|
غاندي المتمرد 13: الصراع ضد النبذ الاجتماعي
على الرغم من أنَّ الحكومة البريطانية قد نظَّمَت القمعَ فقد كانت تنوي التحضيرَ لدستور جديد للهند. فبحسب المعلومات التي قدَّمَتْها الصحفُ الهنديةُ، كان مِن المتوقَّعِ منحُ نظامٍ انتخابي خاص بـ«الطبقات الدنيا» (Depressed Classes، وتعني حرفيًا: «الطبقات البائسة [المنبوذة]»). ومثلُ هذا الإجراء الذي يخصُّ بالدرجة الأولى المنبوذين يبدو غيرَ مقبول تمامًا لغاندي. فهو يرى أنَّ النبذ الاجتماعي هو أحد أكبر الشرور التي تعاني منها الهندُ. فالمنبوذون لا ينتمون إلى أية طبقة ويُـعَـدُّون كائناتٍ قذرةً. ويجب عليهم أنْ يعيشوا في القرى في منأىً عن الهندوس الآخرين. فلا يحقُّ لهم الوصول إلى بئر القرية وتوصَدُ أبوابُ المعابد في وجوههم. وأطلقَ غاندي عليهم اسمَ الهاريجان Harijans، ويعني "أبناء الله". ويرى غاندي أنَّ مِن الضروريِّ اعتبارَ الطبقات الدنيا جزءًا لا يتجزَّأ من الشعب الهندي؛ وإرادةُ إعطائهم نظامًا انتخابيًا خاصًا تنطوي تحديدًا على عزلِهم عن الشعب. مما يعني الإقرارَ بالنبذ الاجتماعي وقبولَ تبريرِ الهندوسيةِ له. ويعني، في نهاية المطاف، إدخالَ التمييز العنصري حتى في قلب العملية الديمقراطية التي يريد غاندي أنْ يُدرِجَ فيها النضالَ من أجل الاستقلال. غيْرَ أنَّ القادةَ السياسيين للمنبوذين يؤيِّدون من جهتهم وجودَ نظام انتخابي مستقل، لأنهم يعتقدون أنهم سيتمكَّنون بذلك من الدفاع دفاعًا أفضلَ عن مصالحهم أمامَ الهندوس الذين ينتمون إلى طبقات وأمامَ الأقليات الأخرى. بتاريخ 11 آذار/مارس 1932، بعثَ غاندي بكتاب إلى السِّيْر صموئيل هور Samuel Hoare، سكرتير الدولة في الهند، عبَّرَ له فيه عن معارضته الشديدة لمشروع الحكومة: أريد أنْ أكرِّرَ بحزم أشدَّ جميعَ الاعتراضاتِ التي لديَّ على إنشاء أنظمة انتخابية مستقلَّة من أجل الطبقات الدنيا. وأَعُـدُّ نفسي جزءًا منها. (...) وإنني أرى أنَّ المشكلة التي تطرحها هذه الطبقاتُ هي مشكلة أخلاقية ودينية قبل كل شيء. حتى إنَّ الجانب السياسي، مهما كان مهمًا، لَيتضاءلُ حتى يصبحَ لا معنى له مقارنةً بالرهان الأخلاقي والديني. (...) وبالتالي أُبَـلِّغُ حكومةَ جلالته بكل احترام بأنني سأُضطَرُّ إلى الصيام حتى الموت إذا ما قرَّرَتْ هي إنشاءَ هيئة انتخابية مستقلة للطبقات الدنيا. (...) بمقدار ما أتمَكَّنُ من التفكير في ذلك الآن فلن يجعلَ خروجي من السجن واجبي في الصيام أقلَّ حتميةً في شيء. مع ذلك فإنني أتمنَّى ألاَّ يكونَ لمخاوفي أيُّ مبرِّر أبدًا وألاَّ تكونَ للحكومة