|
غاندي المتمرد 12: استئناف الصراع
وصل غاندي إلى بومباي بتاريخ 28 كانون الأول/ديسمبر 1931. وقد هتفَ له حشد من الناس مبتهجين، لكنَّ أعضاء اللجنة التنفيذية لحزب المؤتمر أبلغوه بأخبار سيئة: اعتُقِلَ جواهرلال نهرو من جديد، ونُفيَ عبدُ الغفار خان إلى معسكر اعتقال، واتَّخذ محافظو الأقاليم الاتِّحادية وإقليم الحدود الشمالية الغربية قراراتٍ قمعيةً جدًا. ففي مدينة بيشاوَر Peshawar، أطلقَت الشرطةُ النارَ على الجماهير مسبِّبةً بذلك مقتلَ 11 شخصًا وجرح 50 آخرين. واعتُقِلَ أكثرُ من 1000 شخص. وفي مساء اليوم نفسه، خطبَ غاندي أمام حشد يبلغ قرابةَ الـ 250000 شخص. وبعد أنْ عرَّجَ على ذِكْر الأحداث الأخيرة التي جرت في الهند، تساءل عن القرارات التي ينبغي على حزب المؤتمر أنْ يتَّخذَها لمواجهة هذه الأحداث: السؤال المطروح أمام أعيننا الآن هو التالي: ما هو واجبنا؟ هل يجب علينا اتِّباعُ التوجيه الذي قدَّمَه لنا عملُ الحكومة وإعلان حركة مقاومة لاعنفية أم يجب علينا تجريب وسائل أخرى؟ حاليًا، لستُ قادرًا على إعطائكم رأيي. ما سأقوله لكم فقط هو أنه إذا أراد القدَرُ أنْ نخضعَ مرةً أخرى للامتحان وإذا قرَّرَت اللجنةُ التنفيذية لحزب المؤتمر استئنافَ المعركة، فلن أتردَّدَ في الطلب منكم أنْ تنضمُّوا إليها. ولكنْ إذا كان هناك من إمكانيةٍ لتجنُّبِ الانخراط في المقاومة اللاعنفية فسأفعل كلَّ ما بوسعي لتجنُّب ذلك وسأوصيكم بالصبر. وأظنُّ أنَّ الهند بعد سنوات من الخبرة قد تعلَّمَت أنْ تُظهِرَ مزيدًا من الصبر. (...) أتمنَّى أنْ يكون في الإمكان إيجاد طريق للتعاون مع الحكومة. وسأفعل أفضلَ ما في وسعي لإيجاد هذا الطريق. لكنه يجب عليَّ أنْ أقِرَّ بأنَّ الإشارات التي رأيتُها قد قلَّصَت من أملي تقليصًا كبيرًا جدًا. وإذا كان علينا أنْ نقاتلَ يومًا فعلينا أنْ نكونَ مستعدِّين للقيام بكل ما يمكننا فِعلُه. فكلُّ فردٍ منا جميعًا يمكنه الانضمامُ إلى معركتنا. إنها معركة سنذهب فيها لملاقاة الآلام. إنها معركة سنقدِّم فيها حياتَنا ولن نأخذَ حياةَ الآخرين. يمكن حتى للأطفال أنْ يقوموا بدَور في هذا النضال. في العام الماضي، واجهْنا ضرْبَ الهِراوات، لكنه علينا أنْ نستعدَّ هذه المرةَ لمواجهة الرصاص. (...) أعتقد أنه علينا أنْ نتخلَّصَ من الخوف من الموت، وإذا أردنا مواجهةَ الموت فعلينا معانقتَه كما نُعانقُ صديقًا لنا. لكنه في الوقت نفسِه الذي نكون فيه مستعدِّين لتقديم حياتنا، يجب علينا أنْ نحرصَ على ألاَّ يحصلَ أيُّ أذىً حتى لشعرة أي فرد إنكليزي. علينا أنْ نأملَ في أنْ نتمكَّنَ بتضحيتنا من إحداث تغيير في قلوب هؤلاء الإنكليز أنفسهم الذين يضربوننا. خلال زيارتي لأوروبا، ازدادَ إيماني باللاعنف ازديادًا كبيرًا جدًا. أعتقد أنَّ لِلاَّعنفِ قدرةً تُذيبُ قلبَ أشدِّ الحجارة قسوةً. يظنُّ بعضُ الأشخاص أنني تعلَّمْتُ كثيرًا من الأمور الجديدة بزيارتي لأوروبا، لكنني أستطيعُ القولَ بصراحة أنني لم أتعلَّمْ شيئًا جديدًا غيرَ أنَّ إيماني باللاعنف ازداد[1]. كان أعضاءُ اللجنة التنفيذية لحزب المؤتمر مقتنعين بأنَّ مِن العاجلِ استئنافَ العمل المباشر ويضغطون على غاندي لكي يُطلِقَ حملةً جديدةً من العصيان المدني. لكنَّ غاندي، نظرًا لإخلاصه لنفسه، أراد أيضًا أنْ يُجَرِّبَ سلوكَ طريقِ الحوار. فأرسلَ بتاريخ 29 كانون الأول/ديسمبر برقيةً إلى نائب الملك يُعبِّر له فيها عن استغرابه من الوضع الذي يجد فيه الهندَ ويطلب منه أنْ يجتمعَ به. وكأنه من أجل أنْ يزيد في سخط رفاقه ضِغثًا على إبَّالةٍ، التمسَ من نائب الملك أنْ يتكرَّمَ ويسديَ إليه نصائحَ: لم أكنْ مستعدًّا، عندما نزلْتُ من الباخرة البارحةَ، لأنْ ألاقيَ قراراتٍ في إقليم الحدود الشمالية الغربية وفي الأقاليم الاتِّحادية وطلقاتِ بنادقَ في الإقليم الحدودي واعتقالاتِ رفاق عزيزين في تلك المنطقتين بالإضافة إلى قرارات في البنغال. لا أدري إنْ كان عليَّ أنْ أعتبرَ هذا كمؤشر على أنَّ العلاقات الودية بيننا قد انتهت أمْ أنكم تنتظرون مني أيضًا أنْ أجتمعَ بكم وأنْ أتلَقَّى منكم نصائحَ تتعلَّق بالطريق الذي يجب عليَّ اتِّباعُه حتى أنصحَ به حزبَ المؤتمر. ستكون البرقيةُ الجوابيةُ منكم محطَّ تقدير من جانبي[2]. بتاريخ 31 كانون الأول/ديسمبر، استلمَ غاندي برقيةً من السكرتير الخاص لنائب الملك. وقد أجاب اللورد ويلينغدون Willingdon غاندي بالكلمات التالية وذلك بعد أنْ أدان إدانةً شديدةً نشاطاتِ حزب المؤتمر وبرَّرَ جميعَ الإجراءات التي اتَّخذَتْها الحكومةُ والسلطاتُ الإقليميةُ بهدف الحفاظ على «السلام والنظام»: لقد كنتَ أنتَ غائبًا عن الهند بسبب مؤتمر الطاولة المستديرة، وعلى ضوء الموقف الذي التزمتَ به بهذه المناسبة فإنَّ سعادته لا يريد أنْ يعتقدَ بأنَّ عليك شخصيًا جزءًا من المسؤولية في النشاطات الأخيرة لحزب المؤتمر في الأقاليم الاتِّحادية وفي الإقليم الحدودي ولا يريد أنْ يعتقدَ كذلك بأنكَ تُوافقُ عليها. وإذا كان الأمر كذلك فإنه يريد أنْ يجتمعَ بكَ ويعطيَكَ رأيَه بالطريقة التي يمكنكَ بها أنْ تمارسَ نفوذَكَ أفضلَ ممارسةٍ للحفاظ على روح التعاون التي أحيَت طريقة عمل مؤتمر الطاولة المستديرة. لكنَّ سعادته يرى أنه من الواجب أنْ يؤكِّدَ على عدم استعداده لأنْ يناقشَ معكَ الإجراءاتِ التي ارتأت حكومةُ الهند، بعد الموافقة التامة لحكومة جلالته، أنَّ مِن الضروري اتِّخاذَها في البنغال وفي الأقاليم الاتِّحادية وفي إقليم الحدود الشمالية الغربية. إذْ ينبغي في أية حال أنْ تبقى هذه الإجراءاتُ ساريةَ المفعول حتى تُحقِّقَ الهدفَ الذي من أجله فُرِضَت، أيْ الحفاظ على القانون وعلى النظام اللازمَينِ لحسن الإدارة والحكم. وعند استلام سعادته لجوابكَ يعتزم أنْ ينشرَ هذه المراسلاتِ[3]. كان رفضُ اللورد ويلينغدون لطلب غاندي في التباحث معه بشأن الوضع السائد في الهند عظيمَ النتائج. فأجاب غاندي سكرتيرَ نائب الملك بتاريخ الأول من كانون الثاني/يناير 1932 مُبلِغًا إياه أنه إذا بدا كلُّ حوار مستحيلاً فإنَّ حزب المؤتمر سيكون مضطرًا لأنْ يستأنفَ حركةَ العصيان المدني المعلَّقةَ منذ توقيع ميثاق دلهي: أشكر سعادتَه على البرقية التي أجابني بها على برقيتي المؤرَّخة في 29 كانون الأول/ديسمبر. وإنَّ جوابَه يُحزِنُني. لأنَّ سعادته رفضَ، وبطريقة لا تليق كثيرًا بمقامه الرفيع، اقتراحًا مقدَّمًا بأكثر روح ودية ممكنة. لقد تقدَّمْتُ كشخص يبحث ويحتاج إلى استيضاح حول بعض المسائل وكنتُ أرغب في فهم رواية الحكومة للإجراءات الاستثنائية الخطيرة جدًا التي كنتُ قد ذكرْتُها. وبدلاً من أنْ يُقَدِّرَ سعادتُه اقتراحي فقدْ رفضَه طالبًا مني أنْ أتبرَّأَ سلفًا من زملائي الذين أُكِنُّ لهم عظيمَ الاحترام وقائلاً لي إنه حتى وإن اعترفْتُ بمسؤوليتي عن تصرُّف شائن أيضًا وطلبْتُ مقابلتَه فلن يكون في استطاعتي أنْ أناقشَ هذه المسائلَ ذات الأهمية الحيوية للأمة. (...) أرى أنَّ رفْضَ دفعِ الضرائب هو حقٌّ طبيعي ثابت موروث عن الأجداد لشعب استنفدَ جميعَ الوسائل الأخرى في السعي إلى التخلُّص من إصْرٍ وعبء اقتصادي لا يُطاق. ومن واجبي أنْ أرفضَ الزعمَ الذي يقول بأنَّ حزب المؤتمر لديه أدنى رغبةٍ في تشجيع الفوضى بطريقة أو بأخرى. ففي البنغال، يتَّفقُ حزبُ المؤتمر مع الحكومة على إدانة الاغتيالات وسيتعاون معها بصدق لإيجاد الإجراءات اللازمة لمنع مثل هذه الجرائم. ولكنْ إذا كان حزبُ المؤتمر يَدينُ بعبارات حازمة جدًا مناهجَ الإرهاب فلا يمكنه بأية طريقة أنْ يشاركَ في إرهاب الحكومة كما يتَّضح في القرار المتَّخَذ في البنغال وكما يتَّضح في الأعمال المرتكبة تحت غطائه؛ فيجب عليه أنْ يقاومَ، ضمن حدود إيمانه باللاعنف، مثلَ هذه الإجراءات المتمثِّلةِ بإرهاب حكومي منظَّم. (...) إذا لم يكنْ قد فات الأوانُ فإنني أودُّ أنْ أطلبَ من سعادته أنْ يعيدَ النظرَ في قراره وأنْ يعتبرَني صديقًا بدون أنْ يفرضَ أي شرط بشأن موضوع النقاش ومداه. (...) لديَّ إيمانٌ مطلَق باللاعنف. وأرى أنَّ العصيان المدني ليس فقط حقًا طبيعيًا للشعب وخاصةً عندما لا يكون له حقٌّ في إبداء الرأي بحكومته، بل هو أيضًا بديلٌ فعَّال عن العنف والتمرُّد المسلَّح. ولذلك لا أستطيع أبدًا أنْ أكفرَ بإيماني. بالنظر إلى كل ذلك وبناءً على التقارير غير المكذَّبة والتي تؤكِّدُها النشاطاتُ الأخيرة لحكومة الهند، ونظرًا إلى أنه لم يعدْ لديَّ ربما من خيار آخر لإرشاد الشعب فقد وافقَت اللجنةُ التنفيذية لحزب المؤتمر على اتِّباع نصيحتي وصوَّتَت لقرار يسعى للشروع بخطة عصيان مدني. وسأرسل لكم نصَّ هذا القرار. فإذا رأى سعادتُه أنَّ الموضوع يستحقُّ عناءَ مقابلتي فإنَّ تطبيق هذا القرار سيُعلَّق حتى اختتام محادثاتنا، على أمل التخلِّي عن القرار في نهاية المطاف[4]. في هذا القرار، الذي يعود تاريخُه أيضًا إلى الأول من كانون الثاني/يناير 1932، أكَّدَت اللجنةُ التنفيذية لحزب المؤتمر عزمَها، إذا يُقدَّمْ أيُّ جواب مُرْضٍ على طلبها بالمفاوضات بهدف الاستقلال التام للهند، عزمَها على إطلاق حملة جديدة للعصيان المدني والتي حدَّدَ فيما يلي خطوطَ عملها: 1. على أي إقليم أو مقاطعة أو قرية ألاَّ تعتزمَ على المشاركة في حملة العصيان المدني إلاَّ إذا فهِمَ سكانُها الطبيعةَ اللاعنفيةَ للنضال بكل نتائجه وكانت مستعدَّةً لأنْ تتحمَّلَ الآلامَ، بما فيها مصادرة الأموال وفقدان الحياة. 2. يجب الالتزامُ باللاعنف والتفكيرُ به بالقول وبالفعل أمام أخطر استفزاز، نظرًا لأنَّ هدف الحملة ليس الانتقامَ أو إيذاء الظالِم، بل هدفها هدايتُه عن طريق ألمنا وتطهُّرِنا. 3. يجب عدمُ الشروع في المقاطعة الاجتماعية بهدف إلحاق الضرر بموظَّفي الحكومة أو برجال الشرطة أو باللاوطنيين، وذلك لأنَّ مثل هذه المقاطعة تتعارض كليًا مع روح اللاعنف. 4. يجب أنْ نَعْـلَمَ أنه ليس على الحملاتِ اللاعنفية أنْ تُقدِّمَ دعمًا ماليًا؛ ولذلك يجب عليها ألاَّ تقبلَ متطوعين مأجورين، ولكنَّ إعالتهم البسيطة وإعالة أُسْرة الرجال والنساء الفقراء الذين يمكن أنْ يُعتقَلوا أو يُقتَلوا مسموح بها في أي مكان يمكن فيه القيام بذلك. 5. مقاطعة البضائع الأجنبية، سواء أكان مَصْدرُها إنكلترا أم أي بلد آخر، إلزامية في جميع الظروف. 6. يحرص جميعُ أعضاء حزب المؤتمر من الرجال والنساء على الغزْل والنسيج يدويًا؛ وينبغي حتى استبعادُ النسيج المصنوع في المعامل المحلية. 7. ينبغي بحزمٍ وثباتٍ تنظيمُ مجموعات المراقَبة أمام متاجر المشروبات الكحولية ومحلاَّت تُجَّار القماش الأجنبي، وينبغي على النساء بصورة خاصة أنْ يقُمْنَ بذلك وبحيث يحافَظُ فيها دائمًا على لاعنف تام. 8. يجب استئنافُ تصنيعِ المِلْح وجمعِهِ واللذَينِ هما ممنوعان. 9. إذا نُظِّمَت مسيراتٌ ومظاهراتٌ فيجب ألاَّ يشاركَ فيها إلاَّ الأشخاصُ الذين هم على استعداد لتحَـمُّـلِ ضربات الهِراوات أو رصاص البنادق بدون أنْ يتحرَّكوا من مكانهم. 10. حتى في النضال اللاعنفي، تكونُ مقاطعةُ المنتجات التي يُصَنِّعُها المحتلُّ الغاشمُ عملاً مشروعًا تمامًا بحيث لا يكون أبدًا على الضحية أنْ تُسهِّلَ إقامةَ علاقاتِ أعمالٍ مع المحتل أو تحافظَ عليها. ولذلك يجب متابعةُ مقاطعة منتجات الشركات لبريطانية متابعةً صارمة. 11. يمكن، كلما ارتأينا ضرورةً أو فائدةً لذلك، أنْ نخرقَ القوانينَ اللاأخلاقيةَ وكذلك القوانينَ والأوامرَ المُجْحِفة بحق الشعب. 12. مِن الممكنِ أنْ يتعارضَ العصيانُ المدني مع جميع الأوامر الجائرة التي تُفرَضُ بقرارات[5]. بتاريخ 2 كانون الثاني/يناير، أرسلَ سكرتيرُ نائب الملك إلى غاندي البرقيةَ التالية التي تُشير بوضوح أنَّ وقت استئناف الأعمال العدوانية قد حان: يطلب مني سعادتُه أنْ أفيدَكم باستلام برقيتكم المؤرخة في الأول من كانون الثاني/يناير والتي نظرَ فيها هو وحكومتُه. إنهم يأسفون جدًا لأنهم رأوا أنَّ اللجنة التنفيذية لحزب المؤتمر قد تبَنَّت، نزولاً عند نصيحتكم، قرارًا يتضمَّن استئنافَ العصيان المدني بصورة عامة ما لم تُـلَـبَّ بعضُ الشروط المذكورة في برقيتكم. ويعتبرون هذا الموقفَ مؤسفًا أشدَّ الأسف بالنظر إلى النوايا التي أكَّدَتْها حكومةُ جلالته وحكومةُ الهند لتطبيق سياسة الإصلاح الدستوري المتضمنة في إعلان رئيس الوزراء تطبيقًا سريعًا. لا يمكن لأية حكومة تنوي ممارسةَ مسؤولياتها أنْ تخضعَ للشروط التي يَرغَبُ تنظيمٌ سياسي ما في أنْ يفرضَها تحت تهديد القيام بعمل غير مشروع؛ ولذلك فإنَّ حكومة الهند لا يمكنها أنْ تَقْبلَ بالموقف المذكور في برقيتكم التي بناءً عليها يصبح من المفروض أنْ تتوقَّفَ سياسةُ الحكومة على حكمكم الشخصي بشأن ضرورة الإجراءات التي اتَّخذَتْها بعد دراسة دقيقة جدًا وعميقة جدًا للوقائع وبعد أن استُنْفِدَتْ جميعُ العلاجات الأخرى الممكنة. وقد يصعب على سعادته وعلى الحكومة أنْ يتصوَّروا أنكم أنتم واللجنة التنفيذية تفكرون بأنَّ سعادته يمكنه أنْ يدعوَكم، على أمل أنْ يكون في ذلك فائدةٌ، إلى مقابلة تندرج تحت التهديد باستئناف العصيان المدني. ولا بد أنْ يُحَمِّلوكم، أنتم واللجنةَ التنفيذيةَ، مسؤوليةَ جميع النتائج التي يمكن أنْ تنتجَ عن العمل الذي ينْوي حزبُ المؤتمر أنْ يقوم به، وذلك بحسب إعلانه، والذي ستَّتخذُ الحكومةُ ضدَّه جميعَ الإجراءات اللازمة[6]. في هذه المرة، يكون ميثاقُ دلهي الموقَّع في شهر آذار/مارس 1931 قد نُقِضَ فعلاً. وبتاريخ 3 كانون الثاني/يناير 1932، أرسلَ غاندي إلى سكرتير نائب الملك جوابَه مؤكِّدًا على أنَّ حملةَ العصيان المدني التي عزمَ حزبُ المؤتمر على القيام بها ليست إلاَّ مواصلةً للحملة التي كانت قد أُطلِقَت في أثناء مسيرة المِلْح: لا يسعني إلاَّ أنْ أتأسَّفَ من أعماق قلبي على القرار الذي اتَّخذَه سعادتُه مع حكومته. إذْ لا شكَّ في أنه ليس من الصواب وصفُ التعبير الصادق عن الرأي على أنه التهديد. هل لي في أنْ أُذَكِّـرَ الحكومةَ بأنَّ مفاوضاتِ دلهي كانت قد ابتدأتْ وتواصلَتْ في الوقت الذي كان فيه العصيانُ المدني قائمًا على قَدم وساق وبأنه عندما أُبرِمَ ميثاقُ دلهي لم يكنِ العصيانُ المدني قد توقَّفَ نهائيًا، بل كان قد عُلِّقَ فقط*؟ (...) وستُبدي لنا الأيامُ وحدَها من مِنَّا على حق. وحتى يأتي ذلك الزمنُ، أريد فعلاً أنْ أُطَمْئنَ الحكومةَ بأنَّ حزبَ المؤتمر سيفعلُ كلَّ ما أوتيَ من جهد لمواصلة الكفاح بدون أية نية للأذى وبطريقة لاعنفية صارمة. لم يكنْ من الضروري جدًا أنْ تُذَكِّروني بأنَّ حزب المؤتمر وأنا، ممثله المتواضع، مسؤولون عن جميع نتائج أفعالنا[7]. ومنذ أنْ رفضَ نائبُ الملك طلبَ غاندي بقائه فهِمَ الجميعُ أنْ اعتقال المهاتما وشيك الحدوث. فالأمر يندرج في منطق معيَّن للأشياء: عندما يعطي غاندي الأمرَ باستئناف العصيان المدني، تعطي الحكومةُ الأمرَ بتأنيب غاندي. وفي ليلة الثالث إلى فجر الرابع من كانون الثاني/يناير، في حوالي الساعة الثالثة صباحًا، دخلَ المفوَّضُ ويلسُن Wilson إلى المبنى الذي كان يُستخدَم مقرًّا عامًا لغاندي وأبلغه بأنه يجب عليه أنْ يوقفَه «بحسب الوقت الذي تشاؤه الحكومة». وأعطاه ثلاثين دقيقةً للاستعداد. وبعد أنْ ضمَّ غاندي امرأتَه إلى صدره، ركبَ السيارةَ التي وضعَتْها الحومةُ تحت تصرُّفِه وأخذَ الطريقَ المؤديةَ إلى سجن ييراﭭـدا Yeravda. وهناك صادفَ ساردار ﭭـالاَّلبهباي ﭙـاتيل Sardar Vallalbhbai Patel، رئيس حزب المؤتمر الذي كان قد اعتُقِلَ في وقت اعتقال غاندي. وفي اليوم نفسه الذي صادفَ تاريخَ الرابع من كانون الثاني/يناير، تمت محاكمةُ جواهرلال نهرو في سجن نيني Naini بمقتضى القانون الاستثنائي المعمول به في الأقاليم الاتِّحادية؛ وحُكِمَ عليه بالسجن لمدة سنتين حكمًا مشدَّدًا وبدفع غرامة مقدارها 500 روبية (وهو ما يساوي ستة أشهر من السجن الإضافي إذا ما رفضَ أنْ يدفعها). يروي إدمون ﭙريـﭭـا Edmond Privat بهذه الكلمات يقظةَ بومباي في اليوم التالي: منذ الصباح، ما ينبغي أنْ نراه هو المدينة بعد الاعتقال. فقد انتشرَ الخبرُ انتشارَ النار في الهشيم. كان مكتوبًا بالطبشور على الأرصفة. وعلَّقَتْ عليه جماعاتٌ ناشطة. ونزلَ السكانُ إلى الشوارع. وأُغلِقَت الدكاكينُ والمؤسساتُ التجارية. وأوقفَ سوقُ القطن عملياتِه. وأَنزلَت المَتاجرُ ستائرَها الحديدية. وبعد ساعةٍ من الدرس، غادرَ التلاميذُ صفوفَهم وهم ينشدون باند ماتارام Bande Mataram (تحية إلى الهند، أمنا). وفرغَت المصانعُ الكبيرةُ، الواحدُ تِلْوَ الآخرِ، دافعةً بأفواج المضربين إلى شوارع الضواحي. وقد عُلِّقَ عَلَمُ حزب المؤتمر في الشوارع فوق القاعات وعلى النوافذ والشرفات. فكانت كلُّ المدينة مزيَّنةً بالأعلام وكان الهَرْتَـل [إضراب الاحتجاج ليوم واحد] hartâl تامًا[8]. ونشرَت الصحافةُ مضمونَ القرارات الأربعة التي تفرض الأحكامَ العرفيةَ. وفي الساعة الثالثة بعد الظهر، حصلَت مظاهرةُ احتجاج كبيرةٌ في الشوارع الرئيسية للمدينة: كان النظام صارمًا والسيل الثلجي [من المتظاهرين] يجري بلا انقطاع. إذْ نراه من على أية شرفة يمتدُّ ويمتدُّ بلا نهاية مغطِّيًا الشارعَ الذي لا يكاد ينتهي. كانت الموسيقى الوحيدةُ تنحصرُ في ترديد لازمة واحدة متكرِّرة باللغة الإنكليزية وكأنما في مَدْرسة، ألا وهي: Boycott British goods! Boycott British goods! (قاطِعوا البضائعَ الإنكليزية). كان هذا الشعارُ الذي يحظى بإجماع عام يتكرَّرُ كلَّ ثلاث ثوانٍ بإيقاع. وكانت صلابةُ لهجتِه الرصينةِ الحازمةِ تبعثُ في القلوبِ المهابةَ وكأنها قرعُ طبولٍ جنائزيٌّ[9]. وانتهَت المظاهرةُ إلى اجتماع حاشد جرى في خِلالِه إلقاءُ عِدَّةِ خطابات. كان جميعُ الخطباء يَعرِفون أنهم سيُعتقَلون من منازلهم فورَ عودتِهم. وفي الأيام التالية، حصلَتْ في مدنٍ عديدةٍ مواجهاتٌ عنيفةٌ بين المتظاهرين وقوات الشرطة. وفُرِّقَـتْ الجُموعُ في [مدينة] بيناريس [ﭭـاناراسي Vârânasî أو باناراس] Bénarès بإطلاق رصاص البنادق عليها: فكانت الحصيلةُ قرابةَ المئة جريح وبعض القتلى. بتاريخ 5 كانون الثاني/يناير 1932، أعلنَت صحيفةُ الفيغارو في صفحتها الأولى نبأَ اعتقال غاندي: حسبما أوردَت الصحيفةُ، نشرَت الحكومةُ في نيودلهي، مع أربعة قرارات توسِّعُ صلاحياتِ السلطات لتشملَ محاربةَ حركة العصيان المدني، نشرَت عرضًا بالأسباب التي أجبرَتْها على اتِّخاذ الإجراءات الصارمة المعروفة. وقد أكَّدَت فيه أنَّ الذي خرقَ أحكامَ الاتفاق الموقَّع في شهر آذار/مارس 1931 هو حزب المؤتمر وليس الحكومة التي أظهرَت صبرًا وتساهلاً أمام استفزازات عديدة وأعمال عدوانية. فلم يكنْ لديها من حيلة أخرى غير محاربة حملة العصيان المدني التي لا تسعى إلى شيء غير شلِّ إدارة البلاد. ونشرَت صحيفةُ الفيغارو في العدد نفسِه مقالاً كتبَه لويس بيرتران Louis Bertrand من الأكاديمية الفرنسية [المَجْمَع الفرنسي] وكان عنوانُه: «حصيلة الهمجية العالمية»، حيث كتبَ ذلك المَجْمَعيُّ الفرنسيُّ يقول: لا بدَّ أنَّ أصدقاءنا الإنكليز الطيِّبين غير مسرورين تحديدًا في هذه الهند التي تُفسِدها دعايةُ ذلك العجوز المجنون الذي هو غاندي. فلنأملْ أنْ يبقوا فيها من أجلنا أولاً ومن أجل مستعمرتنا كوشين الصين [الفرنسية] la Cochinchine [جنوب ﭭييتنام، الهند الصينية]، ثم من أجلهم، ثم من أجل السكان الأصليين أيضًا. وبتاريخ 6 كانون الثاني/يناير، نشرَت صحيفةُ لوسوار بتوقيع رولان دو ماريه Roland de Marès «رسالةً سياسيةً» بعنوان: «الهند المتمرِّدة» جاء فيها: ستُسبِّبُ شؤونُ الهند مرةً أخرى همومًا خطيرةً لإنكلترا. فما إنْ دخلَ غاندي إلى بومباي حتى استؤنفَ الاضطرابُ الوطني وأمرَ المهاتما باستئناف حملة العصيان المدني واللاتعاون. وأصبح البابُ مفتوحًا من جديد للمغامرة وللحرب الأهلية. ولا يمكن أنْ يفوتَ الإنكليزُ ملاحظةُ أنَّ هذه الأحداث هي نهاية مؤلمة لأعمال مؤتمر الطاولة المستديرة ولجميع عبارات اللطف التي أُغدِقَت على غاندي خلال إقامته في لندن. إنّ هذا الشخصَ الذي كان الهندوسُ يطلقون عليه اسمَ «الروح العظيمة» والذي أدَّى إلى تمرُّد ملايين الأفراد قد ظهرَ بالمقابل في أوروبا بمظهرِ مهرِّجٍ من طرازٍ رديء. لا شكَّ في أنه كان يمتلك سرَّ الحركات الرمزية التي من شأنها أنْ تثيرَ مخيِّلةَ العوامِّ، مثل مسيرِه إلى البحر للقيام بتصنيع المِلْح خارقًا قانونَ الضريبة على المِلْح، ومثل يومِ صمتِه التام الذي كان يتقيَّد فيه تقيُّدًا صارمًا كلَّ يوم إثنين، ومثل عدمِ ارتدائه لباسًا من غير قماش الكتان وعدمِ عيشه إلاَّ كفقير بين الفقراء، بينما كان في الحقيقة مفكِّرًا تعلَّمَ في مدارس الغرب. لقد كان كلُّ هذا الإخراج المسرحي مؤثِّرًا إلى ذلك الحد هناك في الهند المشرقة، ولكنه في ضباب لندن بدا مضحكًا تمامًا. لم يكنْ هذا الرسولُ يعرف معنى المظهر الخارجي والبيئة الأخلاقية. وها هو ذا يؤكد نفسَه كمتمرِّد. لقد حدَّدَ موقفُه في لندن فشلَ مؤتمر الطاولة المستديرة من خلال عدم تهاونه في التشبُّث بالمطالبة بشيء واحد لا يمكن لإنكلترا أنْ تقدِّمَه: ألا وهو الاستقلال التام للهند الذي ربما يشير إلى نهاية النهاية للإمبراطورية البريطانية. وفي أثناء الأيام والأسابيع التي تلَت اعتقالَ غاندي، وقعَ قمعٌ عنيف على كلِّ أنحاء البلاد. وأُعلِنَ أنَّ حزب المؤتمر وعددًا من المنظمات المرتبطة به هي خارجة عن القانون فصودِرَت ممتلكاتُها. وقد كتبَت صحيفةُ لوسوار في عددها الصادر بتاريخ 7 كانون الثاني/يناير 1932 أنَّ "برقيات الهند تُظهِرُ أنهم قد اتَّخذوا موقفَ الحرب التي أصبحَت الآن محتومةً سواءً بالنسبة لحزب المؤتمر أم بالنسبة للحكومة. فأمرَت الحكومةُ ونفَّذَت اعتقالاتٍ لقادة وعملياتِ تفتيش. (...) ففي كالكوتا تعرَّضَ أكثرُ من ستين مكتبًا ومبنىً للتفتيش الذي قام به رجالُ الشرطة الذين كان يرافقُهم في هذه العمليات سياراتُ نقلٍ لكي تنقلَ الأثاثَ والكتبَ والوثائقَ العائدةَ لجمعياتٍ اعتُبِرَت غيرَ شرعية بناءً على التصريحات الأخيرة لنائب الملك. (...) وقد تلَقَّت إحدى الكتائب التابعة لفوج اسكتلندي كان مقيمًا في أحد المواقع في ﭙـونا Poona أمرًا بالتوجُّه نحو شولاﭙور Sholapur حيث ستقوم هذه الكتيبةُ بمسير طويل بهدف «عرض العَلَم» في القرى الموجودةِ في تلك المنطقة المكتظَّةِ بالسكَّان والتي كان فيها أتباعٌ كُثْرٌ لحزب المؤتمر. كانت هذه العمليةُ المتمثِّلةُ في «إظهار العَلَم»، بالإضافة أيضًا إلى عرض رشَّاشات ودبَّابات خفيفة وعربات مصفَّحة، كانت على ما يبدو فعَّالةً جدًا، ويبدو أنهم سيلجأون إليها أكثرَ فأكثر. واعتُقِلَ بتاريخ 5 كانون الثاني/يناير راجيندرا ﭙـرازاد Rajendra Prasad الذي كان قد حلَّ محلَّ ﭭـالاَّلبهباي ﭙـاتيل Vallalbhbai Patel في منصب رئيس حزب المؤتمر. فخلَفَه الدكتورُ أنصاري الذي كان مسْلِمًا، ولكنه اعتُقِلَ هو الآخرُ بتاريخ 8 كانون الثاني/يناير. ودخلَ السجنَ حوالي 200 رجل من قادة حزب المؤتمر. وأُلغيَت حريةُ التعبير، ومُنِحَ القضاةُ ومفوَّضو الشرطةِ سلطاتٍ استثنائيةً تُخَوِّلُهم اعتقالَ جميعِ «المشتبَه بهم» والاستيلاءَ على ممتلكاتهم؛ وأُنشئَت محاكمُ استثنائية. نقلَت نوﭭـيل دو لاند Nouvelles de l'Inde [أخبار الهند] أنَّ الحكومة قد ابتكرَت طريقةً لكي تحكمَ بعقوبة السجن لمدة سنتين بدون وجود ضرورة لأنْ يكونَ هناك سببٌ واضح لذلك. كانوا يوقفون أشخاصًا «مشتبَهًا بهم» فيحتفظون بهم في السجن لفترة معيَّنة، ثم يطلقون سراحَهم بناءً على تعهُّد، ويعطونهم أمرًا بعدم مساعدة الحركة الوطنية لا بالأقوال ولا بالحركات ولا بالأفعال وبمراجعة الشرطة كلَّ يوم. وبما أنهم جميعًا وجدوا ذلك مجحفًا فقد اعتُقِلَ الأشخاصُ أنفسُهم مرةً أخرى في غضون 24 ساعةً وحُكِمَ عليهم بالسجن المشدَّد لمدة تتراوح بين 18 شهرًا وسنتين[10]. وهكذا، "فقد أخذَت السجونُ في كلِّ مكانٍ تمتلئ بمتطوِّعي العصيان. فامتلأَت السجونُ المحليةُ أولاً، ثم السجونُ المركزيةُ الكبيرة... حتى جاء يومٌ وجبَ فيه التفكيرُ بمعسكرات اعتقال واسعة[11]". وفي نهاية شهر كانون الثاني/يناير، بلغَ العددُ زهاءَ 14803 من السجناء السياسيين؛ وخلال شهر شباط/فبراير، انضمَّ إليهم 17818 شخصًا. وخلال الأشهُرِ التسعة الأولى من سنة 1932، اعتُقِلَ 61566 مقاومًا، وهو عددٌ أعلى من العدد الذي سُجِّلَ بعد مسيرة المِلْح[12]. وأُرسِلَ منشورٌ سرِّيٌّ إلى جميع مديري السجون يأمرهم بمعاملة السجناء المتَّهَمين بالعصيان المدني معاملةً قاسيةً جدًا. يشير نهرو إلى أنَّ روح العنف لا تني تُطارِد شعبَنا حتى في السجون. (...) فاستخدامُ السَّوط قد انتشرَ للمعاقبة على مخالفات النظام. (...) وكانت أغلبُ العقوبات في السجون تنهالُ على المراهقين والشُّبَّان الأكثر تأثُّرًا من غيرِهم بالإكراه وبالإهانة. ولم يكنْ مصيرُ النساء يُحسَد عليه كثيرًا. (...) فكُنَّ يوضعْنَ مع المحكومات بأسوأ عقوبة وفي شروط فظيعة، إلاَّ باستثناءات نادرة تقريبًا[13]. بتاريخ 13 شباط/فبراير 1932، نشرَت صحيفةُ الإلُّوستراسيون L'Illustration مقالاً تعرِضُ فيه وضْعَ «الاضطرابات في الهند» منذ عودة غاندي: لقد استأنفَ حزبُ المؤتمر كلَّ نشاطِه من أجل تكثيف حملة العصيان المدني ومقاطعة المنتجات الإنكليزية. وأُضيفَ إلى رفض الضرائب رفضُ دفعِ الإيجارات. وجرَت أعمالُ عنفٍ جديدةٌ في مختلف المدن، فهوجِمَ بعضُ الموظَّفين، وأُلقِيَت قنابلُ فكان على الشرطة أنْ تلجأَ في عدة ظروف إلى استعمال أسلحتها ضد المتظاهرين. ومع ذلك فقد حقَّقَت الطريقةُ القويةُ التي وضعَها نائبُ الملك اللورد ويلينغدون نتائجَها. فقد اعتُقِلَ مثيرو الاضطرابات اعتقالاً لا رحمةَ فيه، وقد أتاحَ تطبيقُ مراسيمَ تمنع الاجتماعات وتفرِضُ على الصحافة رقابةً صارمةً أتاحَ معاقبةَ مرتكبي الجُنَح معاقبةً فعَّالة. وقد اعتُقِلَ جميعُ قادة حزب المؤتمر فكان كلَّما عُيِّنَ واحدٌ يُعتقَلُ فورًا. فبعدَ أنِ اعتُقِلَت السيدةُ غاندي وحُكِمَ عليها بالسجن لمدة ستة أسابيعَ وذلك بتاريخ 10 كانون الثاني/يناير، صدرَ حُكْمٌ آخرُ بالعقوبة نفسِها لمدة ثمانية عشر شهرًا بحق أحد أبناء المهاتما وذلك بسبب مقال اعتُبِرَ تحريضيًا. وتعزَّزَت مفارزُ الشرطة بعناصرَ من الجيش في جميع المراكز الكبرى. وبتاريخ 15 شباط/فبراير، أمرَ مفوَّضُ شرطة بومباي مادلينَ سلاد Madeleine Slade أنْ تغادرَ الإقليمَ قبل منتصف الليل من يوم 17 شباط/فبراير "وذلك لأنها كانت تتصرَّفُ أو ستتصرَّف بطريقة تضرُّ بالأمن العام، أو أنها كانت تدعم حركةً غيرَ مشروعةٍ وضارةٍ بالأمن العام أو بالسِّلْم[14]." وقد أشارت إلى ذلك في صحيفتها بقولها: "من البديهيِّ ألاَّ أطيعَ وبالتالي أنْ أُعتقَلَ[15]." وبعدَ أنْ أُحيلَت إلى المحكمة حيث رفضَت الدفاعَ عن نفسِها، حُكِمَ عليها بالسجن لمدة ثلاثة شهور. ونظرًا لأنَّ السجن العاديَّ للنساء قد اكتظَّ بالسجينات منذ وقت طويل فقد التحقَت بالسجينات السياسيات اللواتي اعتُقِلْنَ في ثُكنةٍ كبيرة: كان هناك بعضُ أبرز سيدات بومباي، وكانت جميعُ السجينات قد تعوَّدْنَ على مستوى حياةٍ أعلى بالتأكيد من مستوى حياة الأشرم. ولم تكنْ معنويَّاتُهنَّ أقلَّ من ذلك ولم يكنْ لحماسهنَّ حدود. وقد اعتُقِلَ أغلبُهنَّ نظرًا لتشكيلِهنَّ مجموعاتِ مراقَبةٍ لمقاطعة البضائع البريطانية، وتلك كانت مهمةً كرَّسَت النساءُ لها أنفسَهنَّ في كلِّ مكان بهمةٍ وعزمٍ لا يلينانِ. كانت طريقةُ التأثير في النساء والتي مارسَتْها الدعوةُ إلى العمل التي أطلقَها باﭙـو Bapu [الأب، غاندي] كانت إحدى أكثر الأمور حيرةً وإرباكًا والتي كان على الحكومة البريطانية مواجهتُها[16]. لقد أثارت السياسةُ التي انتهجَها نائبُ الملك سُخْطَ العديد من القادة الهنود الذين كانوا بالمقابل لا يؤيِّدون مواقفَ غاندي ومناهجَه الأساسية. وهكذا عبَّرَ الـﭙـانديتُ مادان موهان مالاﭭـيَّـا Pandit Madan Mohan Malaviya، وهو قائد هندوسي معتدلٌ ومُوالٍ كان مندوبًا في مؤتمر الطاولة المستديرة، عبِّرَ عن سخطه في رسالة مفتوحة إلى نائب الملك نُشِرَت في [صحيفة] بومباي كرونيكل Bombay Chronicle [أحداث بومباي] بتاريخ 31 كانون الثاني/يناير 1932. إنَّ هذه الرسالة التي تحتوي في وقت واحد على ثناء كبير على غاندي – يقدِّمُه رجلٌ ليس من أصحابه – وعلى تحليل ثاقب جدًا للموقف تستحقُّ الوقوفَ عندها مليَّـًا: سعادتُكم كنتم تعرفون أنَّ المهاتما غاندي هو أعظم هندي مازال حيًا. وكنتم تعلمون أنه معبود الملايين من الهنود ومبجَّل في جميع أصقاع العالَم لنقاء حياته ونزاهتها ولنبل تفانيه من أجل قضية وطنه وقضية الإنسانية. وكنتم تعلمون أنه منذ عشر سنوات هو الرئيس المعترَف به لأكبر منظَّمة سياسية في الهند. وكنتم تعلمون أنَّ الحكومةَ، منذ بضعة أشهر تقريبًا وعندما بلغَ العصيانُ المدنيُّ أوجَهُ، قد وقَّعَتْ هدنةً معه، وأنَّ سعادتكم قد دعوتموه بناءً على موافقة الحكومة الإنكليزية للمشاركة في مؤتمر الطاولة المستديرة. وكان باستطاعتكم أنْ تتصوَّروا أنه كان على سعادتكم، في هذه السنة أو في السنة القادمة، عندما يكون قد وُضِعَ دستورٌ جديد للهند، وعلى الأرجح إنسانيًا، أنْ تسلِّموا إدارةَ شؤون البلاد للمهاتما غاندي. وكنتم تعلمون أيضًا أنَّ رفضكم استقبالَه قد يلقي البلادَ في وضع رهيب. من الكارثي ألاَّ يتفهَّمَ سعادتُكم أنَّ مِن حقِّ رجل كهذا أنْ يأملَ في التكرُّم بالحصول على مقابلة مع سعادتكم، بصفتكم رئيسًا حاليًا لحكومة هذه البلاد. لقد كان عدمُ القيام بهذا اللطف يعني الابتعادَ ابتعادًا واضحًا وأكيدًا عن طريق المصالحة الذي فتحه ميثاقُ دلهي. بل كان أكثرَ من ذلك: كان إهانةً وطنيةً بحق الهند. (...) أطالبُ إذًا سعادتَه وأطالبُ من خلال سعادتِه حكومةَ جلالته بأنْ يَرفعَ الظلمَ الأكبرَ الذي ارتكبَتْه هذه السياسةُ القمعية وبأنْ يلغيَ القراراتِ ويطلقَ سراحَ غاندي وجميعِ الرجال والنساء والأطفال المعتقَلين ويعيدَ الممتلكاتِ المصادَرةَ ويعفيَ من الغرامات ويرسيَ سيادةَ القانون ويدعوَ غاندي وحزبَ المؤتمر للنقاش ويتيحَ ضمانَ صداقة مشرِّفة ومفيدة لكلا البلدين. أدعو اللهَ أنْ يمنحَ سعادتَكم وحكومةَ جلالته الحكمةَ والشجاعةَ للتصرُّف على هذا النحو[17]... لكنَّ دعاء الـﭙـانديت مادان موهان مالاﭭـيَّـا لم يُستجَبْ. فقد تَصامَّ اللوردُ ويلينغدون ولم يسمعِْ الدعوةَ إلى الحكمة والتي وُجِّهَتْ إليه فمازال أقسى أنواع القمع ينهالُ على الهنود المتمرِّدين. وبتاريخ 20 نيسان/أبريل 1932، وبناءً على التقارير التي وردَت من الهند إلى رومان رولاَّن، وضع رومان رولاَّن لائحةً هائلةً من التجاوزات التي ارتكبَها المحتلُّ: على غرار الحملات التأديبية التي نظَّمَتْها [ميليشيا] القمصانُ الحمرُ chemises noires [الفاشية: camicie nere، Blackshirts] في إيطاليا، وصلَت الشرطةُ ليلاً في حافلات رُكَّاب إلى القُرى وهجمَت على المنازل. ربما كان الضربُ أقلَّ ما يمكنُ أنْ يحصلَ فقد أرادوا الإهانةَ. إذْ نزعوا ثيابَ القومِ وأجبروهم على أنْ يمشوا عراةً على قوائمهم الأربع وربطوهم بطنابرَ وعذَّبوهم بالدواليب حتى تركوهم شبهَ أموات؛ وعذَّبوهم بالصدمات الكهربائية؛ وجلَدوا الأطفالَ؛ وضايقوا النساءَ واغتصبوهنَّ (فأصبحْنَ الآنَ في منطقة أحمد أباد يعلِّقْنَ على خُصُورهنَّ سكاكينَ طويلةً ليقتلْنَ بها أنفسَهنَّ إذا ما تعَرَّضَ شرفُهنَّ للأذى). وقد عاقبوا القريةَ كلَّها بسبب رفض البعض منها؛ واستولوا على الماشية والمواعين [الأدوات المنزلية] وحُلِيِّ النساء وأدوات الفلاحة (بدون أية شرعية)؛ وكانوا لقاءَ ضريبةٍ تساوي بضعَ أنَّات annas [الأنَّه l’anna = 1/16 من الروبية] يصادرون ممتلَكاتٍ تساوي مئات الروبيَّات؛ وكانوا يَرْمُون في الطريق ليلاً عجائزَ وأطفالاً. وأغلَقوا المستشفيات، وأخرجوا منها المرضى، ورفضوا قبولَ الجرحى في المستشفيات الحكومية؛ وضربوا بالعِصِيِّ في مادراسَ سائقي سيارات الإسعاف الذين كانوا يقدِّمون النجدةَ للمتطوِّعين الجرحى أو المغمى عليهم. وحاولوا بجميع الوسائل الوضيعة أنْ يحطِّموا السكانَ ويضعفوا معنوياتِهم[18]. وقد قرَّرَ مسؤولو حزب المؤتمر الذين مازالوا أحرارًا أنْ يعقدوا الدورةَ السنويةَ لتنظيمهم بتاريخ 24 نيسان/أبريل 1932 في دلهي. وعلى الرغم من أنَّ حزبَ المؤتمر لم يُصَرَّحْ به رسميًا على أنه حزب غير شرعي فقد قرَّرَت السلطاتُ البريطانيةُ معارضةَ انعقاد هذه الدورة. فقامت دورياتُ الشرطة، منذ عشية يوم انعقاد الدورة، بالتجول في جميع أحياء دلهي بحثًا عن أعضاء حزب المؤتمر القادمين من مختلف الأقاليم. فاعتُقِلَ أكثرُ من 800 شخص اشتُبِهَ بأنهم مندوبون في حزب المؤتمر. وكان رجالُ الشرطة مقتنعين بأنَّ حزب المؤتمر سيحاولُ أنْ يجتمعَ في مكانٍ يبقى سريًا فسعوا إلى كشفِه. لكنَّ أكثرَ من 150 مندوبًا اجتمعوا في الساعة المحدَّدة قرب برج الساعة Tour de l'Horloge، في تشاندني تشوك Chandni Chowk، وهو المكان الأكثر عموميةً في دلهي، وصوَّتوا خلال عشر دقائقَ بصورة اعتيادية على القرارات الخمسة التي كانوا قد حضَّروها سلفًا[19]. وفي بومباي، سيطرَ توتُّرٌ حادٌّ على العلاقات بين المسلمين وبين الهندوس. وكان السببُ الرئيسيُّ لذلك التوتُّر هو أنَّ حزبَ المؤتمر قد وضعَ إحدى الشركات الإسلامية على قائمة الشركات التي يجب مقاطعتُها لأنها قرَّرَت المتاجرةَ بمنتَجات بريطانية. فأطلقَ القادةُ المسلمون عندئذٍ تهديداتٍ علنيةً ضدَّ الهندوس. وبتاريخ 14 أيار/مايو 1932، اندلعَت مواجَهاتٌ عنيفةٌ وتصاعدَتْ في الأيام التالية. فعرضَت صحيفةُ الإلُّوستراسيون L'Illustration بتاريخ 11 حزيران/يونيو 1932 «فوضى بومباي» بهذه الكلمات: هاجمَ الهندوسُ المساجدَ فردَّ المسلمون بنهب المَتاجر وحرْقِها. فكان على الشرطة، بعدَ أنْ أُرْهِقَتْ، أنْ تطلبَ نجدةَ الجيش وارتفعَ عددُ الضحايا ارتفاعًا كبيرًا: إذْ بلغَ قرابةَ المئتَيْ قتيل وحوالي الألف جريح. وشهِدَ الناسُ حربَ شوارعَ حقيقيةً. ونُهِبَ أكثرُ مئة متجر تقريبًا. وتوقَّفَ السيرُ، وكان لا بد من إغلاق المصانع، وخاصةً مصانع الغزْل، فوجدَ أربعون ألفًا من العمال، من الرجال والنساء، أنفسَهم بدون عمل. وأُعلِنَ القانونُ العرفيُّ، وكانت الحركةُ ستتحوَّلُ إلى حرب أهلية لولا وحشية القمع الذي مارسَتْه السلطاتُ البريطانية. (...) كان منظر الطرقات الرئيسية يُرثى له: فقد كانت مغطَّاةً بالحجارة وبالزجاجات المكسَّرة وبقذائفَ أخرى، وكانت النيرانُ العظيمةُ التي كانت تحرق الأقمشةَ والبضائعَ الأخرى المسروقةَ من المتاجر تملأ الهواءَ بدخان حاد. كانت مصابيحُ الشوارع قد كُسِّرَت ولم يعدْ هناك من إضاءة في الليل. وقد أُشعِلَت حرائقُ عديدةٌ فلم يتمكَّنْ رجالُ الإطفاء دائمًا من منع التدمير الكامل للمباني حتى في أكثر الأحياء حداثةً. وكما يحصل دائمًا في مثل هذه الحالات فقد استغلَّ أفرادٌ متشرِّدون هذه الاضطراباتِ الدينيةَ للانصراف إلى أسوأ أعمال العنف وحرَّضَتْ العناصرُ الشيوعيةُ السكانَ على الأوروبيين الذين تعرَّضَ بعضُهم للتعنيف. وما كان ينقص إلاَّ ظهورُ دبَّابات الاقتحام في الحي الأصلي حتى يُرَوِّعَ متوتِّري الأعصاب. وكانت الجُثَثُ تتناثرُ على الأرض. كان نائبُ الملك يعي تمامًا أنَّ حزب المؤتمر والحكومة قد انخرطا في صراع ليس رهانُه أقلَّ من سلطة حُكْم الهند. فكتبَ بتاريخ الأول من تموز/يوليو 1933 إلى سكرتير الدولة في الهند: مِن الضروريِّ النظرُ إلى غاندي كما هو فعليًا وليس كما يدَّعي. فغاندي هو السياسيُّ الأكثرُ دهاءً في الهند والرئيسُ المعترَف به لحزب يريد الاستقلالَ التامَّ أو يريد على الأقلِّ دستورًا لا يترك لنا أيَّ ضمانة ويضع السلطةَ الفعليةَ كلَّها في أيدي حزب المؤتمر. ربما سيغيِّر حزبُ المؤتمر هذا تكتيكَه أحيانًا، ولكنه لن يغيِّرَ هدفَه أبدًا: ذلك ما ينبغي تذَكُّرُه دائمًا في جميع المناورات الممكنة[20]. كان اللورد ويلينغدون ينوي إذًا تحطيمَ حزب المؤتمر. ولن يكون بعيدًا عليه بلوغُ ذلك وستستلمُ شيئًا فشيئًا حركةُ العصيان المدني التي ظهرَت قويةً جدًا في الأشهر الأولى. ترجمة: محمد علي عبد الجليل *** *** *** [1] المجلد 48، ص 446-450. [2] المجلد 48، ص 459. [3] المجلد 48، ص 500-502. [4] المجلد 48، ص 472-476. [5] المجلد 48، ص 471-472. [6] المجلد 48، ص 502-503. * كانت الكلمة الدقيقة هي discontinued، وتعني حرفياً: "متوقِّف" "discontinuée" [منقطع أو معلَّق]. راجِعْ: أعلاه، ص 148. [7] المجلد 48، ص 484-485. [8] إدمون ﭙريـﭭـا Edmond Privat، Aux Indes avec Gandhi [في بلاد الهند مع غاندي]، سبق ذِكْرُه، ص 89. [9] المرجع السابق، ص 90. [10] نوﭭـيل دو لاند Nouvelles de l'Inde [أخبار الهند]، آذار/مارس 1932. [11] الـﭙـانديت نِهْرو Pandit Nehru، Ma vie et mes prisons [حياتي وسجني]، سبقَ ذِكْرُه، ص 261. [12] قدَّمَ هذه الأرقامَ س. ﭙـانتر-بريك، S. Panter-Brick، Gandhi contre Machiavel [غاندي ضد ماكياﭭـيلِّي] سبقَ ذِكْرُه، ص 322. [13] الـﭙـانديت نِهْرو Pandit Nehru، Ma vie et mes prisons [حياتي وسجني]، سبقَ ذِكْرُه، ص 271-272. [14] ذُكِرَ في نوﭭـيل دو لاند Nouvelles de l'Inde [أخبار الهند]، نيسان/أبريل 1932. [15] مادلين سلاد Madeleine Slade، Dans l'intimité de Gandhi [بين أصدقاء غاندي]، سبقَ ذِكْرُه، ص 122. [16] المرجع السابق، ص 123. [17] نشرَ رومان رولاَّن نصَّ هذه الرسالة المفتوحة في مجلة أوروبا Europe، العدد 11، تاريخ 15 آذار/مارس 1932، وأعيد نشرُه في Gandhi et Romain Rolland [غاندي ورومان رولاَّن]، سبقَ ذِكْرُه، ص 398-401. [18] Gandhi et Romain Rolland [غاندي ورومان رولاَّن]، سبقَ ذِكْرُه، ص 410-411. [19] عن التقرير الذي نشرَتْه نوﭭـيل دو لاند Nouvelles de l'Inde [أخبار الهند]، حزيران/يونيو 1932. [20] ذكرَه ب.ر. ناندا B.R. Nanda، Gandhi, [غاندي،]، سبقَ ذِكْرُه، ص 236.
|
|
|