الفصل التالي
 
أطوطميون نحن أم مسيحيون؟[1]
(1 من 4)

 

جورج فرح أبو داود

 

1

التوراة في البشائر

كلَّما حضرتُ خدمة قداس الهي، أكانت المناسبة مخصَّصة أم عامة، لفتتْ انتباهي التضمينات التوراتية التي تحفل بها الخدمة. وفي كل مرة أتساءل عن دلالة تلك التضمينات وخلفياتها ومدى ضرورتها للعقيدة المسيحية بعد أن انتشرت المسيحية بين "الأمم" (بالمعنى التوراتي) الذين لم يعرفوا التوراة.

تحوَّل الاهتمام العابر إلى تساؤل، والتساؤل إلى فضول، والفضول إلى فعل. فعكفت على الكتب المقدسة أطالعها مطالعةَ الإنسان الخالي الذهن من الخلفيات التي تشوِّه الرؤية، وأتوقف توقف المتسائل عند الروايات التي تثير التساؤل، محاولاً العثور على إجابة من خلال استقراء الأقوال والأحداث وما يجمعها من الروابط التي لا تظهر للوهلة الأولى. وقد وجدت كذلك أنه لا بدَّ من الرجوع إلى كتابات الآباء التي تشكل جزءًا أساسيًا من مكوِّنات الخدمة الإلهية، وكذلك إلى التاريخ أستعين به على إشباع الفضول الذي غدا بحثًا. وقد تبيَّن لي في خلال ذلك أن موضوع علاقة المسيحية باليهودية، أو الإنجيل بالتوراة، قد أشبعه المتخصصون، من اللاهوتيين والعلمانيين على السواء، بحثًا وتمحيصًا، وبينهم المُقِرُّ بحتمية هذه العلاقة والمنكر لها. ولكن ما سوف يميِّز هذا البحث أنه يعرض من قارئ فضولي غير متخصِّص إلى قارئ غير متخصِّص يشكل الغالبية العظمى من القراء، وهو المستهدف أساسًا في خطاب المسيحية.

إن الهدف من هذا البحث هو توضيح العلاقة بين المسيحية، كعقيدة دينية، وبين العقيدة اليهودية المتمثلة بالتوراة. ولكن قبل الدخول في الموضوع أود الإشارة إلى أني، رغبةً في إزالة أي لبس، اعتمدت التعابير التالية:

-       البشارة (جمعها "بشائر"): هي الواحد من الأناجيل الأربعة: متى ومرقس ولوقا ويوحنا.

-       الإنجيل: هو الكتاب الذي يضم البشائر وأعمال الرسل ورسائل القديس بولس الرسول وغيرها من الرسائل[2] ورؤيا يوحنا.

-       التوراة: الكتاب المعروف بالعهد العتيق.

إن المصادر الرئيسية للعقيدة المسيحية، على اختلاف مذاهبها، هي الإنجيل وكتابات الآباء. أما التوراة فقد كانت على الدوام مصدرًا ثانويًا استُخدِم على سبيل الشهادة للمسيح والدعم للرسالة. وسوف تتناول هذه المقالة جزءًا من الإنجيل، أعني البشائر، وبخاصة كتابتها وكتَّابها من حيث رؤيتهم لرسالة المسيح. ومن خلال هذه الرؤية وطبيعة متلقِّي الرسالة سوف نتتبَّع آلية تسرب الشواهد والاتِّكاءات التوراتية إلى البشائر. وفي سبيل ذلك سوف نأخذ نماذج عشوائية من تلك الشواهد والاتِّكاءات كي نتبيَّن مصادرها ودلالاتها ومدى أهميتها في العقيدة المسيحية.

ونظرًا لاختلاف وجهات النظر حول حتمية اعتماد التوراة كجزء من العقيدة المسيحية، انطلاقًا من أقوال وأحداث متباينة الدلالة وردتْ في البشائر، كان لا بدَّ من التطرق إلى بعض وجوه التباين في البشائر التي سمحت بالتأويل، من أجل الوصول إلى رؤية معاصرة، وإن لم تكن جديدة كل الجدة، حول قيمة الإسهامات التوراتية في تكوين العقيدة المسيحية.

ولد المسيح في فلسطين من عذراء يهودية. وفي هذا المحيط الجغرافي والبشري انطلق في نشر رسالته. أوائل الذين آمنوا به كانوا من اليهود، وكانوا قد استشرفوا فيه نبيًّا محقِّقًا لنبوءات التوراة وملكًا سوف يقود بني إسرائيل لتخليصهم من حكم روما وسوف يُخضِع لسيادة إسرائيل جميعَ الشعوب.[3] ولكن الفئة الكبرى من قادة اليهود التي كانت مستفيدة من مناصبها أو من الحكم الروماني القائم تمكَّنتْ من توجيه الغوغاء إلى رفض المسيح، ومن بعدُ إلى قتله صلبًا. إلا أن فئة أخرى مستضعفة من اليهود آمنت بالمسيح ورأت في رسالته خلاصًا إلهيًا لها؛ ولكنها، على الرغم من ذلك، حافظت على رؤيتها التوراتية، لم تتخلَّ عن الشريعة الموسوية ولم تستوعب أي تعديل لها.

صُلِبَ المسيح، ومات، وبُعِثَ حيًّا، ورُفِعَ إلى السماء، لكن رسالته لم تمت، بل، ربما بسبب هذا الموت الفاجع، أخذت في الانتشار السريع. بشَّر الرسل برسالة المسيح شفاهًا، فنقلوا إلى الناس أخبار المسيح وتعاليمه وأقواله، ورَوَوْا معجزاته بلغات الناس المختلفة، مستخدمين أحيانًا اللغة اليونانية التي كانت آنذاك لغة الأدب عند الأمميين. ولما أدرك الرسل ضرورة تدوين أخبار المسيح وأقواله، منعًا للتزيُّد والتنقُّص وتسهيلاً لنشر الدعوة، قام اثنان منهم، متى ويوحنا، بكتابة ما وعتْه ذاكرتُهما وأوحتْه رؤيتُهما، كما قام اثنان من تلامذة الرسل، مرقس ولوقا، بتدوين ما نُقِلَ إليهما.

ولم يكن الإنجيل الذي بين أيدينا هو كل ما كُتِبَ عن المسيح ونُقِلَ عنه. ففي عهود المسيحية الأولى، وبخاصة في القرنين الثاني والثالث، كان ثمة ما يربو على العشرين سِفرًا مختلفًا متداوَلاً بين المسيحيين الأوائل، منها أناجيل وأسفار خاصة بأعمال الرسل والرسائل.[4] فقد ظهر إنجيل العبرانيين بالآرامية، وإنجيل الأبيونيين (ويدعى إنجيل الرسل)، وإنجيل بطرس، وإنجيل نيقوذيموس، وإنجيل يعقوب، وإنجيل توما، وإنجيل الطفولة بالعربية، وسيرة يوسف النجار العربية، وأعمال بولس، وأعمال بطرس، ورؤى توما والعذراء، ورسائل الرسل باللغتين القبطية والحبشية، وغيرها كثير مما كُتِبَ بحسن نية أو بسوئها. ولكن الكنيسة هي التي أقرَّت في وقت لاحق الإنجيل المتداول حاليًا وحرَّمت كل ما عداه. ومن خلال هذا الإنجيل الذي أقرَّته الكنيسة نتابع فيما يلي البحث. ولأسارع بالقول إن الأناجيل التي بين أيدينا اليوم قد خضعت للنَّسْخ المتكرر والترجمات المختلفة، الأمر الذي لا حيلة لنا به؛ فمصداقيَّتها الوحيدة هي أن الكنيسة قد أقرَّتها.