البريطانية أيةُ نية في إنشاء هيئة انتخابية مستقلة للطبقات الدنيا. وأشار غاندي في الرسالة نفسها إلى أنه قد يقرِّرُ الصيامَ أيضًا للاحتجاج على القمع الذي يُنزَلُ بالشعب الهندي: يبدو لي أنَّ القمع قد تجاوزَ ما يمكن تسميتُه بحدودِ ما هو مشروع. فقد انتشرَ إرهابُ الحكومة عبْرَ البلاد. (...) وكلُّ ذلك، بحسب ما يبدو لي، يُرتكَبُ بهدف القضاء على روح الحرية التي يمثِّلُها حزبُ المؤتمر. (...) ولا يمكن لهذا القمع أنْ يستمرَّ بدون أنْ يزيدَ في تسميم العلاقات بين شعبَينا والتي هي أساسًا مليئة بالمرارة. ضِمْنَ مسؤوليتي وبمقدار ما يمكنني المساهمة في ذلك، كيف يمكنني إيقافُ العمليةَ؟ وليس إيقاف العصيان المدني. إنَّ المسألة في رأيي عقيدة جوهرية. إنني أعتبرُ نفسي ديمقراطيًا بالطبيعة. ومفهومي عن الديمقراطية يتعارضُ تعارضًا كليًا مع استخدام المرءِ للقوة الجسدية بهدف فرض إرادته. ولذلك وُضِعَت المقاومةُ المدنيةُ لتكونَ بديلاً مناسبًا عن القوة الجسدية عندما تكون تلك ضروريةً أو مبرَّرة. إنها عملية تنطوي على قبول العذاب الشخصي ويجب على المقاوم المدني في بعض الظروف أنْ يضحِّيَ بنفسه بالصيام حتى الموت. هذه اللحظةُ لم تحِنْ بعدُ بالنسبة لي. إذْ لم أشعرْ بنداء داخلي من أجل القيام بمثل هذه الخطوة. لكنَّ الأحداث التي جرت في الخارج مقلقةٌ بما يكفي لكي تهزَّ أعماقَ كياني. ولذلك لمَّا كتبْتُ لكم بخصوص احتمال قيامي بصيام لأجل الطبقات الدنيا فكَّرْتُ بأنني لن أكونَ صادقًا معكم إذا لم أقل لكم أيضًا إنَّ هناك احتمالاً آخر غير مستبعَد وهو صيام بسبب القمع[1]. وردَّ صموئيل هور على غاندي بتاريخ 13 نيسان/أبريل 1932. أمَّا فيما يخصُّ مسألةَ نظام انتخابي مستقل من أجل الطبقات الدنيا فقد أوضحَ له أنَّ الحكومة البريطانية لم تتَّخذْ بعدُ قرارًا بهذا الشأن وأنها قبل أنْ تبتَّ في الأمر ستأخذُ في الحسبان جميعَ وجهات النظر التي قيلَت. وأضاف: أمَّا فيما يخصُّ القراراتِ فأستطيع فقط أنْ أكرِّرَ ما كنتُ قد قلتُه سواء في اللقاءات الخاصة أم العامة. إنني مقتنع أنَّ مِن الضروريِّ جدًا فرضُها لمواجهة الهجوم المتعمَّد الذي ينفَّذُ ضدَّ الأسس نفسها للحكومة الشرعية. كما أنني مقتنع بأنَّ حكومةَ الهند والحكوماتِ المحليةَ على حد سواء لا تسيء استخدامَ سلطاتِها الواسعة وتعمل كلَّ ما هو ممكن لتجنُّبِ التصرُّف بطريقة مفرطة أو انتقامية. ولن نُبقيَ الإجراءاتِ الاستثنائيةَ ساريةَ المفعول أكثرَ مما نُضطرُّ إلى ذلك لحماية الأسس الرئيسية للقانون ولحماية النظام ولحماية موظفينا والطبقات الأخرى في مجتمعنا لحمايتها من الاعتداءات الإرهابية[2]. إذا كان جوابُ سكرتير الدولة في الهند بشأن احتمال وضع نظام انتخابي مستقل من أجل الطبقات الدنيا مِن شأنِه أنْ يُطَـمْـئنَ غاندي في الوقت الحاضر فإنَّ ما قاله له بشأن تطبيق القرارات القمعية لا يمكنه إلاَّ أنْ يُقلِقَه. مع ذلك، وهذا ما يمكن أنْ يبعثَ على الاستغرابَ، لم يتَّخذْ غاندي القرارَ بالصيام من أجل وضع حد للقمع الذي ينزل بالمقاومين المدنيين وبمجمل السكان. لكنَّ رئيس الوزراء البريطاني، رامساي ماكدونالد Ramsay MacDonald، أعلنَ بتاريخ 17 آب/أغسطس 1932 قرارَ حكومته بإنشاء أنظمة انتخابية مستقلة خاصة بالأقليات. فكتبَ له غاندي في اليوم التالي يخبره أنَّ عليه أنْ "يقاوِمَ مثلَ هذا القرار بحياته": إنَّ الطريقَ الوحيد الذي يُمكنني أنْ أسلكَه من أجل القيام بذلك يَكْمُنُ في اتِّخاذ قرار بالقيام بصيام حتى الموت وذلك بامتناعي عن أي طعام باستثناء شرْبِ الماء بالمِلْح أو بدون المِلْح وبالصودا. وسيتوقَّف هذا الصيامُ عندما تقوم الحكومةُ البريطانيةُ، سواء بمبادرةٍ منها أم بضغطٍ من الرأي العام، خلال فترة قيامي بالصيام، بالعدول عن قرارها وبسحب مشروعها المتمثِّل بوضع نظام انتخابي مستقل من أجل الطبقات الدنيا التي يجب على ممثِّليها أنْ ينتخبَهم مجموعُ الناخبين بحسب القانون المعهود لديكم، أيًا كان حجمهم. وسيبدأ الصيام فعليًا اعتبارًا من العشرين من شهر أيلول/سبتمبر عند الظهيرة، إلاَّ إذا أعيدَ النظرُ في قرار الحكومة بالطريقة المقترحة أعلاه. (...) وأنا متأسِّفٌ على القرار الذي اتَّخذْتُه. لكنْ ما مِن طريقٍ مفتوح أمامَ الرجل المتديِّن الذي أعتبرُ نفسي أنني هو ذاك الرجل[3]. وبتاريخ 8 أيلول/سبتمبر 1932، يجيبه رئيسُ الوزراء، لكنه يتهرَّبُ من السؤال المطروح ولا يترك مجالاً لاستشفاف أيِّ تغيير في سياسته. فلم يكنْ من غاندي في اليوم التالي إلاَّ أنْ أكَّدَ له على قراره بالصيام. فاستيقظ في يوم العشرين من أيلول/سبتمبر في الساعة الثانية والنصف صباحًا وكتبَ رسالةً إلى طاغور يطلبُ منه بَرَكتَه. إذْ شعرَ بحاجة واضحة إلى أنْ يحصلَ على ضمان من «الشاعر»: تشير الساعةُ إلى الثالثة صباحًا، هذا اليوم هو الثلاثاء. سأجتازُ الأبوابَ المشتعلةَ portes enflammées عند الظهيرة. وأطلبُ منك أنْ تباركَ جهدي إنْ كان بالإمكان ذلك. فأنتَ لي صديق حقيقي، لأنك كنتَ صديقًا مخلِصًا تُعبِّر في أغلب الأحيان عن أفكاركَ بصوت عالٍ. (...) فإذا كان قلبكَ يوافقُ على عملي فإنني أطلب منك أنْ تباركَه. فذلك سيدعمني. أتمنَّى أنْ أكونَ قد عبَّرْتُ عما أريد بوضوح. مع محبتي[4]. وقبلَ أنْ يرسلَ غاندي هذه الرسالةَ مباشرةً، تلَقَّى برقيةً من طاغور يقول له فيها: يستحقُّ الأمرُ عناءَ القيامِ بالتضحية بحياة غالية من أجل وحدة الهند وسلامتها اجتماعيًا. وعلى الرغم من أنه لا يمكننا التنبُّؤ بالتأثير الذي يمكن أنْ تُحْدِثُه المناشدةُ الأخيرةُ التي تقومُ بها مثلُ هذه التضحية لضميرِ مواطنينا على قادتنا الذين قد لا يفهمون أهميتَها الكبيرةَ لشعبنا فإننا على يقين من أنَّ هذه المناشدة الأخيرة لن تذهبَ سدىً. وآملُ بلهفةٍ ألاَّ يكونَ لدينا مِن اللامبالاةِ ما يسمحُ لمثل هذه المأساة الوطنية أنْ تبلغَ أقصى مدىً لها. إنَّ قلوبنا الحزينةَ ستُتابعُ قصاصَكم [الكَفَّارة] السامي باحترام ومحبة[5]. وفي الساعةِ الحاديةَ عشرةَ والنصفِ، تناولَ وجبتَه الأخيرةَ: عصيرَ ليمونٍ وماءً ساخنًا بالعسل. وعندما دقَّتْ ساعةُ السجن الثانيةَ عشرةَ ظهرًا بدأ صيامُ غاندي. وعند المساء، سُمِحَ للصحفيين بمقابلة غاندي. فقال لهم: ما أريدُ وما أعيش لأجله وما سيسعدني الموتُ لأجله هو قَطْعُ جذور النبذ الاجتماعي وقَطْعُ أغصانه في آنٍ واحد. فمن أجل تحقيقِ ما هو حُلُم حياتي منذ خمسين عامًا قمتُ اليومَ بعبور الأبواب المشتعلة portes enflammées. لقد كان قرارُ الحكومةِ البريطانية القطرةَ الأخيرةَ التي جعلَت الإناءَ يطفحُ [أو القشَّةَ التي قصمَتْ ظهرَ البعير]. وأعتقد أنه إذا اجتُثَّ النبذُ الاجتماعيُّ من جذورِه فلن يغسلَ الهندوسيةَ وحدَها من وصمةٍ مرعبةٍ فحسبُ، بل سيكون لذلك انعكاسٌ من شأنِه أنْ يمتدَّ إلى العالَم أجمع. إنَّ نضالي ضدَّ النبذ الاجتماعي هو نضالٌ ضدَّ كلِّ ما هو موجودٌ من دَنَسٍ لدى البشرية[6]. ولذلك فإنَّ مِن الواضحِ أنَّ قضيةَ النظام الانتخابي للطبقات الدنيا لم تكنْ في نظر غاندي إلاَّ الفرصةَ التي كان ينْوي انتهازَها من أجل النضال ضد النبذ الاجتماعي. فضرورةُ استئصال هذا الشرِّ ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالمفهوم الذي يُكَوِّنُـه غاندي عن تحرير بلاده. إنها ضرورةٌ مُلِحَّـةٌ كإلحاح ضرورة تحرير الهند من السيطرة البريطانية. وعند المساء، تكلَّمَ طاغورُ عن صيام غاندي في جامعة سانتينيكيتان Santiniketan شمالَ كالكوتا، حيث صرَّح قائلاً: ظِلٌّ يمتدُّ اليومَ على الهند، شبيهٌ بالظلِّ الذي يُحْدِثُه كسوف الشمس. والشعبُ في بلد بأكمله يعاني من ضيق حاد بحيث ينطوي عمومُ هذا البلاء على وافر كبير من العَزاء. إنَّ مهاتمانا هذا والذي جعلَ في الحقيقة من الهند قضيتَه على مرِّ حياتِه قد بدأَ بالتضحية القصوى بنفسه والتي كان قد وعدَ بها. (...) القِصاصُ [الكَفَّارة] الذي فرضَه المهاتما على نفسه ليس طقسًا دينيًا، بل هو رسالة موجَّهةٌ إلى الهند كلِّها وإلى العالَم. لا يمكن لأي مجتمع متحضِّر أنْ يتطوَّرَ على ضحايا تتشوَّهُ الإنسانيةُ بهم بصورة مستمرة. إننا نهينُ إنسانيتَنا عندما نهينُ إنسانًا بلا دفاع. وقد أكَّدَ مهاتمانا الغالي باستمرار على خطر هذه الانقسامات على بلادنا. فضِدَّ هذا الضعفِ الأخلاقي الضاربِ جذورَه عميقًا في مجتمعنا أطلقَ مهاتمانا الغالي إنذارَه الأخير[7]. كان غاندي ينْوي من خلال اتِّخاذه قرارًا بالصيام حتى الموت أنْ يستنهضَ الهندوسَ أكثرَ من نيَّتِه استنهاضَ الحكومة البريطانية. فأثارت حركتُه تعبئةً هائلةً في جميع أنحاء الهند. فقام هندوسٌ ينتمون إلى طبقات مختلفة في جميع أنحاء البلاد بالتآخي مع المنبوذين في التجمُّعات العامة وفُتِّحَتْ أبوابُ معابدَ عديدةٍ بوجه مَن كانوا إلى ذلك الحين ممنوعٌ عليهم ولوجُها. بتاريخ 22 أيلول/سبتمبر، نقلَت الحكومةُ زوجةَ غاندي من سجن سبَرْماتي إلى سجن ييراﭭـدا وسمحَت لها بالبقاء إلى جانب زوجها. وبتاريخ 23 أيلول/سبتمبر، رأى الأطباءُ أنَّ حالة غاندي الصحية قد أصبحَت مقلِقةً. فقد بلغَ به الضعفُ حدَّه الأقصى ولم يعدْ قادرًا على المشي. وبتاريخ 24 أيلول/سبتمبر، وبعد مفاوضاتٍ عديدةٍ وصعبةٍ مع ممثِّلي المنبوذين، توصَّلَ القادةُ الأساسيين لمختلف الطوائف الهندوسية إلى تسوية. ووقَّعوا اتِّفاقًا أخذَ فيما بعدُ اسمَ ميثاق ييراﭭـدا. بناءً على هذا الاتِّفاق، يحصلُ المنبوذون على مقاعدَ مخصَّصةٍ – وقد ارتفعَ عددُها ارتفاعًا كبيرًا جدًا فانتقلَ من 71 مقعدًا ليصلَ إلى 147 مقعدًا – ويجري الاقتراعُ في فترتين زمنيتين. فخلال انتخابات أولية عيَّنَ المنبوذون أربعةَ مرشَّحين، وعند الاقتراع العام صوَّتَ جميعُ الهندوس لواحد من هؤلاء المرشَّحين. وبذلك استُبعِدَ مبدأُ الهيئة الانتخابية المستقلة. لكنْ يجب الحصولُ أيضًا على موافقة الحكومة البريطانية لكي تضعَ الإجراءاتِ التي أوصى بها ميثاقُ ييراﭭـدا محلَّ الإجراءات التي كانت متَّخَذةً. وعلى الرغم من أنَّ تاريخَ 25 أيلول/سبتمبر كان يصادفُ يومَ الأحد فقد اجتمعَ رئيسُ الوزراء رامساي ماكدونالد عند المساء بمعاونيه الأساسيين بهدف اتِّخاذ قرار. وفي صباح اليوم التالي، أعلنَت الحومةُ البريطانيةُ أنها توافق على الاقتراحات التي عُرِضَت عليها. ونظرًا لأنَّ غاندي كان يعي أنَّ مِن غيرِ الممكنِ تقريبًا التوصُّلَ إلى أفضل اتِّفاق فإنه قد وافقَ على إنهاء صيامه. وفي حوالي الساعة الخامسة بعد الظهر، وبحضور طاغور الذي وصلَ منذ قليل بعد أنْ قطعَ كلَّ الهند لكي يكونَ إلى جانب غاندي، شربَ [غاندي] كأسًا من عصير البرتقال كانت قد قدَّمَتْه له زوجتُه كاستورباي Kasturbai. وهنا أيضًا، كان الرأي المختلف لجواهرلال نهرو بهذا الصيام موضِحًا بصورة خاصة ويتيح فهمًا أفضل لموقف غاندي. كان نهرو في السجن عندما علِمَ بقرار غاندي بالشروع بصيام غير محدود. فكتبَ يقول: لقد أثار هذا الخبرُ بالفعل أفكارًا صاخبةً في ذهني. لن يكفَّ غاندي جي إذًا أبدًا عن مفاجأة عالَمِه! واختلطَت جميعُ أنواع الفرضيات في رأسي. فعشتُ خلال ثمانٍ وأربعين ساعةً في ظلماتٍ وغياهبَ دامسةٍ، ذاهلاً واجمًا من التفكير بالنتائج التي يمكن أنْ تسبِّبَها حركةُ المهاتما. كان يخشى في بادئ الأمر أنْ يحصلَ أسوأُ شيء لغاندي نفسه وكانت ترعبُه فكرةُ ألاَّ يعودَ يراه ربما. وبالتالي لم يفكِّرْ بتاتًا بأنَّ رهان هذا الصيام حتى الموت يمكن أنْ تكونَ له أهميةٌ ما لنضال الهند من أجل الاستقلال. لكنَّ هموم غاندي الشديدةَ وتباريحَه هدأَتْ وعادت وانتصرَت الطمأنينةُ والرجاءُ. فأشارَ قائلاً: يمتلك غاندي جي موهبةً فريدةً تتمثَّلُ بفعل ما ينبغي في اللحظة الحاسمة تمامًا؛ وربما سيكون لحركته – التي لا يمكنُ تبريرُها من وجهة نظري – انعكاساتٌ كبيرةٌ جدًا ليس فقط على المجال الضيق الذي توجَّهَت إليه هذه الحركةُ، بل على أوسع حقل في نضالنا الوطني. (...) ثم جاءَ خبرُ الموجةِ الهائلة للرأي العام والتي كانت تتدفَّق في البلاد وخبرُ الحماسِ المتَّقِد الذي لم يسبقْ له مثيلٌ والذي كان يثير كلَّ المجتمع الهندوسي... قيلَ إنَّ حاجزَ الطبقات قد تهاوى أمام المنبوذين! انتهى الأمرُ، ولم يعدْ هناك من منبوذين! وفكَّرْتُ: أيَّ ساحر كان ذلك الرجلُ الصغير وهو في سجنه في ييراﭭـدا! أيَّ حدس وأي فن كان له في العثور على الوتر الحساس الذي كان يهتزُّ حتى في أعماق القلوب[8]! ولم ينسَ غاندي من جهته نهرو فأرسلَ إليه البرقيةَ التالية: "خلال كلِّ هذه الأيام من العذاب الشديد لم تغِبْ عن أفكاري. راغبٌ جدًا بمعرفة رأيكَ. وأنتَ تعرف القيمةَ التي أوليها لذلك[9]." وأجابه نهرو بهذه الكلمات: إنَّ برقيتَكَ والإعلانَ القصيرَ عن الاتفاق أراحا نفسي وغمراني بالفرح. كان الخبرُ الأول عن صيامكَ قد أغرقَني في عذاب واضطراب، ولكنَّ التفاؤلَ عاد وتغلَّبَ واستعدْتُ السلامَ. ما مِنْ تضحيةٍ أكبر من الحصولِ على إلغاء حاجز الطبقات. لا تكون هناك حرية حقيقية مادام أنَّ عامة الناس غير أحرار. لكنني أخشى من خطر أنْ تُنسيَ المشاكلُ الأخرى الهدفَ الوحيدَ. إنني عاجز عن الحكم على الجانب الديني. أخشى من رؤية مناهجكم يستغلُّها الآخرون. لكنْ مِن الرجم بالغيب إعطاءُ نصائحَ لساحر. بمحبة[10]. بتاريخ 15 تشرين الأول/أكتوبر 1932، كتبَ طاغورُ إلى كارل هيث Carl Heath، رئيس إنديا كونسيلييشن غروب India Conciliation Group [مجموعة المصالحة الهندية] في لندن. وعبَّرَ في رسالته عن تضامنه التام مع غاندي ومع حزب المؤتمر ووجَّه اتِّهامًا عنيفًا جدًا وشديدًا لسياسة الحكومة البريطانية: سنحَت ألفَ مرةٍ خلال تلك السنوات الأخيرة فُرَصٌ للحكومة للاستجابة لنداء الإنسانية في الهند. وكانت إحدى هذه الفُرَصُ رغبةَ المهاتما جي عند عودة مؤتمر الطاولة المستديرة بالتباحث مع نائب الملك. لكنَّ بادرةَ المهاتما جي قد استُخِفَّ بها؛ وفي نهاية الأمر زُجَّ في السجن. ومنذ ذلك الحين، دخلَت الحكومةُ علنًا في سياسة قمعية ملوِّثةً سمعتَها بجنون عقلها أمام أعين الملايين من البشر. وانتقلَت الحكومةُ من خطأ إلى خطأ حتى نجحَت في نشر حالة حرب وشيكة في الهند. (...) إنَّ الرادع الحقيقي للفوضى ولانعدام الثقة بين شعبنا وبين الإنكليز هو تأثير حزب المؤتمر بقيادة المهاتما جي. إلاَّ أنَّ آلاف النبلاء من أعضاء حزب المؤتمر قد أُودعوا السجنَ كمجرمين، وكانت جريمتُهم الوحيدةُ هي إخلاصهم للمهاتما جي وللجماهير التي يدافعون عن مصالحها بحماس. وأُعلِنَ حزبُ المؤتمر، كتنظيم، أنه غير شرعي، وصودرَت أموالُه، واضطُهِدَ مؤيِّدوه اضطهادًا لا رحمةَ فيه. (...) لا يمكن للسلام الحقيقي في الهند أنْ ينتجَ إلاَّ عن اعتراف صادق تقوم به الحكومةُ بالحقوق الأساسية لإنسانيتنا. لقد أثبتَ مهاتما جي للعالَم صدقَ نيَّتِه الواضحَ: أفلا تريد الحكومةَ الردَّ على ذلك[11]؟ لكنَّ الحكومةَ، حتى الآن، لا تريد إلاَّ الحفاظَ على سلطتها. ترجمة: محمد علي عبد الجليل *** *** *** [1] المجلد 49، ص 191-193. [2] المجلد 49، ص 534-535. [3] المجلد 50، ص 383. [4] المجلد 51، ص 101. [5] المجلد 51، ص 109. [6] المجلد 51، ص 118. [7] ذكرَه لويس فيشر Louis Fischer، La vie du Mahatma Gandhi [حياة المهاتما غاندي]، سبقَ ذِكْرُه، ص 289-290. [8] الـﭙـانديت نِهْرو Pandit Nehru، Ma vie et mes prisons [حياتي وسجني]، سبقَ ذِكْرُه، ص 290-291. [9] ذكرَه نهرو، سبقَ ذِكْرُه، ص 291. [10] المرجع السابق، ص 291-292. [11] نوﭭـيل دو لاند Nouvelles de l'Inde [أخبار الهند]، كانون الثاني/يناير 1933.
|
|
|