|
ذاكرة الباطن
أكرم
أنطاكي
الفصل
السادس
سنوات الصخب... (1963-1966) آ
الجامعة،
الرفاق والآخرون (1)...
طائر
الليل:
هل ما زلت تذكر "قطعة
شمس" وأبياتاً جميلةً تغني بألم... / آه يا ناراً من
العشب الطري والقلوب القاسية... كان
الوقت بعد ظهر عشية رأس السنة الجديدة، وكنت
مدعواً في تلك الليلة الأخيرة من عام 1963 إلى
السهرة في منزل كميل، عندما تلقيت هاتفاً
مفاجئاً وطريفاً. فالفتاة التي اتَّصلت بي
يومئذٍ كانت جميلة جداً، مغرية جداً، ومن
مدرسة بنات العازرية. كان اسمها ......، وكانت
ابنة زوجة ...... (الذي كان مسلماً متنصِّراً
ومتزوجاً من امرأة أرمنية مسيحية). كانت
علاقتنا تقتصر، بحكم معرفتي بزوج أمِّها الذي
كان أستاذاً في مدرستي، على تبادل الابتسامات
والسلام المهذب. -
أنا آسفة
لاتصالي بك يا أكرم (997)، ولكني أواجه مشكلة. دعاني
صديقك ...... إلى حفلتكم الليلة، وأرغب في
الحضور؛ ولكن زوج ماما لا يوافق على ذهابي معه.
ولما كنت أنت من أكثر الشباب الذين يحبهم ويثق
بهم لِمَ لا تدعوني أنت إلى الحفلة؟ ضحكتُ،
ثم استفسرتُ منها عن وجود الأستاذ في المنزل؛
وحين أجابتني بالإيجاب قلت لها: -
لا بأس،
سأحضر إلى عندكم بعد ساعة لأدعوك. وكان
هذا ما حصل: دعوتُها، وإن حضرت الحفل مع ......،
الذي تركتْه (بشكل مُخْزٍ) لترقص معي طوال
الوقت في محاولة ساذجة لإفهامي أنه من الممكن
أن تنشأ بيننا قصة حب جميلة! ولكن الألوهة،
مقرونةً ببلاهتي، شاءت ألا يكون الحبُّ هو
شاغلي في تلك الأيام التي... كان
وضعي في أثنائها كـ"جائع وقع على سلَّة تين"،
لفرط ما أصبحتُ معجباً وغارقاً في الجو
الجديد الذي سحرني وأحاطني معاً. كانت فرقتي
الحزبية الأولى، التي كان مسؤولها نذير (998)،
تتألف منِّي ومن جعفر (999) ...... (العزيز مروان) الذي
كان أيضاً طالباً في كلِّية الهندسة المدنية،
ولكنه كان يتقدمني صفاً. وقد تبين لي، منذ
البداية، أن نذير ومروان كانا على معرفة
قديمة واحدهما بالآخر تعود إلى أيام الثانوي
والوحدة، حين تم اعتقالهما، وقضيا معاً بضعة
شهور في السجن... كان
نذير (1000) في حينه طالباً مجداً، حاد الذكاء، هادئ
الطباع، ذا قسط لا بأس به من الثقافة. أما
مروان (1001)، الذي لم يكن يقل عنه ثقافة، فكان يمتاز
بطبعه الحالم وإنسانيته المتدفقة، الأمر
الذي خلق بيني وبينه علاقة صداقة أكثر تميزاً.
وكنَّا نجتمع مرة كل أسبوع في منزل نذير، الذي
كان يقدم لنا الشاي قبل بدء الاجتماع، أو – إن
كان اجتماعنا صباحياً – يدعونا إلى مشاركته
الفطور. ثم نبدأ جدول أعمالنا الذي كانت طقوسه
ثابتةً لا تتغير، ويتضمن ثلاثة بنود أساسية
هي التنظيم والحديث السياسي والحديث الثقافي:
أما التنظيم فكان استعراضاً ونقاشاً لأوضاع
مَن حولنا من أصدقاء فعليين و/أو محتملين
للحزب؛ بينما كان الحديث السياسي هو ما يصلنا
من خط الحزب الذي وضعتْه قيادتُه (التي على
رأسها طبعاً الرفيق خالد)، ويتضمن تقويماً
للأوضاع العامة في البلد وفي المنطقة وفي
العالم؛ أما الحديث الثقافي فكان موضوعاً
ماركسياً يُكلَّف أحدنا بتحضيره. وكانت أولى
المواضيع التي بدأنا بحثها في الفرقة هي "الفلسفة
الماركسية". ولم
يمضِ بعض وقت إلا وتعرفت، عن طريق صديقيَّ
الجديدين نذير ومروان، وأيضاً عن طريق فاروق (1002)
الذي كان من المجموعة نفسها، إلى شلَّة من
المثقفين الماركسيين وعشاق الموسيقى
الكلاسيكية كانت تسمي نفسها "الكهف"،
نسبة إلى قبو قديم كانوا يجتمعون فيه سراً
لسماع الموسيقى (أيام المدرسة وفي عهد الوحدة).
وكانت هذه الشلَّة تتألف، إضافة إلى من ذكرت،
من: محمد ...... (1003) الذي كان حاد الذكاء وصاحب نكتة
لاذعة، وكان، على ما قيل لي، صديقاً للحزب
وعازف فيولونسيل محترف يقطن مع عائلته في بيت
عربي متواضع صغير يقع في الحي القديم الواقع
ما بين الشيخ محيي الدين والجسر الأبيض؛ وعدي
(1004)
...... الذي كان يتميز بنعومته وكسله المريع،
وكان رفيقاً أردنياً وطالباً في كلِّية
الحقوق يقطن في حينه مع عائلته في قبو متواضع
من حيِّ المزرعة؛ و(المرحوم) مجيب ......، (1005) المهذب
والأرستقراطي، بحكم كونه ابن أسرة دمشقية
غنية ومعروفة، الذي كان محباً للفن، وصديقاً
للحزب، وطالباً في كلية التجارة، ويسكن في
منزل عربي كبير يقع في حي المهاجرين؛ وحسن ......
(1006)
(الفلسطيني) الذي كان جلفاً واستفزازياً من
حيث مظهره الخارجي، وكان في حينه طالباً في
كلِّية الحقوق، وكان يقطن آنذاك قرب منزل
محمد. وكان هؤلاء، الذين سرعان ما انضممتُ
إليهم وأضحوا شلَّتي الجديدة، يجتمعون خلال
أوقات فراغهم كلَّ بضعة أيام (مرتين في
الأسبوع، على ما أذكر)، غالباً في منزل محمد
وأحياناً في منزل مجيب، لسماع الموسيقى
الكلاسيكية التي أصبحتُ من محبيها، و/أو
لتعاطي الخمرة والنقاش في موضوع ما، أدبي أو
فلسفي أو سياسي... وعن
طريق هؤلاء الأصدقاء الجُدُد تعرفت إلى آخرين
من الوسط الدمشقي الماركسي والمثقف: كممتاز
...... (1007) الذي كان في حينه طالباً في كلية الفنون
الجميلة، وزوجته فردوس (1008) (التي كانت أيضاً
قريبته)، الطالبة في كلية الفلسفة، واستمعت
بإعجاب إلى ما نُقِلَ إليَّ حولهما آنذاك،
ومفاده أن "... ممتازاً كان من أحضر لنا
الجنازير الحديدية التي استعملناها لمقاتلة
البعثيين والناصريين في تلك المعركة
الطلابية الشهيرة التي وقعت في الجامعة أيام
الانفصال وخسرناها مع الأسف..."، كما كان من
الذين سُجِنوا بعض الوقت في أيام الوحدة، كما
سُجِنَتْ لمدة شهر أيضاً في حينه قريبتُه
فردوس؛ كما تعرفت، من خلال الأجواء نفسها،
إلى طالبة حقوق لطيفة كانت تدعى هيام ......، (1009)
وإلى ذلك التاجر الغني الطيب، صديق الحزب،
الذي كان خالها، وكان الرفاق يستغلون طيبته؛
كما تعرفت إلى غيرهم ممَّن لا أجد داعياً
لذكره... وأيضاً... بدأ
وسطي الجامعي الجديد يتكون في كلِّية الهندسة
المدنية التي كان دوامي فيها خلال السنة
الإعدادية شبه منتظم. لم يكن البناء الرئيسي
للكلِّية مكتملاً في حينه؛ لذلك كانت دروسنا
تتم فيما أضحى اليوم بناء المخابر، الذي كان
يقع بين البناء الحالي للكلِّية وبيت الدعارة
(الحكومي) لعموم دمشق، مقابل مبنى الجمارك.
كان عميد كلِّيتنا في حينه، وأستاذنا
للفيزياء في نفس الوقت، هو الدكتور عبد
الرزاق قدورة (1010)، الذي كان، من حيث توجُّهه
العام، مستقل الفكر، يساري الميول؛ كما كان
أفضل أساتذتنا لهذا العام، في مختلف فروع
الرياضيات، السيدان الأستاذان دعبول (1011) وسودان
(1012)
اللذين كانا أقرب توجُّهاً إلى الإخوان
المسلمين، والأستاذ وجيه قدسي (1013) الذي كان
مستقلاً، ليبرالي التفكير... وسرعان
ما انقطعتُ عن شلَّتي المدرسية القديمة التي
كانت قد تشتَّتت بعض الشيء. فقد انتسب ابن عمي
كريم (1014) ونواف نصير
(1015) إلى كلِّية الطب، بينما سافر
وسيم عبد الله (1016)؛ أما كميل
(1017) فقد التحق مثلي
بكلِّية الهندسة، التي التحق بها أيضاً
العديد من طلاب صفي في العازرية، كمروان عبد
النور (1018) واسكندر سيوفي
(1019) إلخ. وكانت مشاغلي "النضالية"
الجديدة هي السبب الرئيسي لابتعادي عن شلَّة
العازرية التي جعلتني أيضاً أتوقف تماماً عن
لعب الميسر، كمضيعة للوقت لا تليق بمناضل من
أجل "قضية الطبقة العاملة"! تلك المشاغل
لم تكن خافية عن أهلي الذين كانت أحوالهم
المادية قد تحسنت بعض الشيء؛ فسارعوا، ربما
لإبعادي عنها، وبمساعدة عمي جورج (1020)، إلى شراء
سيارة فرنسية حديثة وصغيرة من نوع رينو، أضحت
أول سيارة أقودها، وأصبحت أستعملها كتاكسي
لصالح الحزب الذي كنت أنقل مطبوعاته أحياناً،
وأحياناً أخرى أنقل بعض قادته (نصف المتخفين)
من مكان لآخر. وكان من بين هؤلاء: السيد مراد
يوسف (أبو سامي) (1021)، سكرتير منطقية دمشق آنذاك. كانت
قيادتي للسيارة متهورة بعض الشيء، الأمر الذي
جعلني أتعرَّض لبعض الحوادث التي كان آخرها
صَدْمي طفلاً كان يعبر الشارع مسرعاً؛ ولكن
الحادثة – شكراً لله – مرَّت بسلام، فلم
يُصَب الطفل، الذي سارعت إلى نقله إلى
المشفى، بأذى يُذكَر. فقط قضيت بسبب هذه
الحادثة ليلةً في نظارة "الشيخ حسن"؛
وكان من نتائجها السلبية بالنسبة لي أن باع
والدي السيارة التي لم أثبت، من وجهة نظره،
جدارتي بقيادتها! ثم
اشترى أبي (1022) وعمي جورج
(1023) منزلاً صيفياً صغيراً
لنا في بلدة الزبداني؛ وكان سعر هذا المنزل،
على ما أذكر، 10000 ليرة سورية (أي ما يعادل الـ4000
دولار آنذاك). أما ثمن سيارة كالتي اشتريناها
بالتقسيط فكان 4500 ليرة سورية (حوالى 1900 دولار)؛
فالأسعار كانت معقولة نسبياً في سوريا تلك
الأيام، حين كان راتب والدي لا يتعدى الـ600
ليرة سورية شهرياً، بينما كان راتب عمي جورج،
الذي كان يتعاطى أيضاً التأليف الحقوقي
ويشاركنا مصروف المنزل، حوالى الـ800 ليرة
سورية، وكان ما آخذه من أهلي كمصروف جيب هو 10
ليرات أسبوعياً. وأيضاً... لم
تكن مشاغلي "النضالية" آنذاك، على ما
يبدو، خافية عن مدير مدرستي السابقة، الأب
الحبيب يوسف عطا الله (1024)، الذي استدعاني ذات
يوم ليعرض عليَّ وظيفة أستاذ رياضيات لطلاب
الصف السادس – وكان أول عمل أمارسه. قبلت،
لكني لم أستمر فيه طويلاً، حيث تركتُه بعد شهر
لنفس تلك المبررات النضالية التي باتت تستحوذ
على جلِّ نشاطي... كان
الحزب الشيوعي السوري يعيش أجواءً نصف سرية؛
كانت قيادته شبه متخفية، كما كان بعض
كادراته، الذين تجاوزوا في نشاطهم حداً
معيناً، معتقلاً. ولكن، بشكل عام، لم يكن يجري
التعرض لمعظم أعضائه وأصدقائه الذين بقوا
يعيشون حياتهم العادية. فالبعث، الذي أضحى
معزولاً تماماً على صعيد البلد وأضحى، بعد
صدامه مع القاهرة وأنصارها، انفصالياً
كالآخرين، كان بدأ التفكير بحلفاء جدد، وكانت
القيادات البعثية والشيوعية أقامت منذ ذلك
الحين، على ما يبدو، صلات (حواراً) فيما بينها... "...
في تلك الأيام [والكلام لممتاز (1025)] اعتُقِلتُ مع
بعض الآخرين وبقيت في السجن حوالى الشهر؛
لكنه لم يكن يجري التعرض لنا عموماً، وكان هذا
من دواعي استغرابي. وفي أحد الأيام، زارنا
أمين الحافظ (1026) – وكان في حينه وزيراً للداخلية
– فتحدث معنا بلطف، وأفهمَنا أن وجودنا هنا [في
السجن] مؤقت، وأنه احترازي فقط..." وكان
في أوائل تشرين الأول 1963 انعقاد المؤتمر
القومي السادس لحزب البعث العربي الاشتراكي،
الحاكم في كلٍّ من سوريا والعراق، الذي عكس،
من خلال مقرراته وتركيب القيادة التي تمخَّضت
عنه، وجود صراع بين قادته التاريخيين: أي
ميشيل عفلق (1027) وصلاح الدين البيطار
(1028) وجماعتهما،
من جهة، وبين من سُمُّوا آنذاك بـ"اليساريين"
الذين كانوا (في سوريا على الأقل وفي تلك
الأيام تحديداً) مدعومين من العسكر، من جهة
أخرى. فكان سقوط السيد صلاح الدين البيطار (1029) في
انتخابات القيادة القومية للحزب – تلك
القيادة التي كان السوريون فيها هم السادة:
ميشيل عفلق (1030)(الأمين العام، مدني، مسيحي
أرثوذكسي)، الفريق أمين الحافظ (1031)(عسكري، مسلم
سني من حلب)، اللواء صلاح جديد (1032)(عسكري، علوي)،
حمود الشوفي (1033)(مدني، أستاذ لغة عربية من جبل
الدروز)... ونتيجة
لهذا المؤتمر استقالت حكومة السيد صلاح
البيطار (1034)وتشكلت (في 11 تشرين الثاني 1963) حكومة
بعثية جديدة برئاسة اللواء أمين الحافظ (1035)، كان
اللواء محمد عمران (1036) فيها نائباً لرئيس الوزراء... "في
حينه [والحديث هنا للأستاذ يوسف خبّاز (1037) وهو قريب
لشارل (1038)، من أوائل البعثيين – وكان آنذاك
وزيراً] كنت مكلفاً من الحكومة بمفاوضة السيد
خالد العظم (1039)، الذي كان لاجئاً في السفارة
التركية، حول شروط انتقاله إلى بيروت، عندما
استوقفني هذا الأخير قائلاً: -
أصلحكم
الله يا يوسف (1040)! أنتم لا تعون بعدُ ما فعلتم. على
كل حال، تذكَّرْ ما أقوله لك: خلال أقل من عام
ستلحقون بي إلى خارج الوطن! ووقع
في 18 تشرين الثاني 1963 انقلاب عسكري بقيادة
المشير عبد السلام عارف (1041) أطاح بحكم البعث
العراقي وأقام بدلاً عنه وضعاً أكثر اعتدالاً
كان، من حيث توجُّهاته العامة، أقرب إلى الخط
(الإسلامي) الناصري. وكان
تفاقمٌ للأوضاع في المنطقة العربية بسبب (ما
سبق وأشرنا إليه في الفصل السابق) من إقدام
إسرائيل على تحويل مجرى الأردن، من جهة،
والعجز العربي عن التصدي له، من جهة أخرى... ففي
تلك الأيام كان مجرد التفكير بأيِّ حلٍّ
سياسي مع تلك الدولة (المزعومة) غير وارد.
ولكن، لما كان الحلُّ العسكري يفوق – كالعادة
– طاقة مجمل الدول العربية المحيطة بها، فقد
أصبحت المزاودة والجملة الثورية الجوفاء،
الداعية إلى تحرير كامل تراب الفلسطيني وإلى
إزالة إسرائيل، هي السائدة لغايات الاستهلاك
المحلي... وإسرائيل
كان بدأ يحقق، منذ تلك الأيام، نجاحات هامة،
في سعيه الحثيث للمزيد من التقارب مع القوة
الغربية العظمى، وأقصد الولايات المتحدة،
التي كانت زادت من تورطها في الحرب
الفييتنامية، من جهة، ووافق رئيسها جون كيندي
(1042)
على بيع فائض قمحها الرأسمالي إلى روسيا
الاشتراكية (التي بدأ يتضح أنها كانت تعاني من
مصاعب زراعية جدية)، من جهة أخرى – ذلك الرئيس
الذي نقلت وسائل الإعلام المرئية، إلى العالم
المذهول، الشريط الحيَّ لعملية اغتياله
المروِّع في 22 تشرين الأول 1963... ذلك
الاغتيال الذي ما جاء إلا ليؤكِّد لي
ولأصدقائي آنذاك مدى عمق أزمة تلك الدولة
التي كانت تمثل بالنسبة لنا العدو الأكبر.
أليست هي رأس حربة ذلك العالم الرأسمالي
الجشع، المسؤول عن كلِّ ما حلَّ ويحلُّ
بعالمنا من مصائب؟! وكان
فاروق (1043) قد أصدر ديوانه الشعري (الوحيد حتى
تاريخه) قطعة شمس الذي أهداني نسخة منه،
كما كان مازال مزوِّدي الرئيسي بالكتب
والأدبيات، الماركسية وغير الماركسية؛ وكان
من بين تلك الأدبيات التي أطلعني عليها آنذاك
دواوين الشاعرين العراقيين الكبيرين محمد
مهدي الجواهري (1044) وبدر شاكر السياب
(1045) اللذين كانا
ذات يوم أصدقاء للشيوعيين. وكان
ذلك اليوم الممطر حين التقينا بعد تواعد،
فاروق (1046) وعدي
(1047) وأنا
(1048)، حين بدء فاروق ينشد لنا،
ونحن نسير تحت المطر، تلك القصيدة الأجمل من
الأيام الشيوعية للسياب، تقول: مطر... مطر... مطر... أتعلمينَ أيَّ حزنٍ
يبعثُ المطر... وكيف تنشجُ
المزاريبُ إذا انهمر... وكيفَ يشعرُ الوحيدُ
فيهِ بالضياعِ... بلا انتهاءِ... كالدمِ المراق...
كالجياع... كالحبِّ، كالأطفالِ،
كالموتى... هو المطر... وعيناكِ بي تطوفانِ
معَ المطر... والعينان
الجميلتان الحزينتان لتلك التي لم نكن قد
التقينا بها بعدُ كانتا تطوفان بنا مع المطر
الذي كان أغرقنا ونحن في منتهى سعادتنا
الساذجة – حتى كان وصولُنا إلى منزل محمد،
حيث كان الدفء والشاي الساخن بانتظارنا. "كان
صديقك فاروق (1049) في حينه قد بلغ العشرين ربيعاً؛
وكذلك كان سنُّك تقريباً، وسنُّ أصدقائك..." -
كنتُ
آنذاك في سنِّ التاسعة عشرة، ولم أكُ عشت بعدُ
أية قصة حبٍّ حقيقية... وشباب
تلك الأيام، كشباب اليوم، كان يحلم بحياة
غنية عموماً، وبقصة حبٍّ صادقة. ولكن المدينة
لم تكن يوماً لتعبأ بأحلام أبنائها... وانتسبت
أيضاً إكرام (1050)، وكانت طالبة في الصف الحادي عشر
في مدرسة الفرانسيسكان، إلى الحزب الشيوعي؛
وكانت مسؤولتها الأولى (على ما أذكر) طالبة
جامعية (من جبال العلويين)، لطيفة ومهذبة من
كلِّية الأدب العربي، تدعى أمامة ...... (1051). وكان
الإعلان عن دستور جديد مؤقت لسوريا التي أضحت
تدعى بموجبه "جمهورية اشتراكية ديموقراطية
وشعبية". كما كان الإعلان عن تشكيل مجلس
للرئاسة ضمَّ في حينه السادة: محمد عمران (1052)،
منصور الأطرش (1053)، نور الدين الأتاسي
(1054)، صلاح الدين
البيطار (1055)، إضافة إلى اللواء أمين الحافظ
(1056) الذي
انتخب رئيساً للمجلس. وكُلِّف السيد البيطار
بتشكيل الوزارة من جديد. وكان
مقتل (المأسوف على شبابه) الرفيق عبد القادر
أخوان (1057) (من حمص) نتيجة التعذيب في أحد أقبية
المباحث هناك؛ وكان غضب واستنكار شيوعي لذلك!
ولكن هذا الغضب لم يتجاوز، من حيث مداه، حملات
الاستنكار التي كان الحزب يشنُّها ضد السلطات
خلال أيام عبد الناصر؛ كما بدا واضحاً أيضاً
أن السلطات البعثية والقيادات الشيوعية
السورية كانت تسعى لاستيعاب ذلك الحادث
المؤسف. وكان
الوفد الذي ترأَّسه نذير (1058) (وكنت أحد أعضائه)
مؤلفاً من حوالى عشرين رفيقاً ورفيقة من طلاب
الجامعة؛ وأتذكر كيف توجهنا في صبيحة ذلك
اليوم المشمس إلى قصر الرئاسة في المهاجرين
طالبين مقابلة السيد أمين الحافظ (1059) الذي أضحى (تقريباً)
رئيساً للدولة، وكيف استقبلنا بكلِّ لطف
سكرتيره الذي تقبَّل عريضتنا التي كانت
تستنكر اغتيال رفيقنا عبد القادر أخوان (1060)،
ووعدنا بتقديمها إليه للنظر في فحواها... وأفكر
أنه، بما أنه لم يكن قد مضى بعد سوى أشهر
معدودة على انتسابي للحزب، فإن اختياري كأحد
أعضاء ذلك الوفد الهام كان دلالةً على
اجتيازي الناجح لامتحاني الحزبي الأول. فقد
كنت أصبحت رفيقاً موضع ثقة، من جهة؛ وكان
الحزب قد قرَّر (على ما يبدو) أن أكون أحد
وجوهه العلنية في الجامعة، من جهة أخرى. وكان
لهذا الواقع أن ينعكس، أولاً، في كلِّيتي
التي تشكلتْ فيها فرقة جديدة سرعان ما أصبحتُ
مسؤولها؛ وكانت هذه الفرقة تضم طالباً (من
وادي النصارى) من صف مروان (1061)، يدعى ناصر
(1062) ......،
وآخر شركسياً حادَّ الطباع من صفِّي، كنت
لحظتُ ترصُّده لي منذ البداية، ويدعى فتحي (1063)
...... . وكان مروان (1064) ونذير
(1065) يتناوبان على قيادتنا
من قبل فرعية الجامعة. ويدفعني
الحماس في تلك الأيام لأن أخوض تجربتي
الانتخابية الأولى في الكلِّية، وأرشح نفسي
بشكل اعتباطي لعضوية مجلسها الطلابي – تلك
الانتخابات التي فاز فيها "الأخوان
المسلمون"، الذين كان يترأسهم في كلِّيتنا
طالب حموي من أسرة "أبو طوق". أما أنا فقد
حزت فيها على حوالى عشرين صوتاً، لم تكن
كافيةً لإنجاحي، إنما كانت أكثر من كافية
للفت الانتباه إلى شخصي الكريم! ونجحتُ
في ذلك العام بسهولة في امتحانات السنة
الإعدادية، هندسة، وأصبحت طالباً في السنة
الأولى؛ كما نجحت شقيقتي إكرام في مدرستها في
امتحانات الجزء الأول من البكالوريا
الفرنسية. في
صيف 1964 ذاك ذهب أهلي إلى الزبداني لقضاء الصيف
في منزلنا الجديد هناك. أما أنا (1066) وإكرام
(1067) فقد
بقينا معظم الوقت في دمشق، حيث كانت تتركز
أجواؤنا الشيوعية الجديدة – تلك الأجواء
التي أتذكر منها النقاشات الطويلة التي كانت
تدور بيني وبين الشلَّة، من جهة، وبين فاروق (1068)،
من جهة أخرى، حول الخلاف "الإيديولوجي"
المتصاعد والمتفجر بين روسيا السوفييتية
والصين الشعبية... وكان
فاروق (1069) قد أضحى متعاطفاً مع التوجُّهات
الصينية، إن لم نقل إنه كان أقلنا تطرفاً في
الهجوم عليها، بينما كان موقفي وموقف باقي
الشلَّة مؤيداً للخط "القويم" للحزب –
ذلك الموقف الذي عبَّرتْ عنه، في حينه، صحيفة نضال
الشعب (نصف السرية) التي نشرت مقالاً (هاماً)
للرفيق خالد بكداش (1070) يدين "كبريات الكبائر
الثلاث" في المواقف التحريفية الحالية
للقادة الصينيين، ودراسة مطولة للرفيق
سوسلوف (1071) نشرتها صحيفة الأخبار اللبنانية،
وأضحت لبعض الوقت موضوع الحديث الثقافي في
قواعد حزبنا الشيوعي السوري. وكانت،
في مطلع ذلك الصيف، زيارة خروشوف (1072)، الأمين
العام للحزب الشيوعي السوفييتي إلى مصر.
تلاها تقارُب بين عبد الناصر (1073) والسوفييت،
الأمر الذي انعكس على الحزب الشيوعي السوري،
الذي سرعان ما عدَّل من خطِّه وصار ألْيَن
تجاه الناصريين، يدعو، على الصعيد الداخلي،
إلى وحدة جميع القوى التقدمية، من "...
بعثيين وطنيين وناصريين مؤمنين إيماناً
صادقاً بالتقدم والاشتراكية... واشتراكيين
وقوميين تقدميين وشيوعيين... للسير بسوريا في
طريق التقدم الاجتماعي...". وكانت
أيضاً وفاة القائد الشيوعي الإيطالي الكبير
بالميرو تولياتي (1074) في منتجع يالطا في شبه جزيرة
القرم، وما تلاه من نشر الصحافة الغربية
لوصيته الشهيرة التي أبدى فيها تحفظات جدية
على الأوضاع السوفييتية الداخلية، داعياً
الحزب الشيوعي الإيطالي والحركة الشيوعية
إلى انتهاج سياسة أكثر تحفظاً تجاه السوفييت... تلك
الوصية التي أطلَعَني عليها فاروق (1075) الذي كان
موقفه من "الحزب" يزداد استقلالية،
وبالتالي ابتعاداً. وشائعات
البلد كانت تتحدث عن تصاعد في الخلافات
والصراعات في صفوف حزب البعث، حيث كان يبدو أن
أمين الحافظ (1076)، الداعي إلى سياسة معتدلة، أكثر
انفتاحاً على القوى الأخرى (وخاصة منها جماعة
أكرم الحوراني (1077))، هو الممسك بزمام الأمور،
يدعمه في ذلك رئيس الأركان اللواء محمد عمران
(1078).
ولكن... الحقيقة
كانت أن باقي العسكر، ممَّن قاموا بانقلاب 8
آذار، كانت لديهم تطلعات أخرى، إن لم نقل إنهم
كانوا يطمحون إلى لعب الدور الأكبر في تسيير
مجريات الأمور في البلاد. وكانت أولى
انعكاسات هذا الصراع استقالة وزارة السيد
صلاح الدين البيطار (1079) في 3 تشرين الأول 1964،
وتكليف أمين الحافظ (1080) بتشكيل الوزارة بدلاً عنه.
كما استقال كلٌّ من البيطار ومنصور الأطرش (1081) من
مجلس الرئاسة، حيث حلَّ محلهما الدكتور يوسف
زعيِّن (1082) واللواء صلاح جديد
(1083)... ولكن
تلك الأنباء الهامة لم تكن تقارَن، بالنسبة
للحزب الشيوعي السوري الذي كان يحتفل بالذكرى
الأربعين لتأسيسه، بتلك الأنباء الواردة من
الاتحاد السوفييتي العظيم التي كانت تتحدث عن
عزل خروشوف (1084) كأمين عام للحزب واستبدال ليونيد
بريجينيف (1085) به، تلك الأنباء التي استقبلها
الحزب الشيوعي السوري بترحاب ملفت للنظر،
مقارنة بما قابلها به الحزبان الشيوعيان
الفرنسي والإيطالي من تحفظ وجفاء! وانقضى
عام 1964 الذي أتذكر منه، خاصةً، ليلة رأس السنة
للعام الجديد 1965... التي كانت أول سهرة من هذا
النوع قضيتها مع شلَّتي الجديدة وشاركتْ فيها
شقيقتي إكرام (1086). فقد ضمَّت بعض الوجوه الجديدة،
كالموسيقي العراقي صلحي الوادي (1087) وزوجته
الإنكليزية سنثيا اللذين جاءا برفقة صديقنا
محمد (1088)، واستمعنا برفقتهما إلى أوبرا نشيد
الأرض لماهلر، تلك الأوبرا التي بناها على
مقتطفات رائعة من الشعر الصيني القديم الذي
ألقاه علينا محمد، مترجَماً إلى اللغة
العربية، فسحرني جمال تلك القصائد وعمقها
ورهافتها... وحين
عدتُ إلى المنزل بعد انتهاء السهرة لم أستطع
النوم لشدة انفعالي وحماسي، فأخذت "العهد
القديم" الذي كان دائماً – ولم يزل – من
بين كتبي المفضلة، وأعدت عبره قراءة تلك
القصيدة الغزلية الإنسانية – الأجمل كانت
بالنسبة لي ولم تزل – نشيد الأنشاد الذي
لسليمان يغني أنشودة حب خالدة... *** |
|
|