|
أسُـس الفكـر التأمُّلـي عند البـوذا
مقدمة في ضوء البحوث العلمية التي أُجريت في العديد من المراكز البحثية (وخاصة الغربية منها)، تنامى الاعتقادُ بأهمية الدور الذي تلعبه الرياضات الروحية إجمالاً، والتأمل بالأخص، في تطوير الصحة النفسية وتنمية القدرات الإنسانية الكامنة، الجسمانية والعقلية، مما يرفع من إنتاجية الفرد، ومن ثم المجتمع، في المجالات كافة، علمية أم إنسانية. والملفت للنظر أن نتائج هذه البحوث والدراسات انسجمت انسجامًا كبيرًا مع بعض الممارسات والرياضات الباطنية في الديانات البوذية والهندوسية والطاويَّة وغيرها. هذا ما دفع إلى الاستنتاج بأن التقدم الملحوظ للبلاد التي تنتشر فيها تلك الديانات، والخصائص السلوكية التي يتمتع بها أبناؤها، ذات علاقة مباشرة بالتأمل الذي يشكل نشاطًا اختصَّت به هذه ووضعتْه في مقدمة رياضاتها الباطنية. وبالنظر إلى دول الشرق عمومًا، يمكن لنا الخروجُ بمؤشر على صدقية هذا الاعتقاد: فأحد أبرز الاختلافات بين الدول الشرقية المتقدمة وبين جاراتها المتخلفة هو ما يميِّز الأولى من اهتمام بأنشطة روحية، كالتأمل، انطلاقًا من دياناتها. هذا الترابط بين التأمل والتقدم في المجالات كافة، شكَّل محفزًا للباحثين كي يكثفوا الترجمة والدراسات عن الديانات والعلوم الشرقية. بل إن أصحاب القدرة على التأمل توجَّهوا إلى أوروبا لتدريب التواقين من أبناء الغرب إلى الروحانيات، وانتقل ذلك إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وعلى الرغم من أن التقدم العلمي في أوروبا والولايات المتحدة يتفوق على نظيره في الشرق، إلا أن هذه البلاد سعت سعيًا حثيثًا في دراسة الروحانيات الشرقية. هنا يرى الباحث أن في دراسة الفكر التأملي فيها منفعةً كبيرة: إذ يتبين من هذه الدراسة أنها تساعد الدول المتخلِّفة على النهوض بنفسها ومواكبة الدول المتقدمة في سائر المجالات. صحيح أن من المبالغة عزو كل ما تم التوصل إليه من تقدم في هذه البلاد إلى ما يمارسه أفرادُها من رياضات روحية، كالتأمل، إلا أن هذا لا يعني انتفاء الارتباط بين العاملَين. فإذا كان التأمل هو "فن السيطرة الذاتية العقلية على الذهن والأفكار وعلى تدفُّق الصور الذهنية أو منع تدفقها أو تغيير اتجاهها ونوعيتها"، فإن الدراسات الپسيكولوجية تشير في وضوح إلى أن الصور التي تتشكل في عقل الإنسان، والتي غالبًا ما تكون ثمرة التأمل، تؤثر على الفكر والجسم معًا. فبالإضافة إلى أن التأمل مؤثر كبير على الذهن والنفس والجسم، من خلال إدراك الحواس للصورة الداخلية التي تتشكل في العقل، فإن التقدم في قدرة الفرد على التأمل تقود، بحسب المختصين في هذا المجال، إلى القدرة على ضبط نشاط الذهن والجسم، حتى فيما يتعلَّق بالأنشطة الفسيولوجية اللاإرادية. وانطلاقًا من أهمية التأمل هذه، تأتي هذه الدراسة لتحاول تقديم شيء من الإيضاح حول الموضوع. ومن باب التخصيص، سيكون التأمل عند البوذا هو مجال هذه الدراسة التي تهدف إلى الإجابة عن التساؤلات التالية: - ما هو التأمل؟ - ما هي المنطلقات الفلسفية التي يستند إليها ممارسوه؟ - ما هي طُرُقه وحالاته في البوذية؟ - كيف يمكن الارتقاء في التأمل من مرحلة إلى مرحلة؟ - كيف تساهم ممارسة التأمل، بحسب البوذا، في تطوير القدرات العقلية؟ البوذيَّة: أهم أسُسها ومفاهيمها ظهرت البوذية في القرن السادس قبل الميلاد، بينما كانت الفلسفة الهندوسية هي السائدة في الهند آنذاك. ومع اختلافها عن الهندوسية، – فهي أعقد منها من حيث فكرُها، وأسهل من حيث سلوكُها، – إلا أنها انسجمت معها في بعض الأسُس، كالنظرة إلى الحياة باعتبارها منبع الآلام: فقد تأثرت البوذية، التي أتت بعد الديانة البرهمية، في تكوينها وظهورها بمذاهب أخرى كانت لا تنفك تظهر في تلك الفترة؛ وكانت أبرز تلك المذاهب التي أثَّرت على البوذية العقيدة السَمْكهية والعقيدة الجَيْنية. يذكر المؤرخون عدة أسماء وألقاب لمؤسِّس البوذية، منها: "سدهرتا گوتاما"، "شاكياموني"، و"سدهتا" (باللغة الپالية). لكن أيًّا كان اسمه، فقد عُرِفَ بعد انتشار البوذية بلقب البوذا، الذي يعني "العارف المستنير". وقد ولد البوذا، على ما تقول المصادر، في العام 563 قبل الميلاد لأبوين حاكمين، إذ كان أبوه حاكمًا لمقاطعة كاپيلاڤستو. عاش بدايةَ حياته في ظلِّ ترف العائلة المالكة التي كانت تمتلك الكثير من الأموال والقصور، إضافةً إلى المكانة الاجتماعية التي امتازت بها في تلك الفترة. ويُذكَر عن البوذا أنه، على الرغم من إمكانات عائلته التي وفَّرت له حياةً مترفة، ارتأى لنفسه حياةً أخرى قاسية، رافضًا التنعم الذي حظي به، فبدأ يلبس ثيابًا متواضعة ويبدو حليق الوجه والرأس، وشرع يقسو على جسمه بالوقوف على الأشواك والنوم بين الجثث، وقلَّص من كمية طعامه، وصرف وقته في ممارسة التأمل في الحياة وفي سرِّ هذا الكون. والسبب من وراء اتخاذ البوذا قراره بالزهد في حياة العائلة والبدء في حياة متقشفة خالية من الملذات هو إدراكه، في مرحلة عمرية باكرة، أن تقسيم الناس إلى طبقات أمر فيه ظلم. لكن طريقته في العيش هذه لم تستمر سوى سبع سنين، أدرك خلالها أن الغلو في التقشف يعني غياب القدرة على التأمل والتفكر: فجسمه بدأ يهزل ويضعف في شدة، مما دفعه إلى الاعتدال في معيشته، إلى جانب ممارسة التأمل والتفكر في سرِّ الحياة. كان الدين في نظر البوذا مجرد سلوك حي، ولم تكن الطقوس والعبادات والشعائر الدينية أمرًا ذا قيمة عنده، حيث يُذكَر عن البوذا، في حوار له مع أحد البراهمة كان ينوي الذهاب إلى گايا للوضوء (وهو أحد الطقوس لتطهير النفس من الآثام)، أنه قال: توضأ هنا، نعم هاهنا، ولا حاجة بك إلى السفر إلى گايا، أيها البرهمي. كن رحيمًا بالكائنات جميعًا. فإذا أنت لم تنطق كذبًا، وإذا أنت لم تقتل نفْسًا، وإذا أنت لم تأخذ ما لم يُعطَ لك، ولبثتَ آمنًا في حدود إنكارك لذاتك – فماذا تجني من ذهابك إلى گايا؟ إن كلَّ ماء يكون لك عندئذٍ كأنه گايا. وعلى الرغم من موقف البوذا هذا من الطقوس الدينية، إلا أن أتباعه أوجدوا لهم طقوسًا خاصة بعد وفاته، كالصلاة والصيام والحج. كان لنظرة البوذا إلى الآلهة والدين أثرًا على أتباعه. فقد تفرعت البوذية إلى فرقتين أساسيتين: الأولى أُطلِقَ عليها مذهب الشمال، وقد اعتبرت البوذا في جملة الكائنات الإلهية والسيرَ على خطاه فريضةً على أتباعه؛ أما الفرقة الثانية، وهي مذهب الجنوب، فتنكر وجود الله كشخص، ولا تعتقد بألوهية البوذا، فتعتبره إنسانًا كغيره، إلا أن ما يميِّزه هو بلوغه درجاتٍ عليا من المعرفة والسلوك السليم. انطلقت البوذية في أساسها كتيار إصلاحي يرفض الظلم القائم ويعتبر بعض قواعد الشريعة الهندوسية غريبة وباطلة، رافضًا السيطرة البرهمنية آنذاك، على الرغم من التقائه مع مذهب البراهمة في بعض المبادئ، كالتقمص، وهو استمرار النفس في العود في أجسام عديدة. أما في خصوص الأساس الفلسفي الذي انطلقت منه البوذية، فهو يتلخص في مسألة الألم الأزلي المتجسد في قضايا أربع استقطبت جل اهتمام البوذا في مراحل تبشيره الأولى، ويطلق عليها تسمية الحقائق النبيلة الأربع.
البوذا بعد استنارته يعلِّم تلاميذه الخمسة الأوائل أولى هذه الحقائق أن حياة الإنسان، في مجملها، أصل الشقاء، يبدأ منذ ولادته ويستمر طوال حياته. ونتيجة لإيمان البوذا بدورة الولادة والتقمص، فإن الشقاء لا ينتهي بالموت لأن العود للتجسد يعني تجدد شقاء الإنسان. أما علَّة هذا الشقاء – وهي الحقيقة الثانية عند البوذا – فهي الانسياق وراء الرغبة والشهوة: تزداد الرغبات والشهوات مع جهل الإنسان بحقيقة الأشياء، فتَسِم الإنسان بسمات شريرة، كالشهوانية والحقد والوهم، وتلقي به في هوة الرذائل. الحقيقتان الثالثة والرابعة تشكلان الجزء المقاوم للحقيقتين الأولى والثانية: فالثالثة تشير إلى إمكان القضاء على الرغبات والشهوات بمقاومتها وكبحها – وهنا تجب الاستعانة بالقديسين البوذيين للوصول إلى درجة من الوعي تحفِّز الإنسان على رفض الشهوات. وبعد القضاء على الجهل بحقيقة الأشياء، ينطلق البوذا إلى الحقيقة الرابعة، وهي الطريق إلى الخروج من الشقاء، وتسمَّى بـالدرب المثمن النبيل، لأنها تضم ثماني مراحل هي: الفهم السوي، التفكير السوي، القول السوي، الفعل السوي، الارتزاق السوي، الجهد السوي، الانتباه السوي، وأخيرًا التركيز السوي. على الرغم من وجود مثل هذه الأسُس والحقائق في البوذية، إلا أنه لم يُنظَر إليها في بدايتها إلا كمجموعة من السلوكيات المنطلقة من أساس أخلاقي، وليس كمذهب فلسفي متكامل. لكن، مع الوقت، بَسَطَت البوذية نظراتٍ في الكون وعقائد في أسراره ومفاهيم مجردة عن الحياة تقاطعت فيها مع نظريات فلسفية وعقلية، مما أزاح النظرة الأولى إلى البوذية بوصفها مجرد قواعد للسلوك الأخلاقي. وبالعودة إلى الحقائق النبيلة الأربع والخلاص من الشقاء عبر بلوغ مرتبة النيرڤانا ("انطفاء" الأنا الفردية)، فإن أبرز الطرق للوصول إلى هذه المرتبة هو التأمل. وتتحدد قدرةُ ممارِس التأمل التي تخوِّله الدخول في النيرڤانا بمدى التزامه سلوكيات البوذا وارتقائه على سلَّم الدرجات الثماني النبيلة، بما يمنحه القدرة على التيقظ والاستنارة. لكن المرء لا يصل بهذه القدرة إلى تحقيق النيرڤانا تحقيقًا تامًّا إلا بانتهاء مسبِّبات الشقاء والألم. وللوقوف على هذه الوسيلة إلى ذلك – التأمل – سيقوم الباحث بإعطاء تصوُّر أولي عن التأمل ومفهومه، قبل أن يتطرق إلى التأمل عند البوذا. مفهوم التأمُّل أشرنا في مقدمة الدراسة إلى أن التأمل بدأ يشغل حيزًا واسعًا من اهتمام علماء النفس، مما دفعهم إلى إجراء دراسات عديدة، منها ما تناول نشاط التأمل بالرصد والدراسة التجريبية، حيث أُجريت بحوثٌ طبيةٌ عديدةٌ على الإنسان في أثناء قيامه بالتأمل، وأخرى تتبَّعت تاريخ الإنسانية وتطور العقل والفكر الإنساني وعلاقة ذلك بالتأمل. ويمكن لنا، إجمالاً، الخروج بتعريف واحد للتأمل، حيث يعبَّر عنه بـ فن السيطرة الذاتية العقلية على الذهن والأفكار وعلى تدفُّق الصور الذهنية أو منع تدفقها أو تغيير اتجاهها ونوعيتها. بدأت دراسة التأمل بمحاولة إيجاد رابط بينه وبين سلوك الإنسان وحالته النفسية. وبما أن حالة الإنسان النفسية محصلةٌ للتفسير الذي يقدِّمه العقل لانعكاسات الحواس المتدفقة عليه، إذا ما تمَّ تفسيرُ الصور المتدفقة إلى العقل تفسيرًا سلبيًّا فإن حالة الإنسان ستكون مماثلة، على شكل سأم أو يأس إلخ. من هنا يرى الاختصاصيون في هذا المجال أن مردَّ الحالة النفسية المَرَضية عند أيِّ شخص هو، بدرجة كبيرة، إلى تفسير سلبي لانعكاسات الحواس. على الرغم من ذلك، فإن كثيرين من الناس يقعون في حالة نفسية مَرَضية نتيجة ظروف ما يمرون بها، بينما يمر قليلون منهم بظروف قاسية دون أن ينعكس هذا الأمر سلبًا على شخصيتهم: فهناك، مثلاً، مَن فقد أطرافه أو ماله، لكنه حافظ على شخصية متوازنة السلوك؛ وفي المقابل، هناك حالات إنسانية لم يمر أصحابُها بظروف مادية صعبة، لكنهم يعانون من مشكلات نفسية. والسبب في ذلك – إضافة إلى طريقة التفكير السلبية سابقة الذكر – هو ما نفكر فيه، على حدِّ قول الحكمة الهندوسية: "كما تفكِّر كذلك تكون." وهنا يأتي دور التأمل في تحديد الصور التي تتدفق على الذهن، وبالتالي إيجاد حياة يريدها العقل وتتحكم في العواطف والمشاعر. ليس التأمل الطريقة الوحيدة للتحكم في الذهن، وإنما هو أقدم تلك الطرق وأبرزها. والحاجة إلى التحكم في الذهن تبرز عندما تصبح الخواطر والصور وانعكاسات الحواس هي التي تقود العقل، بحيث تسيطر هذه الأمور على العقل عبر تكرار تدفقها على الذهن ودورانها فيه، منتجةً كلَّ مرة المشاعر والسلوكيات نفسها بحسب طبيعة الخواطر والصور وانعكاسات الحواس المتدفقة على العقل. فبمرور الوقت، يُنتِج تذكُّر صورة أو فكرة ما، سبق للشخص أن خَبِرَها، النتائجَ نفسها، كون العقل يتعامل معها على أنها حدث حقيقي وليست مجرد تجربة سابقة. بذا قد يصبح العقل أسيرًا لفكرة ما أو صورة أو وهم. وهذا يتقاطع مع ما يشير إليه مبحث الأعصاب من أن تذكُّر الأحداث المهمة يدفع العقل مباشرة إلى ردود الأفعال الفسيولوجية ذاتها التي أطلقها نتيجة للحدث الواقعي الماضي، وذلك امتثالاً لنوع من المنعكَس الشرطي. حاول أغلب الدراسات التي عالجت الموضوع الإجابة على التساؤل التالي: لماذا تبدو أفكارنا ومشاعرنا وتصرفاتنا، في كثير من الأحيان، خارجةً عن إرادتنا، بينما عندما تسير وفق إرادتنا فإن أداءنا يتحسن؟ هناك إجابة لافتة لدانيال كولمنس عن هذا السؤال؛ وهو وإن لم يشر إلى موضوع التأمل صراحةً إلا أن الإجابة التي قدَّمها تنطوي ضمنًا على مفهوم التأمل، حيث اعتبر أن [...] وعي المشاعر والانتباه إليها لحظة انبثاقها هو الحجر الأساس في الذكاء الشعوري والعاطفي. فتمكُّنك من التعامل الصحيح مع المشاعر، بحيث تحوِّلها إلى مشاعر إيجابية ذات قيمة ومعنى، هو أبرز خصائص الوعي الذاتي. تبدأ عملية التأثير على العقل بالتأمل من الخطوة الأولى، حيث يوجب الدخولُ في حالة التأمل الخروجَ من الانفعالات بالتخلص من الخواطر التي أنتجت تلك الانفعالات. وهذا يتم عبر عدة نشاطات ووضعيات للتأمل. بعد ذلك، ينتقل الشخص، في مرحلة تالية من التأمل، لكنها مبنية على سابقتها، إلى استعراض أفكار إيجابية، من قبيل التأمل في ما يحيطه به من نِعَم، بحيث تكون ممهدًا لخطوة تالية، أساسها صياغة سلوك المرء وتصرفاته بناءً على إرادته. والمقصود هنا طبعًا ليس "أحلام اليقظة"، بل التأمل بناءً على أفكار واقعية يتم طرحُها على العقل للمعالجة، لكنْ دون أن تتأثر هذه المعالجة بخواطر جانبية سلبية. تجدر الإشارة إلى أن ممارسة التأمل لا تكون لغرض أو هدف بعينه – وهذا ما يصعِّب الاقتناع بفائدة التأمل. فالغاية من التأمل أعم وأشمل من أن يكون مقرونًا بهدف واحد، ويشمل تأثيرُه جوانب حياة المرء كافة؛ والغاية منه إكساب العقل هدوءًا وصفاءً يمكِّنه من الإحاطة بالأشياء إحاطةً كلِّية ومن اكتشاف الروابط فيما بينها، بحيث يتمكَّن من الكشف عن نفسه كجزء من الكلِّ المحيط، فيستطيع المرءُ إذ ذاك القيام بدوره كجزء متصل بمحيطه دون تناقُض أو صراع داخلي. طبيًّا، لم يُتَحْ تفسيرُ ما سبق حتى أصبح تسجيلُ نشاط المخ الكهربائي أمرًا ممكنًا. فقد تبيَّن أن حالة من التبدل في نشاط أجزاء المخ تبدو واضحةً كلما شرع الإنسان في التأمل. يقول الدكتور نُويبِرغ، أحد المشرفين على اختبارات في رصد المخ في أثناء التأمل، أن الجزء الأمامي من المخ ينشط مع البدء بالتأمل، في حين يبدي الجزءُ الخلفي من المخ انخفاضًا تدريجيًّا في نشاطه. يشكل الجزء الخلفي المنطقة المسئولة عن الإحساس بالزمان والمكان؛ وهذا ينسجم مع ما يراه البوذيون من أن التأمل يساعد الإنسان على التخلص من ظروف الزمان والمكان التي قد تحد من تفكيره. الأسُس الفلسفية للتأمُّل البوذي يُعتبَر التأمل من أبرز النشاطات البوذية، وهو يندرج ضمن المناسك والرياضات الروحية. والهدف الأساسي منه تحقيق الغاية البوذية، وهي الوصول إلى الخلاص من الشقاء، وذلك عبر اختبار التيقظ والاستنارة التي تتوَّج ببلوغ حالة "التبوذ" (إذا جازت الترجمة). لقد درج حديثًا استعمالُ مصطلح يوگا للإشارة إلى التأمل، إلا أن الأدبيات البوذية تعتمد مصطلح "تأمل" لوصف هذه الرياضات. وتأتي لفظة "تأمل" في العربية كمقابل للفظة بهاڤنا الپالية التي تعني حرفيًّا "تفتح العقل". تشكِّل حالة النيرڤانا الخلفية والأساس الفلسفيين لفهم التأمل؛ وهي صفة للمرتبة التي يسيطر فيها الإنسان على جميع مسبِّبات الشقاء، من شهوة وحقد وجهل. وتُطلَق على المسبِّبات الثلاثة لفظةُ كرما. وبلوغ النيرڤانا يعني ضمنًا المرور باستهلاك الكرما السيئ عن طريق تنمية الوعي والإدراك. لذا فإن حالة النيرڤانا الكاملة لا يمكن بلوغُها إلا بالانعتاق التام من الكرما. على هذا الأساس، فإن النيرڤانا الكامل يعني الموت، لأن استهلاك الكرما استهلاكًا تامًّا لا يحصل إلا بموت الإنسان. من هنا فإن النيرڤانا الكامل متاح نظريًّا للجميع؛ أما تحقيقه، بحسب البوذية، فمقتصر على الرهبان المكرَّسين الذين يعملون بالوصايا الثماني النبيلة.
راهب من رهبان بوذية زِنْ اليابانية في يوضح البوذا المقصود بالنيرڤانا بأنه مرحلة الانطفاء أو الفناء، حيث يشبِّه الإنسان بالشعلة والكرما السيئ الذي يدفعه إلى الشقاء بوقود الاحتراق: عندما ينفد الوقود – ويقصد به الشهوة والحقد والجهل – فإن الشعلة تنطفئ والشقاء ينتهي. ففي إشارة إلى أن شعلة الشقاء لن تعود، يقول: "بعد أن ينفد وقود الاحتراق لن يستطيع المصباح إشعال نفسه بنفسه." لذلك فإنه، بحسب البوذا، لا يمكن اعتبار النيرڤانا حالةً فورية، بل مقام يُنال تدريجيًّا بمقدار الانعتاق من الكارما. يؤخذ على البوذية، في هذا الصدد، أنها لا تقدم للإنسانية خلاصًا من الشقاء، بل تخدير وحسب. فمارسيل كونش، مثلاً، يستدل على ذلك بالأثر التالي، ويعلِّق عليه: قال أحد البوذيين لصديقه مرة: "النيرڤانا هو السعادة." فسأله صديقه: "ولكن ما هي تلك السعادة إذا لم تتضمن أيَّ حس؟" فأجابه الأول: "إلغاء الحس – تلك هي السعادة بعينها." و"إلغاء الحس" هنا لا يعني فقط الخلاص من الألم، بل الخلاص من نقيض الألم. فأين السعادة حينذاك؟ مهما يكن من أمر، فإن بلوغ النيرڤانا يتطلب الدأب على رياضات خاصة؛ ويُعتبَر التأملُ الرياضةَ الأنسب في البوذية. وفي هذا الجزئية، لن نبحث في التأمل كممارسة، وإنما كفكر يظهر جليًّا في درجات التأمل الأربع التي تنسجم مع الحقائق الأربعة سابقة الذكر. يبدأ المتأمل في الدرجة الأولى بـالسيطرة على الحواس؛ ثم يعمل على تطويع المخيلة؛ وثالث درجة تبدأ بـانسحاب الحس من موضوعاته – حتى يصل المتأمل إلى المرحلة الأخيرة حين يستغرق العقل في موضوع تأمله. بالعودة إلى ما أشار إليه الباحثُ من استعمال اليوگا للتدليل على التأمل، فإن في مصطلح يوگا ما يدلِّل على الفلسفة التي ينطلق منها التأمل. فكلمة "يوگا"، المأخوذة من الجذر السنسكريتي يوگ، تعني "الاتحاد" أو اقتران الشيء بالشيء؛ ومضمونها يشير إلى ذلك الانسجام الداخلي في النفس الإنسانية بين الدوافع الدنيا والعليا للإنسان؛ أي أن الممارس للتأمل أو اليوگا هو الشخص المتحد مع نفسه. هنا يجد الإنسان ذاته، ويحدِّد موقعه من الكون، ويعرف دوره فيه. وهنا أيضًا يلتقي البوذا مع سقراط في مقولته: "اعرف نفسك"، وإن كان البوذا لا يعتبر أن المعرفة هي معرفة النظر العقلي وحسب، وإنما المعرفة الناتجة عن الخبرة المباشرة. فلسفة اليوگا تقوم على عدم الفصل بين المرئي واللامرئي، وتعتبر الجهل بهذه الحقيقة علَّة الآلام والشرور. ويتضح الجهل في عدم معرفة جوهر الحياة، التي لن تتحقق إلا عندما يتخلص الذهن من حالة العبودية المتمثلة في تعلُّقه بخيرات العالم: عندما يتخلص الذهن من هذه العبودية فهو يسير قُدُمًا نحو الحرية. واليوگا أو التأمل فيه ما يساعد على تحرير الذهن من تلك القيود، ولذلك فإن ممارسته جزء لا يتجزأ من طريق معرفة الذات. وكما تنطوي لفظة يوگا على مضامين فلسفية، فإن لفظة بوذا تتضمن معاني اليقظة والوعي: فحتى يصبح الشخص "مستيقظًا" عليه، بحسب البوذا، أن يعرف نفسه معرفة تامة، عبر إدراكه لمكوِّنات الإنسان كلِّها، البدنية والنفسية والذهنية، مستعملاً التأمل لتحقيق هذه الغاية. فممارسة التأمل تقود إلى معرفة حقيقة طبيعة الإنسان، التي تقود إلى العلم بالطاقة المسئولة عن ظهور الخواطر والتحكم بها. هذا في خصوص الأساس الفلسفي العملي الذي ينطلق منه ممارسو التأمل البوذي. أما في خصوص التأمل كرياضة روحية، فبالإضافة إلى الأمور الفنية فيه والوضعيات المختلفة للجسم الملائمة له، لا بدَّ له من قاعدة سلوكية وأخلاقية تسبقه، حتى يؤتي التأمل النتيجة المفترَضة من ممارسته، وهي بلوغ الاستنارة. وهذه، وإن لم تكن بالضرورة النيرڤانا التام، لكن من شأنها أن تمكِّن من الخلاص التدريجي من الكرما، بما يخفف من ألم شقاء الحياة. القاعدة الأخلاقية للتأمُّل البوذي اتضح لنا مما سبق أن التأمل في البوذية ما هو إلا وسيلة للدخول في النيرڤانا بغية الخلاص من الشقاء. لكن حتى تكون هذه "الوسيلة" ذات فاعلية، فإن البوذية تضع شروطًا لذلك، تمثل في مجملها قاعدةً أخلاقية تحكم سلوك الإنسان، بما يساعده على اجتياز مراحل التأمل من غير إخلال بتوازنه الداخلي. ويُطلَق على القاعدة الأخلاقية هذه "الدرب المثمَّن النبيل"، حيث تزداد الفائدة من التأمل كلما ارتقى الإنسان في سلَّم الأخلاقيات. تُشتَق المراحل الثماني من الحقيقة النبيلة الرابعة عند البوذا، وهي الطريق المؤدي إلى زوال الشقاء، وهي على الترتيب:
وتسبق التدرجَ في هذه المراحل أمورٌ تمهيدية أيضًا، هي بمثابة فضائل، كالإحسان والرحمة والتفكير الإيجابي والرزانة، بالإضافة إلى تعويد النفس على الأعمال الاجتماعية الحسنة، كالصدقات، وذلك بالتوازي مع التزام تعاليم البوذا السلوكية؛ ويمكن من خلالها القضاء على الأصول الثلاثة للشرور: الشهوانية والحقد والوهم. وهي تشمل:
وبعد أن يبني الإنسان هذه القاعدة السلوكية والأخلاقية، يصبح، بحسب البوذا، مؤهلاً للاستفادة من ثمار التأمل. وانطلاقًا من هذه القاعدة، يفسِّر البوذيون عدم تحقيق ممارسي التأمل من غير البوذيين النتائج المأمولة، إذ لا يلتزمون التعاليم السلوكية المحددة في البوذية. فالتأمل، في البداية، قد يقتصر من حيث النتائج على تثبيت الإنسان في القاعدة السلوكية سابقة الذكر: فبإعمال العقل في الصور والخواطر المتدفقة عليه، وتثبيتها في الذهن في أثناء التأمل، تنكشف للعقل تدريجيًّا الحقائقُ البوذية، فيتخلَّص من الأفكار والسلوكيات الخاطئة. أما في مرحلة متقدمة من التأمل، فينتقل الإنسان من مرحلة مقاومة السلوكيات الخاطئة إلى تطوير الفضائل المؤدية إلى الخلاص. المرحلة المتقدمة في التأمل هي الخروج من العالم الحسي، أو بحسب الطب الحديث، فقدان الإحساس بالزمان والمكان. يُطلق على هذا الأمر في بعض مذاهب البوذية الخروج من العناصر الخمسة. فعلم الفيزياء في الصين القديمة كان يعتبر أن المعدن والخشب والماء والنار والتراب هي العناصر الخمسة المؤلِّفة لكلِّ ما حولنا من أشياء وكائنات. وفقدان الإحساس بالزمان والمكان يعني التخلص من محفزات السلوكيات السيئة التي هي علَّة الشقاء. هناك مصطلح تكرَّر ورودُه في أثناء الدراسة، وهو كرما. في البوذية يقال إنه "المادة السوداء" الناجمة عن كلِّ ما هو سيء. والمقصود هنا هو أن الكرما ليس مقتصرًا على الشخص نفسه، بل هو، في الآن نفسه، نتاج لتراكم كرما أسرة أو عشيرة، أي كرما موروث من الأسلاف إلى الأخلاف. وكذلك الأمر في خصوص الكرما الجيد، وهو "المادة البيضاء". فللتخلص من الشقاء يجب أن تتحول المادة السوداء إلى مادة بيضاء؛ وهذا لا يتم من غير العبور في مصهر الألم: ففي أثناء التأمل، يكابد الإنسان آلامًا حادة تساعد على عملية التحول هذه؛ وكلما اشتدت آلام ممارسة التأمل نجح الإنسان في امتلاك الگونگ. والـ"گونگ"، بحسب الحكمة الصينية، عبارة عن "طاقة عظيمة، طاقة من مستوى عالٍ، ناتجة عن تعهُّد الإنسان لذاته بالتربية الروحية". يتساءل الباحث هنا: ماذا لو لم يكن لدى الشخص كرما سيئ؟ – أي لم يقترف سلوكيات خاطئة. ألا يعني هذا أنه ليس في حاجة إلى التأمل كثيرًا وأنه، بالتالي، لن يحصل على الگونگ؟ البوذية تجيب عن هذا الأمر بأن الممارس للتأمل لا يعمل بالضرورة على تحويل الكرما الذي ولَّده إلى "مادة بيضاء"، وإنما قد يعمل على تحويل كرما الأقارب والأصدقاء، وبالتالي يتحمل بنفسه مشقة التأمل وألمه كممارسة، من حيث وضعياته، من أجل امتلاك الگونگ. من هنا قد يلجأ بعض الرهبان إلى تحمُّل ألم ما اقترفه مَن حوله من كرما سيئ من أجل أن يمتلك مقدارًا أكبر من الگونگ. لكن ما هي فائدة هذه الطاقة (الگونگ)؟ الإجابة قد تكمن في ما يمتلكه رهبانُ البوذية ومعلِّموها من قدرات مازالت عصيةً على التفسير العلمي البحت. أنماط التأمُّل للتأمل وضعيات وأنماط مختلفة تساهم في تهيئة الإنسان للدخول في حالة تأمل. وتُعتبَر هذه الجزئية من الأمور الفنية في ممارسة التأمل؛ وهناك مدارس خاصة لتعليم التأمل كممارسة. لكن الفكرة الكامنة من وراء اتخاذ هذه الوضعيات هو تعويد الشخص على نمط معيَّن، إذا ما وضع نفسه فيه فإنه يدخل تلقائيًّا في حالة تأمل. لذلك يُستحسَن الاستمرارُ في اتخاذ وضعية تأمل بعينها لفترة طويلة حتى يعتاد الإنسان عليها؛ وبعد هذه المرحلة، يمكن للمرء تغيير وضعية التأمل إلى شكل جديد حتى يطوِّر قدراته. هناك، إجمالاً، نمطان للتأمل: النمط الأول يضم وضعيات التأمل الخاصة بالتهدئة، مثل تتبُّع التنفس وضبطه؛ أما النمط الثاني، فيتعلق بـ"البصيرة النافذة" (ڤيپاسانا)، ويشمل الممارسات التأملية التي تنمِّي الوعي عبر الانتباه الواعي إلى الأشياء. وضمن هذين النمطين تندرج وضعيات التأمل الشكلية التي تشمل ثلاث وضعيات هي:
قد يكتفي المتأمل بوضعية واحدة، لكن التقدم في عملية التأمل وإتقانه في الوضعيات الثلاث السابقة يجعل من الإنسان متنبهًا وواعيًا معظم الوقت، سواء كان جالسًا أو ماشيًا أو قائمًا بأعماله المعتادة. التأمُّل وتطوير العقل بناءً على ما ورد في سياق البحث، فإن التأمل في البوذية ليس عملية منفصلة عما قبله وما بعده: فالاتصال بما قبله يتضح من خلال القاعدة الأخلاقية التي تمثل مرحلة تأهيل الإنسان للبدء في التأمل؛ والاتصال بما بعد التأمل يتضح في الغاية منه، المتمثلة في معرفة الذات. التأمل، بما يضمه مفهومُه الواسع، – بدءًا من تأسيس قاعدة سلوكية، مرورًا بعملية التأمل نفسها، وانتهاءً بمعرفة الذات، – مرتبط أيضًا بعملية تطوير العقل، التي تتضح في انعكاسها على سلوك الإنسان. تعتبر البوذية العقل مؤلفًا من طبقات خمس، لكلِّ طبقة منها وظيفتُها وخصائصها. وتطوير العقل من خلال التأمل ينطلق متدرجًا من الطبقة الأولى إلى الخامسة، بحسب تدرُّج الإنسان في التأمل. وبحسب وظائف العقل، تصنَّف طبقاتُه كما يلي:
في خصوص الطبقة الأولى من العقل، فإن تطويرها مرتبط بمرحلة الإعداد السلوكي للمتأمل من خلال القاعدة الأخلاقية: فاختصاص هذه الطبقة بالإحساس والرغبة والفعل يعني أنها متصلة بحواس الإنسان الخمس، بحيث تكون هذه الطبقة همزة الوصل بين الحواس والفكر وبين الفكر والأعضاء الحركية؛ فإذا ما نقلت الحواسُ إلى الفكر أمرًا ما، فإن الفكر سيصدر رسالةً إلى الأعضاء الحركية تحدِّد نشاطها. لذلك تُعتبَر الأخلاقُ الأساسَ المكين لتطوير الطبقة الأولى من العقل. والأخلاق تضبط عمل الحواس تلقائيًّا، حيث إذا كانت الرسائل التي تصل إلى الفكر منسجمةً مع الأخلاق، تصبح الأوامر التي تتلقَّاها الأعضاء الحركية منسجمةً مع الأخلاق هي الأخرى. ففي البوذية، يجب على العين ألا ترى سوى ما يقرِّبها من معرفة الذات؛ والأذن وبقية الأعضاء كذلك، كلها يجب أن ينقل فقط ما يخدم غاية الإنسان الأسمى. في أحيان كثيرة، يجد بعضهم صعوبة في فهم كيفية التحكم في الحواس: فالأمر لا يتم في بساطة من خلال إغماض العينيين أو تجنيب اتصال الحواس مع الواقع، وإنما من خلال فصل الحواس مؤقتًا عن طبقة العقل الأولى. مثال ذلك شخص يشاهد فيلمًا بأكمله، لكنه في النهاية لا يتذكر ما سمع أو ما رأى، إذ كان في الواقع يتخيل شيئًا ما، كلعبة يحبها أو حلٍّ لمشكلة تواجهه، وفي تلك الأثناء انفصلت الحواس عن طبقة العقل الأولى، فلم تصل رسالة الحواس إلى الفكر ولم تتشكل الرغبة أو الانطباع أو الفعل. بالانتقال إلى الطبقة الثانية من العقل، الخاصة بالتفكير والتذكر والاختبار، أي عملية التحليل الشامل للتجربة، فإن الجزء الخاص بضبط عملية التنفس يعمل على تطوير قدرة الإنسان على عملية التحليل هذه. هناك معدَّل طبيعي للتنفس: ففي كلِّ مرة يلتقط فيها المرءُ أنفاسه، يحصل انقطاعٌ جبري في التفكير في كلٍّ من لحظة الشهيق ولحظة الزفير؛ وكلما زاد معدَّل التنفس زاد معدل الانقطاع في التركيز. ففي أحيان كثيرة نمارس، من دون قصد، قطع التنفس لفترة بسيطة في أثناء تركيزنا على حدث ما، ليفاجئنا بعد انتهاء الحدث تنفسٌ عميق غالبًا ما لا نستطيع تفسيره علميًّا. يكمن التفسير في حرص الشخص على عدم انقطاع تركيزه، فيكتم نَفَسَه للحظات، وبعد الانتهاء من التركيز يتنبَّه إلى حاجة الجسم للأكسجين، فيأخذ نفسًا عميقًا. بما أن جزء مهم من عملية التأمل متعلِّق بضبط عملية التنفس، فإن إمكانية انقطاع تركيز المتأمل تقل تدريجيًّا كلما تحكَّم بأنفاسه. يتنفس الشخص العادي 16 مرة تقريبًا كلَّ دقيقة، مما يعني انقطاع التركيز حوالى 30 مرة في الدقيقة. أما المتأمل البوذي فعنده القدرة على الاكتفاء بالتقاط أنفاسه من مرتين إلى ثلاث مرات في الدقيقة، مما يعني أنه يحافظ على تركيز مستمر لا ينقطع سوى كل 30 ثانية. وتزداد القدرة على التركيز كلما زادت كفاءة المتأمل. وهذا ما أكَّده باحثون من جامعة ستانفورد من خلال مراقبة بعض المتأملين ودراسة أحوالهم. الطبقة الثالثة من العقل، التي تشكل مستودعًا لحصيلة خبرات الإنسان، تؤثر على السلوك تبعًا لطبيعة هذه الخبرات: فإذا كانت الخبرات سيئة فإنها تكون مثبِّطة، والعكس بالعكس. فحتى لا تكون الخبرات السابقة معوِّقة للعقل، فإن البوذيين يرون في التأمل ما يساعد على تجاوُز هذه المشكلة بتطوير هذه الطبقة من العقل. وهذا الأمر يصبح ممكنًا عندما يُطلَب من المتأمل أن يتخلص من جميع الآثار والضغوط الخارجية إبان فترة تأمله، بحيث ينسلخ مؤقتًا عن البيئة المؤثرة في قراراته. إن جزءًا مهمًّا من عملية تطوير هذه الطبقة من العقل متعلق بـتجاوُز ارتباط العقل بالجسم، حيث يؤدي هذا الارتباط إلى تقييد حياة الإنسان بآراء الآخرين في مظهره الخارجي: فقد يجد نفسه يصرف وقتًا طويلاً لإخفاء ندبة على وجهه، فيما يتجاهل ندبًا كثيرة تخفيها الملابس! فحتى لا يبقَ الإنسانُ أسير جسمه، يرى البوذيون أن في التأمل ما يساعد على التخلص من "وعي الجسم". فيما يخص قدرة العقل على التمييز، فهي من وظائف الطبقة الرابعة. وتزداد قدرة العقل على اتخاذ القرارات المناسبة كلما استطاع التخلص من تعلقات الذهن وعاداته، كالخوف، مثلاً، أو أي خاطر أو انفعال آخر يسيطر على الذهن. يرى البوذا أن الفكر ينقسم إلى جانب موضوعي وآخر ذاتي: كلما تعلَّق العقل بفكرة ما، فإن الجانب الموضوعي في الفكر يتخذ شكلها؛ ومع استمرار هذه العملية، يتحول الجزء الذاتي لينسجم مع الجزء الموضوعي. فإذا كان ما يتجسد في الشق الموضوعي جيدًا، فإن نظيره الذاتي يتحول إلى ما هو جيد أيضًا. لذا فإن التأمل يساعد على تخليص العقل مما يمكن له أن يتجسد تجسدًا سيئًا في الشق الموضوعي من الفكر، لأنه يحتِّم ألا يكون ما هو سيء محورًا للتفكير. الطبقة الأخيرة، المتعلقة بشعور الإنسان بالأنيَّة، تتطور تلقائيًّا بتطوير عقل الإنسان في الطبقات السابقة وتدرُّجه في التأمل والبدء بالتخلص من الشقاء. إذ ذاك، يتخطى الإنسان شعوره بالأنية، ويتحد مع ذاته، ويعرف موقعه في الكون. إدراك الإنسان لذاته يعني أن العقل بدأ يتسع – وهذا أفضل ما يمكن به اختتامُ دراستنا – ويولِّد شعورًا بأن كلَّ فرد وكلَّ شيء في هذا العالم هو جزء من ذاتك، تمامًا كما يشعر الإنسان أن جسمه البشري هو جزء من ذاته. *** *** *** عن مجلة الغربال، 28/08/2006
المصادر والمَراجع - الـBBC (تقرير)، "خريطة للمخ في أثناء التأمل"؛ عن موقع: http://news.bbc.co.uk/hi/arabic/news/newsid_1849000/1849897.stm. - أرڤون، هنري، البوذية، بترجمة هنري زغيب، المنشورات العربية، سلسلة "ماذا أعرف؟" 36، جونية، 1975. - الأعظمي، محمد ضياء الرحمن، "الديانة البوذية"، مجلة الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة؛ عن موقع: www.iu.edu.sa/Magazine/11/4.doc. - أڤييرينوس، ديمتري، "اليوغا: الانعتاق والاتحاد"، مجلة معابر: http://maaber.50megs.com/issue_december04/spiritual_traditions2.htm. - پرانا كرشنانندا أڤدهوتا، البدء بالتأمل وعملية معرفة الذات، أناندا مارغا پراشاراكا سامغا، 2006؛ عن موقع: http://www.amyoga.net/ar-initiation-realization.htm. - پرانا كرشنانندا أڤدهوتا، العقل والتأمل، أناندا مارغا پراشاراكا سامغا، 2006؛ عن موقع: http://www.amyoga.net/ar-mind-meditation.htm. - جيكارينتسڤ، ڤلاديمير، أبعاد الحياة ما بين التأمل والتركيز، بترجمة ريما علاء الدين، دار علاء الدين، دمشق، 2004. - الديانات المعاصرة، "البوذية"؛ عن موقع الحقيقة العظمى: http://www.truth.org.ye/F2/BOTHE5.HTM. - راو، بانياو، فن الانتباه، بترجمة وتحرير محمد شيت، جمعية البوذا دارما التعليمية المحدودة، بغداد، 2002. - سميث، هوستون، أديان العالم، بتعريب سعد رستم، دار الجسور الثقافية، سورية، 2005. - الشبكة الإسلامية، "أديان الهند الكبرى: البوذية"؛ عن موقع: http://www.islamweb.net/ver2/archive/readArt.php?lang=A&id=59350. - شري شري أناندامورتي، "التيار الفكري والطريق ذو الثمانية مراحل"، مقتطف من كتاب أناندا ڤاكانامارتام، الجزء 30، أناندا مارغا پراشاراكا سامغا، 1998؛ عن موقع: http://www.amyoga.net/ar-publication-eight-foldpath.htm. - طه، رامز، "الخلوة العلاجية والتأمل"؛ عن موقع: http://www.rameztaha.com/al%20kholwa%20al%203elageia.htm. - عتيبة، منير، "البوذا: رحلة الفيل الأبيض"، إسلام أونلاين؛ عن موقع: http://www.islamonline.net/iol-arabic/dowalia/mashaheer-4.asp. - فروم، إريك، وآخرون، بوذية الزن والتحليل النفسي، بترجمة محمود منقذ الهاشمي، أزمنة للنشر والتوزيع، الأردن، 2006. - كوشاز، بنية العقل، مدرسة أناندا مارغا: http://www.amyoga.net/ar-kosas.htm. - كونش، مارسيل، "بين البوذا وهيراقليطس"، بترجمة وتعقيب ندى الحاج، مجلة معابر: http://maaber.50megs.com/issue_november05/perenial_ethics2.htm. - لِنْسن، روبير، "بوذية الزِنْ واليوغا"، مجلة معابر: http://maaber.50megs.com/second_issue/spiritual_traditions_2.htm. - لي، هونق جي، جوهان ڤالون، 1994، نقله إلى العربية ممارسون عرب، 2006. - موحي، عبد الرزاق، العبادات في الديانات القديمة، الأوائل للنشر والتوزيع، سورية، 2004. - الموسوعة الحرة: "بوذية"؛ عن موقع: http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A8%D9%88%D8%B0%D9%8A%D8%A9. - الموسوعة الحرة، "يوغا"؛ عن موقع: http://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%8A%D9%88%D8%BA%D8%A7. - الندوة العالمية للشباب الإسلامي، "البوذية"؛ عن موقع: http://saaid.net/feraq/mthahb/84.htm. - هارپ، ديڤيد، "لماذا نتأمل؟ دراسة في التأمل وتقنياته"، بترجمة كامل السعدون، الحوار المتمدن، 942، 31/08/2004؛ عن موقع: http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=22759.
|
|
|