|
أطوطميون
نحن أم مسيحيون[1]
(2
من 4)
جورج
فرح أبو داود
2 التحوُّل
في المقالة الأولى من هذا
البحث تمَّ تتبُّع آلية تسرُّب الاستشهادات
التوراتية إلى العقيدة المسيحية من خلال
البشائر (الأناجيل). وقد بينَّا في تلك
المقالة أن الاستشهادات والاتِّكاءات
التوراتية لم تكن إلا نتيجة طبيعية لتلك
المرحلة التاريخية من التبشير المسيحي، نجمت
عن طبيعة المحيط الجغرافي والسكاني والديني
الذي انطلق فيه المسيح بالتبشير بالدين
الجديد. كما بينَّّا أن رسالة المسيح، في
المحصِّلة النهائية، كانت رسالة إلى الناس
أجمعين، غير مخصَّصة بالشعب اليهودي؛ الأمر
الذي ينفي حتمية الرجوع إلى التوراة
والأنبياء للشهادة للمسيح وللاقتناع أو
للإقناع به وبرسالته. ومن خلال هذا المنظور،
تغدو جميع الاستشهادات التوراتية في البشائر
تراثًا تاريخيًّا مسيحيًّا لا يدخل في صلب
العقيدة المسيحية والإيمان المسيحي. في هذه المقالة سوف نتناول
بالبحث أعمال الرسل والرسائل التي تغطِّي
مرحلة لاحقة لصعود المسيح وتُبرِزُ، بشكل
أوضح، تحوُّل مفهوم المسيحية من عقيدة
مخصَّصة إلى عقيدة معمَّمة، سواء أكان ذلك
لدى الحواريين[2]
أو التلاميذ أو لدى عامة الذين قبلوا المسيح. نجد في المرحلة المبكرة من أعمال
الرسل، ولا سيما في السنوات الأربع أو
الخمس الأولى التي تَلَتْ صلبَ المسيح، أن
التبشير بالمسيح لم يتجاوز اليهود، عنصرًا
بشريًّا، ولا حدود اليهودية، أي أورشليم وما
حولها، عنصرًا مكانيًّا. ونستشف هذا التوجُّه
اليهودي في خطبة لبطرس وأخرى لبولس موجَّهة
إلى اليهود تذكِّرهم بأن الله أرسل المسيح
إليهم أولاً.[3] في كتابة البشائر التي
تناولت حياة المسيح وكرازته كان الحواريان
متى ويوحنا والتلميذان مرقس ولوقا عنصرًا
منفعلاً إلى حدٍّ ما، اتخذ صفة الراوي أو كاتب
المذكرات، الأمر الذي رسم حدودًا لمدى
حرِّيتهم في إظهار رؤيتهم الخاصة للرسالة،
وذلك بخلاف الأمر في أعمال الرسل
والرسائل، حيث نرى التابعين والتلاميذ وقد
ظهروا عنصرًا متحركًا فاعلاً، يعبِّرون من
خلال القول والفعل عن شخصيتهم ورؤيتهم
الشخصية. ولعل أهم ما تُبرِزُه أعمال
الرسل بالنسبة لموضوعنا هو تلك الظروف التي
أدَّت إلى تحول الرؤية من كون الرسالة خطابًا
مخصَّصًا للشعب اليهودي إلى كونها خطابًا
أمميًّا معمَّمًا، بحيث فقدت اليهودية،
عقيدة وناموسًا، تأثيرها في الدين المسيحي
وفقدت الرسالة وهمَ اختصاصها بشعب إسرائيل. تنبع أهمية أعمال الرسل
من كونها تشكِّل نوعًا من التسلسل التاريخي،
نستشف على مداه آلية التحول المذكور من خلال
الأحداث المستجدة التي تعرَّض لها الحواريون
والتابعون والكهنة والتلاميذ، ومن خلال
أقوالهم ومواعظهم، وكذلك من خلال هوية
المتلقِّين الجُدد والتناقضات التي ظهرت في
أثناء نشر الرسالة التي انتهت باستقلال
المسيحية عقيدةً عن اليهودية. ولعله من
المفيد أن نذكِّر بأن كاتب أعمال الرسل هو
البشير لوقا الذي لم يكن يهوديًّا في الأصل
والذي لازم بولس في جميع أسفاره واستقى أحداث
قصة إيمان بولس من بولس بالذات الذي كرَّرها
في أكثر من مناسبة. * وسوف نتتبَّع تحوُّل نظرة
المؤمنين إلى الرسالة على عدد من المستويات،
بدءًا من عامة اليهود الذين آمنوا بالمسيح،
وانتهاءً بالتلاميذ والتابعين فالحواريين،
تاركين أمر الرسول بولس إلى النهاية، نظرًا
لخصوصية الأسلوب الذي أدى إلى إيمانه بالمسيح
ولخصوصية بولس بالذات. عامة اليهود الذين آمنوا
برسالة المسيح، الذين سوف نشير إليهم اختصارا
باليهود المتنصِّرين، لم يستطيعوا أن يروا في
رسالة المسيح إلا أنها تحقيق لنبوءات ووعود
توراتية خاصة بهم؛ وبالتالي فقد أصروا على
التمسك بالناموس. تحدِّثنا أعمال الرسل (15: 1)
عن يهود متنصرين جاؤوا من اليهودية إلى
أنطاكية يعلِّمون الإخوة الأمميين أنهم إذا
لم يختتنوا ويحفظوا شريعة موسى فإنهم لن
يخلصوا؛ بعبارة أخرى، فإن الإيمان برسالة
الخلاص التي بشَّر بها المسيح لا يكفي وحده
إذا لم يسبقه الإيمان بالتوراة والأنبياء
الذين بشَّروا بالمسيح وممارسة شعائر
الناموس. ثم خاصم أولئك اليهود بولس حول ضرورة
حفظ الناموس، الأمر الذي حدا بهم إلى إرساله
وبرنابا إلى أورشليم حوالى عام 44 للحصول على
الفتوى الخاصة بهذا الأمر.[4]
وفي أورشليم، حيث استقبلتْهما الكنيسة
والرسل والشيوخ، وقف اليهود المتنصِّرون
مدَّعين على بولس وخصومًا له. ولم يقف الأمر
عند هذا الحد، بل تعدَّاه إلى اتهام بولس
بدعوة اليهود المقيمين بين الأمم إلى
الارتداد عن شريعة موسى، الأمر الذي حدا
بشيوخ الكنيسة في أورشليم إلى نصح بولس
بالتظاهر بحفظ الناموس؛ وقد قبل بولس النصيحة.
