في خطابها، ومنحته حجمه التداولي المناسب لدوره. وهذه التركيبة لآلية الحركة المنتجة للمستوى الإنساني على محاور الكشف والتنظيم والتغذية ستكون هي دلالة مصطلح "الواقع السيكولوجي" عند الفيلسوف كارل بوبر، الذي يعلن عن وجود علاقة بين ثلاثة مواقع هي: السيكولوجي، والفيزيائي، والموضوعي. دون أن يتمكن هذا الفيلسوف من ولوج بنية هذه العلاقة وعملها، لأن الإنسان في منظوره ما زال مجهولاً.

السير في دروب ومسالك طريقة العيش الإنسانية – المتشكلة من مستوييها الحيواني بمحاور الأمن والغذاء والتكاثر، والإنساني بمحاور الكشف والتنظيم والتغذية – أقام علاقة إنتاجية من الواقع السيكولوجي (النفس الإنسانية) إلى الواقعين الفيزيائي والموضوعي، أدت إلى أن يصب كل فرد من الجنس الإنساني في كل جيل من أجياله منتجه التطوري في هذا الموقع (الواقع الموضوعي)، المتشكل من الحلول التي يصبغها الفرد لتجاوز تحديات الخارج. وهذه العلاقة الإنتاجية تفرض تغيرًا متبادلاً بين الواقعين السيكولوجي والموضوعي، يتم (التغير) لتوليد جديد التطور الإنساني ككل. وهكذا يبقى الجسم الإنساني المادي متحفظًا بصورته التي افتتح بها مشهد وجوده، وتتم عملية التغيير في الواقع السيكولوجي نتيجة علاقته التبادلية مع الواقع الموضوعي. هو ما يجعل الفرد من الجنس الإنساني ذا شكل واحد على مر العصور، بينما يكون التغيير متحققًا في واقعه السيكولوجي، نتيجة علاقته الضرورية بالخارج، كساحةٍ لنظام الطبيعة الفيزيائي ولنظام الواقع الموضوعي الحي.

الإنسان ككائن حي مفتوح. وعندما تم انفتاحه على تحديات الخارج تفاعل نظامه الحي المقيم لجسمه والمطلق لحركته مع قوى نظم الخارج المتنوعة. وقد تشكَّل من هذا التفاعل الواقع الموضوعي، الذي هو كيان وجودي تام ومتطور، يحكمه النظام الحي الذي ولَّد جزيئاته ابتداء. وقد قام، خلال محطات تطورية قديمة، تنازع بين قوانين الواقع الفيزيائي والواقع الموضوعي في تأثيرها التبادلي على إنتاجات الواقع السيكولوجي، وقد انتصرت في لحظة تاريخية معينة قوانين النظام الحي المنشئة والحاكمة لبنى الواقع الموضوعي. إن كل الحالات التي تلبس بها الواقع السيكولوجي كانت حالات تتوالد وتتنامى حسب قوانين معينة، قام أرشيف الجنس الإنساني برصدها وتثبيتها، وهي التي تشكل المادة التي يدرسها علم الإنسان.

طريقة عيش الإنسان تختلف جذريًا عن طريقة عيش الحيوان، بسبب خاصية الانفتاح في الإنسان ككائن حي، وما تولد عنها من علاقة ضرورية مع الوجود الفيزيائي، الذي شكلت مفرداته بداية التحديات أمام هدف الحفاظ على الوجود الإنساني، جعل عملية التطور الإنساني (الإيجاد والتنظيم) تتم برانيًا لأول مرة في الزمن الكوني كله، وأدت في محطات متقدمة إلى أن تسود قوانين الواقع الموضوعي ذات الجذر الحي على قوانين الطبيعة الفيزيائية. ولهذا فإن الإنسان ليس حيوانًا بكامل الدلالة أبدًا، ولم يتشكل كحلقة في سلسلة التطور الحي التي ابتدأت على سطح الأرض منذ ما يقرب 4 مليارات سنة، اختتمت إيجاداتها في آخر حلقة في السلسلة وهي حلقة القرود. إن التميز بين وجود الإنسان ووجود الحيوان، يرجع إلى طبيعة الاختلاف في آلية الحركة الحية بين الإنسان وبين الحيوان، وهي الآلية التي تتم في الحيوان جوانيًا، وتتم في الإنسان برانيًا. إن علم الأحياء يدرس المادة الحية وعناصرها ومكوناتها، وهو لا يدرس الحركة ولا الخصائص التي تفرق بين أنواعها. ولهذا فإنه ليس من اختصاص علم الأحياء الإجابة عن طبيعة الوجود الإنساني، وماهية طريقة عيشه، والمستقبل الذاهب إليه. لقد بقي البحث العلمي في هذه الساحة متعذرًا، حتى تم تحديد محور الحركة الإنسانية كمدخل لدراسة الإنسان وجودًا وتاريخًا ومستقبلاً، وأمكن – بفضل هذا المدخل – تطبيق المنهج العلمي التجريبي على الإنسان، مما مكن من الإعلان عن اكتشاف علم الإنسان في سوريا، حيث تمَّ تعريف الإنسان، وتمَّ تحديد طبيعة دوره الكوني.

التطور الإنساني هو إيجادٌ وتنظيمٌ من الحركة الإنسانية برانيًا، ولازم العملية التطورية هو التغير بسبب الجديد التطوري الناتج، وما يحدثه من تغيير في دروب ومسالك طريقة عيش الإنسان. وهذا الأصل يفرض البحث في تراث الأرشيف الإنساني لتحديد طبيعة مراحل التطور الإنساني ومحطاته. إن هناك تغيرًا جوهريًا جرى في طريقة عيش الإنسان ظهر منذ القرن السادس عشر، وما زال يتغذى وينمو حتى الآن. إن الأرشيف الإنساني يخبرنا أنه قد تمَّ في القرن السادس عشر تغيير في طريقة العيش التي كانت سائدة في العصور الوسطى وما قبلها، انتقلت فيها أوروبا – ضمن مسار معين – إلى طريقة عيش جديدة، اصطلح على تسميتها بالحداثة. وقد حاولت دراسات غربية جادة أن تكشف ما جرى، ولكنها كانت تؤوب بإخفاق مركزي دائمًا، يرافقه نجاح جزئي وبسيط في توصيف بعض ظواهر الحداثة. إن هذه المحاضرة، باستنادها إلى علم الإنسان كمرجعية لها، ستقوم – حسب ما تسمح كجنس أدبي محدود – برسم مظاهر الاختلاف بين طريقة العيش في العصور الوسطى وما قبلها، وستطلق عليها مصطلح "طريقة العيش القديمة"، وبين طريقة عيش الحداثة التي تولدت قواعدها في القرن السادس عشر، وما تزال تنمو وتتسع حسب قوانين التطور الإنساني.

طريقة عيش الإنسان هي واحدة في جذرها، سواء كانت في سياق القديم أو الحديث. إنها تختلف عن طريقة عيش الحيوان للأسباب التي عرضت لها هذه المحاضرة. ولكن طريقتا العيش هما طريقتان في تحقيق الإنسان للحفاظ على وجوده وإنتاج تطوره. وهذا التأكيد ضروري جدًا لإزالة كل الظلال السلبية التي نشأت في عملية الانتقال بين الطريقتين، وما تبادله خطاب أنصار الطريقتين من نعوت وهجوم على بعضهما.

جذر الاختلاف بين الطريقتين يتحدد في نقطتين اثنتين، أولاهما: مغادرة عامل التطور الإنساني من ساحة المادة الحية إلى ساحة المادة الجامدة، وثانيهما: تغير ضروري في كيان الكائن الحي الذي ينتج التطور الإنساني. إن مسار الانتقال من طريقة العيش القديمة إلى الحداثة، إنما تم أولاً بتوسيع دائرة تأثير عامل التطور الإنساني إلى المادة الجامدة، وعدم بقائها محصورة في ساحة المادة الحية، مما ولَّد نوعًا جديدًا من التحدي لم يعد يستطيع الإنسان الفرد أن يرد عليه، وهو ما اقتضى تشكيل الشعب ككائن حي مركب، تحول فيه الأفراد-المواطنون إلى خلايا فيه أولاً، ثم حين أخذ التحدي الجديد الناتج عن طبيعة مساحة المادة الجامدة يدفع لتشكيل كائن حي كلي من شعوب الإنسانية كلها، وهو ما انطلق تحقيقه الآن تحت اسم "العولمة".

التفريق بين طريقة العيش القديمة وبين الحداثة يرتكز إلى دخول الطبيعة كآخر أمام النظام الحي، بعد أن أكمل هذا النظام عمله في ساحة المادة الحية. وهذا التوسيع لعمل النظام الحي إلى دائرة الطبيعة فرض تحديات جديدة، لا يستطيع الإنسان الفرد أن يرد عليها، وهو ما افترض تشكيل كائن حي مركب بدأ بالشعب، وهاهو يتم طريقه الآن في قرون هذه الألفية ليشكل الإنسانية الموحدة. وهذا الجذر يكشف عن جوهر كل طريقة من طريقتي عيش الإنسان. ففي طريقة العيش القديمة كان الإنسان الفرد ككيان حي مفتوح، المحتوي على النظام الحي القادر على إنتاج تطوره برانيًا، هو الذي يقوم بعملية الإيجاد والتنظيم من خلال مواجهته لتحديات الوجود خارجًا. كان على كل فرد حينذاك أن يحافظ على وجوده بقدراته الفردية، فيتمكن من تجاوز تهديدات أمن وجوده في كل أشكالها، ويسعى لتأمين غذائه بكل خصائص دروب طريقة عيشه التي عاشها ضمن جيله في بيئته التي يتحرك فيها، وكان يتكاثر من خلال نشاطه التداخلي بين المرأة و الرجل.

الاجتماع الإنساني، المتولد كأحد نتائج التطور الإنساني المتميز عن تطور الحيوان، منح هذا الإنسان الفرد هويات متدرجة، ارتكزت إلى طبيعة علاقته الاجتماعية مع الآخر. وقد قامت خصائص هذه الهويات على منظور مخصوص لكيانه الفردي المستقل. وقد تدرجت هذه الهويات من الأخوة البيولوجية للإنسان من أمه وأبيه إلى الأخوة العرقية التي جمعت الأفراد بناء على خصائص تبرز في اختلافات اللغة، إلى الأخوة الثقافية التي جمعت الأفراد بناء على وحدةٍ في رؤيتهم للخارج، والتي كانت أخوة الدين التوحيدي ذروتها وأوضح أشكالها. إن هذه الأخويات – بكل ما سمحت من تعاون بين الأفراد – كانت ترتكز إلى استقلال الفرد، بسبب وقوفه وحيدًا في مواجهة تحديات الوجود الخارجي للحفاظ على وجوده، وإنتاج عمله الذي هو حصته من التطور الإنساني. وهذا ما يسمح بوصف طريقة العيش القديمة بأنها ترتكز إلى استقلال فردية الإنسان، وأن حلول التحديات الوجودية كانت تتم – مركزيًا – في دائرة المادة الحية، متمحورة حول تطور العلم الإنساني في منعكسه المعرفي الفردي، وحول أشكال الاجتماع الإنساني التي احتفظ فيها كل فرد باستقلال عمله، وكان تعاونه الاجتماعي مع الآخر تواصلاً محدودًا جدًا. إن قراءة أدبيات الأرشيف الإنساني التي كمل فيها ظهور كل منتجات طريقة العيش القديمة في مطالع القرن السادس عشر، ترينا أن الخطاب الإنساني المصور للوجود الإنساني كان يقوم على فردية الإنسان المحضة، وكان يراعي بشكل محدود أشكال علاقة أخوتَّه مع الآخرين في المجتمع. وإن قراءة الخطاب الديني التوحيدي يرنيا ذلك في أوضح الصور وأجلاها، حين يتحدث عن خلق الإنسان فردًا، وعن عمله الشخصي الذي يجب أن ينتجه كفرد، وعن أن هذه المرحلة من وجود ستختتم بمحاسبة الإنسان كفرد.

في طريقة العيش القديمة كانت هوية الفرد تتحد من طبيعة علاقته مع الآخر، وكان كل فرد محتفظ بوجوده المستقل، الذي يرتكز استقلاله إلى كيانه الحي المتمثل بجسمه المادي. وبسبب خصائص استقلال الفردية التي لا يمكن تجاوزها، كانت الهوية الاجتماعية التي يحملها الفرد، لا يمكن إلا أن تندرج تحت لفظ "الأخ" بدءًا من أخي البيولوجيا، ومرورًا بأخي العرق، ثم أخوة الثقافة، والتي كانت أخوة الدين التوحيدي ذروتها. وبسبب حجم الفرد ككيان حي مستقل، فإن تحديات الخارج كانت على قدِّه، وكان ينطلق في دروب طريقة العيش القديمة ومسالكها ليحافظ على وجوده. وكان مرتكز هذه الطريقة هو السلوك الفردي للإنسان، والذي أطلق عليه مصطلح "عمل الإنسان"، والذي كان موضع صفات الاستحسان والاستقباح. لقد انطلقت طريقة العيش القديمة مع مشهد افتتاح وجود الجنس الإنساني بامرأة ورجل عاريين، وكان متراكم تطور الإنسانية غير ملموس بالنسبة للأفراد، ولكنه كان يتغذى باستمرار من أعمالهم كأفراد. وبمراقبة مسيرة نضوج وكمال متراكم التطور الإنساني (الواقع الموضوعي) في تلك المرحلة، فإن تغيرات كثيرة طرأت على دروب ومسالك طريقة العيش القديمة القائمة على الفردية. كانت هذه الدروب في كل محطة لها تشكل معيار أعمال صالحة تناسبها، وترفض أعمالاً سيئة تتعارض مع قوانين تراكم التطور. لقد بقيت طريقة العيش القديمة تنمو وتكبر وتنضج، حتى امتلك عامل التطور قدرة الانتقال إلى ساحة الطبيعة (المادة الجامدة) في القرن السادس عشر، حين ذاك ظهر نوع جديد من التحديات الوجودية لم يعد موجهًا للفرد، وهو ما فرض تشكيل كائن حي مركب يواجه هذه التحديات، وهو الذي أطلق عليه علم الإنسان مصطلح "الشعب".

الشعب كائن حي مركب يقوم على توحد مكوناته التي تشكله وليس على تآخيها. وبما أن فردية الإنسان لا يمكن إذابتها وإلغاؤها، فإن جوهر تشكل الشعب كان توحد عمل أفراد الشعب. وقد نتج الشعب – في سياق هذا المنظور – من اكتمال ونضج الواقع الموضوعي الذي أنتجته هوية الأخوة في الدين في العالمين المسيحي والإسلامي، والذي شكَّل قاعدة وأساس النقلة من القديم إلى الحداثة في القرن السادس عشر. ولهذا فإن الشعب هو كائن حي مركب، تتشكل وحدته الوطنية من أعمال الأفراد التي تغذي الواقع الموضوعي في مواجهته للمادة الجامدة في الطبيعة. إن هذا الواقع هو ما فرض تحول الأفراد إلى خلايا في هذا الجسم الحي المركب، يتشكل عمل كل منهم على طرائق مخصوصة بأعمال يفرضها هذا الكائن الجديد، ويستجيب لأوامر ينفذها كل مواطن في الشعب. ومن هنا يتضح ويظهر جوهر الفرق بين طريقة العيش القديمة وبين طريقة عيش الحداثة. فقد انتهى حضور كيان الفرد ككائن وحيد في إنتاج الحلول في مواجهة تحديات الخارج، وأصبح كيان الشعب هو الكائن الذي ينتج حلول هذه التحديات، مما شكَّل ماهية العلاقة بين الشعب وبين كل مواطنيه المحددة بمهام مخصوصة لكل واحد منهم، ويتكامل من خلال إنتاجهم الفردي تحقق الرد على التحديات، وتغذية خط التطور الإنساني بناتج هائل.

عامل التطور الإنساني حين انتقل إلى المادة الجامدة في الطبيعة أنتج بداية موجوداته في خطوة اختراع المحرك البخاري، وتطويره لاحقًا في الثورتين الصناعية والتكنولوجية. وبذلك تغيرت في طريقة عيش الحداثة مادة منتجات التطور، فهي لم تبق في حدود العلم الإنساني ومعرفة الأفراد، ولا في هويات الفرد اتجاه الآخر في المجتمع، بل إن ناتج التطور الإنساني قد صار موجودات مادية تحمل الحركة الإنسانية، وتؤدي الأعمال التي يؤديها الإنسان الفرد. إن هذا المنتج التطوري الجديد، قد أثَّر كثيرًا في دروب ومسالك المستوى الإنساني المتمثل بمحاور الكشف والتنظيم والتغذية، ومنح منتجاتها – بفضل التكنولوجيا – سعة وعمقًا وسرعة ودقة لا تقارن بها صفات عمل الإنسان، وأدى تواجد التكنولوجيا –لموجودات مادية جامدة حاملة للحركة الإنسانية – إلى بدء التأثير في النظام الجواني الضابط لوجود الطبيعة. وهو ما أخذ يؤشر إلى تغيير الحاضن الطبيعي للجنس الإنساني، مما يؤشر إلى انتهاء الدور الكوني الإنساني، وظهور نمط عيش إنساني نهائي، تنتهي فيه آليات إنتاج عمل الإنسان وأهدافه.

الفرد المواطن في طريقة عيش الحداثة هو خلية في جسم الشعب. والشعب يشكل آخر أمام أرض الوطن التي يحبها. وقد أدت هذه العلاقة إلى ظهور الدولة الحديثة كإطار تنظيمي جديد، يختلف جذريًا عن الأطر التنظيمية التي نتجت في طريقة العيش القديمة، والتي قامت على الأسر والاستبداد. إن كيان الشعب قد نتج من اجتماع القوى التي تشكلت من أخويات طريقة العيش القديمة، والتي ستشكل كل قوة منها عضوًا من أعضاء جسم الكائن الحي المركب الجديد (الشعب). ولهذا فإن الإنسان الفرد سيحمل هوية تلائم موقعه في الشعب، وقد اصطلح على تسميتها بهوية المواطنة.

إن هوية المواطنة ليست حلقة في أخويات طريقة العيش القديمة، بل هي تحديد لوجود الفرد من خلال علاقته بأرض الوطن، وليس من خلال علاقته الاجتماعية بالفرد الآخر، سواء كان أخًا بيولوجيًا أو عرقيًا أو أخًا في الدين. لهذا فالمواطنة لا تتعارض مع أخويات طريقة العيش القديمة، بل تتجاوزها متكاملة معها بحكم انتقال التطور الإنساني من ساحة المادة الحية إلى ساحة المادة الجامدة. ومن هنا فإن كامل الأخويات مطالبة بالانسجام مع المواطنة، حتى يكون الإنسان الفرد قادرًا على إنتاج عمله من خلال ما تفرضه المواطنة. وإنتاج الانسجام هذا هو عملية تربوية، تحتاج إلى خطط وبرامج واعية يمكن تربية المواطن حسبها.

طريقة عيش الحداثة هي التي انطلقت في خط التطور الإنساني في القرن السادس عشر، نتيجة اكتمال ونضج متراكم التطور الإنساني في العالمين المسيحي والإسلامي في العصور الوسطى. وقد تشكلت في هذه النقلة النوعية تحديات وجودية جديدة نشأت عن العلاقة مع أرض الوطن. لا يمتلك الفرد – ككائن حي محدود – أن يرد عليها ويتجاوزها بوضع حلول لها. وهذا ما فرض ظهور الشعب بكل خصائصه ككائن حي مركب، من خلال توليد علاقات إيجابية بين القوى الاجتماعية التي تولدت عبر زمن طريقة العيش القديمة، وتحول الإنسان الفرد الذي كان يعمل إيجابيًا في حدود أخوياته التي منحته هوياته، إلى أن يصبح حاملاً لهوية المواطنة، التي تجعل الدولة كإطار تنظيمي فوق طبيعي، هي التي تحتوي الواقع الموضوعي لهذا الشعب، وتعطي سلطة الدولة حق ضبط وتوجيه حركة هذا المواطن، مؤمنة له كامل حقوقه التي تحفظ له وجوده، والتي كانت من مسؤوليته الفردية في طريقة العيش القديمة، وتفرض عليه بالتالي واجبات محددة بالقانون، تتشكل من معايير جزئياتٍ للعمل، تتناسب مع الاستجابة للتحديات الوجودية الجديدة. وهكذا تقررت خصائص جديدة لدروب ومسالك المستوى الإنساني، لم تعرفها دروب ومسالك المستوى ذاته في طريقة العيش القديمة. وقد قُنِّن ذلك في نظام الدولة الحديثة، المختلف اختلافًا تامًا عن طبيعة الحكم الفردية في طريقة العيش القديمة.

بعد أن يطَّلع الإنسان على الفوارق بين طريقتي العيش القديمة والحديثة، ويدرك أن الحداثة هي ما يتناسب مع منتجات الإنسانية منذ القرن السادس عشر، يستخلص بشكل جازم أن من يريد أن يطبق طريقة العيش القديمة إنما يدعو إلى وقف التطور الإنساني، ويمنع واقعيًا كل فرد من تأديته لواجباته تجاه وجوده. وسيدرك الإنسان المالك لهذا الوعي أن الأخوة الدينية والعرقية والأسرية ليست هي المواطنة، وأن المواطن هو – حصرًا – الخلية الفرد في جسم الشعب، وأن حقوقه وواجباته صارت من مسؤولية الدولة، وأن عليه أن يؤديها حسب معاييرها التي تتطور تبعًا لتطور التكنولوجيا.

4-5-2010

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود