|
غاندي المتمرد 14: وتوقَّفَت المعركة...
بينما كان غاندي يهتمُّ بمصير المنبوذين، كان من المفروض أنْ تستمرَّ حملةُ العصيان المدني. إلاَّ أنَّ نائب الملك غيرُ مستاء من رؤية سجينه يصبُّ اهتمامَ الهنود على مسألة النبذ الاجتماعي التي لا تهمُّ في المحصِّلة بريطانيا العظمى بصورة مباشرة. فأبرقَ إلى لندن بتاريخ 9 تشرين الثاني/نوفمبر 1932 يقول: يبدو من الثابت تمامًا أنَّ غاندي ينوي تكريسَ نفسِه لقضية المنبوذين حصرًا وأنَّ العصيان المدني لا بدَّ أنه انتقلَ إلى المرتبة الثانوية. هذا التطوُّرُ في الموقف يناسبنا جدًا، ولا أودُّ فِعْلَ أيِّ شيء للحيلولة دون ذلك[1]. ولم يعُدْ أعضاءُ حزبِ المؤتمر والمؤيِّدون، من جهتهم، يعرفون جيدًا أيةَ استراتيجية يطبِّقون. وعلى الرغم من عدم وجود أي تعارُض بين النضال ضدَّ النبذ الاجتماعي وبين العصيان المدني فإنَّ قادة حزب المؤتمر قد وجدوا صعوباتٍ حقيقيةً في التوفيق بينهما، بل في ربط أحدهما بالآخر. ابتداءً من 17 تشرين الثاني/نوفمبر وحتى 24 كانون الأول/ديسمبر 1932، عُقِدَتْ في لندنَ الدورةُ الثالثةُ لمؤتمر الطاولة المستديرة. لم يكنْ لديها عمليًا أيُّ رهان ولم تكنْ حدثًا إنْ صحَّ القولُ. وقد صرَّحَ راجيندرا ﭙـرازاد Rajendra Prasad، رئيسُ حزب المؤتمر، بتاريخ 4 كانون الثاني/يناير 1933، وهو يوم ذكرى اعتقال غاندي، صرَّح ما يلي: ما جرى في مؤتمر الطاولة المستديرة الذي اجتمعَ للمرة الثالثة بعد انقطاعٍ لمدة سنة كشفَ أنَّ الحكومة البريطانية قد عزمَت ليس فقط على رفْض مطالب الأمة التي تُطالِبُ باستقلالها التام، كما هي مذكورة في قرارات حزب المؤتمر في لاهور وفي كراتشي، بل أيضًا على رفْض الطلبات الأكثر تحديدًا والأكثر تواضعًا للعناصر الأكثر اعتدالاً والأكثر تعقُّلاً في الأمة. وما مِن نيَّةٍ بتاتًا في التخلِّي عن السلطة حتى ولو جزئيًا، وإنَّ الدستور الذي ربما سيُفرَض على الأمة لن يقومَ على الأرجح سوى بزيادة الوضع الحالي سوءًا؛ إذْ سينقل عدمَ الثقة الذي سبَّبَتْه الحكومةُ الرديئةُ والإرهابُ والعدوانُ المشرعَنُ ونهبُ الهند واستغلالُها وتكاتُفُ الإنكليز مع الهنود المكلَّفين بتطبيق الدستور المزعوم بناءً على أوامر الإنكليز، وهؤلاء الإنكليزُ يستمرُّون في توجيههم وقيادتهم في الخفاء وفي التمتُّع بسلطات الحياة والموت على الهنود كما هي الحالة الآن[2]. بتاريخ 7 كانون الثاني/يناير 1933، ينشر غاندي بيانًا يُشيرُ فيه إلى ما يلي: ينبغي على المقاومين المدنيين أنْ يقرِّروا إنْ أرادوا أنْ يستمرُّوا في العصيان المدني أو أنْ يكرِّسوا أنفسَهم للعمل ضدَّ النبذ الاجتماعي. إنها مسألة لا يمكنني أنْ أبُتَّ فيها عنهم. من وجهة نظر دستورية، وبعد أنْ أجتازَ أبوابَ السجن، ليس في مقدوري قيادةُ حركة العصيان المدني بأي شكل من الأشكال[3]. وفي رأي نهرو، كان قرارُ غاندي بإيلاء الأولوية لاستئصال النبذ الاجتماعي قد أعاقَ تطوُّرَ حملة العصيان المدني. فأشار إلى أنَّ "هذا الصيام قد أيقظَ تمامًا ضميرَ جماهيرَ غفيرةٍ، ولكنه أيقظَ ضميرَها لتوجيهه باتِّجاه آخر[4]." في ليل الثامن والعشرين من نيسان/أبريل 1933، سمِعَ غاندي صوتًا يطلبُ منه الصيامَ خلال واحد وعشرين يومًا. وفي 30 نيسان/أبريل، نشرَ بيانًا أعلنَ فيه أنه سيصومُ من تاريخ 8 أيار/مايو ظهرًا وحتى تاريخ 29 أيار/مايو ظهرًا. وأوضحَ أنَّ هذا الصيام يهدف إلى دعم قضية المنبوذين. "إنها صلاة من القلب من أجل تطهير نفسي وأصحابي بهدف تيقُّظ أكبر وانتباه أكثر." ولكي يتحاشى أيَّ التباس، حرصَ على الإشارة إلى ما يلي: ليست عندي أيةُ رغبة في الموت. أريد أنْ أعيشَ لخدمة هذه القضية، حتى وإنْ كنتُ أتمنَّى أنْ أكونَ مستعدًَّا أيضًا للموت من أجلها[5]. وبتاريخ 2 أيار/مايو، كتبَ غاندي إلى طاغور: "إذا كان قلبُكَ يوافقُ على الصيام الذي أنْوي القيامَ به فإنني أطلبُ من جديدٍ بركتَكم[6]." لكنَّ طاغور لا يريد هذه المرةَ أبدًا أنْ يشجِّعَه على إتمام مشروعه. فأجابه: ربما ترتكبُ خطًا بشأن الضرورة المُلِحَّة لقراركَ الحالي، وعندما ندرك وجودَ خطر جدِّيٍّ بأنْ تكونَ عاقبتُه وخيمةً فإننا نرتجفُ لفكرة أنَّ مِن الممكنِ أنْ ترتكبَ خطًا رهيبًا لا يعود في الإمكان إصلاحُه. (...) قد تكونُ مخاوفي نتيجةً لخوفٍ مَصْدَرُه الجهلُ[7]. في مساء يوم الثامن من أيار/مايو، وبينما كان غاندي قد بدأ بالفعل صيامَه في السجن، أعلنَت الحكومةُ إطلاقَ سراحه. مِن الواضحِ أنَّ الحكومةَ البريطانيةَ لا تريد أنْ يموتَ المهاتما في سجنه. ورضيَ غاندي بأنْ يَحُـلَّ ضيفًا على الليدي ﭙـريمليلا ثاكيرسي Lady Premlila Thackersay التي كانت تمتلك دارًا على هضبة ﭙـونا Poona. أمَّـا نِهْرو فقد كان أكثرَ قلَقًا واضطرابًا أيضًا مما كان عليه في الصيام السابق. فردَّ بهذه الكلمات على رسالةٍ كان غاندي قد أرسلَها إليه قبل بضعة أيام: ماذا أقولُ بشأن أمور لا أفهمُها. أشعرُ بأنني ضائع في أرضٍ غريبةٍ أنتَ فيها نقطةُ العَلاَّم الوحيدةُ المألوفةُ لي. أحاولُ أنْ أجدَ طريقي متخبِّطًا خبْطَ عشواءَ في الظلام ولكنني أتعثَّرُ. مهما يحصلْ فسأكون معكَ بالفكر وبالعاطفة[8]. ولكنْ بعد أنْ بدأَ الصيامُ أرادَ نِهْرو أنْ يؤكِّدَ لغاندي تضامنَه معه. فأرسلَ إليه برقيةً ثانيةً قال فيها: ها أنتَ الآنَ قد انخرطْتَ في مشروعكَ الكبير فاسمحْ لي أنْ أؤكِّدَ لك أيضًا كلَّ عطفي وشعوري الذي أصبحَ أوضحَ حاليًا بأنَّ الأمرَ سيكون خيرًا مهما حصلَ وبأنكَ ستنتصرُ[9]. وخلافًا لكلِّ التوقُّعات فقد تحمَّـلَ غاندي بدون مشقَّةٍ جمَّةٍ صيامَ الواحد والعشرين يومًا وبدأَ يعود إلى الأكل ابتداءً من ظهر يوم 29 أيار/مايو. وصرَّحَ آنذاك قائلاً: "لا أعرف بالضبط ما هو العملُ الذي ينتظره اللهُ مني. ولكنْ مهما يكنْ من أمرٍ فإنني أعلم أنه سيمنحني القوةَ للقيام بذلك العمل[10]." وبتاريخ 8 أيار/مايو الذي صادفَ اليومَ نفسَه الذي بدأ فيه غاندي بصيامه، طلبَ غاندي من الرئيس الجديد لحزب المؤتمر، م.س. آني M.S. Aney، أنْ يعلِّقَ حركةَ العصيان المدني لشهر أو حتى لستة أسابيعَ على أمل الحصول من الحكومة على هدنة جديدة بهدف إحلال السِّلْم المدني. وفي اليوم التالي، علَّق م.س. آني العصيانَ المدنيَّ لستة أسابيعَ. كتبَ نهرو يقول [بهذا الخصوص]: لقد وجَّهَ هذا التعليقُ الضربةَ القاضيةَ للحركة وأجهَزَ عليها: فطاقةُ أي بلد تدخلُ في صراع وطني لا تعملُ كما يعملُ المصباحُ فنضيئه أو نطفئه على هوانا، بكبس الزِّرِّ أو المفتاح[11]. وفي منتصف شهر حزيران/يونيو، وبدون أنْ تُبديَ الحكومةُ أيَّةَ نيةٍ كانت في التفاوض، قرَّرَ حزبُ المؤتمر تمديدَ تعليقِ العصيان المدني لستة أسابيعَ إضافيةٍ. ولكنْ قبلَ انقضاءِ هذه المهلة الثانية، جرى لقاءٌ غيرُ رسمي لقادة حزب المؤتمر الذين مازالوا أحرارًا وذلك في ﭙـونا Poona في الفترة الواقعة ما بين 12 و14 تموز/يوليو. وقد شاركَ فيه ما يقاربُ المئةَ والخمسين مندوبًا وتباحثوا في مواصلة حركة العصيان المدني. وفي نهاية الأمر، تمَّ اتِّخاذُ قرارٍ بالسماح لغاندي بأنْ يطلبَ مقابلةَ نائب الملك بهدف أنْ يتحرَّى معه إمكانياتِ التوصُّل إلى اتِّفاق. عندئذٍ طلبَ غاندي بتاريخ 14 تموز/يوليو مقابلةَ اللورد ويلينغدون بهدف "تحَرِّي فُرَص السلام[12]". لكنَّ نائبَ الملك أبلغَه عن طريق سكرتيره الخاص أنه لن يوافق على لقائه إلاَّ بشرط أنْ يحترمَ حزبُ المؤتمر الدستورَ ويضعَ حدًا لحركة العصيان المدني. فبعثَ غاندي بتاريخ 17 تموز/يوليو برقيةً إلى نائب الملك جاء فيها: عندما ألجأُ إلى اللاتعاون أو إلى العصيان المدني فذلك من أجل إقامة تعاون وطاعة حقيقيَّينِ وإراديَّينِ للقوانين بدلاً من تعاون وطاعة بالإكراه. أتمنَّى بالتالي تلبيةَ طلبي بالمقابلة[13]. لكنَّ سكرتير اللورد ويلينغدون أجابه: كان سعادتُه قد تمنَّى أنْ يكونَ موقف الحكومة واضحًا. ويقوم [الموقفُ] على التأكيد على أنَّ العصيان المدني هو منهج يهدف إلى إكراه الحكومة بوسائلَ غير قانونية وأنَّ الموضوعَ بالتالي ليس موضوعَ الحصول على محادثة مع ممثل رابطة لم تتخلَّ عن هذا المنهج[14]. أمامَ طريق مسدود كهذا، قرَّرَ غاندي وقادةُ حزب المؤتمر تعليقَ العصيانِ المدني الجماهيري وحصْرَ المقاومةِ بعصيان مدني فردي. كتبَتْ س. ﭙـانتر-بريك S. Panter-Brick: "كان الأمرُ اعترافًا بحالة واقعية: غياب التعليمات والقيادة والعمل الجماعي. فقد أصبحَ كلُّ مقاوِم يتصرَّفُ من تلقاء نفسه[15]." في الحقيقة، مثلُ هذا الإجراء الناقص لا يمكنه إلاَّ أنْ يُضعِفَ الحركةَ أكثر فأكثر. بتاريخ 30 تموز/يوليو 1933، أبلغَ غاندي حكومةَ بومباي أنه قرَّرَ الشروعَ بمسير مع 16 رفيقة و16 رفيق. وكان هدفُه الذهابَ من قرية إلى قرية من أجل "نقل رسالة البسالة إلى كل منزل[16]" وذلك بأنْ يقترحَ على القرويين أنْ ينخرطوا في العصيان المدني الفردي أو على الأقل أنْ يشاركوا في البرنامج البَنَّـاء الذي حدَّدَه حزبُ المؤتمر. لكنْ في الأول من آب/أغسطس، وكما هو متوقَّع وكما هو – على الأرجح – محدَّد، اعتُقِلَ الجميعُ وسُجِنوا حتى قبل أنْ يبدأوا رحلتَهم. وسيقَ غاندي من جديد إلى سجن ييراﭭـدا. وأُطلِقَ سراحُه بتاريخ 4 آب/أغسطس، لكنَّه أُجبِرَ على الإقامة في ﭙـونا. وبما أنه أكَّدَ أنه لا ينْوي بتاتًا الامتثالَ لهذا الإكراه فقد اعتُقِلَ مرةً أخرى وحُكِمَ عليه بالسجن لمدة سنة واحدة. وبتاريخ 14 آب/أغسطس، بعثَ برسالة إلى حكومة بومباي ليُبلِغَها بأنه قد قرَّرَ الشروعَ من جديد بصيام حتى الموت احتجاجًا على اعتقاله فكتبَ يقول: "لا تعود الحياةُ تعنيني إذا لم أتمكَّنْ من العمل بكل حرية من أجل قضية المنبوذين[17]." ولمَّا لمْ ترَ الحكومةُ أنَّ عليها أنْ تُلَبِّيَ مطالبَه فقد توقَّفَ غاندي عن الأكل بتاريخ 16 آب/أغسطس عند الظهر. وبعدَ يومين، نشرَت الحكومةُ بيانًا أعلنَتْ فيه "استعدادَها، بشرطِ أنْ يحرصَ السيدُ غاندي جيدًا على التخلِّي عن نشاطاته وتحريضِه بشأن العصيان المدني، استعدادَها لإطلاق سراحه مباشرةً بحيث يتمكَّنُ من تكريس نفسه بالكامل وبدون قيد أو شرط لقضية الإصلاح الاجتماعي[18]". لكنَّ غاندي رفضَ هذا الإفراجَ المشروطَ. وبتاريخ 21 آب/أغسطس، وبينما كانت حالتُه الصحيةُ مُقلِقةً جدًا، نُقِلَ إلى مستشفى ﭙـونا. لكنه كان لا يزال سجينًا ولذلك رفضَ أنْ يتناولَ الطعامَ. ولم يكنْ أمام الحكومةِ من حلٍّ آخر غير إطلاق سراحه بدون شروط بتاريخ 23 آب/أغسطس. وأُطلِقَ سراحُ جواهرلال نهرو بتاريخ 30 آب/أغسطس 1933. فقام بتحليل الوضع الذي وجد فيه بلادَه من جديد على هذا النحو: لقد كان الوضعُ يسودُه صمتٌ وهدوءٌ مثقَلان بالمعنى: صمْتُ المقابر الذي يفضحُ الإعياءَ بعد فترة من القَمع العنيف، لكنه صمْتٌ يفيضُ في ذاته بلاغةً، بلاغةٌ لا يمكنُ لأيِّ شكلٍ من القَمع أنْ يُسكِتَها. لقد أصبحَت الهندُ دولةً بوليسيةً بامتياز. وكانت كلُّ مظاهرةٍ خارجيةٍ فيها خروجٌ [أو عدمُ امتثالٍ] مستحيلةً؛ وكانت البلادُ تَعِجُّ بالجواسيس والمخابرات. وكان الجوُّ يرشَح خوفًا وضعفًا في المعنويات[19]. وبتاريخ 10 أيلول/سبتمبر، يمَّمَ وجهَه شطْرَ ﭙـونا للقاء غاندي والتباحث معه حول خطِّ التوجُّه الذي يجبُ عليهما تبَـنِّيه. واتَّفقا على أنَّ الأوانَ لم يَـحِنْ بعدُ لإيقاف حركة العصيان المدني إيقافًا نهائيًا. مع ذلك، وجدَ غاندي نفسَه في موقف مربكٍ على وجه الخصوص. وعلى الرغم من أنه كان محكومًا فقد وجدَ نفسَه حرًا، ولكنه إذا ما تحدَّى الحكومةَ مرةً أخرى من خلال عملِ عصيان مدني فسيُعتقَلُ مرةً أخرى وسيصبح مِن المستحيلِ عليه أنْ يعملَ من أجل قضية المنبوذين. سيكون لزامًا عليه إذًا أنْ يصومَ من جديدٍ وسيُمْكِنُ لِـ"لعبةِ القطِّ والفأر" هذه أنْ تستمرَّ على هذا النحو إلى أجلٍ غير محدَّد... عندئذٍ ارتأى أنَّ الطريقَ الوحيدَ المفتوحَ أمامَه هو أنْ يتحاشى أيَّ استفزازٍ للحكومة طوالَ الوقتِ الذي كان عليه أنْ يقضيَه في السجن وأنْ يكرِّسَ نفسَه بالكامل لقضية المنبوذين. وعلى الرغم من أنَّ نِهْرو كان يُـقَـدِّرُ جميعَ سيئات مثل هذا القرار، فقد اعترف بأنَّ غاندي لا يمتلك مِن خيارٍ آخر. فكتبَ يقول: كنا نعلم أنَّ القرارَ من شأنِه أنْ يسدِّدَ ضربةً قاسيةً جدًا لِما تبَـقَّى من حركة العصيان المدني: فإذا ما انسحبَ القائدُ نفسُه من النضال فسيكون مِن غيرِ المرجَّحِ أنْ تَظَلَّ لدى مناضلي حزبِ المؤتمر، في غالبيَّتِهم، الرغبةُ في ضمِّ أرجُلِهم والقفز في النار. لكنه لم يكنْ يبدو هناك أيُّ مَخْرَج آخر. وبناءً على ذلك نشرَ غاندي قرارَه[20]. وبتاريخ 14 أيلول/سبتمبر 1933، نشرَ غاندي بالفعل التصريحَ التالي: بعدَ أنْ صلَّيتُ كثيرًا وفكَّرْتُ، توصَّلْتُ إلى نتيجةٍ مفادُها أنه حتى نهايةِ فترة حكمي، أي حتى تاريخِ 3 آب/أغسطس القادم، لا يجب عليَّ الذهابُ لملاقاة السجن بالتزامي في عصيان مدني عدواني. (...) إنَّ ما هو مؤسفٌ هو أنْ أُلزَمَ فيما يخصُّني أنا بتعليق العمل، لكنه أمرٌ لا مناصَ منه. (...) إذا ما تركَتْني الحكومةُ حرًا فسأفكِّرُ بتكريس هذه المرحلة لخدمة المنبوذين وكذلك إذا كان الأمرُ ممكنًا لنشاطات بَنَّاءة أخرى تساعدني صحتي على الشروع بها[21]. في نهاية شهر أيلول/سبتمبر 1933، قرَّرَ غاندي الذهابَ والإقامةَ في واردا Wardha، وهي مدينة صغيرة في الأقاليم المركزية. وبتاريخ 7 تشرين الثاني/نوفمبر، بدأَ بجولةٍ في جميع أنحاء الهند ليروِّجَ لقضية المنبوذين. وخلال شهورٍ طويلة، انتقلَ من قرية إلى قرية يحضُّ الهندوسَ على التحرُّر من تحيُّـزهم الطبقي. لكنَّ نضال غاندي ضد النبذ الاجتماعي ألَّبَ عليه الأصوليين الهندوسَ الذين اتَّهموه بأنه مرتدٌّ. وقد تظاهروا ضده عدةَ مرات رافعين الراياتِ السوداءَ. بتاريخ 15 كانون الثاني/يناير 1934، أدَّت هزةٌ أرضيةٌ قويةٌ جدًا إلى كارثة مادية في بيهار Bihar. فكانت الحصيلةُ حوالي 25000 قتيل وعشرات الآلاف من المشرَّدين. واعتقدَ غاندي أنَّ هذا الزلزال ما هو إلاَّ عقاب من الله ليعاقبَ شعبَ بيهار على موقفه المستخفِّ بالمنبوذين، حيث صرَّحَ بتاريخ 24 كانون الثاني/يناير خلال خطاب ألقاه في تينـﭭيللي Tinevelly أمام حوالي 20000 شخص: يمكنكم إذا شئتم أنْ تعتبروني ساذجًا أؤمن بالخُرافات، ولكنَّ رجلاً مثلي لا يمكنه أنْ يمنعَ نفسَه من الاعتقاد بأنَّ هذه الهزَّةَ الأرضيةَ ما هي إلاَّ قِصاص إلهي أنزله اللهُ عقابًا على خطايانا. (...) ولذلك علينا أنْ نرضى بأنْ تُذَكِّرَِنا هذه المصيبةُ، مصيبةُ بيهار، حيث مازال لدينا قليلٌ من الوقت، بأنَّ علينا تطهيرُ أنفسِنا من النبذ الاجتماعي والتقرُّبُ إلى خالقنا بقلب سليم[22]. لا يمكننا إلاَّ أنْ نُفاجأَ من مثل هذا التصريح الذي يمُتُّ بِصِلةٍ إلى أقدم المعتقدات وأكثرِها رجعيةً. فكيف تأَتَّى لغاندي أنْ ينسبَ إلى الله موقفًا قاسيًا إلى هذا الحد؟ وكيف يمكن للهِ أنْ يلجأَ إلى أسوأ وسائل العنف لكي يعيدَ البشرَ إلى أنبل المشاعر تجاهَ المنبوذين إذا كان اللاعنفُ هو المبدأ نفسُه للحقيقة التي ينبغي على الإنسان أنْ يجعلَ كلَّ فكرةٍ من أفكاره وكلَّ حركة من أفعالِه تتطابقُ معها؟ أولا يكونُ على اللهِ نفسِه أنْ يتوافقَ مع هذه الحقيقة التي يؤكِّد غاندي عالميَّتَها؟ فطاغورُ، من جهتِه، لا يفوتُه التأكيدُ على خلافه مع غاندي: لقد كانت مفاجأةً مؤلمةً لي عندما علمْتُ أنَّ المهاتما غاندي يتَّهمُ الذين يتَّبعون تقاليدَهم في النبذ الاجتماعيِّ اتِّباعًا أعمىً بأنَّهم قد جلبوا انتقامَ الله على بعض المناطق في بيهار والتي اختارها بالطبع ليطفئَ غضبَه المدمِّرَ فقط. وهذا مؤسف لشدة ما لهذا النوع من الآراء غير العلمية من قبول سهل لدى شريحة كبيرة من أبناء وطننا. وإنني لأشعر شعورًا قويًا بغرور مثل هذا الرأي عندما أجد نفسي مضطرًَّا لأنْ أذكرَ فكرةً مبتذلةً تتمثَّلُ بالتأكيد على أنَّ الكوارثَ الطبيعية تعود حتمًا إلى مجموعةٍ معيَّنة من الوقائع الطبيعية. وإذا لم نؤمنْ بأنَّ الله نفسَه لا يتدخَّـلُ أبدًا في تنفيذ القانون الكوني الذي يُطبَّقُ بلا رحمةٍ فسنجد أنفسَنا في موقف يستحيلُ فيه تبريرُ سُبُلِه في ظروف كتلك التي أُصِبْنا فيها بطريقة وبشدةٍ ساحقتَين. (...) ونحن الذين نُقِرُّ بفضل المهاتما في أنه قد استنهضَ بإلهامِه الخارقِ الحريةَ في نفوس أبناء بلده في الوقت الذي كانوا فيه أسرى الخوفِ والضعفِ، نحن نتأسَّفُ أشدَّ الأسف عندما تتمكَّنُ كلماتٌ من فمه أنْ تُقوِّيَ عناصرَ المغالطة في هذه النفوس عينِها – هذه المغالطة هي المَصْدَر الأساسي لكل السلطات العمياء التي تقودنا إلى نقيض الحرية ونقيض احترام الذات[23]. في بداية شهر شباط/فبراير، بدأ نِهْرو بجولة في المناطق المنكوبة بالزلزال بهدف المساعدة في تنظيم إعانات؛ حيث روى ما يلي: خلالَ هذه الجولة (أو ربما قبل سفري مباشرةً) قرأْتُ تصريحَ غاندي جي الذي يؤكِّد على أنَّ الهزة الأرضية كانت عقابًا إلهيًا. هكذا يكونُ الإصرارُ على الروح الطبقية خاضعًا للعقاب! لقد أُصِبْتُ بالصدمة. هذا يعني العودةَ إلى الوراء عدةَ قرون. (...) وإذا كانت الهزةُ الأرضيةُ طريقةً لمعاقبتنا فمن الذي قال بأنَّ هذه الهزَّةَ هي عقوبة لنا على تلك الخطيئة بالتحديد؟ لأنَّ خطايانا كثيرةٌ ويا للأسف! لقد كان مَهَراجا دوربانغا Durbhanga، وهو صاحبُ أملاك وشاسعةٍ، أحدَ الضحايا الأكثر تضرُّرًا من الناحية المالية. أولا يمكنُ القولُ، في هذه الحالة، إنَّ السماء أرادت أنْ تُعاقِبَ النظامَ الظالمَ للأملاك الواسعة؟ (...) ومن الذي يمنع إنكلترا من إعلان أنَّ الله قد عاقبنا على عصياننا المدني[24]؟ في الفترة الواقعة ما بين 12 آذار/مارس و9 نيسان/أبريل، ثم في الفترة من 22 نيسان/أبريل إلى 5 أيار/مايو، حضرَ غاندي إلى بيهار حيث زار المناطقَ الأكثر تضرُّرًا بالهزة الأرضية. وحاولَ أنْ يستنهضَ جميعَ السكَّان لكي يأتوا إلى إغاثة ضحايا الكارثة. فلم يتردَّدْ عندئذٍ في الحضِّ على التعاون مع الحكومة فأكَّدَ بتاريخ 30 آذار/مارس أنَّه: سيأكل الجائعُ وسيرتوي العطشانُ ولا يهمُّ الأيدي التي تُقدِّم للجائع وللعطشان المعونةَ. علينا أنْ نتعاونَ مع الحكومة في عملنا الخاص بالمساعدة الإنسانية[25]. وخلال هذا الوقت، لم تتوقَّفْ حركةُ العصيان المدني عن التراجع. فقد فقدَت كلَّ حيويةٍ لعدم وجود هدف واضح واستراتيجيةٍ محدَّدة. وقد آنَ الأوانُ للاعتراف بإخفاقها ولوضع حد لها. وبتاريخ 2 نيسان/أبريل 1934، أعلنَ غاندي تعليقَ الحركة. وأشار إلى أنَّ هذا القرارَ يعود سببُه إلى "المعلومة التي قُدِّمَت إليَّ في أثناء محادثة بشأن أحد الرفاق الذي كنتُ منذ زمن طويلٍ أُكِنُّ له كلَّ احترام والذي كرِهَ أنْ ينجزَ على أتمِّ وجهٍ واجبَه في الذهاب إلى السجن وآثرَ دراستَه الشخصيةَ على المهمة التي أوكلَت إليه." وأشار إلى أنَّ: هذا كان يتناقض بلا أدنى شك مع قواعد اللاعنف. وبالإضافة إلى نقص هذا الصديق الذي أحبه أكثرَ من أي وقت مضى، جعلَني ذلك أدركُ نقصي أنا. وقد قال لي هذا الصديقُ إنه كان يظنُّ أنني على عِلْم بضعفه. وقد كنتُ أعمىً. والعمى عند القائد لا يُغتفَر. وفهمتُ في الحال أنَّ عليَّ الآن أنْ أبقى الممثِّلَ الوحيدَ للمقاومة المدنية الناشطة. خلال أسبوع اللقاء غير الرسمي الذي عُقِدَ في ﭙـونا في شهر تموز/يوليو المنصرم، كنتُ قد أعلنْتُ أنه على الرغم من إمكانية الترحيب بكثير من المقاومين المدنيين كان يكفي واحدٌ للحفاظ على رسالة اللاعنف حيةً. واليومَ، بعدَ أنِ استفتيتُ قلبي مليَّـًا توصَّلْتُ إلى النتيجة التي تقول بأنَّ واحدًا – هو أنا لا أحدَ غيري – ينبغي عليه، في الظروف الحالية، أنْ يتحمَّـلَ الآن مسؤوليةَ المقاومة المدنية إذا كان لا بدَّ أنْ تنجحَ كوسيلة لبلوغ الاستقلال التام. وأعتقد أنَّ الجماهيرَ لم تتلَقَّ الرسالةَ الكاملةَ للاعنف وأنَّ ذلك يُعزَى إلى التحريف الذي طرأ عليها في أثناء عملية النقل. (...) ومن الآن فصاعدًا، على جميعِ الذين أدَّت بهم نصائحي، سواء بصورة مباشرة أم غير مباشرة، إلى الانخراط في المقاومة المدنية من أجل الاستقلال، عليهم أنْ يوقفوا هذه المقاومةَ. وإنني مقتنع تمامًا بأنَّ هذا هو أفضلُ منهجِ سلوكٍ ينبغي اتِّخاذُه لِما فيه مصلحة نضال الهند من أجل الحرية. (...) أزعمُ أنَّ اللاعنف يمكنه أنْ يحلَّ كليًا محلَّ العنف والحرب. وبالتالي فإنه يطمح إلى التأثير في وقت واحد في قلوب مَن يسمَّون بـ«الإرهابيين» وفي قلوب الفئة الحاكمة التي تسعى إلى القضاء عليهم بإضعاف أُمَّةٍ بكاملها. إلاَّ أنَّ المقاومة المدنية المتواضعةَ جدًا، مهما كانت روعةُ نتائجها، لم تؤثِّرْ لا في قلوب «الإرهابيين» ولا في قلوب الفئة الحاكمة كطبقة. لا بدَّ للاَّعنف الخالص من أنْ يؤثِّرَ في قلوب كلَيهِما. ومن أجل اختبار تلك القضية، مِن الضروريِّ أنْ ينحصرَ اللاعنفُ لفترة معيَّنة بشخص واحد ذي أهلية. وهذا الاختبارُ لم يتمَّ أبدًا. فمن المفروضِ أنْ يتمَّ الآنَ. (...) ماذا يجب أنْ يفعلَ المقاومون المدنيون إذا كانوا هكذا ضعيفي المعنويات؟ إذا أرادوا أنْ يكونوا مستعدِّين لتلبية النداء في أية لحظة كانت فإنَّ عليهم أنْ يتعلَّموا فنَّ التفاني والفقرِ الإراديِّ وجمالَهما. يجب عليهم أنْ ينخرطوا في النشاطات التي تبني أُمَّةً وأنْ يطوِّروا الصناعةَ اليدوية للقماش الوطني من خلال القيام بالغزل والنسيج بأيديهم وأنْ يعزِّزوا وحدةَ القلوب في قلب الطوائف من خلال سلوك شخصي لا غبارَ عليه تجاه الآخر في كل الأوساط الاجتماعية وأنْ ينزعوا من شخصيتهم النبذَ الاجتماعيَّ بكل أشكاله وأنْ ينشروا الامتناعَ التامَّ عن المشروبات الكحولية والمخدِّرات من خلال الاتصال الشخصي بالأشخاص المدمنين ومن خلال نشر ثقافة الطهارة الشخصية بصورة عامة. وتلك هي خدماتٌ تقدِّم أسبابَ العيش على مستوى الفقير. فالذين لا يمكنهم أنْ يرضَوا بمستوى حياة الفقير يجب عليهم أنْ يجدوا مكانًا في مصانعَ صغيرةٍ ذات أهمية وطنية تقدِّم أفضلَ أجر. يجب أنْ ندركَ أنَّ المقاومة المدنية هي للذين يعرفون واجبَ الطاعة الإرادية للقانون وللسلطة ويقومون بهذا الواجب. مِن غيرِ الضروريِّ جدًا أنْ أقولَ بأنني لا أتعدَّى، بنشري لهذا التصريح، على مهمة حزب المؤتمر بأية طريقة كانت. إنَّ مهمتي ببساطةٍ هي إسداءُ نصائحَ إلى الذين يعتمدون علَيَّ في توجُّهِهم بشأن اللاعنف[26]. كتب كلود ماركويتس [ماركوﭭيتز] Claude Markowits: "وهكذا انتهت إحدى أكبر الحملات السياسية في العصر[27]." مِن الصعبِ على المرء ألاَّ يشعرَ بنوع من الانزعاج عند قراءته لتصريح غاندي الذي يضع حدًا لهذه الحملة. فهو يندرج في لهجة خطاب مغايرة تمامًا للهجة الخطاب الذي ألقاه غاندي في أثناء مسيرة المِلْح. فقد كان آنذاك يدعو الهنودَ إلى الانخراط بإصرارٍ في العصيان المدني مؤكِّدًا أنَّ ذلك العصيانَ لن يتوقَّفَ قبل أنْ يرفرفَ عَلَمُ الاستقلال التام في سماء الهند. وها هو الآنَ، بعد مضيِّ أربع سنوات، وتحتَ ذريعة نقْصِ الشجاعةِ لدى فردٍ واحدٍ فقط كان يريد أنْ يتراجعَ أمامَ باب السجن، يطلبُ من الهنود إيقافَ كلِّ مقاومة ويؤكِّد أنه هو وحدَه الذي أصبحَ أهلاً لمواصلة هذا الطريق. والأكثرُ من ذلك هو أنه كان مِن الممكن جدًا له أنْ يؤثِّرَ في قلوب خصومه بينما لم تتمكَّنْ من ذلك الآلامُ والتضحياتُ التي رضيَ بتقديمها بناءً على ندائه الآلافُ والآلافُ من أبناء بلده. وبينما كان قد التزمَ في عمل سياسي من أجل بلوغ هدف سياسي، ها هو يقرِّرُ إنهاءه لأسباب لا علاقةَ لها بالسياسة في شيء. كان هناك خطأٌ في التقدير واضحٌ تمامًا. وقد بلغَ نِهْرو عن طريق مدير السجن حيث كان معتقَلاً مرةً أخرى منذ تاريخ 12 شباط/فبراير أنَّ غاندي قد أنهى حركةَ العصيان المدني. فكتبَ يقول: لقد أحزنَني الخبرُ. فهذه الحركةُ كانت تعني الكثيرَ بالنسبة لي على مرِّ سنوات. غيْرَ أنني أحتكمُ إلى صوت العقل: كان ذلك أمرًا لا مناصَ منه، على الأقلِّ في الوقت الحالي، وقد كنتُ أعلمُ ذلك. لقد كنتُ متأكِّدًا من أنَّ غاندي جي كان قد فهِمَ فهمًا دقيقًا تمامًا رغبةَ البلاد ورغبةَ الأغلبية الساحقة من مناضلينا، وقد حاولْتُ الاعتيادَ على هذا الحدث، مهما كان مزعجًا[28]. إلاَّ أنه بعدَ أنْ قرأَ بعد عدة أيام تصريحَ غاندي أُصيبَ بصدمة عميقة عندما اكتشفَ السببَ الذي ذكرَه غاندي لتبرير قرارِه: وهكذا، كانت تتعطَّلُ فجأةً حركةٌ وطنيةٌ واسعةٌ قد قادتْ وراءها آلافَ المناضلين وقادت وراءها بصورة غير مباشرة ملايين الأشخاص وذلك بسبب خطأ فرد واحد، بسبب غلط فرد واحد! كان ذلك يبدو لي اقتراحًا فظيعًا جدًا وغيرَ أخلاقي! (...) كان لديَّ شعورٌ بأنَّ غاندي جي كان على حقٍّ عندما أمرَ بإيقاف الحركة. لكنَّ التفسيراتِ التي قدَّمَها غاندي لذلك الأمر كانت تبدو لي إهانةً للعقل ومهزلةً فظيعةً يقوم بها قائدٌ وطني[29]. مهما كان كلماتُ نِهْرو قاسيةً فلا بدَّ من الإقرار بأنها لم تكنْ خاليةً من أية حقيقة... إنَّ ما أعطى حركةَ العصيان المدني التي أطلقَها غاندي خلال مسيرة المِلْح كلَّ قوَّتِها هو أنها، وعلى الرغم من أنها قد وضعَت الاستقلالَ التامَّ للهند طموحًا لها في الوقت الذي كان فيه هذا الهدفُ بعيدَ المنال في ذلك الوقت، كانت تسعى إلى بلوغ هدف واضحٍ محدَّدٍ محدودٍ ممكنٍ هو: إلغاءُ القانون المفروض على المِلْح. كان كلُّ فردٍ يدركُ أنَّ هذا الهدفَ في متناول اليد وبالتالي كان يشعرُ بأنه قادر على بذل جميعِ قواهُ في المعركة حتى النصر. وعلى الرغم مِن أنَّ الذي كان يطمحُ غاندي إلى القضاء عليه في ذلك الوقت هو مجملُ النظام الاستعماري الذي كانت تفرضه إنكلترا على الهند، فقد اختار نقطةً محدَّدةً من هذا النظام تتيحُ له أنْ يتمكَّنَ منه وأنْ يتمكَّنَ من هزِّه ومن زعزعته من خلال التأثير عليه بما يشبه طريقةَ العَتَلة [الرافعة]. فعندما قرَّرَ اللوردُ إيروين إطلاقَ سراح غاندي وقبِلَ بالتفاوض معه نِدًَّا لنِدٍّ كان ذلك يُـعَـدُّ انتصارًا للمقاومة المدنية مهما كانت بالمقابل التحفُّظاتُ التي يمكن القيامُ بها فيما يخصُّ بنودَ الاتفاق الذي حصلَ فيما بعد. لكنْ عندما قرَّرَ غاندي، بعدَ فشلِ مؤتمر الطاولة المستديرة، أنْ يستأنفَ العصيانَ المدنيَّ فإنه لم يحدَّدْ أيُّ هدف مرحلي إذا كان الأمرُ يتعلَّق دائمًا بالمطالبة بالاستقلال التام. فقد اعتُقِلَ جميعُ قادة حزب المؤتمر بدون أنْ تكونَ قد أعطيَتْ تعليماتٌ واضحةٌ بشأن تنظيم العصيان المدني. لا شكَّ في أنه يجب عصيانُ الحكومة التي كانت تفرِضُها إنكلترا على الهند، ولكنْ ما هي القوانينُ التي يجب عصيانُها وما هو الهدف من وراء ذلك؟ أوَيجِبُ عصيانُ جميعِ القوانين وبهدف الحصول على الاستقلال التام؟ ليس على مثل هذه الأسس يمكنُ تنظيمُ حملة مقاومة مدنية. يعترف ر. ﭙـرازاد R. Prasad، وهو أحد أصحاب غاندي، فيقول: حتى وقتِ اعتقالِنا، لم يكنْ لدينا أيةُ فرصة للقيام ببعض التحضيرات أيًا كان نوعُها ولا لإعطاء الشعبِ توجيهاتٍ. فلم يكنْ أعضاءُ حزب المؤتمر يعرفون ماذا يفعلون. ولم تكنِ الجماهيرُ بالطبع تمتلك أيةَ فكرة عن البرنامج الذي يجب اتِّباعُه[30]. تقترحُ سيمون ﭙـانتر-بريك Simone Panter-Brick، بالاستناد إلى تحليل مختلف الحملات التي نظَّمَها غاندي، هذه العبارةَ لتعريف الفعالية السياسية للمقاومة المدنية اللاعنفية: "تتوقَّفُ الفعاليةُ على القوة المنظَّمة والعمل الذي يقوم على العدد[31]." تحاولُ ﭙـانتر-بريك، استنادًا إلى هذه العبارة، أنْ تُفسِّرَ سببَ نجاح حملة عام 1930 وسببَ فشلِ حملة 1932: كانت إحدى الحملتين جاهزةً؛ وكانت الأخرى في طور التحضير. في إحداها قاموا بالهجوم؛ وفي الأخرى تعرَّضوا للهجوم. (...) فإذا كانت القوةُ اللاعنفيةُ هي نفسَها، فإنه لم يكنْ هناك وقتٌ لإطلاق الحملة، ولم يكنْ بالإمكان استئنافُ المبادَرة. وإذا كان التنظيمُ هو نفسَه، فإنه لم يكنْ هناك وقتٌ لتركِه يؤدِّي مهمَّتَه، ألا وهي: تلَـقِّي تعليماتٍ وإعطاءُ تعليمات. فقد غافَصَتْهم الاعتقالاتُ [أيْ أخذَتْهم على غِرَّةٍ من أمرِهم]. وإذا كانَ العددُ هو نفسَه أيضًا، فإنه لم يكنْ هناك وقتٌ للاستفادة منه من أجل القيام بعمل ملموسٍ، ذلك لأنَّ رئيسَه كان قد اختُطِفَ قبل الأوان. وخَلَصَتْ سيمون ﭙـانتر-بريك إلى ما يلي: إنَّ سببَ الفشل إذًا هو القمع. وليس السببُ هو قوةَ القمعِ بمقدار ما هو وقت حصولِه. (...) ففي الحقيقة، على القمعِ أنْ يأتيَ بعدَ خَرْقِ القانون لا أنْ يستبقَ هذا الخَرْقَ. (...) والتحريضُ عليه عندما لا يكون المرءُ نفسُه مستعدًَّا للعمل يعني ارتكابَ خطأ؛ وبالتالي السعي الحثيث إلى الهزيمة[32]. ترجمة: محمد علي عبد الجليل *** *** *** [1] ذكرَه ب.ر. ناندا B.R. Nanda، Gandhi, [غاندي،]، سبقَ ذِكْرُه، ص 250. [2] نوﭭـيل دو لاند Nouvelles de l'Inde [أخبار الهند]، شباط/فبراير 1933. [3] المجلد 52، ص 379-380. [4] الـﭙـانديت نِهْرو Pandit Nehru، Ma vie et mes prisons [حياتي وسجني]، سبقَ ذِكْرُه، ص 269. [5] المجلد 55، ص 74-75. [6] المجلد 55، 92. [7] المرجع السابق. [8] الـﭙـانديت نِهْرو Pandit Nehru، Ma vie et mes prisons [حياتي وسجني]، سبقَ ذِكْرُه، ص 292. [9] المرجع السابق، ص 293. [10] المجلد 55، ص 178. [11] الـﭙـانديت نِهْرو Pandit Nehru، Ma vie et mes prisons [حياتي وسجني]، سبقَ ذِكْرُه، ص 300. [12] المجلد 55، ص 264. [13] المجلد 55، 271. [14] المرجع السابق. [15] س. ﭙـانتر-بريك، S. Panter-Brick، Gandhi contre Machiavel [غاندي ضد ماكياﭭـيلِّي] سبقَ ذِكْرُه، ص 194. [16] المجلد 55، 328. [17] المجلد 55، ص 353. [18] ذكرَه د.ج. تيندولكار D.G. Tendulkar، Mahatma [المهاتما]، سبق ذكره، المجلَّد الثالث، ص 215. [19] الـﭙـانديت نِهْرو Pandit Nehru، Ma vie et mes prisons [حياتي وسجني]، سبقَ ذِكْرُه، ص 307-308. [20] المرجع السابق، ص 310-311. [21] المجلد 55، ص 425-426. [22] المجلد 57، ص 44. [23] المجلد 57، ص 503. [24] الـﭙـانديت نِهْرو Pandit Nehru، Ma vie et mes prisons [حياتي وسجني]، سبقَ ذِكْرُه، ص 350. [25] المجلد 55، ص 336. [26] المجلد 55، ص 348-350. [27] كلود ماركويتس [ماركوﭭيتز] Claude Markowits، Histoire de l’Inde moderne [تاريخ الهند الحديث]، 1840-1950، بإشراف كلود ماركويتس [ماركوﭭيتز] Claude Markowits، باريس، 1994، فايار Fayard، ص 452. [28] الـﭙـانديت نِهْرو Pandit Nehru، Ma vie et mes prisons [حياتي وسجني]، سبقَ ذِكْرُه، ص 357. [29] المرجع السابق، ص 358. [30] ذكرَتْه سيمون ﭙـانتر-بريك، Simone Panter-Brick، Gandhi contre Machiavel [غاندي ضد ماكياﭭـيلِّي] سبقَ ذِكْرُه، ص 188. [31] المرجع السابق، ص 37. [32] المرجع السابق، ص 198-199.
|
|
|