ومن مظاهر هذا الاعتقاد بخصوصية رسالة المسيح
ما حدث في بيت كُرنيليوس قائد المئة عقب تبشير
بطرس بالكلمة وحلول الروح القدس على
الموجودين من الأمم واليهود، إذ دهش اليهود
منهم من حلول الروح القدس على الأمم؛
فعقيدتهم لم تكن تسمح لهم بتصوُّر الروح
القدس يحلُّ على غير اليهودي. ولم تختلف نظرة
اليهود إلى المتنصِّرين منهم عن نظرة هؤلاء
إلى أنفسهم؛ إذ أشار إليهم اليهود الآخرون
بتعبير "شيعة الناصريين" على لسان
ترتلُّس الذي كان يشتكي على بولس أمام الوالي
في قيصرية (24: 1). أي أن اليهود الآخرين كانوا
ينظرون إليهم على أنهم شيعة أخرى من شيع
اليهود. تمسك اليهود المتنصرين هذا بالناموس
وبالأنبياء لم يستطع شيوخ الكنيسة أو الرسل
تغييره، بل اضطروا إلى تجاوزه، ربما يأسًا. تحدثنا أعمال الرسل، من
ناحية أخرى، أن فئة متنورة من اليهود
المتنصرين اندفعت في نشر الرسالة بين الأمم.
فبعد استشهاد استيفانوس عام 36-37
جرى تضييقٌ على اليهود المتنصرين، دفع بهم
إلى الهجرة من اليهودية إلى "فينيقية [أي
الساحل السوري] وقبرص وأنطاكية وهم لا
يكلِّمون أحدًا بالكلمة إلا اليهود. ولكن
كان منهم قوم قبرصيون وقيروانيون الذين لما
دخلوا أنطاكية كانوا يخاطبون اليونانيين
مبشِّرين بالكلمة." هنا لا بدَّ من
الوقوف عند كلمة "اليونانيين".
فالبشراء، عندما نسبوا الناس إلى قومياتهم
المختلفة، لم يهتموا بتمييز اليهودي منهم عن
غير اليهودي، شعورًا منهم بأن المخاطَب (في
زمنهم) يفهم المقصود. ولكن في هذا الخطاب
بالذات لا مجال للشك بأن المخاطَبين اليونانيين
كانوا من غير اليهود، بدليل استخدام عبارة "ولكن"
للفصل بين المخاطَبين من اليهود والمخاطَبين
من الأمم. وتنتفي غرابة الاستثناء عندما خصَّ
لوقا اليهود القبرصيين والقيروانيين بنشر
الرسالة بين الأمم: فهؤلاء كانوا، بحكم
معاشرتهم للقوميات الأخرى، أقل تزمتًا من
اليهود سكان اليهودية، أي منطقة أورشليم،
وأكثر استئناسًا بمن يتكلَّم لغتهم
اليونانية حتى، ولو كانوا من غير اليهود. بالنسبة لعامة التلاميذ،
كان إيمانهم التوراتي راسخًا لدى صعود
المسيح؛ إذ يحدِّثنا لوقا أنهم سألوا المسيح
في إحدى حوادث ظهوره لهم بعد موته: "أفي
هذا الزمان تردُّ الملك إلى إسرائيل" (1:
6). وحدث التحول الأول في إدراكهم لطبيعة
الرسالة الذي تذكره الأعمال عندما شرح
بطرس لهم ما حدث له في بيت كُرنيليوس قائد
المئة من أمر حلول الروح القدس على الأمميين،
إذ "سكتوا ومجَّدوا الله قائلين: إذن قد
أعطى الله الأمم أيضًا التوبة للحياة".
ولكن التحول الأكبر كان ذاك الذي حدث أخيرًا
عقب الاجتماع الذي تم في أورشليم لسماع
الآراء المختلفة حول ضرورة إرغام الأمم على
التمسك بأحكام الشريعة اليهودية من ختان
وغيره. فقد اختتم هؤلاء التلاميذ الاجتماع
بتدبيج الرسالة التالية: "الرسل والمشايخ
والإخوة يهدون السلام إلى الإخوة من الأمم في
أنطاكية وسورية وكيليكية. سمعنا أن قومًا
منَّا أزعجوكم بكلام مقلبين أنفسكم قائلين أن
تختتنوا وتحفظوا الناموس ونحن لم نأمرهم بذلك.
لذلك... رأى الروح القدس ورأينا نحن أن لا نضع
عليكم ثقلاً غير هذه الأشياء الواجبة وهي أن
تمتنعوا عما ذبح للأصنام وعن الدم والمخنوق
والزنى ...". هذه الرسالة التي حملها بولس
وبرنابا، ومعهما
برسابا وسيلا، إلى الأمم في أنطاكية لدليل
واضح بأن التلاميذ قد أيقنوا أخيرًا بأن
الإيمان بالمسيح لا يستوجب المرور بمطهر
التوراة، من حيث كونه إيمانًا بخلاص البشر
جميعًا عن طريق الإيمان برسالة المحبة. استيفانوس، أحد التابعين
السبعة، تعرض لتهمة التجديف على الهيكل
والناموس، فوقف يدافع عن نفسه بخطبة طويلة
أوجز فيها تاريخ بني إسرائيل، وأنهاها بتوجيه
تهمة قتل المسيح إلى المستمعين اليهود كما
فعل آباؤهم من قبلهم بجميع الأنبياء، داعيًا
اليهود إلى التوبة. وقد كانت آخر كلماته طلبه
المغفرة للذين رجموه، وهو موقف يعبِّر عن
روح متسامحة تجاوزت روح الناموس الذي شرَّع
مبدأ "العين بالعين والسن وبالسن". لعل التحول المتميز
بأحداثه، من الإيمان بخصوصية الرسالة إلى
عموميَّتها، هو تحول الحواري بطرس الذي يمكن
أن يُعتبَر، من حيث الشكل، نموذجًا للتحول
الذي طرأ على عقيدة باقي الحواريين، لا سيما
وأن بطرس كان، كالكثرة من التلاميذ، أميًّا
لم يتفقَّه بالناموس، ولكنه كان، على الرغم
من ذلك، يهوديًّا ملتزمًا. لم تشبْ إيمان بطرس بأن
المسيح جاء تحقيقًا للنبوءات التوراتية
شائبة. ففي الاجتماع الذي تمَّ لانتخاب
البديل ليهوذا الإسخريوطي توجَّه بطرس إلى
الرسل بقوله: "كان ينبغي أن يتم ذاك
المكتوب الذي سبق الروح القدس أن قالها على
لسان داود عن يهوذا..." وعندما حلَّ الروح
القدس على التلاميذ، فشرعوا يتكلمون بألسن
مختلفة وظنَّهم الناس سكارى، قام بطرس فخطب
في الجموع قائلا: "... لكن هذا هو الذي قيل
على لسان يوئيل النبي، وسيكون في الأيام
الأخيرة أني أفيض من روحي... ". ثم
يتابع فيقول: "... لأن داود يقول فيه: [في
المسيح] كنت أبصر الرب أمامي في كل حين...".
ويظهر في خطبته تلك تشوُّش في رؤيته للمسيح:
فمن جهة، يستشهد بما جاء على لسان داود من أن
الله أقسم له بأن واحدًا من ثمرة صلبه يجلس
على عرشه؛ ومن جهة أخرى، يلجأ إلى العبارة
التي طالما رددها المسيح في معرض نفيه صلته
بداود وهي التي جاءت أصلا على لسان داود،
وأعني: "قال الرب لربي اجلس عن يميني إلخ...
". وعندما شفى بطرسُ الأعرجَ في الهيكل
وأدهش اليهود هناك توجَّه إليهم بخطبة ذكر
فيها الله بأنه إله إبراهيم واسحق ويعقوب، "إله
آبائنا"، وذكَّر المستمعين كذلك
بإنكارهم المسيح الذي سبق وأنبأ به الله على
لسان موسى والأنبياء ودعاهم إلى التوبة حتى
يرسل الله المسيح ثانية. ولقد داوم بطرس على ممارسة
الشعائر اليهودية وعلى التزامه المطلق
بالناموس: فقد صعد إلى الهيكل مع يوحنا لأداء
صلاة التاسعة؛ كما أنه عندما كان في طريقه إلى
قيصرية للقاء كُرنيليوس الأممي، قائد المئة،
جاع، فرأى السماء مفتوحة ووعاءً هابطًا فيه
من كل ذوات الأربع والحيوانات الأخرى وسمع
صوتًا يدعوه إلى الأكل، فكان ردُّ فعله: "حاشى
يا رب فإني لم آكل قط نجسًا أو دنسًا."
وكان جواب الصوت: "ما طهَّره الله لا
تنجِّسه أنت"، وهي
دعوة صريحة إلى التحلل من الناموس أثَّرتْ
بصورة ما على عقيدة بطرس. بقي بطرس يهوديًّا
مؤمنًا بالمسيح المخصص، حتى وقعت هذه الحادثة
التي كانت، على ما يوحي به تسلسل الأحداث،
نقطة التحول؛ إذ نجد بطرس بعدها في منزل
كُرنيليوس يعترف بأنه، على الرغم من أنه حرام
على اليهودي أن يخالط أجنبيًّا، ولكن الله
أراه ألا يقول عن أحد أنه نجس أو دنس. كان هذا
تأويله للرؤيا، وكانت تلك الحادثة بداية
التحول إلى الأممية. وعندما دعاه كُرنيليوس
للكلام توسع بطرس في تفسير الرؤيا قائلاً: "بالحقيقة
قد علمت أن الله لا يحابي الوجوه، ولكن من
اتَّقاه وعمل البرَّ هو الذي يكون مقبولاً
لديه دون النظر إلى الأمة التي ينتمي إليها."
وبعبارة أخرى، فإن بطرس اكتشف أنه لا فضل
ليهودي على أممي إلا بالتقوى والعمل الصالح.
وفي نهاية اللقاء عُمِّد الحضور من الأمم
باسم الرب. بعد تلك الواقعة المثيرة،
وجد بطرس نفسه وقد صار في فئة "المغضوب
عليهم" و"الضالين"! فعندما سمع الرسل
والإخوة الذين في اليهودية من أهل الختان، أي
اليهود، أن بطرس دخل منزل واحد أممي أقلف
خاصموه – وكان عليه أن يقف موقف المُدافع عن
نفسه، فروى لهم الحادثة بتمامها مختتما كلامه
بقوله: "فإن كان الله قد أعطاهم نظير
الموهبة التي أعطانا نحن الذين آمنَّا بالرب
يسوع المسيح فمن أنا حتى أستطيع أن أمنع الله؟" فيما تلا ذلك نجد بطرس وقد
أصبح نصيرًا جريئًا لتظهير الناموس، أي
الاستخفاف به. فعندما التأم المجمع في
أورشليم لمحاسبة بولس حول سماحه للأمم بتجاوز
الناموس قام بطرس مدافعًا عن الأمم قائلا: "لِمَ
تجربون الله لتضعوا على رقاب التلاميذ [من
اليهود والأمم] نيرًا [الناموس] لم يستطع
آباؤنا ولا نحن أن نحمله." هذا الكلام لا
يترك مجالاً للشك بأن تحول بطرس عن الناموس
وإلى الإيمان بأممية الرسالة أصبح كاملاً. ارتأى التلاميذ أن يعهدوا
إلى بولس وبرنابا بالتبشير بين الأمم، بينما
عُهِدَ إلى بطرس ويعقوب ويوحنا بالتبشير بين
اليهود. وكان بطرس، على ما يبدو، يحسب لليهود
المتنصرين أهل الختان ألف حساب، حتى ليكاد
بولس أن يتهمه وبرنابا بالرياء. فقد أخذ بولس
عليهما، بل على بطرس بصورة رئيسية، تظاهُرَه
بحفظ الناموس أمام اليهود الذين جاؤوا من عند
يعقوب من أورشليم. فبعد أن كان يخالط الأمم
ويأكل معهم تنحَّى واعتزلهم مخافة أهل الختان.[5] * لقد ارتأيتُ أن أقدم فيما
يلي سردًا تاريخيًّا موجزًا عن الأحداث
الخاصة بسيرة بطرس بغية وضع صورة التحول الذي
طرأ على عقيدته في مساقها التاريخي. إن
استشهاد استيفانوس واهتداء بولس وقعا في
السنة الأولى بعد قيامة المسيح،[6]
وبقي بطرس يبشِّر في أنحاء فلسطين حتى عام 34،
حيث وقعت في تلك الأثناء حادثة كُرنيليوس[7]
التي وَسَمَتْ بدءَ تحوله، كما وزيارة بولس
له. من بعدُ ذهب بطرس إلى أنطاكية حيث أسَّس
كنيستها، ثم عاد إلى أورشليم عام 41. وفي تلك
الأثناء تصادَفَ وجودُ بولس في أنطاكية
واتهامُه بطرس ولومُه له لأنه أضحى يماري
اليهود، متحاشيًا الاختلاط بالأمم. وفي عام 43،
في ولاية هيرودس أغريبا، قُتِلَ يعقوب أخو
يوحنا؛ وفي عام 44 قُبِضَ على بطرس وسُجِنَ
وأخرجه الملاك من السجن. مجمع أورشليم الذي
انعقد لسماع بولس وإصدار الفتوى حول علاقة
الأمم بالناموس وشارك فيه بطرس حدث عام 45 أو 48
استنادًا إلى التواريخ التي أوْرَدَها بولس
في أواخر الفصل الأول ومطلع الفصل الثاني من
رسالته إلى أهل غلاطية. ففي أواخر الفصل الأول
يقول بولس: "ثم إني بعد ثلاث سنين [من
اهتدائه] انطلقتُ إلى أورشليم لأزور بطرس
فأقمت عنده خمسة عشر يومًا." وفي مطلع
الفصل الثاني يقول: "ثم إني بعد أربع عشرة
سنة صعدت أيضًا إلى أورشليم مع برنابا وأخذت
معي طيطس... وعرضتُ عليهم الإنجيل الذي أكرز به
بين الأمم... ولما عرفوا النعمة الموهوبة لي
مدَّ يعقوب وكيفا [بطرس] ويوحنا
المعتبَرون كأعمدة لي ولبرنابا يمناهم
للشركة لنكون نحن للأمم وهم للختان على عهد
واحد... فلما قَدِمَ كيفا [بطرس] إلى
أنطاكية قاومته مواجهة...". فإذا اعتبر
بولس أربع عشرة السنة بدءًا من اهتدائه، يكون
المجمع قد انعقد عام 45؛ أما إذا كانت من تاريخ
زيارته لبطرس في أورشليم فيكون ذاك التاريخ
عام 48. هذا التسلسل يفسر تحول بطرس الجزئي عقب
حادثة كُرنيليوس، وتحوله الكامل في نهاية
إقامته الأنطاكية، كما يفسر لهجة رسالتيه إلى
اليهود. لا نعرف تمامًا متى أملى
بطرس رسالتيه، ولكن يُرجَّح أنهما كُتِبَتا
في وقت متأخر، والأرجح في أثناء إقامته في
أنطاكية أو بعدها. مصدر الترجيح هذا ينبع من
لهجة الرسالتين بالذات. الرسالتان موجَّهتان
إلى اليهود، بدليل استهلال الرسالة الأولى
إلى المغتربين من شتات بنطُس وغلاطية
وكبدوكية إلخ، وتضمين الرسالتين إشارات إلى
النبوءات التي لا يعرفها الأمم. إلا أنه، من
ناحية أخرى، لم يُشِرْ، من قريب أو من بعيد،
إلى الناموس في أية من الرسالتين، بل على
العكس كان يؤكد للمخاطبين بأنهم الآن في
المسيحية غيرهم عما كانوا في اليهودية: -
"مبارك
الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي بفضل رحمته
الكبيرة ولدنا ثانية لرجاء حي..." -
"وإذ
أنتم أبناء الطاعة فلا تصوِّروا أنفسكم على
مثال شهواتكم السالفة في جهالتكم..." -
"الذين
لم تكونوا شعبًا، أما الآن فأنتم شعب الله،
الذين كنتم غير مرحومين وأما الآن فمرحومون..." -
"وإذا
كنتم تدعون الآب الذي يدين بغير محاباة
للوجوه بل حسب أعمال كلِّ إنسان فاسلكوا
بالمخافة مدى غربتكم." الموضوع الرئيسي للرسالتين
الموجَّهتين إلى اليهود المتنصِّرين هو
الدعوة للمحبة والصبر على الشدائد والتماسك
والتمسك بالإيمان بالمسيح الذي تنبأ به
الأنبياء والتذكير بأنهم أصبحوا أبناء
المسيح لا الناموس، دون أن يذكر ذلك صراحة.
هذا هو التحول الذي طرأ على بطرس من إنسان
يقول: "حاشى يا رب فإني لم آكل قط نجسًا أو
دنسًا" إلى إنسان يغضُّ الطرف عن الناموس
وعن كلِّ ما يتعلق به ويؤاكل الأمم ويحصر
دعوته بالإيمان برسالة المسيح. * الحواري الثاني الذي سنتطرق
إلى تحوله هو يعقوب، أخو الرب. لا نعرف تمامًا
متى حدث تحوله، ولكن نعلم أنه أيَّد كلام بطرس
في مجمع أورشليم، مستشهدًا بالأنبياء
وبالتوراة؛ ولكن الاستشهاد كان مؤوَّلاً
لصالح فكرة أممية الرسالة. فقد جاء في كلمته
القصيرة: "وعليه وافق الأنبياء [يقصد
عاموس] حيث قالوا إني بعد هذا ارجع فأقيم
مسكن داود الذي سقط وأبني ما هدم منه وأنصبه
ثانية حتى تطلب الربَّ بقيةُ الناس وجميعُ
الأمم الذين دُعِيَ اسمي عليهم." هذه
العبارة وردت في الفصل التاسع من نبوءة عاموس
على النحو التالي: "في ذلك اليوم أقيم
مسكن داود الذي سقط وأسدُّ ثلمه وأقيم ما
تهدَّم منه وأبنيه كما كان قديمًا لكي يرثوا
بقيةَ آدوم وجميعَ الأمم الذي دُعِيَ اسمي
عليهم." والفرق كبير بين أن يكون "بقية
الناس وجميع الأمم" فاعلاً لفعل طلب
الربِّ وبين أن يكونوا مفعولاً به لفعل
"يرثوا" ويكونوا موروثين من قبل بني
إسرائيل المكنَّى عنهم ببيت داود. ومن الصعب
حقًّا أن نعرف ما إذا كانت هذه المفارقة ناتجة
عن خطأ نسخ أو ترجمة لأحد النصين أو أنها كانت
مقصودة من يعقوب. وعلى أية حال فإن يعقوب
عبَّر بذلك عن قناعته بعدم جدوى الإصرار على
تطبيق الناموس، وهو موقف عقلاني لا يؤدي إلى
قطع الأسباب مع الناموس والأنبياء إلا
بالاجتهاد في التأويل. رسالة يعقوب التي وردت في
الإنجيل موجَّهة إلى الأسباط الإثني عشر في
الشتات، أي إلى اليهود حصرًا. والرسالة،
بحدِّ ذاتها، درسٌ ثمين في المحبة والإيمان
والصبر والتواضع والعفة وتأكيد بأن الإنسان
لا يُبرَّر بالإيمان أو بالناموس بل بالعمل
الصالح: "الديانة الطاهرة النقية عند
الآب هي افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقهم
وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس" و"من
أحبَّ العالم فقد صار عدوًّا لله"... روح
متسامحة نقية تطلُّ من سطور الرسالة، لا
تنسجم مطلقًا مع حدِّية الوصايا الناموسية
التي نلمسها في التوراة. ونظرًا لكون يعقوب
يكتب إلى اليهود فهو يلجأ إلى الناموس
والأنبياء، ولكن على سبيل المثل والتذكير،
دونما إلزام. ففي معرض شرحه بأن الخطيئة
الواحدة كافية لأن تدين صاحبها وأن العبرة
ليست بالكمية يقول: "من حفظ الناموس وإنما
عثر في واحدة فقد صار مجرمًا في الكل"،
ليخلص إلى القول، "تصرفوا في القول
والعمل تصرُّف من يُدان بناموس الحرية"،
ولم يقل بـ"ناموس موسى"؛ فناموس الحرية
هو شريعة الإنسان العاقل الذي يميِّز بين
الخير والشر، دونما حاجة إلى أحكام تشريعية.
ولو شئنا أن نستخدم لغة اللاهوتيين فناموس
الحرية هو شريعة الإنجيل التي سُمِّيَتْ هكذا
لأنها أعتقت الإنسان من رقِّ الرسوم
الناموسية التي كانت تجعل البشر عبيدًا، كما
قال بولس في رسالته إلى أهل غلاطية (4: 24). ولا
يتوانى يعقوب عن تذكير المخاطبين بجريمتهم: "قضيتم
على البار وقتلتموه وهو لا يقاومكم." نعود إلى مجمع أورشليم
نظرًا لكونه معلمًا هامًّا على طريق التحول.
فقد كان الموضوع الرئيسي الذي نشب حوله
الخلاف في أنطاكية هو الختان: فاليهود
يعتبرون الختان شَعيرة من أهم شعائر الدين،
كونها تمثل عهد الله إلى إبراهيم، الذي
دُعِيَ بعهد الختان، وذلك مقابل أن يعطيه أرض
كنعان له ولنسله ملكًا مؤبدًا. فقد جاء في سفر
التكوين أن الله قال لإبراهيم: "هذا هو
عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من
بعدك: يُختَن كلُّ ذكر منكم... وأي أقلف لم
تُختَن القلفة من بدنه تُقطَع تلك النفس من
شعبها إذ قد نقض عهدي." وبسقوط شَعيرة الختان في
مجمع أورشليم سقط عهد الختان وسقطت كلُّ صلة
للمسيحي بالمواعيد التوراتية، وكذلك سقط
التزامُه تجاه العمل على تحقيق تلك المواعيد.
والأهم من ذلك كله أن النبوءات التي
صدرت عن أنبياء ملتزمين بعهد إبراهيم،
والخاصة بمجيء مسيح ملتزم مثلهم بهذا العهد،
قد فقدت قيمتها بالنسبة للذي آمن بالمسيح دون
الناموس؛ فهو قد نقض في الوقت ذاته ذاك العهد،
أي عهد الختان، والطموح إلى الأرض التي وعد
الله بها إبراهيم. * لا يكتمل هذا الجزء من
البحث دون الحديث عن بولس الرسول الذي جسَّد
الإيمان الكامل بالكلمة بكامل أبعادها. بولس
الرسول عالَم قائم بذاته حَظِيَ باهتمام
الباحثين أكثر من أي رسول آخر؛ فهو بحق مؤسس
الكنيسة، ولو لا غيرته واندفاعه ودأبه الذي
لا يكلُّ في نشر الرسالة لحُقَّ أن نتساءل عن
مدى انتشار المسيحية ومصير الكنيسة. نشأ بولس في طرسوس شمال
غربي
أنطاكية، وكان مواطنًا رومانيًّا ويهوديًّا
متعصبًا. تفقَّه في الدين في أورشليم عند قدمي
جمالائيل، كبير الأحبار اليهود. وتقرئنا أعمال
الرسل أن بولس كان ذا ثقافة واسعة تجاوزت
معرفة الناموس، متمكِّنًا من اليونانية
والعبرية، خطيبًا فذًّا يأسر سامعيه، طويل
النفس، جريئًا في التعبير عما يؤمن به
ومندفعًا في ترجمة عقيدته إلى عمل،
ديبلوماسيًّا، عالمًا بطبيعة البشر؛ أما
مهنته فكانت صنع الخيام. ما يهمنا من شخصية بولس
ورسالته ليس بالذات تحوُّله الذي لم يكن
تحولاً بل استحالة، إنما نظرته المسيحية إلى
شريعة موسى وإلى مدى استقلال المسيحية عنها.
وإذا كنا نتهيب الدخول إلى عوالم تلك الشخصية
النادرة فلا يمنعنا ذلك من محاولة استقراء
آرائه التي تغني بحثنا هذا. استحالة بولس – من يهودي
متعصِّب ساعٍ وراء استئصال شأفة تلك البدعة
الناصرية الجديدة إلى مؤمن بالمسيح وناشر
للعقيدة – كانت استحالة آنية وكاملة بآنٍ
معًا، تتميز بكونها معجزة. لم يكن ثمة تطور أو
مراحل في التحول يمكن تتبُّعها؛ كما لم يكن
ثمة مجال رمادي مرَّ فيه التحول واجتمع فيه
الأبيض والأسود، كما هي الحال مع بطرس. فلم
يكد بولس يستعيد بصره على يد حنانيا حتى بدأ
التبشير بالإيمان الجديد بين يهود دمشق،
الأمر الذي حدا بهم إلى إضمار الشرِّ له ودفع
بالاخوة إلى ترحيله عن المدينة. في أخبار بولس ورسائله ما
يوحي، للوهلة الأولى، بأنه كان يهوديًّا
متنصِّرًا نظرًا لاتِّكاءاته التوراتية التي
يعمد إليها في محاولة إقناع سامعيه برسالته.
ولكن دراسة متأنية لخطبه ورسائله تُظهِر بأن
تلك الاتِّكاءات والاستشهادات التوراتية لم
تكن نابعة من إيمان توراتي، بل من أسلوب حكيم
ديبلوماسي ذكي، يستند إلى إدراك عميق للطبيعة
البشرية. ويتلخص هذا الأسلوب في العمل على
الانطلاق من موقع المخاطَب
والسير به برفق إلى حيث يعظه بالمسيح. مع
اليهود، يبدأ من الأنبياء وينتهي بتظهير
الناموس. مع الوثنيين، يبدأ من آلهتهم وينتهي
بمحاولة إقناعهم بالمسيح. وهو، في كل ذلك،
يغرف من بحر ثقافته التي استوعبت، فضلاً عن
الناموس، معرفة الوثنية اليونانية والشعر
اليوناني. وفيما يلي نورد أمثلة على ذلك: في رحلته الأولى دخل المجمع
يوم السبت في أنطاكية بيسيدية. وبعد قراءة
الناموس والأنبياء دُعِيَ للكلام، فابتدأ
خطبته بالقول: "يا رجال إسرائيل الذين
يتقون الله اسمعوا. إن اله هذا الشعب الذي
اختار آباءنا وعظم هذا الشعب في غربته في مصر...
واستأصل سبع أمم في أرض كنعان ..."، ثم
يمضي مذكِّرًا إياهم بما أفاء الله عليهم من
نِعَم في تاريخهم الطويل. وقبل الوصول إلى
مأربه يضرب على وتر عقدة الاغتراب عند يهود
الشتات فيقول: "إليكم أرسِلَت كلمة
الخلاص لأن الساكنين في أورشليم ورؤساءهم، من
حيث إنهم لم يعرفوه، أتموا بالقضاء عليه
أقوال الأنبياء التي تُتلى كلِّ سبت...".
ومن بعدُ ينهي خطبته بقوله: "فليكن
معلومًا عندكم أنكم بهذا تُبَشَّرون بمغفرة
الخطايا وأن كلَّ ما لم تستطيعوا أن تبرروا
منه بناموس موسى بهذا يبرر منه كلُّ من يؤمن
به ...". والمعنى الصريح لهذه العبارة
الأخيرة هو أن ناموس موسى ليس كافيًا
ليتبرَّر الإنسان، بل لا بدَّ له من الإيمان
بالمسيح. في رحلته الثانية، وفي
تسالونيكي، ناقش اليهود في المجمع ثلاث سبوت
متتالية مبينًا لهم، استنادًا لكتبهم، بأن
المسيح كان ينبغي أن يتألم ويقوم من بين
الأموات، وبأن يسوع هذا هو الذي يبشرهم به.
وأعاد الكرة في بيرية حيث قبل الكلمة كثيرون
من اليهود. وعندما قرر أن يأخذ تيموثاوس معه
من دربة لم يتردد في ختْنه في سبيل كسب ودِّ
اليهود اليونانيين. في خطابه لليونانيين
الوثنيين لم يتغير شكلُ الخطاب بل موضوعُه.
ففي أثينا افتتح خطبته بالقول: "يا رجال
أثينا. إني أرى أنكم تغالون في العبادة، لأني
في أثناء معاينتي لمعبوداتكم صادفت مذبحًا
مكتوبًا عليه "للإله المجهول". فهذا الذي
تعبدونه وأنتم تجهلونه أنا أبشِّركم به... وقد
صنع من واحد جميع أمم الأرض... فإنا به نحيا
ونتحرك ونوجد، كما قال بعض شعرائكم. أيضًا إنا
نحن ذرِّيتُه. فإذ كنا نحن ذرية الله [لم يقل
ذرية إبراهيم]...". إن ما يؤكد ما ذهبنا إليه من
أن اتِّكاءات بولس التوراتية لم تكن نابعة من
إيمان بالناموس والأنبياء هو ما حدث في
زيارته الثالثة لأورشليم. فبعد أن أخبر
الشيوخ والإخوة بكلِّ ما فعله الله بين الأمم
بواسطته قالوا له: ""أنت تعلم أعداد
اليهود الذين آمنوا وهم غيورون على الناموس.
وقد أخبروا عنك أنك تعلِّم جميع اليهود الذين
بين الأمم الارتداد عن موسى قائلاً أن لا
يختنوا أولادهم... فافعل هذا الذي نقوله لك.
عندنا أربعة رجال عليهم نذر. خذ هؤلاء وتطهر
معهم وأنفق عليهم ليحلقوا رؤوسهم فيعلم
الجميع أنه لا صحة لما يقال عنك." وفعل
بولس كما نصحوا له. وعلى الرغم من ذلك، عندما
رآه اليهود الذين من آسيا الصغرى، أي الذين
حضروا تبشيره هناك، هاجموه بحجة عدائه
للناموس. ولماذا نذهب بعيدًا؟ فلقد
أغنانا بولس عن محاولة استقراء سلوكه من أجل
استنتاج سياسته هذه، وكان صريحًا في شرح
أسلوبه هذا في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس
إذ كتب يقول: "فصرت لليهود كيهودي لأربح
اليهود، وللذين تحت الناموس كأني تحت
الناموس، مع أني لست تحت الناموس، لأربح
الذين تحت الناموس. وللذين بلا ناموس كأني بلا
ناموس، مع أني لست بلا ناموس الله، بل أنا تحت
ناموس المسيح، لأربح اللذين بلا ناموس." استخدم بولس بذكاء كبير
حفظه للناموس وعلمه اللاهوتي لتحقيق أغراض
أخرى. فعندما اشتكى عليه اليهود لأمير
أورشليم ليسياس – وكان بينهم فريسيون يؤمنون
بالقيامة وصدوقيون لا يؤمنون بها – أوقع
بينهم وبدَّد شكواهم بالقول: "أيها
الرجال الإخوة، أنا فريسي ابن فريسي"،
فانتصر له الفريسيون ضد الصدوقيين، ووقعت
مشادة عنيفة بينهم أدَّت إلى انفضاض الجلسة
دون نتيجة. وفي قيصرية، أمام الوالي فيلكس،
سحب البساط من تحت أقدام اليهود المشتكين
عليه بالقول إنه جاء إلى أورشليم ليسجد وأن
ذنبه الوحيد أنهم وجدوه متطهِّرًا في الهيكل،
علمًا بأن راوي أعمال الرسل لم يذكر سبب
مجيء بولس إلى أورشليم، كما أن بولس لم يدخل
إلى الهيكل إلا بنصيحة الشيوخ والإخوة. رسائل بولس فيها أكثر من
دليل على تظهيره الناموس. ففي رسالته إلى أهل
رومية، التي يرجَّح أنه كتبها من أفسس خلال
رحلته الثانية بعد مجمع أورشليم، وردت العديد
من العبارات التي تؤكد رؤيته بأن اليهود
والأمميين متساوون أمام الله. فكلُّ إنسان
يحاسَب بمقدار معرفته ومبادئه التي كان عليها
قبل الإيمان: فاليهودي الذي يعرف الناموس
ويخالفُه يخطئ، والأممي الذي كان يعمل
بشرائعه الأخلاقية ويخالفُها يخطئ: "ألعلنا
نفضلهم؟ كلا فإنا قد برهنا أن اليهود
واليونانيين جميعًا هم تحت الخطيئة"، بل
كان أصرح تعبيرًا بقوله: "ألعل الله إله اليهود فقط؟ أليس للأمم
أيضًا؟ بل هو للأمم أيضًا." وبتأكيده
كذلك أن "لا فرق بين اليهودي واليوناني إذ
للجميع ربٌّ واحد"، وفيما هو يعلن عدم
جدوى الناموس، لا ينسى أن يردَّ استشهاداته
إلى التوراة والأنبياء لكي يقنع المخاطبين من
اليهود: "أما الآن فقد اعتلن برُّ الله
بغير الناموس مشهودًا له من الناموس
والأنبياء." ولكن ما هو برُّ الله ولمن
أعطي، فهو "بر الله بالإيمان بيسوع
المسيح إلى كلِّ الذين يؤمنون وعلى كلٍّ
منهم، إذ الجميع قد اخطأوا ويعوزهم مجد الله".
أما بالنسبة للختان فقد كان تأويله له لا يقبل
الالتباس: "لأنه ليس اليهودي هو من كان في
الظاهر، ولا الختان ما كان ظاهرًا في اللحم،
بل اليهودي هو من كان في الباطن، والختان هو
ختان القلب بالروح، لا بالحرف، ومدحه ليس من
الناس بل من الله." وهكذا لم ينقضِ النصف الأول
من القرن الأول إلا وكانت المسيحية قد ثبَّتت
عقيدة منفصلة ومستقلة عن اليهودية. ولكن على
الرغم من ذلك، فإن آباء الكنيسة الأوائل، لا
سيما أولئك الذين تجذَّروا في اليهودية، لم
يفتئوا يلجؤون إلى الأنبياء للشهادة بصحة
المسيح. وقد اتخذت كتاباتهم صفة القداسة إلى
الحدِّ الذي حفظتها الكنيسة وما زالت ترددها
حتى الآن في الطقوس الكنسية دون أي نقاش أو
محاولة لإعادة النظر. وكمثال على
تسرب الإيمان التوراتي إلى المسيحية فقد
خصت أمُّ الكنائس (أورشليم) رئاستها بأقرباء
المسيح بالجسد، وبغيرهم ممن كان من أصل
يهودي؛ واستمر هذا التقليد حتى عام 132 عندما
ثار اليهود للمرة الثانية بقيادة بار كوخبا (أو
ابن كوكب) على الدولة الرومانية التي اضطرت
إلى سحقهم.[8]
ويرجِّح بعضهم أن أغناطيوس الذي ترأس كنيسة
أنطاكية في أواخر القرن الأول وأوائل الثاني
هو الذي أدخل ترتيل المزامير في كنيسته. والسؤال الذي يطرح نفسه هو
التالي: إذا كان الأمميون هم الذين شكَّلوا
العماد الحقيقي للمسيحية بعد انقضاء مرحلة
التبشير الأولى بين اليهود وانتصار الفكر
الأممي، وإذا كان أولئك الأمميون يجهلون
التوراة والناموس أساسًا، فكيف تجذَّر الفكر
التوراتي في المسيحية؟ إن الرأي العام الوثني الذي
كان منتشرًا في الإمبراطورية الرومانية كان
يؤمن بالمتنبِّئين؛ ولذا فإن عددًا من
المثقفين اليونانيين الذين اعتنقوا المسيحية
عادوا إلى النبوءات، ربما بوحي من اليهود
المتنصِّرين، فقرؤوها واستخدموها في محاججة
الهراطقة والمتفلسفين، وحجة في نشر الدين
المسيحي بين الأمميين؛ واستمر ذلك في القرن
الثاني الميلادي. فهذا يوستينوس، الشهيد
الفيلسوف اليوناني الوثني الأبوين، يثابر
على قراءة النبوات والإنجيل ليجد ضالته:
فالنبوءات،
في نظره، تثبت أن يسوع ابن الله.[9]
وحذا حذوه ثيوفيلوس، أسقف أنطاكية، في رسائله
إلى أوتوليكوس، فمجَّد أنبياء النبوات،
واعتبر البرهان الحقيقي على وجود الإله هو
قول الأنبياء.[10] لم يقتصر أمر الاتكاء على
التوراة على أفراد بل انتقل إلى المجامع
الكنسية. ففي مجمع قيصرية فلسطين عام 198، أجمع
الأساقفة المجتمعون على أن عيد الفصح "يقع
في يوم الربِّ لأن الظلام انقشع في هذا اليوم
وأشرق النور ولأن الشعب تحرر فيه من أرض مصر
كما من ظلام الخطيئة ولأن الشعب مُنِحَ فيه
طعامًا سماويًّا ولأن موسى أوجب تكريمه و...".
عن أيِّ شعب تكلَّم الأساقفة؟ طبعًا عن الشعب
اليهودي الذي وردت الإشارة إليه، وكأنه الشعب
الذي ينتمون إليه دون سواه. *** [1]
من وحي عنوان مقال للمرحوم الشيخ عبد الله
العلايلي "أطوطميون أنتم أم فقهاء؟" [2]
آثرنا استخدام تعبير "الحواريين"
للتمييز بين الإثني عشر والتلاميذ
الآخرين، حيث إن عبارة "التلاميذ"
التي جاءت في الإنجيل عبارة عامة تشير تارة
إلى الإثني عشر وطورًا إلى الاثنين
والسبعين، تارة إلى الذين قبلوا الرسالة في
المرحلة الأولى وطورًا آخر تشمل المؤمنين
جميعًا. [3]
أعمال 3: 26 و13: 46. [4]
رسالة بولس إلى أهل غلاطية 2: 1. [5]
رسالة بولس إلى غلاطية 2: 11. [6]
أسد رستم، كنيسة مدينة الله أنطاكية
العظمى، الجزء الأول، ص 19. [7]
يؤرخ أسد رستم هذه الحادثة نقلاً عن Belser
عام 39 أو 40 (ص 20)، بينما بطرس كان آنئذ في
أنطاكية. [8]
رستم، أسد، كنيسة مدينة الله أنطاكية
العظمى، ج 1، ص 95. [9]
المصدر ذاته، ص 68 و69. [10] المرجع ذاته، ص 76 و77.
|
|
|