|
ب
الجامعة،الرفاق
والآخرون (2)...
طائر
الليل:
وكانت
في مطلع العام 1965 قرارات التأميم التي
أصدرتها الحكومة البعثية وأيَّدها الحزب
الشيوعي السوري تأييداً حاراً، بينما قوبلت
بردة فعل سلبية في البلد عموماً، وعنيفة
نسبياً، من جانب التجار والإخوان المسلمين
خاصةً. فكانت اضطرابات في مختلف المدن
السورية، وخاصة في حماه، قمعتْها السلطات
البعثية بقوة وشراسة. في
تلك الليلة التي تَلَتْ التأميمات اتصل بي (1089)
نذير (1090) وطلب إلي الحضور صباح اليوم التالي في
تمام الساعة الثامنة إلا ربعاً عند البوابة
الرئيسية للجامعة لتوزيع منشور هام للحزب
بهذا الخصوص. ولما كانت هذه أول مهمة أقوم بها
من هذا النوع فقد كنت خائفاً بعض الشيء، خاصةً
وأن نذير كان أفهمني أن هذا التوزيع العلني
سيتم بسرعة، ثم نغادر بعده المكان مباشرة
ونختفي عن الأنظار بعض الوقت. وكانت صبيحة ذلك
اليوم، وكان لقائي في المكان المحدد بنذير (1091)
ومروان (1092) وآخرين كنت أعرف بعضهم، فاتفاقنا على
أماكن توزعنا – وكان موقعي (1093) إلى جانب نذير
(1094) قرب
البوابة الرئيسية. وبدأنا التوزيع بإشارة من
هذا الأخير في تمام الساعة الثامنة إلا خمس
دقائق. وقد تم ذلك بسهولة دون أية مشكلة خلال
أقل من خمس دقائق، غادرنا بعدها المكان
بهدوء، فذهبنا كلٌّ في طريقه. وذهبت أنا أيضاً
في طريقي (إلى الزبداني؛ إذ كنت أقنعت أهلي بأني ذاهب للدراسة!) بعد
أن تواعدت مع نذير على الالتقاء به في مساء
اليوم التالي في منزل محمد (1095). غادرت
المكان، إذن، وكنت فخوراً جداً بنفسي! فقد
أنجزت تلك المهمة الحزبية الهامة بسهولة، دون
أيِّ شعور يُذكَر بالخوف. وأتذكر أني لم أتعرف
إلى أحد تقريباً ممَّن وزعت عليهم المنشور؛
فقط تذكرت وجه ذلك "الأخ المسلم" الذي
نظر إليَّ شزراً قبل أن يلقي المنشور الذي
أعطيته إياه أرضاً بعد الإطلاع على عنوانه؛
وذلك الطالب الأرمني من كلِّيتنا الذي كان
يدعى أغوب والذي أخذه مني مستغرباً، ثم ابتسم
بعد أن قرأ عنوانه فوضعه في جيبه وودَّعني وهو
يقول: "موفَّق!"، مما جعلني أستنتج أنه
يساري الميول... وأقرر، بيني وبين نفسي، تعميق
صلتي به كصديق محتمل للحزب. كنت
منقطعاً عن الكلِّية لأكثر من أسبوعين. كان
ذلك في 23 كانون الثاني 1965، في اليوم الثاني من
الإضراب الكبير الذي قام به تجار دمشق
احتجاجاً على التأميمات، وانعكست آثاره بقوة
على الجامعة، حيث استطاع الإخوان المسلمون
"إقناع" معظم طلابها بالانقطاع عن
الدراسة، حين قررت الدوام في صفي، انسجاماً
مع خط الحزب، وتشجيعاً لمن كان غير موافق على
الإضراب من الطلاب. وكانت الحصة التي قررت
الدوام فيها (من باب التحدِّي طبعاً!) للأستاذ
سودان (1096)، الذي كان، كما سبق وأشرت، أقرب
توجُّهاً إلى حزب الإخوان، وبالتالي، كانت
عواطفه (المفترضة) مع الإضراب. ولكنه أعطى
الدرس رغم ذلك إلى حفنة المداومين التي لم تكن
تتجاوز يومئذٍ العشرة طلاب، من أصل ما يقارب
المئة الذين كانوا مجمل طلاب صفنا. كان من بين
المداومين فتاة تدعى هيام (1097) ......، استنتجتُ
يومها ميولها التقدمية؛ وكان أيضاً ذلك
الطالب البعثي النحيل شاكر (1098)......، الذي تعمدت
الجلوس قربه. وانتهت الحصة وخرجنا معاً، ونظر
واحدنا إلى الآخر ملياً، قبل أن يسألني
مبتسماً: -
أنت
شيوعي يا أكرم (1099)، أليس كذلك؟ فأجبته
ببساطة: -
كما
أنت بعثي يا شاكر (1100)! هل أستطيع أن أقدم لك
فنجاناً من القهوة؟ فضحك
وأجابني: -
لم
لا... ولكني لا أستطيع التأخر، إذ يجب أن أذهب
إلى اتحاد الطلبة. لم لا تأتي معي إلى هناك،
فأعرِّفك إلى الشباب، وربما تتقدم إلينا بطلب
انتسابك إلى الاتحاد؟ فأجبته: -
لم
لا فعلاً! إن كان اتحادكم في متناولنا... وكان
هذا ما حصل: ذهبنا معاً إلى مقر "الاتحاد
الوطني لطلبة سورية" الذي كان يقع في
الطابق الأرضي من بناء مصادَر في حيِّ عين
الكرش، قرب السبع بحرات. فتعرفت عن طريق شاكر (1101)
إلى قيادته التي كانت تتألف (عموماً) في حينه
من البعثيين اليساريين الذين سرعان ما
أفهموني – يا لسعادتي! – أنهم أيضاً "ماركسيون"
مثلي! وأتذكر من بينهم رئيس المكتب التنفيذي
طارق أبو الحسن (1102) (من جبل الدروز، من كلِّية
التجارة)، ونواف صفدي (1103)(من جبل الدروز، من
كلِّية الصيدلة، ورئيس فرع دمشق)، ومحمود عبد
العال (1104)(المسلم السُنِّي من الميدان، ومن قسم
الرياضيات في كلِّية العلوم)، وفؤاد حرب (1105)(من
جبل الدروز، ومن كلِّية الصيدلة)، وزينب
نطفجي (1106)(المسلمة السُنِّية من حيِّ سوق ساروجة
في دمشق، ومن كلِّية التجارة)، الذين سرعان ما
أصبح معظمهم من "أصدقائي" والذين
أطلعوني، تدريجياً، على طبيعة وخفايا الصراع
الدائر آنذاك في قلب حزبهم. وكان
شاكر (1107) (وهو ابن عائلة مسلمة سُنِّية من حيِّ
الميدان)، كما فهمت منه، من جماعة حمُّود
الشوفي (1108) وياسين الحافظ
(1109)(اليسارية)، وكان
متحمساً جداً لمقررات المؤتمر السادس لحزب
البعث ("المنطلقات النظرية") التي
أعطاني، بكلِّ فخر، نسخة منها؛ فأعطيته
بالمقابل، وبكل فخر أيضاً، العدد الذي كنت
أحمله من صحيفة نضال الشعب. أما نواف (1110)
ومحمود (1111)وفؤاد
(1112)وزينب
(1113)فكانوا (كما قيل لي) من
جماعة علي صالح السعدي (1114)الذي كان أضحى وأتباعه
الذين أزيحوا عن السلطة في العراق "من أقصى
اليسار". وأيضاً، كان هناك، وكما أسموهم لي
– غمزاً – جماعة "العسكر" من القطرين،
الذين كان أبرز من يمثلهم آنذاك في اللجنة
التنفيذية للاتحاد طالبٌ من جبل العلويين (من
كلِّية الأدب الفرنسي) يدعى منذر إسبر (1115)وآخر من
دير الزور (أيضاً من الأدب الفرنسي) يدعى صالح
رويلي (1116)، بينما كان عبد القادر قدورة
(1117)(من كلِّية
الحقوق)، شقيق عميد كلِّيتنا، هو الممثل
الأبرز للبعث التقليدي (أقصد جماعة عفلق (1118)). وأسأل
عن هؤلاء "العسكر" الذين ذكرهم غمزاً،
فيضحك شاكر (1119) ويخبرني "بما كنت أجهل"، ما
مفاده أن من قاد انقلاب الثامن من آذار فعلاً
كان "لجنة عسكرية" تشكلت في القاهرة أيام
الوحدة؛ وكانت تتألف من: محمد عمران (1120)، صلاح
جديد (1121)، حافظ الأسد
(1122)، عبد الكريم الجندي
(1123). وأسأله
عن أمين الحافظ (1124)ومكانته وسط التركيبة القائمة
فيجيبني (ملمِّحاً) أنه لم يكن من بين الأعضاء
المؤسِّسين لتلك الجنة العسكرية؛ فأفهم أن
أمين الحافظ كان، بالنسبة للقادة الفعليين
للحركة، كمحمد نجيب (1125) بالنسبة للضباط الأحرار
في مصر. و
قد أطلعتُ حزبي "العظيم" إطلاعاً كاملاً
على ما حصل معي وعلى كامل تلك المعلومات
الهامة، فأيَّد الرفاق سلوكي ومبادرتي إلى
الانتساب إلى "الاتحاد الوطني لطلبة سورية"،
وشجعوني على الاستمرار في صِلاتي الجديدة؛
كما تقرر انتساب رفاقنا وأصدقائنا إلى
الاتحاد، ولكن بشكل تدريجي، حتى لا ينكشف
التنظيم. وكان هذا ما حصل. في
مطلع ذلك العام المضطرب أعلنت وسائل الإعلام
عن إلقاء القبض على شبكة تجسُّس إسرائيلية
كان يقودها "إيلي كوهين (1126)" الذي كان اسمه
المستعار "ثابت أمين ثابت"؛ فعمَّت
الشائعات في البلد، تتحدث عن مدى الاختراق
الذي حقَّقه هذا الأخير في أعلى دوائر السلطة
في سوريا. ثم بدأت محاكمته، التي نقلها
التلفاز في أوائل آذار واستمرت شهراً كاملاً. وكانت
هذه المحاكمات في منتهى التفاهة، بمعنى أنها
عززت شائعات البلد وأعطت الانطباع، من
بدايتها إلى نهايتها، أن لا غاية للقائمين
بها إلا تجاوز ما تسببته هذه القضية من إحراج؛ عبر
التخلص
بالسرعة الكلِّية من هذا الجاسوس
الإسرائيلي اللعين، الذي سرعان ما صدر الحكم
بإعدامه ونُفِّذ في النصف الثاني من أيار 1965. وكانت
زيارة الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة (1127) إلى
مصر، ولقاؤه بالرئيس عبد الناصر (1128)، وإلقاؤه من
القاهرة بتصريحات تدعو إلى التفاوض مع
إسرائيل على أساس مشروع التقسيم لعام 1947.
وعمَّت المسيرات "الاحتجاجية" البلد... في
حينه، كانت "المظاهرات" قد بدأت تتحول
إلى "مسيرات"! وكانت "شبه المسيرة"
التي خرجت يومها من جامعة دمشق متميزة إلى حد
ما. فقد شارك فيها، للمرة الأولى منذ استيلاء
البعث على السلطة، جميع القوى التقدمية التي
اتفقت مع قيادة الاتحاد على التظاهر معاً
والهتاف ضد "الخائن" بورقيبة (1129) و"مشاريعه
الاستسلامية"، ضد الإمبريالية، ولوحدة
القوى التقدمية. انطلقت
"المسيرة" إذن... وكان "الهتَّافون"
الرئيسيون فيها هم نذير (1130)من طرفنا، ونواف
(1131)
ومنذر إسبر (1132)من الاتحاد، وسركيس
(1133)من جماعة أكرم
الحوراني (1134)؛ وسارت متجهة إلى المجلس النيابي (البرلمان).
وكان سركيس (1135) (الاشتراكي) أكثر الهتَّافين
تميزاً من خلال مقدرته على نقل حماسه إلى
الآخرين – ذلك الحماس الذي دفع عناصر الأمن،
في حينه، إلى السعي لعزل تلك المجموعة
الجامعية الرئيسية التي كانت تضمنا عن سواها
وتفريقها. فدبَّ الغضب والحماس في سركيس الذي
تحولت هتافاته إلى شعارات معادية للسلطة التي
شكَّك فيها، مذكِّراً بـ"قضية كوهين"...
وبدأ يهتف للملأ ويردد الطلاب وراءه بكل حماس: -
أين
كوهين؟! أين كوهين؟! نطالب بكامل الحقيقة حول
كوهين... ثم
حلَّ محلَّه نذير (1136) الذي لطَّف الجوَّ قليلاً،
وعاد ليدعو من خلال هتافاته إلى وحدة القوى
التقدمية. وتفرقت المظاهرة عند البرلمان... وكنت
على وشك التوجُّه إلى منزلي حين اقترب منِّي
أحد الرفاق (أبو صياح (1137)، من كلِّية الحقوق، على
ما أذكر) ليخبرني "أنهم اعتقلوا كلاً من
نذير (1138)وسركيس
(1139)..." فقلت له: "تعال معي."
واتجهنا سويةً إلى مقرِّ قيادة الاتحاد
الوطني قرب "السبع بحرات"، ودخلنا دون
استئذان غرفة مكتبه التنفيذي الذي لم يفاجَأ
أعضاؤه المجتمعين بحضورنا. أخبرناهم (بما
كانوا يعلمونه) حول اعتقال نذير وسركيس،
وأبلغناهم احتجاجنا على مثل تلك الأعمال
المسيئة لوحدة القوى التقدمية؛ فوعدونا أنهم
سيتدخلون لحلِّ هذا الإشكال. ثم غادرنا
المكان. وقد
تم إطلاق سراح نذير (1140) في مساء اليوم نفسه؛ فجاء
مباشرة بعد إطلاق سراحه إلى منزلي، حيث قدمت
له والدتي الطعام. وقضينا (هو وإكرام (1141)وأنا
(1142))
السهرة نتحدث عن هذه التظاهرة الطريفة. أما
سركيس (1143) فقد أطلقوا سراحه في اليوم التالي. لم
أداوم في الكلِّية خلال ذلك العام إلا قليلاً.
والحجة كانت أن قضية الطبقة العاملة باتت
تتطلب مني نشاطاً أوسع. وتشكلت في كلِّيتنا
آنذاك فرقة حزبية جديدة، صرتُ مسؤولاً عنها،
وكانت تضم طالباً مستجداً نشيطاً ذكياً
ولطيفاً من حمص، اسمه سمير شاليش (1144)(الذي سرعان ما
أصبح من أصدقائي المقربين)، وآخر عادياً جداً
من حيِّ الأكراد بدمشق، اسمه هاني ...... (1145) . كما
بتُّ أحضر بعض اجتماعات الكادر المتوسط
التابع لفرعية الجامعة؛ فأصبحت، بالتالي،
على اتصال برفاق جدد من كلِّيات أخرى، كان
أبرزهم، في نظري، طالب ذكي لطيف من كلِّية
الأدب العربي، يدعى عطية مسوح (1146) سرعان ما أصبح
من أصدقائي المقربين.
فقد
أصبحت هذا العام، بمحض اختياري وكما شاءت
الأقدار، وجهاً شيوعياً علنياً في كلِّية
الهندسة وفي جامعة دمشق، حيث تحوَّل دوامي من
الكلِّية إلى الندوة المركزية التي كان يلتقي
فيها الطلاب من مختلف الاتجاهات... "ما
عدا طبعاً "الإخوان" والناصريين الذين
لم يكونوا بعد قد نسوا آثار صراعهم الدامي مع
البعث." وسرعان
ما صارت للشيوعيين في ندوة تلك الأيام مائدة
كان يلتقي حولها نذير (1147) وأنا
(1148) ومروان
(1149)وفتحي
(1150)وأبو
صياح (1151)ومصطفى
(1152)وآخرون لم أعد أذكر أسماءهم. كما
كانت هناك أيضاً مائدة للاشتراكيين العرب (جماعة
أكرم الحوراني (1153)) يلتقي حولها زعيمهم سركيس
(1154)(وكان
مسيحياً مارونياً من مشتى الحلو وطالباً في
كلية الحقوق)، الذي كان – وما زال – ضخم
الجثة، شجاعاً وصاحب نكتة لاذعة، وحمدان
حمدان (1155)(الفلسطيني، الذي كان أيضاً طالب حقوق)،
وحازم الطرن (1156)(الحموي، من كلِّية الهندسة)
وآخرون. كما كانت هناك مائدة للبعثيين
اليساريين (من جماعة السعدي (1157) وحمُّود الشوفي
(1158)،
وينضم إليها القطريون أحياناً). وطبعاً كانت
هناك مائدة منعزلة لبعض عناصر الأمن الذين
كانوا يكتفون بتلقُّف ما نقول والنظر إلينا
شزراً أو في عجب، لأنه غالباً ما كان يحتدم
النقاش بين تلك الموائد (ما عدا الأمنية منها)
حول "مصائر البلاد والعروبة والعالم". وأستعيد
كيف تعانق بحرارة يومها نذير (1159) ونواف
(1160)(رئيس فرع
دمشق لاتحاد الطلبة)، وكيف قال نذير: متوجهاً
بالكلام إليَّ (1161)– وكنت أنظر إليهما متعجباً
ومتسائلاً (في نفسي) عن مدى عمق معرفتهما
القديمة: -
كان
نواف، يا أكرم، من بين الذين سحلوني – مع
الإخوان – أثناء المعركة التي حدثت خلال
الانفصال. فضحك
نواف (1162)وأجاب بلطافة وخجل (وهما صفتان جميلتان
ومميزتان للكثيرين من بني معروف): -
أنا
لم أدخل في حياتي إلى مسجد! ولكن يومها، يا
نذير (1163)، حين هاجمتمونا بالجنازير، جُرِحتُ،
فهربت إلى المسجد الواقع في الحديقة ما بين
كلِّية الحقوق وكلية الطب، حيث التجأت. ولست
أدري ما أصابني وجعلني أصيح بالمصلِّين "ألله
أكبر!" فلبَّى الإخوان ندائي، وانقلبت
عليكم الآية! وضحك
سركيس (1164) الذي كان يشاركنا الجلسة، ثم قال،
متوجهاً بكلامه إلى نواف ونذير: -
أما
أنا فلم تتمكنوا منِّي في حينه يا ...... كما
تمكَّنتم من هذا المسكين [يقصد نذير]. إذ
سارعت، حين حاصرتمونا هنا في الندوة، إلى
القفز من نافذة الطابق الثاني والهرب عن طريق
النهر جاراً ورائي قدمي التي التوت. وضحكنا
جميعاً، بينما كانت عناصر الأمن الجالسة حول
المائدة المجاورة تنظر إلينا بتعجب، مستغربة
ما كان يجري بيننا من تآمرٍ في وضحِ النهار! وكان
أن أُخبِرْنا ذات صباح أنه ستقام في مساء
اليوم نفسه حفلة جاز لفرقة أمريكية، وأن تلك
الحفلة التي سيقيمها قسم اللغة الإنكليزية في
جامعة دمشق، بالتنسيق مع المركز الثقافي
الأمريكي، ستكون برعاية زوجة السفير
الأمريكي في دمشق. ولما لم يكن من الجائز
آنذاك تمرير مثل هذا "العدوان الإمبريالي
السافر" على حرمنا الجامعي المناضل فقد
سارعنا مباشرة للاتصال فيما بيننا وبالآخرين
لمنع هذا "الحفل–العدوان" من خلال عمل
استعراضي. وكان على مائدتنا يومها نذير (1165)وفتحي
(1166)
وأبو صياح (1167)وأنا
(1168)؛ وقربنا، على مائدة
الاشتراكيين، كان يجلس سركيس (1169)الذي سارعنا إلى
الاتصال به والاتفاق معه على ما يجب فعله
الليلة. ثم جاء نواف (1170)الذي وافقَنا مباشرة على
ما قررنا القيام به وقرر المشاركة شخصياً مع
أحد زملائه. وكانت المجموعة التي تقرَّر أن
تحضر الحفل منَّا من أجل إفساده ستة: اثنان
منهم شيوعيان، هما فتحي وأبو صياح؛ واثنان
اشتراكيان، هما سركيس وآخر لم أعد أذكره؛
واثنان من البعث اليساري، أحدهما نواف؛ أما
أنا ورفيق لنا آخر، فقد تكفَّلنا بالحراسة
خارج الندوة للإخبار عن أيِّ طارئ ممكن. وبدأ
الحفل، كما كان مقرراً، في تمام الساعة
الثامنة بحضور زوجة السفير الأمريكي ووفد من
السفارة. وبعد كلمات الترحيب المعتادة، بدأت
الفرقة عزفها. عندئذٍ فوجئ الحضور والعازفون
بتوجُّه سركيس (1171)، بجثَّته الضخمة وابتسامته
الساخرة، إلى المنصة حيث كانت تعزف الفرقة،
فانتزع الميكرفون من أمامها، وصاح بصوت جهوري
هاتفاً بالحضور: -
أوقفوا
لي هذه الأنغام! قاتل وحشي في فييتنام! فليسقط
الاستعمار الأمريكي! فرددت
المجموعة (باقي الخمسة الذين كانوا واقفين في
آخر القاعة) الهتاف وراءه بملء حناجرها.
واستمر الهتاف لبضع دقائق، ساد الهرج والمرج
فيها الحفل، الذي سارعت زوجة السفير الأمريكي
مباشرةً إلى مغادرته، ثم تلتْها الفرقة
الموسيقية التي غادرت أيضاً؛ ثم انسحبت
مجموعتنا أخيراً، بكلِّ أبهة، وهي توزع
ابتساماتها الجميلة على الحضور المذهول الذي
أفسدت عليه الحفل وانتصرت من خلاله على
الإمبريالية! وكان
علينا في اليوم التالي أن نواجه فقط بعض
احتجاجات ممثلي الاتحاد من كلِّية الأدب
الإنكليزي؛ ولكن وجود نواف معنا غطى على
الموضوع. هكذا،
في وضح النهار، رغم انعدام الديموقراطية
عموماً في البلد، كنَّا نعيش بسذاجة، من خلال
صخبنا وضوضائنا، بقايا ديموقراطية أيام
غابرة... وكانت
نقاشنا الصاخب والعلني في الندوة، فيما بيننا
وعلى مرأى من الجميع، يدور حول فلسطين التي
كنا ندافع عن موقف حزبنا منها، رغم أننا كنَّا
نجهل حيثياته – "فلسطين السليبة" التي
أعلنت في حينه منظمةٌ أسمتْ نفسها "العاصفة"
عن قيامها، انطلاقاً من الأردن، بأول عملية
فدائية من أجل تحرير كامل ترابها – وحول حرب
فييتنام التي كانت تتصاعد، وحول ما كان يجري
في مصر، حيث قرر الحزب الشيوعي حلَّ نفسه
والانضمام إلى الاتحاد الاشتراكي، وموقف
حزبنا من ذلك (الحزب الشيوعي السوري كان
معارضاً لفكرة حلِّ الأحزاب الشيوعية لنفسها)،
وحول "اتحاد الطلبة السوريين خارج الوطن"
الذي كان يسيطر عليه حزبنا الشيوعي، وهل يجب
أن يحلَّ نفسه أم يتحد رسمياً مع الاتحاد
الوطني، وحول الأوضاع الداخلية المتفاعلة في
البلد، بعامة، وعلى صعيد البعث الحاكم،
بخاصة، ولاسيما أنه... كانت
صراعات البعث الداخلية تزداد تفاقماً بين
قيادته القومية، التي كانت ميالة إلى عفلق (1172)،
وقيادته القطرية (السورية) التي كانت تسيطر
عليها "اللجنة العسكرية". وقد انعقد في
نيسان 1965 المؤتمر القومي السابع للحزب، حيث
تم انتخاب السيد منيف الرزاز (1173) (الأردني، من
جماعة عفلق) أميناً عاماً. وكان من أهم
توجُّهات هذا المؤتمر السعي لإبعاد الجيش عن
السياسة. لم
أداوم تقريباً في كلِّيتي خلال ذلك العام،
إنما أضعت الكثير من الوقت. فكانت النتيجة،
المخزية بالنسبة لي، أنْ رسبت للمرة الأولى
في حياتي! وقد شعرت بخجل شديد من هذا، وفكرت،
في حينه، بترك الهندسة والتسجيل في كلية
الحقوق لتكريس نفسي من بعدُ مدافعاً عن
القضية التي آمنت بها؛ ولكني لم أفعل لأن
والدتي عارضت تفكيري هذا بشدة وشجَّعتني على
الاستمرار في الهندسة التي أصبحتُ فيها
متخلفاً عن باقي زملاء صفي من المدرسة. وأيضاً... في
نهاية ذلك العام الدراسي (1964-1965)، نجحت شقيقتي
إكرام (1174) في كلٍّ من البكالوريا السورية
والفرنسية (جزء ثاني فلسفة)، وانتسبت إلى
كلِّية الأدب الفرنسي؛ فكسب الحزب بها واجهة
علنية جديدة... وكان
في نهاية هذا العام الدراسي إخراج سمير (1175) من
المدرسة التي صار وضعه فيها غير مقبول. وبات
سمير يداوم في المنزل: يبقى صباحاً مع الوالدة
(1176)
التي كانت تشجِّعه على قراءة الصحف والمجلات،
ويذهب بعد الظهر مع والدي (1177)أو عمِّي جورج
(1178) إلى
المقهى، فيبقى معهما حتى المساء. لم تكن له
عموماً أية مشكلة في ذلك من حيث الظاهر؛ إنما
مشكلته الأساسية كانت فقط حين يغافلنا، فيخرج
بمفرده إلى الشارع ليشتري الصحف أو ليذهب إلى
السينما، فيلتقي بجهالة مجتمعنا، ممَّن ليس
بوسعهم، مع الأسف، احترام آلام الآخرين،
فيسخرون منه ويُخرِجونه عن طوره... حوادث
مؤسفة، ولكنها كانت تتكرر بشكل متصاعد، وكان
علينا، كعائلة، تحمُّلُها بصمت وألم... "...
في حينه، على ما أذكر، قررتَ مقاطعة ابنة عمك
سيرين (1179) [ابنة رزق الله الصغرى] التي فاجأتَها
ذات يوم وهي تسخر من أخيك سمير (1180)..." كان
ذلك في صيف عام 1965 الذي قضيناه، إكرام (1181) وأنا
(1182)،
بين الزبداني، حيث الأهل والأقارب، وبين
دمشق، حيث كان الحزب والرفاق. وقد
تعرفنا إبان ذلك الصيف، عن طريق فاروق، إلى
طالب يساري فرنسي بات يداوم في "المعهد
الفرنسي للدراسات العربية" الواقع في حيِّ
أبو رمانة. كان اسمه جان فرانسوا فوركاد (1183)، وكان
يهيِّئ آنذاك موضوعاً لغوياً حول "الآرامية
العتيقة" التي مازال يتحدث بها، إلى اليوم،
المسيحيون من أبناء قرية معلولا؛ وقد أضحى من
أصدقائي المقربين. كان جان فرانسوا آنذاك
يسارياً مخلصاً في قناعته، ومن أولئك الشباب
اليساري الفرنسي الذين ساعدوا الثورة
الجزائرية، كما كان ذا ثقافة كبيرة لا تفوقها
(في نظري على الأقل) إلا ثقافة صديقنا المشترك
فاروق (1184). وهكذا توسعت شلتُنا وأصبح صديقنا
الجديد، لبعض الوقت، واحداً منَّا... وكان
في 20 حزيران 1965 انقلاب عسكري في الجزائر، حيث
أطاح وزير الدفاع وقائد الجيش، العقيد هواري
بو مدين (1185)، بحكومة الرئيس أحمد بن بلا
(1186)... ذلك
الانقلاب الذي استنكره الحزب الشيوعي السوري
(بلطف)، بينما استنكرته قيادة الاتحاد الوطني
لطلبة سورية (بعنف)، مما أدى، على صعيدنا
الطلابي، إلى إعادة طرح موضوع الصراع
المتفاقم بين أجنحة البعث المختلفة. "...
هل مازلت تذكر مطلع تلك القصيدة العصماء لـ"شاعر
المناسبات البعثية"، صابر فلحوط (1187)، يقول
فيها: كذبَ
الدَّعيُّ بما ادَّعى
البعثُ لن يتصدَّعَ..." وفي
20 أيلول 1965 قدَّم أمين الحافظ (1188) استقالة
حكومته، وتشكلت حكومة جديدة برئاسة الدكتور
يوسف زعيِّن (1189)، أحد أبرز ممثلي "القيادة
القطرية" لحزب البعث... وكان
أول عمل قامت به هذه الحكومة (اليسارية) أن
حلَّت القيادة اليسارية للاتحاد الوطني بحجة
موقفها من الأحداث الجزائرية، وأعادت
تشكيلها من عناصر أكثر طواعية؛ فأصبح المدعو
متعب شنان (1190) (من جبل الدروز)، الذي لم يكن يعرفه
أحد، رئيساً للاتحاد الذي عُيِّنَت له قيادة
جديدة، ضمَّت في حينه: منذر إسبر (1191)، صالح رويلي
(1192)،
وطالب الطب (من حوران) عيسى حداد (1193)، الذي كان
أكثرهم شراسة. وكان جميع هؤلاء من أنصار
القيادة القطرية... "...
لقد تم استدعاؤنا في حينه [والحديث هنا لزينب
نطفجي (1194)] إلى مقرِّ القيادة القطرية للتحقيق
معنا. فقد كان موقفُنا المستقل، المتعارض مع
ما افترضوه خطَّ الحزب حول الأحداث
الجزائرية، غير محتمل بالنسبة لهم. ثم تصور من
كان يحقق معنا! كانت كامل القيادة "الفعلية"
للبلد في حينه تحقِّق معنا! – أولئك الذين
احتجزوا الشباب لغايات التحقيق ما يزيد عن
ثلاثة أيام. أما أنا فقد سمحوا لي يومها،
بناءً على تدخل شخصي من نور الدين الأتاسي (1195)–
الذي كان أكثرهم لباقة وشهامة، فطرح موضوع
عدم جواز احتجازي كفتاة – بالعودة إلى منزلي
ليلاً من أجل النوم، وأوصلني شخصياً بسيارته الفولسفاغن
إلى منزلي، حيث استقبلتني والدتي، التي لم
تكن تدري ما كان يجري بالصياح والتأنيب..." وعدت
إلى الكلِّية في مطلع ذلك العام الدراسي
(1965-1966) مجرجِراً أشلاء هزيمتي، طالباً في
الصف الأول هندسة من جديد. أمسيت في صف رفيقي
سمير (1196) الذي أضحى من شلَّتنا التي انضمت إليها
أيضاً طالبة فلسطينية سمراء، حادة الطباع،
تدعى دعد (1197) ...... التي سرعان ما أصبحت رفيقة لنا؛
كما انضم إلينا في ذلك العام رفيق جديد ونشيط
كان يدرس في الجزائر ويدعى بسام نصري (1198) . وصارت
إكرام (1199) من أبرز وجوهنا. وأتذكر بحنان ذلك الحدث
الطريف التالي بينها وبين سركيس (1200) الذي كانت
إكرام تحاول إقناعه بالخطِّ الصحيح لحزبنا
الشيوعي "العظيم"، فيضحك سركيس (1201) ويقول لها: -
كان
بودي الاقتناع معك، يا إكرام (1202)؛ ولكن، مع
الأسف، أنت حمراء بينما أنا زهري اللون! وننفجر
جميعنا ضاحكين، ونستمر في النقاش! ثم
جاءت انتخابات اتحاد الطلبة التي خضناها، على
صعيد جامعة دمشق على الأقل، منسِّقين مع
أصدقائنا الجدد من البعثيين "الأكثر
يسارية" الذين أطاحت بهم السلطة "الأقل
يسارية"؛ ففزنا جزئياً في بعض الكلِّيات
العلمية، كالهندسات والفنون الجميلة والطب
إلخ، وهُزِمنا، خاصة وعموماً، في الكلِّيات
الأخرى النظرية، حيث حشد البعث "موظفيه"
الذين نُسِّبوا إلى الاتحاد في آخر لحظة. وقد
فزت للمرة الأولى خلال هذه الانتخابات بعضوية
اللجنة الإدارية لكلِّية الهندسة، بفضل
أصوات الناصريين الذين كنت كوَّنت معهم
علاقات ودٍّ وصداقة، ففضَّلوا انتخاب صديقهم
الشيوعي أكرم (1203)، وإسقاط منافسه البعثي "العفلقي"
الذي كان، على ما أذكر، الطالب (المهذب
والخلوق جداً) عبد الوهاب البعاج (1204). وكان
من أبرز أصدقائي الناصريين من كلِّيتنا في
تلك الأيام ذلك "القومي العربي" الذي كان
يدعى خلدون ...... (1205). وقد بدأت صداقتُنا من خلال
خلاف طريف بيننا حول أم كلثوم. فحين سألني ذات
يوم عن رأيي في أغنيتها الأخيرة – وكانت، على
ما أذكر، "أنت عمري"! – أجبته بأني لا
أحبها (ولم أكن أحبها حقاً في حينه)؛ فنظر إلي
شزراً، وسألني إن كنتُ متأكداً من عروبتي!
فأجبته، وأنا أضحك، بنعم. فضحك هو أيضاً، وقال
لي: "ولكنك لا تعرف، يا مسكين، ما الذي
تخسره بعدم حبك لها!" وأعلن
حزب البعث الحاكم في سوريا عن منهاجه
المرحلي، وتم تشكيل مجلس وطني ضمَّ بعض
الوجوه الشيوعية من الصف الثاني، كالمحامي
سميح عطية (1206) والسيدة نجاح ساعاتي
(1207). وأطلق
فيديل كاسترو (1208) في تلك السنة أسطورة الـ"تشي"
(جيفارا (1209)) الذي تخلَّى عن جنسيَّته الكوبية،
ليعود إلى النضال المسلَّح ضد الإمبريالية في
مكان آخر من أمريكا اللاتينية... وكانت
سهرة ليلة رأس السنة للعام الجديد 1966، تلك
التي قضيناها، إكرام (1210) وأنا
(1211)، ضيوفاً على صديقنا
الفرنسي (1212) في غرفته في معهد الدراسات العربية،
حيث عرَّفنا إلى صديقته التي جاءت خصيصاً من
فرنسا لزيارته. كانت تدعى جابرييل موك (1213)، وكانت
عضواً في الحزب الشيوعي الفرنسي، كما عرفتنا
بنفسها، و"يهودية"، كما عرَّفنا بها
صديقنا ضمن سياق الحديث، حين كانت جابرييل
اللطيفة تقص علينا بانفعال، ونحن نضحك، كيف
تم تسجيلها كمسيحية من أجل الحصول على تأشيرة
الدخول إلى سوريا... -
تصوروا
أنه حين سألني موظف سفارتكم عن ديني وأجبته
أني "بلا دين"، نظر إليَّ شزراً، ثم
سجَّلني من عنده "مسيحية"، فلم أعترض.
ماذا تريدون؟ لقد كنت أريد المجيء إلى سوريا،
ولم يكن بوسعي أن أقول له إني يهودية الأصل! وقضينا
تلك السهرة الجميلة نستمع إلى موسيقى ناعمة،
ونتناقش حول ما كان يجري في العالم، وحول
الحزب ومواقفه من الأوضاع السورية، وحول
فلسطين التي كانت جابرييل (1214) "اليهودية"
شديدة الحماس لقضية شعبها العادلة. فقدَّم
لنا جان فرانسوا (1215) خلال هذه السهرة أفضل ما لديه
من النبيذ الفرنسي وأطيب منتوجه من الطعام. ثم
جاء ظهر اليوم التالي (رأس السنة)، مع صديقته،
ضيوفاً على مائدتنا، حيث قدمتْ لهم والدتي (1216)
أفضل منتوجها من أطايب الطعام السوري. ففي ذلك
اليوم، تحديداً، لم نكن جميعاً، في المنزل
كما في البلد، عابئين بتفاعلات الصراع على
السلطة في بلدنا... ذلك
الصراع الذي تفجر، حين قامت القيادة القومية
لحزب البعث في 21 كانون أول 1965 بحل قيادته
القطرية (السورية) واستبدال لجنة من أنصارها
بها. فاستقالت حكومة الدكتور يوسف زعيِّن (1217)،
وأعيد في 2 كانون الثاني 1966 تكليف السيد صلاح
البيطار (1218) بتشكيل وزارة، كان اللواء محمد عمران
(1219)
وزيراً لدفاعها. وكان
انقلاب الـ23 من شباط 1966، الذي تميز عن جميع
الانقلابات التي سبقته بعنفه ودمويته، نقطة
تحول في التاريخ السوري الحديث... وقد
جرت أشرس معاركه، على مرأى ومسمع من الجميع،
في قلب البلد، وتحديداً في حيِّ أبو رمانة
الأرستقراطي، ما بين بناء قصر الضيافة ومنزل
أمين الحافظ (1220)، الذي ظلَّ يقاوم الانقلابيين
الجدد من رفاقه القدامى حتى ساعة متأخرة من
صباح ذلك اليوم... الذي منعوا فيه التجول
طبعاً، فقبعنا في منازلنا، نتابع عبر
الإذاعات ما كان يجري في بلدنا من أحداث مؤسفة... وكان
جان فرانسوا (1221) أول من زارني بعد ظهر ذلك اليوم،
مستفيداً من رفع جزئي لمنع التجول. كان
منفعلاً جداً، وكانت برفقته صديقته الفرنسية
(الجديدة) من المعهد، جونوفييف (1222) التي أضحت من
بعدُ زوجته. جلس معي (1223) ومع إكرام
(1224) ليحدِّثنا عما
انتابه من رعب في تلك الليلة التي قضاها مع
جونوفيف مختبئاً تحت السرير. فالمعارك التي
كانت تجري بالقرب من مكان إقامته أعطته
الانطباع بأنها كانت تجري في قلب المبنى حيث
سكنه! أما
في اليوم التالي فكان أول ما فعلتُه، وقد
رُفِعَ حظر التجول، هو التنزه مع رفيقي سمير (1225)
في حيِّ أبو رمانة، حيث عاينَّا نتائج القتال
التي أذهلتْنا. كانت آثار المعارك ظاهرة
بوضوح على واجهات معظم أبنية هذا الحيِّ
الجميل، وخاصة على قصر الضيافة والأبنية
المحيطة به في أسفل الحيِّ، وفي أعلى الحيِّ،
على ذلك المبنى الذي أضحى شبه مدمَّر، الذي
كان يسكنه أمين الحافظ (1226)، الذي قالوا إن ابنته
الصغيرة فقدت عينيها خلال تلك المعارك التي
كان أبرز "قادتها" قائد المغاوير (من جبل
الدروز) سليم حاطوم (1227) وقائد المدرعات (من جبال
العلويين) عزت جديد (1228). ثم
كان الإعلان عن تشكيل أول حكومة لهذا العهد
الجديد برئاسة الدكتور يوسف زعيِّن (1229)
التي كان
وزير الدفاع، اللواء حافظ الأسد (1230)، والدكتور
إبراهيم ماخوس (1231) كوزير للخارجية من أبرز
وجوهها، والتي شارك الحزب الشيوعي السوري
فيها لأول مرة عبر وزير المواصلات "الرفيق"
المحامي سميح عطية (1232). أما رئاسة الدولة فكانت
للدكتور نور الدين الأتاسي (1233) الذي أصبح أميناً
عاماً لحزب البعث، يساعده (أو يقوده حقيقة)
صلاح جديد (1234) الذي أصبح أميناً عاماً مساعداً –
وأهم شخصية في البلد... "وأتذكر
أن (رفيقنا) سميح عطية (1235) كان، قبل استلامه
الوزارة، مجرد محام مغمور يسكن في منزل
مستأجر متواضع في حيِّ باب شرقي!" وأتذكر
أيضاً كيف اتجه نذير (1236) في ذلك اليوم إلى حيث كنت
أجلس في ندوة الجامعة مع بعض الأصدقاء وقال لي
(1237): -
تعال
معي... عندنا مقابلة طريفة! لحقت
به، واتجهنا معاً إلى خلف مبنى كلِّية الطب،
حيث كان ينتظرنا، متخفياً وراء زاوية البناء،
"زميلنا" عبد القادر قدورة (1238)، الذي كان في
حينه ما يزال من جماعة القيادة القومية
البعثية المعزولة والذي بادرنا قائلاً: -
لن
أطيل معكم الحديث. فالكلُّ يعرف أن حزبكم قرر
الاشتراك في حكومة "أولئك الخونة"! لقد
ارتكبتم بهذا العمل خطأً كبيراً. وكل ما أرجوه
هو أن لا تندموا على فعلتكم هذه، فتدفعوا
ثمنها غالياً! وحاول
نذير (1239) مناقشته في الموضوع، لكن الحديث بينهما
كان كحوار الطرشان الذي سرعان ما انتهى حين
ودَّعنا عبد القادر (1240) مغادراً. وسألني
(1241) نذير عن
انطباعي بما جرى فأجبته: -
إنه
مكلَّف بأن يوصل لنا رسالة تهديد من جماعته. فوافقني
على انطباعي هذا. ثم علمنا، بعد حوالى
أسبوعين، أن السلطات البعثية الجديدة اعتقلت
"زميلنا" (1242)عبد القادر قدورة. ثم
أخبرونا في أحد الاجتماعات أن الرفيق خالد
بكداش (1243) عاد إلى الوطن، وأن البعث قد أُعلِمَ
بذلك، وطُلِبَ منَّا أن نحدد رفيقين كلَّ
يوم، لمدة أسبوع، لحراسة منزله (الواقع عند
موقف آدم في حي الأكراد) ليلاً... قضيت
(1244)
الحراسة في تلك الليلة (الخميس) مع سمير (1245)، ونحن
نتسامر بانفعال. فقريباً جداً سيتاح لنا
مقابلة رفيقنا "العظيم" والتشرُّف،
ربما، بمخاطبته! وما زاد من انفعالنا أنه كانت
تقف في الطرف الآخر من الشارع سيارة مخابرات.
ثم كانت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل حين
أطل متدرجاً كلُّ من الرفيقين "الكبيرين"
خالد (1246) ويوسف
(1247) الذين جلسا معنا بعض الوقت، مما
جعلنا نطير فرحاً! وانقضت تلك الليلة
التاريخية، وعدت إلى منزلي مع صياح الديك،
لأجد والدي (1248) جالساً في انتظاري. فقد لاحظ عدم
عودتي إلى المنزل ليلاً، مما أقلقه وحرمه
النوم. سألني بهدوء، على غير عادته: -
أين
كنت حتى الآن يا أكرم (1249)؟ فأجبته
بتحدٍّ ووقاحة: -
احزرْ
أين كنت يا بابا! فوجئت
بأنه انفجر ضاحكاً وقال لي: -
لكن
انتبه إلى نفسك، فقد تلتقط مرضاً مزعجاً! ففهمت
أنه اعتقد، لطيبة قلبه، أني كنت أقضي الليل،
كما كان يفعل هو في سنِّي، عند إحدى بنات
الهوى. فضحكت أنا أيضاً، ولم أشأ أن أغيِّر من
اعتقاده، وقلت له: -
على
راسي بابا... - تصبح على خير يا ابني. -
وأنت
من أهله بابا... وذهبنا
لننام، كلٌّ في غرفته. وكان الصباح قد أطل. كان
صباحاً جميلاً فعلاً، لأن معه بدأت علاقة
صداقتي – المتأخرة – مع والدي... ***
*** *** |
|
|