|
ذاكرة الباطن الفصل السابع حصاد العاصفة (1966-1969) آ الجامعة، الرفاق و...
الآخرون (3)... طائر الليل:
-
أنا لا أتنكَّر اليوم لما
عشت بالأمس. أعي أخطائي وسذاجتي، ولكني لا
أحمِّلها لأحد. فالخيار كان خياري،
والمسئولية مسئوليتي. ثم إني – والحق يقال –
لست نادمًا على ما جرى معي. كلُّ ما هنالك أني
مازلت أشعر بغُصَّة في كلِّ مرَّة أعود فيها
لأتذكَّر تلك السنين. "لهذا
تراك اليوم، حين تحاول تفهُّم ما جرى، تقارن
تجربتك حين كنت في الجامعة بتجربة هذا الآخر (أي
آخر) الذي اختار، مثلك، في شبابه طريق مشابهًا.
فقد كنت (مثله) مقتنعًا ومعتدًّا بنفسك؛ كما
كان هو (مثلك) عاجزًا أمام الواقع الذي كان
يعيش. وكان، ربما (كما كنت)، من أصول نخبوية
متواضعة نسبيًّا؛ وكنتما تشعران بالظلم
اللاحق بكما وبأمثالكما بسبب التواضع (النسبي)
لأصولكما، وبسبب الظروف المحيطة...". -
وكان أن اقتنعتُ، من خلال
قراءاتي وأحلامي، بما قيل لي (وقرأت)، وصدَّقت
أن لا بدَّ لهذا الواقع من أن يتغير على يدي
ويد رفاقي. "والواقع
الذي كان يعيشه بلدُنا كان، من بعض جوانبه،
صراعًا مجنونًا على السلطة وعلى المصالح،
أوصلَنا اليوم إلى ما أوصلنا إليه...". -
وكان من بعض الخديعة التي
صدَّقتُها، كما صدقها الكثيرون، أن هناك دولة
جبارة قامت عام 1917 إثر "ثورة" للعمال
والفلاحين، من أجل "المعذَّبين في الأرض"،
لأول مرة في تاريخ الإنسانية، وعلى سدس
اليابسة – تلك الدولة المثالية المفترَضة
والصامدة، رغم ما كانت تعانيه من حصار. وكان،
أيضًا، أن هناك فكرًا، علميًّا صرفًا و"ثورجيًّا"
صرفًا – تلك الإيديولوجيا التي آمنتُ أن
بوسعها الإجابة على جميع التساؤلات، والتي
بوسع الفقراء اعتمادها سلاحًا للانعتاق من
واقعهم المهين، وأن هناك، في المحصِّلة،
حزبًا بوسعه، من خلال تقمُّص ذلك الفكر "العظيم"،
قيادةُ عملية تغيير هذا الواقع "المهين".
ومن خلال هذا كلِّه، كان وهمُ "جزَّار" و/أو
" قدِّيس"، أضحى يعرف بـ" (1250) لينين"؛ أو
"طاغية مجنون" و/أو "قائد ملهم" و/أو
"أب طيب"، لُقِّبَ هناك بـ"ستالين (1251)"،
أو ماو تسي دونج (1252)، أو كيم إيل سونج
(1253)، أو أنور
خجا (1254)، أو فيديل كاسترو
(1255)... وهنا بـ"أبو فلان"،
أو "أبو فليتان"، إلخ. "وكان
جميع هؤلاء "ثورجيين" في شبابهم، كما
كنتَ، أنت أيضًا، "ثورجيًّا" في شبابك...". -
كنتُ،
كالكثيرين من رفاقي، ساذجًا ومثاليًّا. وكنت
فعلاً، كما أسلفت، ثورجيًّا. فانتسبت إلى
الحزب، وحضرت أول اجتماع، ووزعت أول منشور،
وجرفتني الآلية... "والآلية
هي الجو المحيط، الذي كان، بالنسبة لك،
الكتاب، والاجتماع، والرفاق، والكأس، ونقاش
الليل الذي لا ينتهي...". -
كنت ثورجيًّا، أجل. ولكني
أعترف اليوم، "بخبث"، أني كنتُ "ثورجيًّا
محافظًا" – بمعنى أني فضَّلتُ منذ البداية
ستالين (1256)(الذي بنى) على لينين
(1257)وتروتسكي
(1258)(اللذين
هدما). وفضلت بكداش (1259) على سواه لأنه القائد
التقليدي للحزب. لكن هذا لم أدركه إلا لاحقًا
جدًّا. أما في حينه فقد... "كان
غباؤنا أننا كنَّا ننظر إلى "الثورة"
كمفهوم تقدمي...". -
أتراكِ
تلمِّحين إلى الجانب الرجعي لمفهوم الثورة؟ "فكِّر
معي قليلاً في الأصل اللاتيني لكلمة revolution،
حيث تعني كلمة revolutio
"الدوران في دائرة مغلقة".
واستنتج ما تشاء من حدث ومسار، قد يطول أو
يقصر، لكنه معدوم الأفق، ويعيدك، في
المحصِّلة، إلى حيث انطلقت...". -
أما من منطلق لغوي عربي
فالكلمة قد تكون تأنيثًا لكلمة "ثور"
تعبيرًا عما يرافق حالها، كحال "زوج"
البقرة، من هيجان وفقدان للتوازن أثناء عملية
الجماع! "ثم أصبحت الكلمة
– لسخرية الأقدار – في العصور الحديثة التي
قلبت المفاهيم التقليدية رأسًا على عقب،
رمزًا للـ"تقدمية المتطرفة"...". وأفكر متسائلاً: هل
كان الثامن من آذار 1963، بالنسبة لسورية، "ثورة"،
أم مجرد انقلاب؟ كان
الثامن من آذار 1963، بالنسبة إلى سورية، أكثر
من مجرَّد انقلاب، وأقل من ثورة.
وكذلك كان، رغم جذريَّته، الثالث والعشرين من
شباط 1966 الذي تلا. كان أقرب، في العمق، إلى "الثورة"،
من بعض جوانبه التي استبدلت بالسلطة
الديموقراطية، الأرستقراطية والضعيفة،
للنخبة المدنية المستنيرة الحكمَ
الديكتاتوري، العامِّي والشرس، لطليعة
عسكرية ريفية؛ فسيطر الريف المتخلف (نسبيًّا
ومقارنةً) من خلاله على المدينة وعلى مقاليد
الأمور في البلاد. وأيضًا... كان أقرب، في عمقه، إلى
الثورة من جهة ما أحدثَه من تغيُّرات
اقتصادية واجتماعية هامة في البلد، كالقطاع
العام، والتأميمات، ومشاريع البنية التحتية
الصناعية الكبرى، التي كانت إيجابية، ربما،
من بعض جوانبها، ولكن باهظة الثمن، وبالتالي،
سلبية، ولا تستحق هذا الثمن، من بعض جوانبها
الأخرى. ولكن
الثامن من آذار لم يبلغ قطعًا – والحمد لذاك
الذي لا يُحمَد على مكروه سواه! – كما سبق
وأسلفنا، حدَّ الثورة؛ بمعنى أنه لم يُتَحْ
لعنفه (بالقوة) أن يلمس إلا القشرة. فلم يتعرض،
بشكل عام، كما حدث في روسيا أو ألبانيا أو
الصين، للعمق الاجتماعي والديني للبلد؛ ولم
يتعرض، في العمق، لتلك القوى المدنية الأهم،
والمتمثلة بتجار المدن السورية الكبرى،
وخاصةً منهم تجار دمشق، الذين سرعان ما
هادنوا العهد الجديد، ثم استوعبوه في النهاية. "وكان من باكورة "منجزات"
23 شباط 1966 الاستيلاء على المدارس الأجنبية
والتبشيرية في سورية، كالعازرية (مدرستك
القديمة) واللاييك والفرانسيسكان والفرير
وغيرها...". -
كان السيد سليمان الخش (1260) –
رحمه الله – هو وزير التربية والتعليم الذي
استصدر، في حينه، أمرًا يقضي بتشديد الرقابة
على تلك المدارس من خلال تعيين مدراء "موازين"
معيَّنين من قبل الدولة. "وكان الاستيلاء على تلك
المدارس، التي رفضت هذا القرار في معظمها،
ضربة مؤلمة لمستوى التعليم في بلدنا. فهذه
المدارس كانت تقدم لطلابها وللبلد مستوى
تعليميًّا متميزًا؛ ولكن هذا لم ندركه إلا
لاحقًا جدًّا. وأيضًا..." "في تلك الأيام "زوَّج"
ابن عمنا نعيم (1261) ابنته سامية
(1262) من تاجر غني من
أسرة الربَّاط الحلبية المسيحية–الأرثوذكسية
المعروفة...". "ظلَّ نعيم – رحمه الله –
طوال حياته تقليديًّا. كما كان صديقًا لآل
الربَّاط، الذين كان أقربهم إلى قلبه صديقُ
شبابه من أيام الكتلة الوطنية المحامي الكبير
إدمون الربَّاط (1263)، أبو الدستور اللبناني...". "لكن سامية (1264) لم تكن تريد
هذا الزواج؛ وإذا وافقت عليه في النهاية
فلأنها لم تكن تتجرأ على معارضة والدها؛ على
عكس إميلي (ميمي)(1265)، ابنة رزق الله التي هربت من
منزل أهلها لتتزوج من ضابط مسرَّح مسلم، زميل
لها في كلِّية الحقوق، اسمه موفق الدقر (1266). وكانت
"فضيحة" عائلية أثَّرت سلبًا على صحة
والدها...". "وذهبنا أنتَ وأنا
لنهنِّئ ميمي (1267) بزواجها وثورتها على أهلها." "كان الجميع في وسطنا
يعرف ويقدر أدب وأخلاق أبناء نعيم...". "وتوفيت
ليلى (1268)، ابنة عمِّك فلاديمير
(1269). أصيبت ليلى في
صغرها، كما تعرف، بروماتيزم أثَّر على قلبها.
وكان المحزن أنها، وجميع من حولها، يعلمون
أنها لن تعيش طويلاً. اتصلوا يومها بفلاديمير
من بيروت، وأخبروه بأن يحضر حالاً مع إخوته
لأن ليلى مريضة جدًا. كانت قد توفيت، لكنهم لم
يشاءوا أن يخبروه بذلك مباشرة...". "ذهبنا
نحن الأربعة إلى بيروت في سيارة مستأجرة.
وتوقفت السيارة في المصنع عند الحدود
اللبنانية. وهناك – يا لسخرية القدر – سمعنا،
وسمع معنا فلادو، إثنان من شرطة الجمارك
اللبنانية يتحدثون. كان أحدهم يقول للآخر: "هل
سمعت النبأ؟ لقد توفيت اليوم بنت الأنطاكي،
ملكة جمال لبنان." واصفرَّ وجه فلاديمير (1270)،
ونظر بعضنا إلى بعض ببلاهة، ثم انفجرنا
جميعًا بالبكاء...". "بعد أسبوع، أصيب فلادو
بنوبة قلبية، وظلَّ حوالى الشهر طريح الفراش...". كانت العلاقات بين أبي (1271)
وأخوته جيدة في تلك الأيام. لكن أمِّي (1272)، التي
كانت على علاقة مقبولة مع ماري (1273) زوجة رزق الله
(1274)،
كانت على علاقة سيئة جدًّا مع ليندا (1275) زوجة
فلاديمير (1276)، التي كانت تقطن في بيروت مع
عائلتها. أما أنا (1277) وإكرام
(1278) فكانت علاقاتنا
بأبناء رزق الله قد ضعفت جدًّا؛ بينما كانت
علاقتنا بأبناء عمِّنا فلاديمير شبه مقطوعة؛
كما كانت انقطعت أيضًا علاقاتنا بتلك الأوساط
التي كانت محيطة بنا، من أقارب و"أصدقاء"
للعائلة – أولئك الذين لم تعد اهتماماتهم
كاهتماماتنا التي كانت تحولت، فأصبحت تتابع
بنهم ما كان يجري في العالم عامةً، وفي البلد
خاصةً...". حيث ألغت الحكومة اليسارية
السورية اتفاق أنابيب النفط مع الشركات
البريطانية، الذي كانت وقَّعته الحكومة
البعثية السابقة للسيد صلاح الدين البيطار (1279)،
ووقَّعت اتفاقيات اقتصادية هامة مع الاتحاد
السوفييتي "الصديق". وكان أهم هذه
الاتفاقيات بناء سدِّ الفرات، وبناء خط حديدي
بين اللاذقية والقامشلي، ومعمل السماد
الآزوتي، ومشروع استثمار الفوسفات، إلخ. أما
في أيار 1966 فكان المجلس الوطني الفلسطيني
المنعقد في غزة يكرس دور "فتح" في توجيه
سياسة منظمة التحرير الفلسطينية التي كان
يقودها الشقيري (1280)، وكان تصعيد (إعلامي)
للعمليات الفدائية انطلاقًا من الأراضي
السورية والأردنية، مما كان يُصوَّر وكأنه
بداية حرب فدائية تهدف إلى تحرير كامل التراب
الفلسطيني. وجرت
في 14 تموز غارات إسرائيلية عنيفة على المواقع
السورية، وجرى تصعيد في توتر الأجواء في
المنطقة. قضيتُ
صيف 1966 في دمشق، حيث هيأتُ لبعض المواد التي
كانت متبقية لي للدورة الثانية، تلك التي
تقدمت لها بنجاح (نسبي)، فانتقلت، وكذلك
رفيقنا (وصديقي آنذاك) بسام نصري (1281)، إلى الصف
الثاني هندسة؛ بينما رسب في صفِّه في الكلية
مروان–جعفر (1282)، الذي أضحى في صفِّي، كما رسب من
صفِّي كلٌّ من سمير (1283) ودعد
(1284). أما على صعيد
الجامعة فكان نذير (1285) هو الأبرز من بين الرفاق
الناجحين في دراستهم، حيث أضحى طالبًا في
السنة قبل الأخيرة من دراسته الطبية. وكذلك
فاروق (1286) الذي أصبح طالبًا في السنة الأخيرة
حقوق. وغادرَنا في هذا الصيف جان
فرانسوا (1287) عائدًا إلى بلاده. فتوادَعنا واتفقنا
على التراسُل. وكانت علاقتي به ما تزال طيبة؛
أما علاقته بالشلة فكانت انقطعت بعد أن
اكتشفوا بعض ميوله الشاذة. وأعترف أني انزعجت
أيضًا، في حينه، عندما اكتشفت أن لديه تلك
الميول. ولكن، بعد التداول مع إكرام، قرَّرنا
معًا التصرف وكأن الأمر لم يكن؛ فجان فرانسوا
كان طيَّب القلب، كما أنه كان صديقنا – وهذا
كان الأساس الذي يهمنا. كما
غادرنا للدراسة في فرنسا ابن عمي (رزق الله)
كريم (1288)، الذي رسب في صفه في كلية الطب في جامعة
دمشق. وفي
أيلول 1966 كانت المحاولة الانقلابية الفاشلة
للرائد سليم حاطوم. يومئذٍ
مساءً (الـ 8 منه) كنت أحضر مع عطية (1289) مهرجانًا
خطابيًّا في مبنى الاتحاد العام لنقابات
العمال، حين لاحظنا أن أجواء الحفل كانت غير
طبيعية. ومن الأحاديث الجانبية لبعض البعثيين
الذين كانوا حولنا فهمنا أن هناك محاولة
انقلابية يقودها الرائد سليم حاطوم (1290) الذي كان
اعتقل (كرهائن) في السويداء كلاً من رئيس
الدولة نور الدين الأتاسي (1291) وصلاح جديد
(1292) اللذين
جاءا لمفاوضته. فأخبرنا ما سمعناه مباشرة
لرفيقنا إبراهيم بكري (1293) الذي كان موجودًا في
القاعة، ثم غادرنا المكان. "حسب
تقويم حزبنا الشيوعي آنذاك، تم سحق هذا
الانقلاب "بفضل يقظة الشعب وقواه التقدمية
و... الطبقة العاملة بكتائبها المسلحة".
فحينئذٍ كانت الحكومة السورية اليسارية قد
شكَّلتْ، ضمن فولكلورها الثورجي، "الكتائب
العمالية المسلحة" لحماية الثورة...". -
ولكن، في الحقيقة، لم تكن
للشعب، ولا لقواه التقدمية، ولا للطبقة
العاملة، أية علاقة بالموضوع. فقد... فشلت
محاولة حاطوم الانقلابية على يد وزير الدفاع
حافظ الأسد (1294) الذي هدَّد بقصف السويداء إن لم
يفرج الأول مباشرة عن نور الدين الأتاسي (1295)
وصلاح جديد (1296). فانهارت أعصاب حاطوم
(1297) الذي فرَّ
هاربًا إلى الأردن حيث التجأ. ومن هناك، عبر
الإذاعة الأردنية، شنَّ حملة إعلامية قاسية
على "الحكم العلوي" في سورية! "قبل هذه كان الحركة بأقل من شهر كان
أحدُ قادة حزبنا في جملة وفد ذهب إلى كوبا،
شارك فيه سليم حاطوم (1298). وكان تقويم رفيقنا له،
حين عادوا إلى الوطن، أنه "كاسترو" محتمل
لسورية...". -
لا خلاف في أن تقويمات "جماعتنا"،
إجمالاً، كانت في منتهى السطحية. ولكن "الأسطح"
منها كان أننا كنَّا نصدقهم، ونعجب
بتقويماتهم تلك. "ووضعت الدولة
يدها على بناء عمُّو نعيم أنطاكي (1299) في حي أبو
رمانة (المبنى الحالي لوزارة النقل)... كان قد
سبق لنعيم أن رفض طلبًا لرئيس الدولة آنذاك،
السيد نور الدين الأتاسي (1300)، بتأجيره الطابق
السفلي من البناء لسُكناه. وكان هذا من حقِّه (نظريًّا)،
استنادًا إلى القانون. لكن حكومة تلك الأيام
لم تكن لتعبأ بمثل تلك القوانين الرجعية
البالية. فأصدرت أمرًا (عرفيًّا) بمصادرة
البناء بكامله. وقد تمت عملية المصادرة حين
كان نعيم وعائلته خارج الوطن، ولم يكن في
البناء سوى أمه العجوز التي طُرِدَتْ من
بيتها بشكل مُخْزٍ...". "وكانت خطبتك إلى تلك
الفتاة القصيرة القامة من كلِّية العمارة
والتي كانت تدعى ....... . أليس كذلك؟" -
كان هذا ما حصل فعلاً. في
حينه كان الحزب يحاول إحياء إحدى منظماته
الجماهيرية ("اتحاد الشباب الديموقراطي").
وقد عقد من أجل هذا الغرض عدة اجتماعات، كان
أولها برئاسة عضو اللجنة المركزية رئيس
الاتحاد واصل فيصل (1301) (الشقيق الأصغر ليوسف
(1302))؛
تلاه آخر برئاسة من أضحى، لبعض الوقت،
مسئولنا الحزبي في الجامعة (وكان آنذاك عضو
منطقية دمشق) يعقوب كرو (1303)، الذي أصبح رئيسًا
للاتحاد؛ وأصبحتُ عضوًا في اللجنة القيادية
لإعادة تأسيسه. كما أصبحتُ، في حينه، عضوًا في
فرعية الحزب في جامعة دمشق. ثم كان اجتماع
احتفالي آخر في منزلي، حيث تعرفتُ إلى تلك
الفتاة التي حضرت يومئذٍ مع رفيقنا ساسين (1304) (ابن
ضيعتها) من كلِّية العلوم، وألقت قصيدة
لمحمود درويش (1305). كانت جميلة، رغم قصر قامتها،
كما كان إلقاؤها جميلاً حين كان صوتها الدافئ
(كغناء حوريات عوليس) يردِّد: ...
أنا من قرية عزلاء منسية شوارعها
بلا أسماء و
كلُّ رجالها في الحقل والمحجر يحبون
الشيوعية... -
ففي حينه كان بدءُ تعرُّفنا
إلى أدب الرفاق العرب من "الأرض المحتلة":
محمود درويش (1306) وسميح القاسم
(1307) وتوفيق زيَّاد
(1308)...
ففُتِنْتُ بهذه الفتاة، وتعمَّدتُ، فركزت
على رؤيتها لبعض الوقت. ثم تجرأت ذات يوم،
فصارحتها بإعجابي الذي وجدتُه (بكل بساطة)
متبادَلاً. وكانت خطبتنا، رغم معارضة أهلها،
عامةً، ومعارضة شقيقها الذي كان يدرس في
تشيكوسلوفاكيا، خاصةً. وكانت هذه أول قصة
حبٍّ حقيقية أعيشها... "وكانت
قصة حبٍّ تعيسة...". -
ربما
لأنه لم يكن شيء مهيأ من جانبي في حينه لكي
أكون "خطيبًا " وفق المفهوم الكلاسيكي
للكلمة. كنتُ مجرد طالب هندسة مفلس يأخذ "خرجية"
من أهله؛ كنت مجرد وجه شيوعي شديد الحماس (أي
أبله أيضًا)، ميزته الوحيدة أنه ابن عائلة
معروفة ومثقف بعض الشيء – مما بهر الفتاة
لبعض الوقت؛ ثم، حين زال الانبهار وتوازنتْ
الأمور بعض الشيء، عادت المياه إلى مجاريها و... "انتهى
الحبُّ مع انقطاع المطر L’amour s’achève avec la pluie..." كما قال ذات يوم
أراغون. فأهلها كانوا معارضين لخطبتها "من
هذا الولد"؛ والفتاة كانت تتأثر نسبيًّا
بما كان يقول أهلها. وأخيرًا، لم يكن مفهومنا
عن الحب، ولا تعاملنا معه، واحدًا. فهي "ابنة
الريف المحافظة" كانت، بالنسبة لـ"ابن
المدينة المتحرر"، حبَّه الأول؛ بينما كنت
أنا، بالنسبة لها، حبَّها الثالث. ثم سرعان ما
اكتشفت أنها كانت تتبادل الإعجاب، قبل
تعرُّفها، إليَّ – ولم تزل – مع زميل (مسلم
متزمِّت) من صفِّها في الكلية، حرَّكتْه من
بعدُ خطوبتُنا، فعاد ليركِّز على استعادتها،
ونجح في ذلك. فانفرطتْ علاقتُنا بعد أشهر
قليلة من التعاسة المتبادلة. "لكن، كيف حدث هذا؟" -
يوم قررنا الافتراق وإنهاء
العلاقة أعادتْ لي خاتم الخطوبة، فأخذتُه
منها وودعتُها، مبتسمًا قدر المستطاع،
ومتمنيًا لها حظًّا سعيدًا، ثم اتجهت إلى
كلِّيتي. كنتُ ممزق القلب وتعيسًا إلى الحدِّ
الأقصى J’avais
la mort dans l’âme.
ولكن كبريائي كانت تقول إنه يجب ألا أُشعِر
أحدًا بألمي. ووجدتُ في الطريق شحاذًا
مسكينًا، فألقيت إليه بالخاتمين الذهبيين
لقصة حبي الأول والأفشل، وسارعتُ هاربًا لا
ألوي على شيء، لكيلا أرى كيف ستكون ردة فعله. "لعل
هذه المواقف هي أجمل ما لدى أمثالك: Votre
panache،
كما يقال بالفرنسية...". -
ربما. لكن تريَّث لتسمع باقي
القصة... حيث التقيت بعدئذٍ، عند البوابة
الرئيسية للجامعة، برفيق لنا من كلِّية الطب
اسمه ...... ، الذي لاحظت أن حالته كانت تفوقني
تعاسة؛ إذ بادرني بالسؤال قائلاً: -
كيف حالك يا أكرم (1309)؟ -
رائع
يا ...... . وأنت؟ - أنا تعيس الحال يا أكرم. كيف حال خطيبتك ...... ؟ -
...... جيدة. لقد
انتهت خطوبتنا منذ عشر دقائق. كيف حال ...... ؟ لم يدرك، على ما يبدو، ما
قلتُ بخصوص "خطيبتي"، لأنني، حين سألته
عن صديقته ...... ، ترقرقت عيناه بالدموع،
وأجابني وهو يكاد يبكي: -
تصور أنها تركتْني، رغم حبي
لها لتلحق هذا "البرجوازي الحقير" الذي
يضحك عليها... فأجبته
مبتسمًا، بهدف الرفع من معنوياته: -
ثم ماذا يا رفيق؟! [...] أمها!
ستجد مائة فتاة أفضل منها... لكن يبدو أني لم أصب
الهدف، لأنه انتفض في وجهي صائحًا: -
أنت حقًّا بلا قلب يا أكرم.
أنا أفهم لماذا لم تنجح في علاقتك مع ...... . وتمالكت
نفسي بصعوبة، وأجبته مبتسمًا: -
لقد أصبتَ لبَّ القضية يا
...... . وتركتُه
لتعاسته، واتجهت حاملاً وحدتي وتعاستي إلى
كلِّيتي، حيث كابرتُ طوال اليوم ولم أُشعِر
أحدًا بألمي. لكنني في الليل، حين اختليت إلى
نفسي، لست أدري تمامًا ما الذي أصابني وجعلني
أجهش في هستيريا من الضحك والبكاء معًا. آه،
كم تبدو الحياة سخيفةً في مثل تلك اللحظات! وكان في 31 تشرين الأول 1966
هجوم جريء لثوار الفييتكونغ الشيوعيين على
سايغون، عاصمة فيتنام الجنوبية. أما في 4 تشرين الثاني 1966
فكان التوقيع على معاهدة دفاعية بين سورية
ومصر. وحدث تصاعد في الضجيج الإعلامي حول العمل
الفدائي، عامةً، وحول منظمة "فتح"،
خاصةً. ووقع هجوم إسرائيلي على مواقع
الفدائيين في قرية السموع الأردنية. واتصل بي زميلي في الصف من
الكلِّية، الذي كان منتسبًا إلى فتح، الطالب
الفلسطيني الأردني، الناعم والمهذب جدًّا،
هيثم ...... (1310)، وقال لي: -
(1311)أريد منك خدمة صغيرة يا أكرم.
هل لديك بضعة أبيات شعر حماسية أستطيع أن
ألقيها اليوم في المهرجان الخطابي الذي
ستقيمه "المنظمة" على مدرج الجامعة؟ -
على رأسي يا هيثم! وكتبتُ له على قصاصة ورق
بضعة أبيات من إحدى القصائد التي كنت أحفظها
لمحمد مهدي الجواهري (1312)، وأعطيتُه إياها،
لافتًا نظره إلى أن... -
هذه
القصيدة لشاعر شيوعي عراقي. فقرأها
بانتباه، ثم ابتسم وقال لي: -
إنها رائعة! هذا بالضبط ما
كنت أبحث عنه. شكرًا لك! وفي
المساء، حين حضرتُ الحفل، شعرت ببعض الفخار
وأنا أتأمل هيثمًا يلقي، بكل حماس، من على
المنبر تلك الأبيات التي تقول:
وأتذكر كيف كان وضع الحزب
الشيوعي في الجامعة، عامةً، وفي الكليات
العلمية، وفي مقدِّمتها كلِّية الهندسة،
خاصةً، يتطور، متصاعدًا بشكل ملفت للانتباه.
وأفكر أن الأسباب لم تكن – قطعًا – خطَّ
الحزب "القويم" – ليس لأن خط الحزب لم
يكن قويمًا بالإجمال، كما أصبحت مقتنعًا
اليوم، ولكن لأنه، لو كان كذلك، لوجب أن يتطور
الحزب باطراد أيضًا في كلِّ أنحاء البلد –
وتلك لم تكن الحال عامةً. كما لم تكن الأسباب
تلك الأجواء الثورجية التي كانت تجتاح العالم
الثالث، عامةً، ومن بينها منطقتنا العربية؛
فهذه الأجواء، إن وُجِدَتْ نسبيًّا (وهي لم
تكن موجودة – شكرًا لله – في بلدنا)، فقد كان
يُفترَض أن تنعكس على جميع فصائل الشارع
السياسي، وليس على الشيوعيين حصرًا. ولكن
السبب الرئيسي لتطورنا في الجامعة آنذاك كان
تلك العلاقة الإنسانية التي نشأت فيما بيننا،
كطلاب، القائمة على المحبة والثقة المتبادلة.
هو ذلك الاحترام الناجم عن الصدق في القناعة
والإخلاص في الممارسة والتعامل مع الآخرين؛
مما ولَّد تلك المحبة والثقة وحافظ (إلى اليوم)
على تلك الصداقة. في
حينه كان نذير (1313) ومروان
(1314) قد ابتعدا عن قيادة
فرعية الجامعة: نذير، لأنه أصبح في السنة
الأخيرة طب، وكان عليه أن يهيِّئ لامتحانات
تخرجه؛ ومروان، لأنه كان بدأ يتهيأ للسفر من
أجل معاودة الدراسة في تشيكوسلوفاكيا. وأصبحت
فرعيةُ الجامعة للحزب الشيوعي تتكون من عطية (1315)
الذي كان سكرتيرها ومسئولاً عن بعض الكلِّيات
الأدبية والطب والعلوم، ومنِّي (1316) كمسئول عن
كلِّيات الهندسة، ومن ذلك الطالب الحلبي
الحادِّ الطباع من كلِّية الأدب الإنكليزي
الذي كان اسمه مروان (1317)، وكان مسئولاً عن
كلِّيتيْ الأدب الفرنسي والإنكليزي، وأضحى
من أصدقائي. وكان يتناوب على قيادة فرعيتنا من
منطقية دمشق كلٌّ من مراد يوسف (1318)
سكرتير المنطقية (وهو شركسي)، وفايز جلاحج (1319)(أبو
جورج)، عضو المنطقية (أيضًا شركسي)، يعقوب كرو
(1320)(أبو هلا)، عضو المنطقية من الجزيرة (مسيحي
سرياني)، يوسف نمر (1321)(أبو سعيد)، أيضًا عضو
المنطقية من القصاع (مسيحي أرثوذكسي)، وعبد
الوهاب رشواني (1322)(أيضًا أبو سعيد)، من حيِّ
الأكراد (كردي طبعًا). وكان هؤلاء، الذين ترك
بعضهم لدي انطباعًا مقبولاً، وترك بعضهم
الآخر انطباعًا أقل جودة، يحضرون عمومًا، على
التناوب، اجتماعات فرعيتنا؛ كما كانوا
يحضرون أحيانًا معنا اجتماعات حلقات الكادر
المتوسط لقيادة العمل في الجامعة، الذين أذكر
منهم، وكانوا أصدقائي: سمير شاليش (1323) وبسام نصري
(1324)
من كلِّيتي، محمد ...... (1325) من كلية الفنون، ساسين
...... (1326) من كلِّية العلوم، ندرة ......
(1327) وجمعة ......
(1328) من
كلية الأدب العربي، والأخ الحبيب توفيق البطل
(1329)
من كلِّية الطب. فعبر هؤلاء الرفاق (الطيبين
عمومًا)، كان يُقاد العمل الحزبي والشبابي
والاتحادي للحزب الشيوعي في جامعة دمشق في
تلك الأيام، وخاصة في كلِّيتيْ الهندسة
المدنية والعمارة، حيث كان بوسعنا اكتساح
القائمة الطلابية للاتحاد الوطني بمفردنا. وكان
هذا بعض ما حصل في مطلع عام 1967 في انتخابات
اللجنة الإدارية للاتحاد. فقد كنَّا نفاوض
البعثيين حول قائمة موحَّدة تم فيها الاتفاق،
من دون أية صعوبة، على ثلاثة: البعثي (في حينه)
راتب رزوق (1330)(وهو إسماعيلي من صفِّي)، وخلدون
...... (1331) (الناصري، وكان من أصدقائي)، وأنا
(1332) كشيوعي.
لكن الاتفاق لم يكن سهلاً بالنسبة للعضوين
المتبقيين كي تكتمل اللجنة، حيث اتفقت مع
مفاوضي البعثي على أن يكونوا من "الحياديين"
– وكنت أتفاوض يومئذٍ مع الطالب البعثي (المخضرم
جامعيًّا) من كلِّيتنا، من صفي (ومن دير الزور)،
يحيى الخير (1333) . كان هذا الأخير يتقدم بأسماء من
يقترح من حياديين مفترَضين للَّجنة، وكنت
أرفضهم لمعرفتي أنهم كانوا أقرب إلى البعث،
وبالتالي ليسوا حياديين؛ حتى كان أن اقترح في
النهاية أسماء اثنين من "الحياديين"
الذين كانوا من "أصدقائنا"، فقبلت بهم
بعد تشكُّك أمام إصراره. وجاءت اللجنة التي
انتُخِبَتْ لذاك العام (1967-1968) لصالحي: أربعة
– واحد! ثم كانت انتخابات كلية
الفنون التي قُدْتُها بنجاح أقل، حيث أدى خطأ
ترشيح اثنين من "أصدقائنا" بشكل
اعتباطي، وما نجم عنه من تضارب في الأصوات،
إلى سقوط الاثنين معًا وحصول البعث على مقعد
إضافي على حسابنا في لجنتها الإدارية. "... هل تذكر كيف بكى يومها
محمد ...... (1334) نتيجة تأنيبك القاسي إياه بسبب ما
حصل وأدَّى إلى فقداننا مقعدًا في اللجنة
الإدارية لكلية الفنون؟" -
وكيف احتضنتُه حين انفجر
باكيًا وقلتُ له: "ولا يهمك يا محمد! خيرها
بغيرها...". "وكيف
انسحبتْ خطيبتُك السابقة من الانتخابات، فلم
تشارك في الاقتراع، لأن صديقها الجديد لم
يأذن لها بذلك...". -
كنت ما زلت، حتى تاريخه،
أبادلها السلام، رغم ما جرى بيننا. ولكن، بعد
هذه الانتخابات، أقلعت عن هذا. "لماذا؟" -
لست أدري لماذا. أفكر اليوم
أني ربما كنت قاسيًا بعض الشيء في تقويمها
آنذاك. ولكن، في ذلك اليوم بالذات، بدت لي "صغيرة
جدًّا" من خلال ما تلمَّستُه من سلوكها "الذليل"
تجاه رفيقها الجديد، مقارنةً بسلوكها السابق
معي. على كلِّ حال، أنا لم أرها منذ ذلك الحين،
إلى حدِّ أني لا أذكر اليوم حتى معالم وجهها. وكان
تصاعد للأجواء في المنطقة بدءًا من أوائل
أيار 1967. فكانت تهديدات إسرائيلية
لسورية، وتأكيدات سوفييتية تستنكر بشدة
الحشود الإسرائيلية على الحدود السورية،
وتحذِّر من قرب شنِّ هجوم إسرائيلي كاسح على
دمشق. وكان طلبٌ من جانب عبد الناصر (1335) بسحب قوات
الأمم المتحدة من مواقعها الفاصلة بين مصر
وإسرائيل، والاستجابة الفورية لهذا الطلب،
ودخول القوات المصرية إلى سيناء، وإقفال خليج
العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية. وكان مقال في منتهى السطحية
لهيكل (1336) مضمونه أن لا خيار أمام إسرائيل سوى
التراجع، مما يعني خسارته أو الحرب، وبالتالي
أيضًا خسارته، وفي كلتا الحالتين بداية
نهايته. كما كانت محاولات
دولية لاحتواء المشكلة سياسيًّا، لكنها لم
تؤدِّ إلى أية نتيجة. فالسيف كان سبق العذل،
وإسرائيل ما كان ليفوِّت مناسبة كهذه ليضرب
ضربته. وكان
الخامس من حزيران 1967... كنت
في صباح ذلك اليوم (الخامس من حزيران 1967) في
طريقي إلى الكلِّية، حين فوجئت ببيانات
إذاعتنا تعلن للملأ نشوب الحرب، والهجوم
الإسرائيلي على مصر، وردَّ مصر "الناجح"
على العدوان الإسرائيلي "الغادر".
فسارعت راكضًا إلى الجامعة التي وجدتُ
مجتمعين في ساحتها الرئيسية من هبَّ ودبَّ من
الطلاب الذين كانوا يهتفون مهلِّلين
للبيانات التي كانت تذيع معلنةً إسقاط مصر
"للعشرات والعشرات" من الطائرات
الإسرائيلية المعتدية. فالتقيت هناك بغالبية
رفاقنا الذين سارعوا مثلي إلى الحضور بهدف
التطوع والمساهمة قدر المستطاع في ردِّ
العدوان الإسرائيلي الذي سيطالنا حتمًا. وبوشر
عند الظهر بتسجيل أسماء المتطوعين من الطلاب
الجامعيين، فسجَّلنا أسماءنا. ثم طلبوا منَّا
البقاء في أماكننا ريثما يتم توزيع السلاح
وفرزنا إلى حيث يُفترَض أن نوجد. وطال بنا
الانتظار؛ فخطفتُ نفسي إلى المنزل، حيث أخذتُ
بعض الثياب الداخلية والراديو الترانزيستور
الصغير الذي كان والدي قد اشتراه من لبنان
مؤخَّرًا (والذي كان اقتناؤه في البلد
محظورًا في حينه)، وسارعت مغادرًا حتى لا
تتغلب عليَّ العواطف بعد أن أخبرت أهلي ألا
يقلقوا لأني لن أعود قبل انقضاء بعض الوقت.
فتمنَّى والدي (1337) لي التوفيق، ودعاني إلى الحرص،
بينما أجهشت أمي (1338) بالبكاء. عدتُ
إلى الجامعة لأجد أن الأوضاع مازالت على
حالها. فقد كان الجميع (تقريبًا) في حال من
الهستيريا الجماعية التي كانت تصعِّدها
بياناتُنا الصاخبة. وكان الطلاب البعثيون
يهلِّلون خاصةً لرفيقتهم المذيعة (لم أعد
أذكر اسمها؛ ربما كانت حميدة نعنع (1339) لكني لست
متأكدًا) التي كان صوتها الـsexy يلعلع، داعيًا إلى
التخلص نهائيًّا، وبلا رحمة، من "الأعداء":
"أقتلهم يا أخي! اذبحهم يا أخي! اذبحهم من
الوريد إلى الوريد يا أخي!" هكذا كانت تصيح في هستيريا،
وكان الطلاب يصفقون. ولكن سرعان ما وجدتُ نفسي
لا أصفِّق معهم، لأني كنت بدأت أشعر بغُصَّة
في قلبي تقول إن هناك شيئًا ما خطأ فيما كان
يجري. ومع غياب الشمس وزَّعوا علينا السلاح؛
وكان سلاحي الذي حصَّلتُه، وكذلك معظم
زملائي، بندقية فرنسية الصنع قديمة (طراز 1936)
وعشر طلقات. ثم
جرى فرزُنا إلى زمر من عشرة أشخاص؛ وكان
المكان الذي فُرِزْتُ إليه وزمرتي وبعض الزمر
الطلابية الأخرى هو المبنى الرئيسي للهاتف
الآلي الواقع في أول شارع النصر. وكان المسئول
عن مجموعتنا المكلفة (كما أفهمونا) بالدفاع عن
هذا المبنى الهام هو ضابط أمني (تافه جدًّا) من
عربستان إيران، الذي وزعنا في أماكن متفرقة
حول البناء. وكان معي، في المكان الذي حُدِّدَ
لي، عند البوابة الجانبية للبناء، رفيقي بسام. وجلسنا على الأرض معًا،
بسام (1340) وأنا
(1341)؛ وكنَّا بدأنا نشعر ببعض التعب،
مما جعل بسام يسترخي محاولاً النوم، جالسًا
ومستندًا إلى الجدار. أما أنا فقد أخرجت فورًا
من جيبي الراديو الترانزيستور الصغير ووضعت
سماعتَه في أذني، وبتُّ أتنقل ما بين المحطات
محاولاً تلمُّس حقيقة الأوضاع. وكانت المفاجأة المذهلة الأولى تقول،
عبر جميع وكالات الأنباء العالمية، أننا
خسرنا الحرب منذ ساعات الصباح الأولى، حيث تم
تدمير معظم الطائرات المصرية في مواقعها على
الأرض، وأن القوات الإسرائيلية احتلت، مع
حلول مساء ذلك اليوم الأول، معظم سيناء... -
بسام... بسام... استيقظ واستمع! واستيقظ
بسام (1342)، واستمع معي بصمت إلى ما كان يذاع،
فاكفهرَّ وجهُه، وقال بصوت منخفض، وكأنه كان
يخاطب نفسه: -
يجب أن لا نتحدث بهذه
الأخبار إلى أحد! فوافقتُه،
وأغلقنا المذياع، وغاب كلٌّ منَّا سارحًا في
ليل كوابيسه. مع حلول مساء اليوم الثاني من الحرب كانت
القوات الإسرائيلية قد بلغت الضفة الشرقية
لقنال السويس، وكان وزير الدفاع الإسرائيلي (آنذاك)
موشي ديان (1343) يصلِّي عند حائط المبكى في القدس
القديمة التي تم احتلالها وكامل الضفة
الغربية. "كانت إذاعة إسرائيل
تذيع، احتفالاً بذلك، أغنية عبرية هي "أورشليم
الذهبية"...". "إلهي كم هم بارعون في
الدعاية لأنفسهم، وكم نحن أغبياء في الدعاية
لأنفسنا!" "نحن
كنَّا ننهزم أشنع هزيمة وننشد أن "فن الحرب
إحنا خلقناه"! بينما هم، البادئون بالحرب،
كانوا يتحدثون عن السلام!" ثم حين صارت أنباء الهزيمة
شبه معلومة من الجميع، كان خطاب الرئيس جمال
عبد الناصر (1344) الذي أعلن فيه مسئوليته عمَّا جرى
واستقالته من جميع مناصبه. وأجهش (صديقي الناصري)
خلدون (1345)، الذي كان جالسًا معنا، بالبكاء وصرخ: -
لقد انتهى كل شيء! لقد انتهى
كل شيء! ثم ألقى ببندقيته
أرضًا، وخرج من الغرفة حيث كنَّا، راكضًا وهو
يبكي. فلحقت به خارج الغرفة وأمسكت به. -
اهدأ يا خلدون! هذا لا يجوز.
لا يحقُّ لك هذا. لم ينتهِ شيء بعد... وعاد
معي، وهو في حال ذهول إلى الغرفة حيث كان
الجميع يبكي. وفتح أحدنا المذياع خطأً،
فالتقط إذاعة إسرائيل التي أعلنتْ نبأ
استقالة الرئيس عبد الناصر (1346) مباشرة، ثم تلتْه
بأغنية تنمُّ عن منتهى الشماتة والاحتقار.
كانت الأغنية هي طقطوقة صباح "أبو سمرا
زعلان"! فصرخ خلدون (1347) بالحضور: -
أغلقوا هذه الإذاعة، أرجوكم! فسارعنا
إلى إغلاقها مباشرة، وقد تملَّكنا الخجل.
واستمر خلدون في البكاء... ثم كان إعلان عبد الناصر (1348) بعد ساعات
العودة عن استقالته، نزولاً عند الإرادة
الشعبية التي فرضت عليه البقاء – مما أعاد
لبعض الوقت شيئًا من الابتسامة الحزينة إلى
الشفاه، وساد، لبعض الوقت أيضًا، عبر الألم
الذي كان يعتصرنا، بعضُ الشعور بالأمل. ثم كان اليوم السادس من الحرب والإعلان،
من إذاعة دمشق، عن سقوط القنيطرة (قبل سقوطها)؛
وكان احتلال إسرائيل لمرتفعات الجولان
وللقنيطرة، من دون أية مقاومة تُذكَر. ثم كان
الإعلان عن وقف إطلاق النار على جميع
الجبهات، بناءً على قرار من الأمم المتحدة،
ونتيجة للتدخل الحاسم للسوفييت (كما أخبرنا
الرفاق). كانت المشاهد التي
عاينَّاها في هذين اليومين الأخيرين، من
موقعنا في "الهاتف الآلي"، محزنةً جدًّا.
فقد كانت الشوارع حولنا شبه فارغة من المارة.
ولكن من جهة حيِّ الميدان، عبر شارع النصر
خاصةً، بدأ يتدفق إلى المدينة بلا انقطاع
سيلُ جنودنا العائدين من الجبهة. كانوا
يسيرون ببطء شديد من شدة الإعياء، وقد قطعوا،
في غالبيتهم على ما يبدو، كامل المسافة بين
الجبهة ودمشق سيرًا على الأقدام. لم يكن بينهم
ضباط من حيث الظاهر؛ فهؤلاء، على ما يبدو،
كانوا قد اختلطوا بجنودهم. وكان بعضهم بلا
أيِّ سلاح؛ بينما كان البعض الآخر يحمل
سلاحه، وسلاح سواه الذي انتشله ملقى على
قارعة الطريق. أما في اليوم السابع فقد
صُرِفنا إلى منازلنا بعد أن استعادوا منَّا
سلاحنا الذي لم نطلق منه طلقة واحدة! اتجهتُ
(1349)
متدرِّجًا نحو منزلي، وكان معي رفيقي سمير (1350). لم
نكن نشعر بأية رغبة في الكلام. فقط كنَّا ننظر
بذهول إلى ما حولنا من مظاهر الحياة العادية
التي سرعان ما عادت لتسود شوارع دمشق، وكأن
شيئًا لم يكن! *** |
|
|