سوف نتتبَّع، ولو بشيء من الإيجاز، آلية تسرب النصوص التوراتية إلى الإنجيل، وذلك من خلال النظر إلى استعداد المبشَّرين لتلقِّي الرسالة، من جهة، ومن خلال رؤية المبشِّرين أنفسهم للرسالة[5] – تلك الرؤية التي لم تكن واحدة لدى البشراء.

متى البشير كان يهوديًا عشَّارًا (جابيًا) لدى السلطة الرومانية. كان أول من كتب البشارة وذلك باللغة العبرية (ويقال إنه كتبها بالآرامية، اللغة السائدة آنذاك فيما يُعرَف الآن بفلسطين) لفائدة اليهود المتنصِّرين، ثم تُرجِمَتْ في وقت لاحق إلى اليونانية. حفلت بشارة متى بالاستشهادات التوراتية التي هدفت إلى إقناع اليهود بأن المسيح هو ذاته يسوع الذي تنبَّأ به أنبياء التوراة. لذا كان لزامًا على متى أن يأخذ بعين الاعتبار عقلية المخاطَبين المتخمة بأسفار الأنبياء التوراتيين ووعودهم، وأن يبيِّن لهم أن رسالة المسيح ليست إلا إكمالاً للشريعة وتحقيقًا للنبوءات. وكان لزامًا عليه، قبل كل شيء، أن يبيِّن لهم نَسَبَ المسيح إلى داود الذي استهل به بشارته، هذا النسب الذي رفضه المسيح كما سنبين لاحقًا.[6] ربما كان متى بالذات يحمل الرؤية ذاتها التي كان يبشِّر بها وكان مقتنعًا بها. ولعل الجدول التالي يعطينا فكرة واضحة عن كثافة الشواهد والإشارات التوراتية في بشارة متى بالمقارنة مع بشارة البشيرين مرقس ولوقا:

 

 

الإشارات التوراتية الأخرى

عدد الشواهد التوراتية التي يستشهد بها البشير بالذات لإثبات مصداقية المسيح

 

البشارة

25

12

متى

7

1

مرقس

16

1

لوقا

13

5

يوحنا

 

مرقس، أو يوحنا مرقس، الذي ليس لدينا ما يشير إلى أنه عرف المسيح شخصيًا، كان يهوديًا من سكان أورشليم ومن أوائل الذين آمنوا برسالة المسيح، حتى إن بيته كان مجتمَعًا للمسيحيين الأوائل، وإليه ذهب بطرس يوم أخرجه الملاك من السجن الذي زجَّه فيه هيرودس أغريبا الأول عام 44. مرقس رافق بولس وبرنابا في تبشيرهما في بداية الأمر، ثم انفصل عنهما ليصبح رفيقًا وترجمانًا ملازمًا لبطرس، حيث دوَّن ما سمعه منه في أثناء تبشير بطرس الشفهي، حتى إن بعضهم عزا بشارته إلى بطرس.

يتبيَّن من الجدول أعلاه أن مرقس يكاد لا يستشهد بالتوراة، وذلك لأنه كتب بشارته في روما لهداية الوثنيين. وأورِد، بهذا الصدد، عبارة المطران الياس نجمة بنصِّها كما وردت في كتابه عن يسوع المسيح، وذلك لجمالها ودقتها وبلاغتها، إذ يقول:

ذلك ما جعل مرقس يتبسَّط في سرد المعجزات، ويكاد يكتفي بها دون اللجوء إلى سواها من البراهين. فجل ما يبغي هو أن ينتزع من صدر قارئه هتافًا كهتاف قائد المئة الواقف على الجلجلة يحرس يسوع: حقًّا إن هذا ابن الله!

هذا الكلام خطير من وجهة نظر المسيحية التوراتية، إذ يعبِّر عن رؤية ضمنية عند مرقس مفادها أن رسالة المسيح ليست رهينة الشواهد التوراتية. ولم يكن مرقس بحاجة لاستنفار النبوءات التوراتية وتعبئتها ليقنع الناس بالمسيح وبقدسية الرسالة.

لوقا كان طبيبًا مثقفًا أنطاكيًّا وثنيًّا، آمن بالمسيح منذ تأسيس كنيسة أنطاكية بعيد العام 34. لَزِمَ بولس في أسفاره حتى وفاة هذا الأخير[7] عام 67.[8] يستهل لوقا بشارته الموجهة إلى الشريف ثاوفيلوس بما يلي:

إذ كان كثيرون قد أخذوا في ترتيب قصص الأمور المتيقنة عندنا كما سلَّمها إلينا الذين كانوا معاينين منذ البدء وخادمين للكلمة، رأيت أنا أيضًا، بعد أن أدركت جميع الأشياء من الأول بتدقيق، أن أكتبها لك بحسب ترتيبها أيها العزيز ثاوفيلوس لتعرف صحة الكلام الذي وعظت به.

هذا الكلام، فضلاً عن كونه ينمُّ عن مثقَّف أديب أمين للحقيقة في إهاب هذا البشير، فهو يشير إلى أن كثيرين غيره سبقوه في كتابة نوع من البشائر، وأنه كتب بشارته هذه بعد أن أدرك جميع الأشياء من الأول بتدقيق. والواقع أن لوقا لم يكن مدوِّنًا لبولس كما مرقس لبطرس، بل تتبَّع الروايات من مظانِّها، أي من أشخاصٍ عاصروا المسيح وعرفوه، وحقَّقها ورتَّبها. وعلى الرغم من ورود شواهد توراتية كثيرة في بشارة لوقا ولكنها جاءت على لسان أصحابها، لا بمبادرته الشخصية؛ وهذا ما تقتضيه أمانة الرواية، من جهة، وكونه غير يهودي، من جهة أخرى. ولعل أدلَّ الشواهد على ذلك ما جاء في استهلاله لذكر نسب المسيح إذ يقول:

ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة. وهو على ما يظن ابن يوسف بن عالي بن... بن...

فهو لا يأخذ النسب على عاتقه. وهنا يبدو الفرق واضحًا بينه وبين متى الذي يستهل بشارته بقوله:

كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم. فإبراهيم ولد اسحق واسحق ولد... إلخ.

متَّى عاصر المسيح ودوَّن نسبه على وجه اليقين، بينما لوقا دوَّنه نقلاً عن آخرين. إن ما يدل على جهد لوقا في جمع الروايات هي كثرة الأمثال التي انفرد بروايتها، كالسامري الرحيم والخروف الضال والدرهم الضائع والأغنياء والفريسي والعشار وغيرها.

يوحنا، الملقَّب بالحبيب، يهودي يعرف التوراة والشريعة، أوصاه المسيح بأمِّه وهو على الصليب. آخر من كتب البشائر في أواخر القرن الأول، وكان في سنٍّ متقدمة، دفعه إلى ذلك أن البشائر المتقدمة لم تكتب من ترجمة المسيح إلا الأمور المحسوسة. يعبر المطران نجمة عن ذلك بقوله الموجز البليغ: "يوحنا رأى وسمع ووعى، ثم استذكر واسترسل في التأمل، ثم دوَّن في إنجيله شهادة للحق والمحبة." وهذا يعني – وبحق – أن بشارة يوحنا قد اصطبغت بحالة من التصعيد وحفلت برؤية روحية للمسيح. فلنصغِ إليه يستهل بشارته، دون مقدمات، بعبارات مقتضبة بليغة شاعرية تنمُّ عن رؤية هي نسيج وحدها:

في البدء كان الكلمة، والكلمة عند الله... فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس، والنور يضيء في الظلمة والظلمة لا تدركه...

رأى يوحنا المسيح كلمة، حياة، نورًا. ولو شئنا الاختصار لقلنا إن المسيح، في رؤية يوحنا، كان كلمة، أي رسالة، رسالة الله المتجسدة، حاملة الحياة والنور. ومما يؤيد هذه الرؤية أنه وَرَدَ في بشارته وصفٌ المسيح بمشتقات الجذر "ر س ل" ستة وعشرين مرة بصيغ مختلفة، من مثل "يرسل" و"أرسلني" و"أرسله". الشواهد التوراتية التي وردت في بشارة يوحنا كانت نتيجة طبيعية لخلفيَّته التوراتية، وهي لم تحجب رؤيته الفريدة للمسيح وعالميَّة رسالته.

والذي يهمنا من رؤية يوحنا الناضجة هذه هو ذاك التجريد الذي اختصر المسيح بلفظ "كلمة". كلمة الله هذه، رسالته إلى الناس جميعًا، غير مخصَّصة لشعب دون آخر، لا تحتاج إلى النبوءات التوراتية لتحتجَّ بها؛ فهي أكبر من نبوءة أي متنبِّئ. وعلى خلاف بشارة متى، فإن رؤية يوحنا الروحية للمسيح حجبت أهمية استشهاداته التوراتية التي كانت متَّكأً لازبًا لمتى البشير بهدف إقناع اليهود المنفتحين بيسوع المسيح من منطلق عقيدتهم بالذات.

نستنتج مما تقدم أن رؤية البشراء لرسالة المسيح لم تكن واحدة، كما أن هدفهم وتوجُّههم لم يكن واحدًا. وهذا ليس مَطْعَنًا، بل هو، على العكس، يعطي الرسالة صفة الشمولية، مع المرونة الضرورية لأخذ شروط المجتمعات المبشَّرة بعين الاعتبار. المهم، بالنسبة لموضوع المقالة هذا، هو الكشف عن المدى الذي أسهمت فيه الرؤية البشيرية في ربط المسيحية بالتوراة، أي باليهودية، وهل كان هذا الربط مما أمْلتْه الظروف المرحلية، أم هو ربط أبدي لازب وجزءٌ لا يتجزَّأ من العقيدة المسيحية في كلِّ زمان ومكان.

كتبة البشائر كانوا بشرًا بالدرجة الأولى، يميِّزهم عن غيرهم إيمانهم بالرسالة وغيرتهم عليها واندفاعهم إلى نشرها؛ ولكنهم لم يكونوا معصومين عن النسيان الذي هو طبيعة بشرية. ولو كان الأمر غير ذلك، أي لو كانت الكتابة تلقينًا من الروح القدس مصدرًا وحيدًا، لجاءت البشائر متطابقة، على الأقل من حيث الرواية والخبر. إن وحي الروح القدس إلى البشراء، في رؤيتنا، كان القوة التي دفعتهم إلى تدوين ما استذكروا مما شاهدوا وسمعوا وعرفوا؛ وكانت لكلٍّ منهم رؤيتُه الخاصة وإدراكه الخاص لظروف نشر الرسالة ومستلزمات هذه الظروف. ومن خلال اختلاف الرؤية، وقدرة الذاكرة، واختلاف منابت الموعوظين، وَقَعَ تباين ٌفي كتابة البشائر لا سبيل إلى إنكاره، أدَّى إلى فهم الخطاب البشيري فهمًا مغلوطًا أحيانًا، ومغرضًا أحيانًا أخرى.

وفي سبيل جلاء العلاقة اليهودية–المسيحية تخيَّرتُ بعض المواضيع ذات العلاقة بالشواهد والإشارات التوراتية كنماذج للتمحيص والاستنتاج.

قبل الدخول في تفحص كلٍّ من تلك المواضيع على حدة تجدرُ الإشارة إلى أن كلاً من البشراء سكت عن بعض الأحداث التي وردت في رواية بشير آخر؛ وهذا السكوت ليس حجَّة على عدم وقوعها إلا ضمن شروط معينة. فانفراد مرقس دون الآخرين بإيراد قصص شفاء الأصم والأبكم وأعمى بيت صيدا، ومحاولة ذوي يسوع القبض عليه متَّهمين إياه بفقدان العقل، وكذلك انفراد لوقا بإيراد بعض الأمثال، كل هذا لا ينفي بالضرورة وقوع هذه الأحداث، بل قد يعني أن البشراء الآخرين قد غفلوا عنها أو أغفلوها، وهو أمر ليس له أدنى أثر على صحة الحدث، لا سيما وأن البشراء دوَّنوا ما وَعَتْ ذاكرتُهم وما أتيح لهم أن يشاهدوا أو يعرفوا، وكذلك ما اختاروا مما شاهدوا أو عرفوا. فها هو ذا يوحنا يختتم بشارته بقوله:

وأشياء أخرى كثيرة صنعها يسوع لو أنها كُتِبَتْ واحدة فواحدة لما ظننت أن العالم نفسه يسع الصحائف المكتوبة.

ثمة روايات تؤكد على علاقة المسيحية الوثيقة بالدين اليهودي تنقضها روايات أخرى. والحكم في هذا الأمر هو المحتوى العام لرسالة المسيح كما وردت في البشائر. وأودُّ الإشارة هنا إلى أنه من الخطأ الجسيم قراءة البشائر من خلال تفاصيلها، بل يجب النظر إلى التفاصيل من خلال الإطار العام للرسالة. لقد انقضت مئات السنين على الكتابة الأولى للبشائر قبل ظهور الطباعة؛ وفي خلال تلك القرون كانت البشائر تُنسَخ وتُترجَم، خاضعةً لدقة النُسَّاخ وحذق التراجمة وعصمتهم جميعًا. ولا يغرنَّ القارئ تصدير الإنجيل بعبارة "تُرجِمَ عن الأصل اليوناني" أو "عن الأصل العبري"؛ فإن أقدم الأصول التي عُثِرَ عليها للبشائر لا ترقى إلى ما قبل القرن الثاني، ولم تُكتشَف هذه الأصول القديمة إلا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.[9]

1. في نسب المسيح إلى داود:

وردت في الإنجيل عبارات عديدة تَنسُب المسيح إلى داود أو إلى إبراهيم، نورِد بعضها فيما يلي:

-        كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم. فإبراهيم ولد اسحق واسحق ولد... ويسى ولد داود الملك وداود... ويعقوب ولد يوسف رجل مريم المولود منها يسوع الذي يدعى المسيح. (متى 1: 1-16)

-        فقال لها [لمريم] الملاك لا تخافي يا مريم فإنك قد نلت نعمة عند الله وها أنت تحبلين وتلدين ابنًا وتسمينه يسوع وهذا سيكون عظيمًا وابن العليِّ يدعى، وسيعطيه الرب الإله عرش أبيه داود. (لوقا 1: 30-32)

-       وهو على ما كان يُظَنُّ ابن يوسف بن... بن إبراهيم بن... بن آدم. (لوقا 3: 23-38)

-       وقد قيلت المواعد لإبراهيم ولنسله، ولا يقول "وللأنسال" يعني كثيرين بل ولنسلك يعني واحدًا وهو المسيح. (غلاطية 3: 16)

العبارات التي وردت أعلاه تثير عددًا من التساؤلات.

أ‌.       فيما يتعلق بالبشير متى الذي أوْرَدَ سلسلة النسب دون أي تحفُّظ، كذاك الذي ورد عند لوقا، ماذا كان هدفه من ذلك؟ أغلب الظن أنه كان يحاول إقناع اليهود الموعوظين بأن يسوع المسيح هذا هو النبي الذي تتحقَّق به النبوءات، كونه من نسل داود. ولكنه لا يقول ذلك صراحة، إذ ينهي النسب بقوله: "ويعقوب ولد يوسف رجل مريم المولود منها يسوع الذي يدعى المسيح." ولو اعتقد الاطِّراد في سلسلة النسب لقال: "ويوسف ولد المسيح." فإذا كانت القضية قضية إيهام اليهود بمقولة ابن داود فقد أعطى أيضًا بذلك حجَّة للمسيحيين المتهوِّدين المحدثين في ربط المسيح، نسبًا جسديًا، بداود النبي اليهودي. ومن اللافت للنظر أن سلسلة النسب تختلف روايتُها عند متى عن تلك التي عند لوقا اختلافًا جذريًا، اعتبارًا من داود وحتى شالتيئيل، ومن زُرُبابل بن شالتيئيل وحتى يوسف النجار. وهذا الاختلاف لا ينحصر فقط في أسماء الأشخاص، بل يمتد ليتناول عددهم أيضًا؛ إذ إن سلسلة النسب عند متى تقل ستة عشر جيلاً من أصل اثنين وأربعين جيلاً وردت في سلسلة النسب عند لوقا، هذا علمًا بأن متى كان السابق بكتابة بشارته والأقرب إلى المسيح، بينما كان لوقا الباحث المحقِّق. [إن سلسلة النسب المذكورة لا تحمل أية أهمية خاصة بالنسبة لموضوعنا باستثناء أنها تؤكد على أن المسيح لا يمت بصلة نسب جسدية إلى داود، كما تؤكِّد أن البشائر لم تكن من وحي الروح القدس نصًّا بل إيعاز.]

ب‌.  يبدو من بشارة الملاك لمريم العذراء، التي استقى لوقا خبرها من المسيحيين اليهود، أن نسب المسيح إلى داود كان جزءًا من عقيدة تلك الفئة. ولكن اللافت للنظر أن لوقا، عندما أوردَ نسب المسيح موصِلاً إياه إلى آدم عبر إبراهيم، عبَّر عن شكِّه بإضافة عبارة "على ما يُظَنُّ" التي توحي بأنه لا يتبنَّى هذا الكلام بل ينقله، وربما لا يصدِّقه.

ت‌.  بولس يؤكد في رسالته إلى غلاطية نسبًا جسديًا للمسيح إلى إبراهيم.

كل تلك الإشارات إلى نسب المسيح الجسدي تنقضها أقوالٌ أخرى، أولها وأهمها أقوال المسيح ذاته:

-        الحق الحق أقول لكم: قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن. (يوحنا 8: 58)

-        كيف تقول الكتبة إن المسيح هو ابن داود، فإن داود نفسه يقول بالروح القدس: قال الربُّ لربِّي اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئًا لقدميك. فداود نفسه يقول إن المسيح ربُّه فكيف يكون هو ابنه؟ (مرقس 12: 35 ولوقا 20: 41)

-       إشارات المسيح المتكررة إلى الله بعبارة "أبي" وإلى نفسه بعبارة "ابن الله".

-       قول المسيح بانبثاقه من الآب: "وآمنتم أني من الله خرجت" و"قد خرجت من الآب" (يوحنا 16: 27 و28) و"علموا حقًا أني منك خرجت" (يوحنا 17: 8).

في أقوال المسيح تلك كفاية عن كل حجَّة أخرى للبرهان بأنه من الضلال المبين نسب المسيح جسدًا إلى داود، وبالتالي القول بأن المسيح جاء تحقيقًا لنبوءات توراتية، وأن ما يزكِّيه لدى المؤمنين هو أنه من سلالة داود. فالمسيح هو المسيح ابن الله، دون تزكية من الأنبياء التوراتيين؛ وإن كان ثمة مسيح يأتي تحقيقًا للنبوءات فهو ليس المسيح الذي يؤمن به المسيحيون.

2. قيمة الشواهد التوراتية:

عندما نتحدث عن الشواهد التوراتية لا يمكن أن نغفل ظاهرة التنبُّؤ عند الشعب العبراني؛ وهي ظاهرة فريدة في الديانات التوحيدية، ولكنها ليست غريبة على ديانات الشرق التي سبقت اليهودية وعاصَرَتْها. ففي المعابد الوثنية كان ثمة العرافون الذين يتقاطر إليهم الناس لمعرفة ما يستقبلهم من أحداث. وكان كلام العرافين حمَّالَ معانٍ وتأويلات، يترك لصاحب الغرض الاجتهاد في تفسيرها وتأويلها. ولو تصفَّحنا النبوءات التوراتية لوجدنا فيها جميع الاحتمالات التي يمكن أن يؤوِّلها المؤوِّلون شاهدًا على أيِّ حدث. ففيها التنبُّؤ بفناء إسرائيل وخضوع شعبها للأمم، وفيها التنبُّؤ بانتصار شعب إسرائيل وخضوع الأمم له، وفيها التنبُّؤ بالجوع والعطش، وفيها التنبُّؤ بالخير والبركة، علمًا بأن مثل هذه الأحداث قد وقعت وتقع على الدوام لجميع شعوب الأرض. والإنسان الذي يحمل في ذهنه فكرة ردِّ المسيحية إلى التوراة سوف يجد في التوراة بعامة، وفي النبوءات بخاصة، كلَّ ما يسعى إليه من الشواهد لدعم وجهة نظره، إنْ سلبًا أو إيجابًا.

يمكن تصنيف الشواهد والاتِّكاءات التوراتية في البشائر على النحو التالي:

-       ما جاء منها على لسان المسيح مستشهِدًا بالتوراة، وبخاصة بالأنبياء.

-       أقوال المسيح وأفعاله مما رأى فيه البشراء تحقيقًا لنبوءة توراتية.

-       ما جاء منها على لسان البشراء من إيحاءات توراتية غير مباشرة.

-       ما جاء منها على لسان المسيح أو ما قام به من فعل مما اجتهد المسيحيون المتهوِّدون في ردِّه إلى التوراة.

ونورد فيما يلي مناقشة كل من تلك الفئات على حدة:

2.أ. ما جاء على لسان المسيح مستشهِدًا بالتوراة وبخاصة بالأنبياء:

يجدر أن نشير في مطلع هذا الجزء من البحث أن الإشارات التوراتية التي وردت على لسان المسيح تدل على ثقافة توراتية لا يمكن تجاهلُها. أما كيف تأتَّى للمسيح تحصيل تلك الثقافة، ومتى حدث ذلك، فلا يوجد في البشائر ما يشير إلى ذلك. الإشارة الوحيدة هي التي وَرَدَتْ في بشارة يوحنا، إذ قال المسيح عندما تعجَّب اليهود من معرفته الكتب وهو لم يتعلَّم: "إن تعليمي ليس لي بل للَّذي أرسلني"، أي أن علمه بالكتب كان وحيًا. من جهة أخرى، يخبرنا لوقا أن المسيح، وهو ابن اثنتي عشرة سنة، "وُجِدَ في الهيكل جالسًا بين المعلِّمين يسمعهم ويسألهم"، وأنه " لما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة". ونرجِّح أن المسيح قضى تلك الفترة في الناصرة مع يوسف النجار وأمه، وذلك من خلال إشارة التعجُّب التي عبَّر بها أهل الناصرة عن معرفتهم اليقينية به عندما بدأ تعليمه: "أليس هذا هو ابن النجار؟ أليست أمه مريم وإخوته يعقوب ويوسي وسمعان ويهوذا؟"

وعلى أية حال، فإن تلك المعرفة التوراتية لم تكبِّل المسيح، بل على العكس من ذلك، عمد إلى توظيفها في دعوته توظيفًا فاعلاً، لا سيما وأنها مكَّنتْه من إيضاح الفرق بين الثابت من العقيدة، أي الوصايا العشر، وبين المتغيِّر، أي قواعد الشريعة. كما أن الفترة التي قضاها داخل مجتمعه مكَّنتْه من إدراك طبيعة هذا المجتمع الذي كان يتألف من طبقة النخبة، سَدَنَة الناموس، أي الفريسيين والكتبة والناموسيين الآخرين، ومن طبقة العامة والمنبوذين، ولا سيما العشَّارون والسامريون والأمم، وهي الطبقة التي كانت حقله للعمل التبشيري.

عَمَدَ المسيح إلى توظيف معرفته التوراتية على صعيدين رئيسيين: الأول استهدف طبقة النخبة تسفيهًا وتعنيفًا ووعيدًا لأنها كانت الطبقة المسيطرة على مقادير العامة والمتمسكة بالناموس، تلك العقبة الكأداء في طريق أي تبشير جديد؛ والثاني استهدف طبقة العامة واتصف بالرأفة والرفق والصبر والتبشير بملكوت الله. وفي توجُّهاته تلك كان يتعرَّض للناموس، مبيِّنًا طبيعته المتغيرة بالمقارنة مع الوصايا.

كان لا بدَّ من خلخلة أركان طبقة النخبة، ونزع هالة القداسة عنها، وكشف زيفها أمام أعين العامة. لذا لم يتردَّد في نعتهم علانية بـ"الجيل الشرير الفاسق"، وبـ"الشعب الذي يكرِّم الله بشفتيه أما قلبه فبعيد عنه"، وبـ"الجيل الذي سيحاكمه الأمم أمثال رجال نينوى وملكة التيمن"، وبـ"المجرمين الذين كانوا مسؤولين عن مقتل الأنبياء منذ الخليقة وحتى زكريا"، وبـ"أولاد الأفاعي الذين لا يحق لهم التكلُّم بالصالحات"، وبـ"الذين يطهِّرون خارج الكأس والصفحة وداخلهم مملوء نجاسة وشرًّا". ولعل أهم ما فعله، في هذا الصدد، هو إبرازه العلاقة التسلُّطية بين طبقتي النخبة والعامة بقوله: "وأنتم يا علماء الناموس تحمِّلون الناس أحمالاً شاقة وأنتم لا تمسُّونها بإصبعكم" – هذا القول الذي أصاب به أكثر من غرض في آنٍ معًا. فهو، من جهة، بيَّن بشكل خفي ثقل حمل الناموس بالمقارنة مع حمله الخفيف، وألَّب، من جهة أخرى، العامةَ على النخبة وأعدَّهم للإصغاء لرسالته، كونه المدافع الجريء عنهم أمام سطوة علمائهم. في كلِّ أقواله تلك كان المسيح يستشهد بالأنبياء مباشرة، لا ليقنع النخبة بل ليقنع المستمعين من العامة بصدق كلامه.

في خطابه التوراتي لطبقة العامة أخذ المسيح بعين الاعتبار إيمان تلك الطبقة المتجذِّر الذي لا يتقبَّل الصدمات العقيدية، فأخذها باللين وبالرفق. حدَّثها أولاً بالأمثال، وهو أسلوب توراتي. فالمثل نوع من أنواع البلاغة التي أولعت بها الشعوب التي دُعِيَتْ بالسامية؛ ولا عجب أن استخدمها أنبياء اليهود بكثافة كبيرة في نبوءاتهم. فالمثل مقنع؛ وهولا يُفهَم مباشرة، بل يحتاج إلى إعمال الفكر لفهم مغزاه؛ وهذا بدوره يحتاج إلى بعض الوقت؛ وبالتالي فهو لا يصدم السامع، إذ يشرق معناه شيئًا فشيئًا على المتلقِّي. ثم استشهد بالتوراة، متخيِّرًا كل ما يقنع العامة بعدم التعارض بين عقيدتهم ورسالته. فخطبة الجبل انطلقت من الوصايا العشر، مؤكِّدة عليها، ولكن مع رؤية جديدة في فهمها. عامة اليهود أحبوا يوحنا المعمدان وآمنوا به، فامتدحه المسيح ووصفه بقوله: "هذا هو الذي كُتِبَ عنه ها أنذا أرسل ملاكي أمام وجهك يهيِّئ طريقك"، مستشهدًا بنبوءة ملاخي. وفي معرض حبِّه للأطفال قال مستشهِدًا بالمزامير: "أما قرأتم أن من أفواه الأطفال والرُضَّع هيأت تسبيحًا." وعندما سئل عن أهم الوصايا أجاب مستشهدًا بسفر التثنية: " اسمع يا إسرائيل إن الرب إلهنا ربٌّ واحد." وعندما سأله الغني ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية أحاله إلى الوصايا العشر. وعندما شفى الأبرص أمره أن يمضي ويُري نفسه للكاهن ويقدِّم القربان الذي أمر به موسى. في كل تلك المناسبات كان يراعي إيمان اليهود بالتوراة ويستشهد به.

في تلك المرحلة من التبشير بالرسالة كان طبيعيًا أن يتوجَّه المسيح إلى اليهود، الأقربين مكانًا ومجتمعًا؛ ولكن عندما انتشرت الرسالة بين الأمم بعد المسيح انتفت الحاجة للجوء إلى تلك الاستشهادات من أجل دعم العقيدة المسيحية.

ويتبادر إلى الذهن سؤال هام حول قيمة تلك الاستشهادات في البشائر. والجواب على ذلك هو أن تلك الاستشهادات، برغم انتفاء الحاجة لها، تبقى تراثًا مسيحيًا يعكس ظروف تلك الفترة من حياة المسيح وظروف نشر الرسالة.

2.ب. أقوال المسيح وأفعاله مما رأى فيه البشراء تحقيقًا لنبوءة توراتية:

تتجلَّى الاستشهادات التوراتية، كما تقدَّم الذكر، أكثر ما تتجلَّى في بشارتي متى ويوحنا اللذين يميِّزهما عن البشيرين الآخرين كونُهما رافقا المسيح كما تمتَّعا بثقافة توراتية. وعلى الرغم من أن يوحنا كتب بشارته في أواخر القرن الأول، حيث كانت الرسالة قد انتشرت بين الأمميين ولم يعد بحاجة للشهادة التوراتية للمسيح، إلا أن فكرة توجيه الرسالة إلى إخوته من اليهود لم تفارقه على ما يبدو. وعلى أية حال فقد جاءت تلك الاستشهادات بشكل تلقائي أقرب إلى التداعيات منه إلى القصد من مثل: "... حينئذٍ تم ما قيل بالنبي القائل: وأخذوا الثلاثين من الفضة" أو "ووجد يسوع جحشًا فجلس عليه كما هو مكتوب..." أو "ولما صلبوه اقتسموا ثيابه... لكي يتم ما قيل بالنبي القائل: اقتسموا ثيابي..." هذا النوع من الاستشهاد، إن كان قد تغيَّأ غاية ما، فهي إقناع اليهود في حقبة تاريخية معينة بصدق رسالة المسيح. فهو تراث مسيحي تاريخي لا تتجاوز ظاهرتُه منتصف القرن الثاني الميلادي. وفي هذا المجال تختلف البشائر والرسائل، من حيث القصد، اختلافًا جذريًا عن السعي الذي بذله المسيحيون المتهوِّدون المحدثون من أجل إرجاع كل قول وحدث في الإنجيل إلى التوراة كما سنبيِّن لاحقًا.

2.ت. ما جاء منها على لسان البشراء من إيحاءات توراتية غير مباشرة:

مثل هذه الإيحاءات كثيرة في البشائر، ولكنها ليست من النوع الذي يعتد به للاحتجاج بتوراتية المسيحية. فمنها، مثلاً، صراخ الأعميين: "ارحمنا يا ابن داود!" – وهي رؤيتهما؛ والرجوع إلى سفر أشعيا في معرض الشهادة ليوحنا المعمدان بأنه "الصوت الصارخ في البرية" – و"المسيح لم يكن بحاجة إلى شهادة إنسان"؛ ورواية تجربة المسيح التي كان فيها كلامه الاستشهادي موجَّهًا إلى إبليس؛ وقول فيليبس لنثنائيل بأنه وجد يسوع بن يوسف الذي كتب عنه موسى – فهذه رؤية فيلبس الأولية؛ وتذكُّر التلاميذ لدى طرد المسيح الصيارفة من الهيكل ما جاء في المزامير "غيرة بيتك أكلتني"... فهذا ليس أكثر من تداعٍ وليس شهادة.

2.ث. ما جاء منها على لسان المسيح أو ما قام به من فعل مما اجتهد المسيحيون المتهوِّدون في ردِّه إلى التوراة:

المقصود بالمسيحيين المتهوِّدين بعض المذاهب التي تفرَّعت عن البروتستانتية في القرون الثلاثة الأخيرة، كشهود يهوه والسبتيين وجيش الخلاص، الذين لا يقبلون البشائر إلا إذا وجدوا لكلِّ كلمة ما يؤيِّدها من "العهد القديم"، كما دأبوا على تسمية التوراة. فعهد الله إلى إبراهيم ما زال قائمًا، والعهد الجديد الذي ذكره المسيح في العشاء الأخير لم يلغِ العهد القديم. وفي محاولاتهم إيجاد سند في التوراة لكلِّ قول وفعل من أقوال المسيح وأفعاله بالغوا وتعسفوا في الاجتهاد. وكانت نتيجة مثل تلك الجهود الخروج بما سُمِّي "الكتاب المشوهد" الذي طفح بالاستشهادات، المعقول منها وغير المعقول. وفيما يلي نماذج عن تلك الاجتهادات:

 

المؤيِّدات التوراتية
مًا ورد في البشائر

أقيم لهم نبيًّا من وسط إخوتهم مثلك [أي مثل موسى] وأجعل كلامي في فمه. (تثنية 18: 15)[10]

فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا إن هذا هو بالحقيقة النبي. (يوحنا 6: 14)

يوكل الرب... رجلاً على الجماعة يخرج أمامهم ويدخل أمامهم... لئلا تبقى جماعة الرب كغنم لا راعي لها. (عدد 27: 17)[11]

ولما رأى [المسيح] الجموع تحنَّن عليهم لأنهم كانوا معذبين مثل خراف لا راعي لها. (متى 9: 36)

 

وزرع اسحق في تلك الأرض فأصاب في تلك السنة مائة ضعف. (تكوين 26 :16)[12]

وبعض سقط في الأرض الجيدة فأعطى ثمرًا الواحد مائة والآخر ستين والآخر ثلاثين. (متى 13: 18)

لكنهم لم يعرفوا أفكار الرب ولا فهموا مشورته فإنه قد جمعهم [أعداء صهيون] كالأكداس إلى البيدر قومي فدوسي يا بنت صهيون. (ميخا 4: 12)[13]

الذي بيده المذرى ينقي بيدره ويجمع القمح إلى أهرائه ويحرق التبن. [يوحنا المعمدان عن المسيح] (لوقا 3: 17)

مسحت رأسي بالزيت وكأسي مروية. (مزامير 23: 5)[14]

أنت لم تدهن رأسي بزيت وهذه دهنت قدمي بالطيب. [رد المسيح على اعتراض سمعان الفريسي] (لوقا 7: 46)

وسمعت صوت الربِّ وعند سماعي أقواله كنت في سبات. (دانيال 10: 9)

وكان بطرس واللذان معه قد أخذهم ثقل النوم فلما أفاقوا رأوا مجده والرجلين الواقفين معه. (لوقا 9: 32)


 

3. في الناموس:

كلمة ناموس معرَّبة من Nomos اليونانية، ومعناها "الشرع". وبالنسبة للشرع اليهودي فإن الكلمة تعني التشريع الذي جاء على لسان موسى واجتهادات الأحبار. أما الوصايا العشر فهي قواعد اجتماعية معروفة ومطبَّقة قبل موسى بمئات السنين؛ ولم تأتِ التوراة بجديد فيها، باستثناء الوصية الخاصة بمراعاة راحة يوم السبت.

يعتمد المسيحيون المتهوِّدون على عبارة وردت على لسان المسيح في بشارة متى دون غيره، إذ يقول:

لا تظنوا أني أتيت لأحل الناموس والأنبياء. إني لم آتِ لأحل بل لأتمم.

وهكذا تغدو رسالة المسيح إتمامًا لرسالة موسى، ولا يكون المسيحي مسيحيًا إذا لم يؤمن باليهودية أولاً، وإلا يكون كمن يقرأ الكتاب من آخره!

ماذا كان الموقف العملي للمسيح والرسل من الوصايا والناموس؟ في موعظة المسيح على الجبل، التي وردت في الفصل السادس من بشارة متى، أعطى المسيح بعدًا جديدًا للوصايا الخاصة بتحريم القتل والزنا والحنث باليمين. فالغضب أول الطريق إلى القتل، وبالتالي فقد دعا إلى الحلم؛ والشهوة أول طريق الزنا، والحكم هنا على نية الزنا وليس على فعله بالضرورة، كما هي الحال في الناموس؛ أما اللجوء إلى قسم اليمين فهو سبيل الكذوب الذي لا يصدِّقه الناس. وتطرَّق المسيح إلى الشريعة، فتناول موضوع الطلاق الذي سمحت به الشريعة اليهودية فحرَّمه، والى العقاب الثأري "عينٌ بعين وسنٌّ بسن ويدٌ بيد ورجلٌ برجل" الذي جاء في تثنية الاشتراع، فدعا إلى نبذه وإلى الصفح؛ كما تعرَّض إلى كره العدو الذي جاء في تثنية الاشتراع على صورة أمر بمقاطعة العموني والموآبي، فدعا إلى محبة العدو.

لم يكتفِ المسيح بالموعظة على الجبل، بل انتهز كل فرصة ممكنة ليعلن القطيعة مع الشريعة الموسوية ويسخر من تحجُّرها. فقضية تحريم القيام بأي عمل يوم السبت نقضها المسيح في أكثر من مناسبة، نذكر منها موقفه عندما اعترض اليهود على تلاميذه لقلعهم السنابل وأكلها في يوم سبت إذ جاعوا (متى 12: 1)؛ فبعد أن استشهد بما فعله داود من نقض لحرمة الهيكل حين جاع، اختتم حديثه بالقول: "إن ابن البشر هو رب السبت أيضًا." ولم يتردَّد في شفاء المرضى في أيام سبت، على الرغم من علمه أن اليهود متربِّصون به يحصون عليه أنفاسه. اعترض اليهود كذلك على تلاميذه إذ تناولوا الطعام دون أن يغسلوا أيديهم، فصفعهم بقوله المأثور: "ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان بل ما يخرج منه."

كان المجتمع اليهودي أيام المسيح مجتمعًا غير متجانس، لا بل مجتمع طبقي من ناحية الدين. فثمة فئات من اليهود كانت تعتبر نفسها طبقة ممتازة ورمزًا للدين اليهودي وللمحافظة على الشريعة، منهم الفريسيون والكتبة والصدوقيون؛ وثمة فئات أخرى كانت مرفوضة من قبل الطبقة الممتازة، كالعشَّارين، وهم جباة الضرائب لحساب الدولة الرومانية، والسامريين الذين اختلطوا بالآشوريين أيام السبي الآشوري عام 720 ق م. وكانت الفئات الممتازة تأنف من الاختلاط بالفئات الدنيا وتعتبرها خارجة على الدين. ولكن المسيح لم يعطِ بالاً لهذه النزعة الفوقية؛ إذ كان يدرك أن رسالته ليست حكرًا على طائفة دون أخرى. فعندما أخذ الفريسيون والكتبة على تلامذة المسيح قبولهم دعوة لاوي وزكا العشَّارَين إلى الطعام أجابهم المسيح بقوله: "لم آتِ لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة." و"الأبرار" في كلامه ليسوا الفريسيون الذين كانوا بنظر المسيح أبعد ما يكون عن البرِّ، إذ طالما نعتهم بأولاد الأفاعي، وبالجيل الفاسق، وبالعميان قادة العميان، ووصفهم بخبث الطوية. ولما طلب إليه السامريون أن يقيم عندهم لم يتردَّد في أن يقبل وتلاميذه دعوتهم ويلبث يومين عندهم.

يظهر واضحًا من كل ما تقدَّم أن المسيح لم يأتِ ليتمِّم شريعة موسى بالمعنى الحرفي الذي يقصده المسيحيون المتهوِّدون، بل جاء ليتمِّم ويطوِّر مفاهيم وقواعد إنسانية موجودة قبل شريعة موسى. ولم يكن الدين اليهودي السائد آنذاك إلا المثل المضاد، وأحيانًا النقيض، الذي اتَّخذه المسيح ليبرز معاني رسالته ويشرحها. وليس أدل على ذلك من مثل "الرقعة الجديدة على الثوب القديم" و"الخمر الجديدة في الزقاق القديمة". ونظرًا للدلالة العميقة التي تحملها الكناية في هذا المثل، أجد من الضرورة بحثه بشيء من التفصيل.

لقد وردت هذه الكناية مسبوقة بكناية أخرى في بشائر متى ومرقس ولوقا على الوجه التالي:

سئل المسيح: "لماذا يصوم تلاميذ يوحنا [المعمدان] وتلاميذ الفريسيين كثيرًا بينما تلاميذك لا يصومون؟" فأجاب: "إن بني العرس لا يصومون ما دام العريس معهم، ولكن سيفعلون عندما يرتفع العريس."

ثم أورد الكناية التي نحن بصددها:

لا يخيط أحد رقعة جديدة على ثوب بالٍ وإلا فإن الجديد يأخذ ملأه من البالي فيصير الخرق أسوأ. ولا يجعل أحد خمرًا جديدة في زقاق عتيقة وإلا فتشق الخمر الجديدة الزقاق ويتلفان معًا. ولكن ينبغي أن تُجعَل الخمر الجديدة في زقاق جديدة فيحفظان معًا.

ويضيف لوقا:

ما من أحد يشرب المعتقة ويطلب الجديدة لأنه يقول إن المعتقة أطيب.

إن ورود المثلين متتابعين في البشائر الثلاث يوحي بوجود علاقة فيما بينهما. والواقع أن الخيط الذي يربطهما خيطٌ وثيق على الرغم من دقَّته. فتلاميذ يسوع ليسوا تلاميذ موسى ولا تلاميذ يوحنا، ولا يتبعون بالعقيدة أيًّا منهما، وإنما هم تلاميذ رسول جديد يحمل رسالة جديدة، ثوبًا جديدًا، خمرًا جديدة؛ وبالتالي فهم غير ملزَمين بالصوم اتِّباعًا للتقليد الموسوي. عريسهم هو المسيح، وعندما يرتفع المسيح يصومون. ثم يأتي المثل الثاني تأكيدًا للفكرة الأولى وتوسعًا فيها: فالثوب البالي هو الفكر التقليدي السلفي المتزمِّت الذي كان يصبغ عقيدة الفريسيين والكتبة، والرقعة الجديدة هي رسالة المسيح التي لا يمكن أن تصلح الثوب القديم، بل تزيد في بِلاه. الزقاق العتيقة كناية عن الإنسان القديم المحنَّط بالعقيدة السلفية؛ أما الزقاق الجديدة فهي الإنسان المستنير المتفتِّح لاستقبال الخمر الجديدة، رسالة المسيح، رسالة المحبة لبني البشر جميعًا. والذي اعتاد أن يشرب الخمر المعتقة، وبغضِّ النظر عن تجوُّد الخمر مع الزمن، لا يمكنه أن يطلب الخمر الجديدة، أي الرسالة؛ فهو متمسِّك بقناعته بأن الخمر العتيقة أطيب.

إن النتيجة الطبيعية لهذا المثل الكناية هي أن الذي يريد أن يتقبَّل الرسالة الجديدة يجب أن يرمي وراء ظهره بكلِّ ما وعاه من التعليم الفريسي الذي لا يمكن أن ينسجم مع الرسالة إلا بمقدار ما تنسجم الرقعة الجديدة مع الثوب القديم. وبعبارة أخرى، فإن المسيح يؤكد حتمية الطلاق الكامل بين العقيدة اليهودية ورسالته.

وقد جاءت الأحداث فيما بعد تؤكد حتمية هذا الطلاق، كما سنبين لاحقًا في بحثنا حول أعمال الرسل. وقد وصلت قناعة بولس الرسول بهذا الطلاق إلى الحدِّ الذي اتُّهم معه بأنه يغوي المسيحيين من اليهود عن دينهم بالارتداد عن موسى، "موصيًا بأن لا يختنوا بنيهم ولا يجروا على عوائدهم" ( أعمال الرسل 21).

4. في عالمية الرسالة:

يجد قارئ البشائر عبارات مبثوثة في ثناياها توحي بأن رسالة المسيح كانت مخصَّصة وليست عالمية. وهذا نوع من التباين الظاهري الذي أشرنا إليه والذي سمح لبعض المسيحيين بالإصرار على تخصُّص الرسالة إلى الحدِّ الذي يعتقدون معه أن مجيء المسيح مرهون بتجمع اليهود في فلسطين وتنصُّرهم. ولعل أبرز ما يمثل هذا التباين هو وصية المسيح للحواريين حينمًا أطلقهم للتبشير بالإنجيل.

في بشارة متى جاء ما يلي:

هؤلاء الاثنا عشر أرسلهم يسوع وأمرهم قائلاً: "إلى طريق الأمم لا تتَّجهوا ومدن السامريين لا تدخلوا، بل انطلقوا بالحري إلى الخراف الضالة من آل إسرائيل. وإذا ذهبتم فاكرزوا قائلين: قد اقترب ملكوت السموات."

أما البشير مرقس فقد أورد الرواية على الوجه التالي:

ودعا الاثني عشر وجعل يرسلهم اثنين اثنين وأعطاهم سلطانًا على الأرواح النجسة... وأوصاهم ألا يأخذوا شيئًا للطريق... فخرجوا وكرزوا بالتوبة.

بشارة لوقا أوردت الرواية على الوجه الذي وردت فيه عند مرقس، دون ذكر إرسالهم مثانيًا. ولكن ثمة رواية أخرى انفرد لوقا بإيرادها في الفصل العاشر، إذ روى أن الرب

عيَّن اثنين وسبعين آخرين وأرسلهم اثنين اثنين أمام وجهه إلى كل مدينة وموضع أزمع أن يأتي إليه.

يوحنا البشير لم يتطرَّق إلى هذه الحادثة، لا من قريب ولا من بعيد، ولم يكن على ما يبدو معنيًّا بها.

انفرد متى إذن بتخصيص الرسالة إلى الخراف الضالة من بني إسرائيل، نقلاً عن المسيح، وسكت عن ذلك مرقس ولوقا، الأمر الذي لا ينفي حدوثه. ولكن أقوال المسيح وأعماله كلَّها تنفي احتمال أن يكون هذا التخصيص موقفًا مبدئيًا ثابتًا. وأرى أن تخصيص بني إسرائيل، كما وَرَدَ عند متى، لم يكن رفضًا للكرازة بين الأمم، بل كان ضرورة مرحلية أملتْها المرحلة المبكرة من نشر الرسالة ورغبة المسيح باختبار مدى نجاح التلاميذ في نشرها. والروايات في البشائر توحي بذلك؛ فالتلاميذ انتشروا في القرى المجاورة وكرزوا، ثم عادوا فرحين متهلِّلين بالنتائج التي حقَّقوها. فالمهمة التي كُلِّفوا بها كانت إذن اختبارًا محدودًا. وتوصية التلاميذ بعدم الذهاب إلى الأمم والى السامريين إنما كانت توصية بحصر الرسالة في مدى مكاني قريب وبعدم الابتعاد كثيرًا عن الناصرة. ولا نجد أدل على صحة هذا الاستنتاج مما جاء من قول المسيح في ختام بشارة متى:

اذهبوا الآن وتلمذوا كل الأمم معمِّدين إياهم باسم الآب والابن والروح القدس.

وكان ذلك عند ظهوره للتلاميذ في الجليل بعد قيامته.

موقف آخر للمسيح يجدر التوقف عنده، وأعني حواره مع تلك المرأة الكنعانية (أو اليونانية) التي أتت إليه تطلب الشفاء لابنتها. فقد ورد رد فعل المسيح على استغاثة هذه الأممية عند متى على الوجه التالي:

فلم يجبها بكلمة. فدنا تلاميذه وسألوه قائلين: "اصرفها فإنها تصيح في إثرنا." فأجاب وقال لهم: "لم أرسل إلا إلى الخراف الضالة من آل إسرائيل." فأتت وسجدت له قائلة: "أغثني يا رب." فأجاب قائلاً: "ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويلقى للكلاب." فقالت: "نعم يا رب فإن الكلاب تأكل من الفتات الذي يسقط من موائد أربابها." حينئذ أجاب يسوع وقال لها: "يا امرأة عظيم إيمانك فليكن لك ما أردت."

ووردت الرواية عند مرقس بتفصيل أقل، ولكن دون أن تفقد شيئًا من العبرة الأساسية. فلو كان موقف المسيح من هذه المرأة الأممية موقفًا مبدئيًا ثابتًا، أي أنه أُرسِلَ إلى الخراف الضالة من بني إسرائيل حصرًا، كما يحلو للمسيحيين المتهوِّدين الإيحاء به، لما استجاب لها في نهاية المطاف. يبقى التفسير الوحيد لهذا الموقف، ألا وهو أن المسيح كان ظاهرًا يعبِّر عن تخصيص الرسالة، أو أنه كان يختبر إيمان المرأة التي نجحت في الاختبار، ولكنه كان فعلاً يعطي درسًا لتلاميذه في أن الرسالة ليست حكرًا على بني إسرائيل، بل هي متاحة لكل إنسان ينشد الهداية. ولأذهب أبعد من ذلك فأقول إن حواره مع المرأة يبدو وكأنه نوع من الطرح الذي ينطوي على سخرية خفية من أوهام اليهود الموعوظين من أنه يخصُّهم دون سواهم؛ ولكنها كانت سخرية مغلَّفة بسلوك جدي.

وحتى لا نبتعد كثيرًا نورد ما جاء على لسان متى، نقلاً عن أشعيا في روايته عن المسيح، عندما سمع بتوقيف يوحنا المعمدان فقد جاء ما يلي:

وترك [المسيح] الناصرة وجاء فسكن في كفرناحوم في تخوم زبولون ونفتالي ليتمَّ ما قيل بأشعيا النبي القائل: "أرض زبولون وأرض نفتالي طريق البحر عبر الأردن، جليل الأمم، الشعب الجالس في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا والجالسون في بقعة الموت وظلاله اشرق عليهم نور."

جليل الأمم، أي غير اليهود، القابعون في الظلمة، أشرق عليهم نور، هو نور المسيح!

نبي يهودي آخر هو سمعان تهلَّل قائلا عندما أُدخِلَ يسوع إليه في الهيكل:

الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام. فإن عيني قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته أمام وجوه الشعوب كلها، نورًا ينجلي للأمم ومجدًا لشعبك إسرائيل.

الشهادتان الأخيرتان جاءتا على لسان أنبياء إسرائيليين. أما النور الذي انجلى للأمم فلا ريب فيه؛ وأما المجد فلا يعدو حقَّ إسرائيل بالفخر من أن المخلِّص جاء منها حسب تصور سمعان.

كانت النتيجة أن الكيان اليهودي لم يعترف بالمسيح، بل طارده وقتله صلبًا، وبالتالي لم يبقَ لليهود ما يفخرون به. ثم ما لنا ولكلِّ هذا؟ أما زال اليهود المعاصرون يرفضون الاعتراف بالمسيح؟ أولم تقم المسيحية على أكتاف الأمم؟

الخلاصة:

إن الاستشهادات والإشارات التوراتية التي وردت في البشائر تمثل بالنسبة للمسيحية إرثًا تاريخيًا لا علاقة له بالعقيدة المسيحية. فهذا الإرث يمثل مرحلة معينة من تاريخ المسيحية، وهي مرحلة التبشير الأولى التي بدت فيها المسيحية لبعض الشعب اليهودي ملبِّية لتطلُّعاته الدنيوية. فالمسيحية، من وجهة النظر هذه، لم تكن تحقيقًا لأية نبوءات توراتية سابقة، كانت في مجملها تتعلق بخلاص الشعب اليهودي من حكم الرومان على يد نبي من نسل داود، الأمر الذي لم يحدث في الواقع. فإذا كنَّا نؤمن بألوهية المسيح وَجَبَ أن نؤمن كذلك بأن رسالته لم تكن مخصَّصة بل عالمية. فالإله الذي خلق العالم جميعًا لا يمكن أن يكون له شعب خاص، وإلا لما خلق الآخرين!

***


[1] من وحي عنوان مقال للمرحوم الشيخ عبد الله العلايلي "أطوطميون أنتم أم فقهاء؟"

[2] يعقوب وبطرس ويوحنا ويهوذا.

[3] راجع: الياس نجمة، يسوع المسيح، المطبعة البولسية، بيروت 1962، ص 2، ولوقا 1، نبوءة زكريا.

[4] أسد رستم، كنيسة مدينة الله أنطاكية العظمى، الجزء الأول، ص 132.

[5] راجع: الياس نجمة، يسوع المسيح؛ استقيت منه أكثر المعلومات المتعلقة بالبشائر وكتابتها.

[6] مرقس 12 ولوقا 20.

[7] رسالة بولس الثانية الى تيموثاوس 4: 11.

[8] الياس نجمة، يسوع المسيح، المطبعة البولسية، 1962، ص 25.

[9] Duel, Leo, Testaments of Time.

[10] كانت الإشارة إلى نبي يخلف موسى مثل يشوع.

[11] التشبيه الوارد هنًا تشبيه عام يرد إلى الخاطر في أية حالة مماثلة وليس بالضرورة إشارة إلى آية محددة في التوراة تتعلق بكلام الرب إلى موسى.

[12] المثل الذي ذكره المسيح كان يتضمن عددًا من الحالات، وبالتالي فهذه إشارة متعسفة لا معنى بها.

[13] يوحنا يشير إلى الفرق بين الذين سيؤمنون بالرسالة والذين سيرفضونها، بينما ميخا يتكلم عن أعداء اليهود. البيدر فقط هو الذي يجمع بين الآيتين.

[14] ليس ثمة ما يجمع بين الآيتين سوى الزيت؛ أما موضوع الاستشهاد فمفقود.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود