French

Arabic

بوذية الزِنّ واليوغا

 روبير لِنْسِّن

 منذ ما يربو على النصف قرن وبوذية الزِن تشهد انطلاقة لا يستهان بها في بلاد الغرب قاطبة. فلقد اعتبر الأكاديمي الفرنسي جان بولهان مقدم فكر الزِن إلى الغرب حدثاً لا يقل أهمية عن ظهور ديكارت. وإن تياراً حقيقياً أسّه الزن بات يتسرب إلى الآداب الأنكلوسكسونية وإلى الرسم والموسيقى. فمعارض لوحات الزن المنفَّذة بريشة شرقيين أو غربيين تغص بالزائرين، إن في نيويورك أو في باريس. وأسطوانات موسيقى الزن تنفد فور صدورها وتُفقد من الأسواق. ما فتئ الراصدون الأيقاظ يطرحون على أنفسهم حشداً من الأسئلة تتعلق بأسباب مثل هذه الظاهرة. هل الأمر عبارة عن فضول فكري أو عن حب بالغرائبي المستورَد؟

 

 

إن أسباب نجاح بوذية الزن أعمق بكثير. وهي شبيهة إلى حد بالأسباب الكامنة وراء الانطلاقة الهامة لليوغا. ومن ثم فإن انتشار كل من الزن واليوغا متوازيان زمنياً. يزداد نجاح الزن واليوغا بزيادة الحاجة إليهما وضرورتهما. ففي دول ذات كمون اقتصادي مرتفع كالولايات المتحدة وألمانيا وإنكلترا وبلجيكا وهولندا وفرنسا إلخ. يعجِّل التقدم التقني في إيقاعات المعيشة إلى حد الغلوّ. ويكابد الجهاز العصبي للإنسان الحديث من العدوان أكثر بألف مرة من أسلافه. التسمُّم التدريجي للجهاز العصبي يشلّ كل إمكانية للارتياح. والزن واليوغا يوفران بالتحديد الاسترخاء الجسماني والعصبي والنفساني الذي تشتد ضرورته لأجناسنا المفتقرة جسمانياً والفائقة العقلنة.

لقد أجاب الأستاذ أوغاتا على سؤال "ما هو الزن؟" كما يلي: "الزن هو فن حياة، هو الحياة نفسها." ونقول من جانبنا إن الزن فن الحياة المتكاملة. إنه في الواقع يوغا متكامل. الحياة المتكاملة تعني أننا استوعينا وفتّحنا فينا كلية الطاقات التي وضعتها الطبيعة في متناولنا. إنها استيعاء الجسم، والانفعالات، والخواطر، وبخاصة استيعاء المستويات الروحية التي تتخطى فلك عملياتنا الذهنية. إن الخبرة الأساسية للزن، أو ساتوري Satori، عبارة عن "رؤيا طبيعة الذات". بها نكتشف الصلة السرية التي تربطنا بكلية الكون. ورؤيا السعة هذه تطلقنا من إسار الكرب ووهم الانفصالية. ذلكم هو المفتاح الذي يسمح لنا بأن "نحيا مرتاحين داخلياً في قلب النشاط الخارجي الأشد". إن الفهم التام لفكرة كهذه تتطلب دراسة اليقظة الداخلية التي تعلِّمها البوذية.

 

أصول بوذية الزن

تعود أصول الزن إلى الهند والصين. ولقد علَّم غوتاما البوذا بوذية مهاينا Mahayana (التي يتشكل منها الزن بصورة أساسية) بين عامي 550 و ± 480 ق.م. وتمخضت هذه تحت حكم الإمبراطور العظيم أشوكا (274-237 ق م) عن حضارة من أروع الحضارات التي عرفها التاريخ.

كانت تعاليم البوذا شديدة التجريد. فكان يدين بصرامة كافة ألوان التطيُّر والممارسات الشعائرية التي تشكل البقايا الأخيرة للفترة الأضحوية للـفيدا Veda. وتلكم هي الأسباب العميقة التي أدت إلى اضطهاد البوذية في الهند بعد انطلاقتها الهائلة فيها. التجأ رهبان بوذيون كثر إلى الصين حيث أدخل اثنان من الهنود، متنغا وبهورانا "عقيدة اليقظة الداخلية" في مدينة لويَنغ حوالى عام 65 ب.م.

وفي الصين، حيث عُرفت البوذية باسم تشآن Ch’an، بلغت هذه ذروة إشعاعها وعمقها الفكري.

في ذلك العصر كانت الصين متشربة للكونفوشية وللطاوية بخاصة. كانت غالبية معلّمي التشآن طاويين قبل دنوّهم من البوذية. إن جوهر الطاوية من الشبه بجوهر بوذية "المركبة الكبرى" the Greater Vehicle (مهاينا) بحيث يصعب للوهلة الأولى التمييز بين تعاليم كل من المدرستين. الأمر الذي جعل أحد معلمينا التيبتيين سمتِم خَم با: "كما الماء الزلال يتحد بالماء الزلال كذلك شكلت بوذية مهاينى والطاوية ذلك التيار من الماء الزلال الذي هو التشآن."

لقد ولدت بوذية التشآن بصفة خاصة اعتباراً من ترجمات علامة هندي يدعى كوماراجيفا حوالى القرن الثالث الميلادي. فعلى غير ما أكّد مؤلفون كُثُر، ليس بودهيدهرما مؤسِّسها. لقد سبقه إلى ذلك طاو-أن وشينغ-شاو وطاو-شينغ الذين عاشوا في القرنين الثالث والرابع. ولم يقدم بودهيدهرما حاملاً إسهامه الهام في نمو التشآن (الـزِنْ Zen باليابانية) إلا حوالى عام 528 م.

وقد خلفه آباء شيوخ عديدون. وقد نشر هؤلاء غالبية المؤلفات ذات غنى المضمون الاستثنائي. ولنشر بين أكثرهم شهرة إلى سِنغ-تسانغ، هوي-ننغ وشِن-هوي. وقد بلغت البوذية ذروة نموها عمقاً بين القرنين الرابع والثامن م.

لقد عرف أوْجَه بتوجيه من شِن-هوي (668-760)، الشيخ السابع الذي لُقِّب بعد موته بالإمبراطور. وخلال القرون السادس والسابع والثامن تسربت البوذية إلى اليابان عبر كوريا. ولقد استقرت بوذية التشآن رسمياً في اليابان حوالى عام 1191 حيث عُرفت باسم الزن.

ولقد تشكلت مذاهب زِن عديدة فيها بين القرنين الثاني عشر والثامن عشر، وشهدت انطلاقة لا يستهان بها. تلتها فترة سبات اختفى خلالها شيئاً فشيئاً العديد من المراكز. فكان لابد من انتظار النصف الثاني من القرن العشرين لشهود نهضة غير متوقعة ومعجزة لفكر الزن، ليس في المشرق لكن في الغرب قاطبة، بفضل أعمال صديقنا الكبير والمتعاون معنا د.ت.سوزوكي.

 

أسس اليقظة الداخلية

لا يشير مصطلح "بوذا" إلى إله بالمعنى الذي يتعارف عليه الغربيون، ولا إلى شخص. إنه يشير بدقة أكبر إلى حالة وجود داخلية. "بوذا" Buddha يعني "مستيقظ".

تتحقق حالة اليقظة أو حالة البوذا حالما يعرف المرء نفسه معرفة تامة. فما المقصود بالدقة بهذه المعرفة "التامة"؟ إنها تنطوي عند معلّمي البوذية، على عناصر أكثر بما لا يحصى من العناصر التي تخطر في بال الغربيين منذ أن صاغ سقراط لزوم "اعرف نفسك".

ليس يكفي لمعرفة الذات القيام بفحص للضمير في نهاية كل نهار بإمعان النظر في ردود الفعل الإيجابية أو السلبية التي عيّنت علاقاتنا مع الكائنات والأشياء، وإن يكن موقف كهذا أنفع من عدم اكتراث الغالبية وإهمالهم. فإن المعرفة الكاملة للذات الواردة في عقيدة "النظر الصحيح" للبوذية مسألة أكثر تشدُّداً بكثير.

يعلِّمنا معلِّمو الهند والصين القديمة أننا لسنا جسماً وُلد منذ بضع سنوات وحسب، ينمو ثم يموت بعد بضع سنوات. ولا نحن جملة تجلياتنا النفسية: الانفعالات، الخواطر، الذاكرات الجليّة للواعية Consciousness السطحية والذاكرات المظلمة للخافية Unconscious العميقة.

فيما يتعدى البدن والطاقات النفسية، فيما يتعدى الواعية والخافية، توجد فينا طاقات روحية دورها أساسي. هذه الطاقات تشكل الأساس الأول الذي تغتذي منه كلية الموجودات والأشياء. إنها ما يدعوه البوذيون "أساس العالم".

على هذا المستوى تتكشف وحدةُ ماهية كونية تبطِّن تعددية مظاهر العالم الظواهري. وهذه الماهية الكونية تحوي فيها كموناً غير محدود من القدرة الخالصة والمحبة غير العاطفية. إنه ملأ سَت-تشيت-آنندا Sat-Chit-Ananda الحكماء الهنود الذي يقابل العقل الكوني the Cosmic Mind للتشآن الصيني وللزن الياباني.

ويشير معلِّمو البوذية بـ"ملء معرفة النفس" إلى استيعاء كامل لكل العناصر التي تكوِّننا على كل المستويات. استيعاء كامل للمنعكسات البدنية التي تنطوي على ممارسة اليوغا بصورة غير مباشرة. استيعاء كامل للسيرورات الرائسة لولادة ونمو الخواطر والعواطف. معرفة كاملة بصفة خاصة لمستوى الوعي الأعلى المتخطِّي لاضطرابات العاطفة والفكر. الأمر هنا عبارة عن سيرورة نمو طبيعي ننكشف في أثنائها ببساطة لملء ما نحن إياه وهذا على كل المستويات.

لهذه الأسباب مجتمعة يُعرَّف مراراً بالبوذية بوصفها عقيدة اليقظة الداخلية والنظر الصحيح والآنية الكاملة.

هي أولاً عقيدة اليقظة الداخلية: بممارسة انتباه كامل، ومراقبة لكل الآنات، تشحذ الوعي حتى رهافة استثنائية. فقد صرّح البوذا في واحدة من أقل أفكاره شيوعاً وأعمقها الواردة في الدهامّابدا Dhammapada أن "المراقبة والجلاء طريقا الخلود. والإهمال طريق الموت. مَثَل المهملين كمثل الموتى من الآن". وبـ"الإهمال" يشير معلِّمو البوذية إلى الموقف الذهني لغالبيتنا. لماذا؟ لأننا على جهل بطبيعتنا الحقة العميقة. ثم إننا "لاهون" بالمعنى الاشتقاقي للمصطلح لأننا لسنا على علم بالطاقات المسؤولة عن ظهور الخواطر واضطرابها غير المستكين إلخ. لقد تناولنا في غير مكان[1] بالتقصي الدقيق طبيعة هذه الطاقات وسيرورتها العملياتية ووسيلة الانعتاق منها.

كل هذا يبرهن لنا أن جو البوذية بعيد كل البعد عن التهويمات السديمية التي زعم بعضهم أنهم تشبّعوا بها. وهو لا يقل عن ذلك بعداً عن النفي المدمِّر للعدمية Nihilism. إن سوء الفهم هذا ينجم عن تأويل المترجمين الأوائل المغلوط لكلمة نيرفانا Nirvana. إن بادئة نير nir نافية وجملة المصطلح تشير إلى الانطفاء، أي فعل النفخ الذي يطفئ لهباً. فكما تعبّر عن ذلك ألكسندرا دافيد-نيل، نيرفانا تعني حقاً "الانطفاء"، إنما يجب معرفة انطفاء ماذا! الأمر عبارة عن انطفاء الجهل وانطفاء "لهب" الوعي الشخصي، الأناني.

لقد شبّه البوذا في موعظاته سيرورة الوعي الأناني بسيرورة اللهب. فعندما نسرح في النظر إلى لهب يتقد في منأى من الريح، لدينا انطباع بالثبات. لكن اللهب في الواقع في دفق دائم. وهو يتغذى تغذية دائمة بجزيئات الزيت أو الشحم التي تتحد بأكسيجين الهواء. هكذا، كما فسر البوذا، "يتّقد" وعينا الأناني. إنه في دفق دائم وأغذية هذا اللهب هي الـسكهندا skhandas الخمسة: الإحساسات، الإدراكات، أفعال الوعي، الرغبات، إلخ. وهذه السيرورة تكبّلنا بالأجل وبالزمن وبالاستمرارية الظاهرية للـ"أنا" إبان الـسمسارا Samsara، عجلة الولادات والميتات المتوالية. أما نيرفانا فهو انطفاء لهب "الأنا" هذا. ولكن في حين يستدعي هذا الانطفاء في أذهان غالبية الغربيين الموت والعدم يعتبره الأيقاظ الباب المفتوح على ملأ داخلي تتكشف فيه أسمى ذرى الفطنة والمحبة. لقد أجاب المعلِّم الهندي شري بهغفن مهارشي أحد مريديه الذي طرح عليه سؤالاً حول انطفاء الوعي الأناني قائلاً إنه "بدلاً من أن يفقد نفسه يجدها أخيراً!" ويصرح معلِّمو بوذية التشآن والزن قائلين: "اليقظة التامة عبارة عن العودة إلى الذات!"

*   *   *

 

قلنا إن بوذية الزن هي عقيدة "النظر الصحيح". لقد كان "النظر" و"النظر الصحيح" شعار الحكماء قاطبة منذ القديم. كان شعار زندافستا Zend-Avesta بلاد فارس القديمة الذي يعلِّم رؤيا النور المبين. كان أيضاً شعار علم الباطن الدرافيدي القديم. وكان بصفة خاصة الأساس الباطني الجوهري غير المعروف جيداً للفيدا وللأدفيتا فيدنتا Adwaita Vedanta. كان "الفيدا" هم "الرائين" الممارسين فن "النظر الصحيح" وكان المفهوم السائد في علم الباطن الفيدي مفهوم "كلية انبثاث النور، جوهر برهمن الأسمى".

تستدعي الخبرة الأساسية للزن أو ساتوري أيضاً "النظر الصحيح": إنها رؤيا "طبيعة الذات". إن "طبيعة الذات" العميقة لكل منا هي هي "طبيعة ذات" الكون. ولقد فحصنا في غير مكان[2] الطبيعة الدقيقة للعالم المادي. وعلى الرغم من التنوع اللانهائي لأشكال هذا العالم، لخواصه "على السطح"، فإنه يعود بأصله إلى طاقة واحدة هي عينها "في العمق".

"النظر الصحيح" عبارة عن رؤية الحقيقة العميقة لكياننا وللكون من حولنا، فيما يتعدى مظاهر "السطح". لقد كان لمعلِّمي البوذية الأقدمين رؤيا كشفية مدهشة وملائمة ملاءمة عميقة للبنيان الدقيق للمادة. جاء في نص عتيق يعود إلى أكثر من ألفي سنة ما يلي: "الحجر والشجرة ليسا صلبين ساكنين. بدلاً من هذا الحجر وهذه الشجرة يميِّز المريد المدرَّب على فن "النظر الصحيح" متوالية مذهلة السرعة من الومضات. إن سرعة سريان هذه الومضات هي التي تعطي للأشياء الخارجية مظهر السكون والاستمرارية والصلابة."

ومن ثم فإن النص يستمر شارحاً أن سيرورة مماثلة مسؤولة عن الاستمرارية الظاهرية للوعي. ونحن نكابد هذه، يتولانا شعور بالاستمرارية بسبب من التوالي السريع والمركَّب للخواطر. غير أن الوعي، في الواقع، ليس مستمراً.

يعلِّمنا المعلمون الهنود والبوذية أن "فراغات بينيّة" توجد بين الخواطر (توريا turya). ولقد بحثنا في غير مكان أسباب استتار هذه الفراغات عنا بعناية.[3]

جدير بالذكر أن معلِّمي الأدفيتا فيدنتا أو بوذية الزن حين يحدّثوننا عن "الفراغ" لا يقصدون به العدم. تقول لنا النصوص المنقولة مثلاً : "ذاك ليس أحمر، ولا أخضر..."، "ذاك ليس طويلاً، ولا قصيراً..."، "ذاك ليس حاراً، ولا بارداً...".

الهدف الحقيقي من هذا النفي المتكرر هو إفراغ الذهن من كل الصفات، من كل الخواص التي تدركها حواسنا. فكلها غير وافية. "الفراغ" يجب أن يُفهم بوصفه غياب قيمنا المألوفة. وفي هذا مكمن واحد من الأهداف الرئيسية لباطنية "النظر الصحيح": عتقنا من طغيان الـناما nama (الأسماء) والـروبا rupa (الأشكال). "الفراغ" الحق يسمح بتحقيق ملأ روحي فوقذهني supramental. يعلن الـلانكافاتارا سوترا Lankavatara Sutra، وهو أحد النصوص الأساسية للبوذية:

"الفراغ ليس العدم...

"المقصود بـ"الفراغ" بالمعنى الأسمى للحق المطلق، أنه بحيازة فهم داخلي بواسطة الحكمة يزول كل أثر لقوة العادة الناجمة عن تصورات مغلوطة ناتجة عن ماضٍ لا بداية له."

إن عادة التصورات "المغلوطة" ما هي غير جملة القيم الزائفة الراسخة في ذهننا بتأويل خاطئ للإدراكات الحواسية وبجهل طبيعتنا الحقيقية وللطبيعة الحقيقية للأشياء من حولنا.

يقودنا "النظر الصحيح" إلى طفرة نفسانية تتكشف إبانها حالات الوعي المألوفة لدينا عن حدودها وإشراطاتها. الأمر عبارة عن "كسر للعادات الذهنية في ما هو آلي وروتيني فيها لبلوغ حالة الخلق". يعلِّمنا معلِّمو البوذية والـأدفيتا فيدنتا أن شرط وعينا العادي والمألوف يتضمّن خاصية نوامية hypnotic بالتباين مع شرط يقظة داخلية تامة.

*   *   *

 

هذا يقودنا بالطبيعة إلى أهمية الحاضر. تعلِّمنا البوذية بالفعل أن ملأ الوعي ليس إلا في الحاضر. ولقد أعطانا معلِّمو التشآن فناً حقيقياً في "الآنية الكاملة". وهذه تتحقق بممارسة انتباه يفلت في أثنائه الوعي من قبضة ذاكرات الماضي وهو يجتنب في الوقت نفسه التوقع نحو المستقبل. وعينا العادي عموماً ممزّق في الأجل: فهو من جانب مشدود إلى الماضي، ومن جانب آخر مخلوع على المستقبل. وهذا التنازع يذيب الطاقة النفسية في تبديد متواصل. إن واحداً من المبادئ الأساسية لليقظة التامة يتأسس على العكس على الآليات الجوهرية للطاقة النفسية. وهذه، إذ تذاب وتتبدد، تعدم كل فعالية. لكنها إذا تركَّزت، وجُمِّعت بكاملها على نفسها في البرهة الحاضرة، فإن الطاقة النفسية للوعي قد تتخذ الرهافة الضرورية لليقظة الداخلية أو الطفرة.

يعلِّمنا معلِّمو التشآن والزن، مثلهم كمثل كريشنامورتي،[4] أن "الحاضر عندنا ليس أبداً حاضراً بحق". فهو لا يعاش بالكلية أبداً. ليس إلا ممراً واقعاً على مفترق الماضي والمستقبل. كل برهة تتضمن شيئاً فريداً، هائلاً، لن يتكرر أبداً. إننا لا نستطيع أن نتحسس المسارَرة initiation الأخيرة التي يخصّنا بها "الإله المقيم في "كهف القلب" (هريدايا-غوهايام hridaya -guhayam)" إلا في الحاضر، كما صرح أحد الأيقاظ الهنود. ولقد كتب الموقّر د.ت.سوزوكي، اختصاصي الزن الكبير: "اللانهائي هو في منتهي كل لحظة."

إن العقبة الأساسية لاندغام وعينا التام بالحاضر هي الاضطراب الذهني.

لا يحجب الأيقاظ ثقتهم عن النشاط الذهني حجباً مطلقاً. الفكر، عندهم، وظيفة طبيعية. المأساة هي أن الفكر فينا الذي ما هو إلا وظيفة، أداة، حَسِب نفسه كياناً مستقلاً. عند اليقِظ ليس هناك "أنا" كما نتصورها وندركها. ليس هناك إلا متوالية سريعة ومركَّبة من الخواطر نضع فوقها اعتباطاً مفهوم فردية دائمة. وهذه قد استأثرت استئثاراً غير شرعي بالحقوق الوحيدة للوجود.

ذلكم هو، عند معلِّمي البوذية، المغزى الباطني للـ"خطيئة الأصلية". يبدو أن الإنسان "أسرف" بثمرة شجرة المعرفة. بعبارة أخرى، فإن الإسراف والعمل السيء للذهن يفسدان المعنى الحقيقي للقيم الأزلية. وعندئذٍ نكون غارقين في وهم وعي الذات، بما هو وعي ذو طبيعة نزاعية مؤسَّسة على غلطة مولِّدة للعبودية ولآلام لا تحصى.

 

الزن والحياة العملية

عندما نطلب من معلِّمي الزن أن يعرِّفوا به يجيبوننا على سبيل المفارقة أن الزن لايُعرَّف به بل يعاش. إنه يأبى التنظير الفكري. كل شيء بسيط للغاية، لكن لأننا فائقو الفكرنة، رهيبو التعقيد، تبدو لنا "العودة إلى البساطة" أمراً شديد التعقيد.

ليس علينا أن "نفعل" شيئاً بالمعنى التراكمي لهذا المصطلح، كما يقول لنا معلِّمو البوذية. ليس علينا أن نحصل على خبرات جديدة. فكل شيء موجود. إننا نموت عطشاً ونحن بجانب ينبوع لا ينضب ماؤه. حسبنا أن نُحِلَّ شيئاً من النظام في فوضانا الداخلية. وهذا النظام ينتج عن المنازع المتناقضة لبنياننا النفسي ولجهلنا طبيعتنا الحقة.

إن اكتشافنا لهذه الطبيعة يطلقنا من كافة التوترات الداخلية، يناغم حياتنا ويبسّطها، يحدّ من حاجاتنا ومساعينا غير النجدية للهرب.

إن خبرة الزن مجلبة لحالة من الارتياح الجسماني والعصبي والنفسي يجهلها الناس كل الجهل في الغرب. وهي تطلقنا من إسار الكرب لأنها تطيح بالحدود الضيقة لأنانيتنا الوضيعة لكي نندرج في الموقع الصحيح الذي نشغله في هذا الكون الشاسع.

يتيح لنا الزن بلوغ نطاق عميق من نطاقات تكويننا النفسي والروحي. وهذا النطاق يتعدّى كثيراً اضطراب خواطرنا وانفعالاتنا. والطاقات الروحية الواقعة في هذا النطاق العميق ضرورية لحياتنا الداخلية ضرورة أكسيجين الهواء لحياتنا الجسمانية. وفي غياب هذا الأكسيجين الروحي يعيش الكائن البشري في جو من الكرب والتوتر. إنه يختنق حرفياً على نحو ما يختنق الغرقى المحرومون من الهواء.

جدير بالذكر أن خبرة الزن كلٌّ يشتمل على الجوانب الجسمانية والعصبية والنفسانية والروحية لتكويننا. وإن استيعاء المستويين الجسماني والعصبي ومناغمتهما يستتبع ممارسة يوغا جادّ وقواعد صحة غذائية طبيعية. وإن تيقظ الذهن والانتباه اللاذهني أو الفوقذهني الذي يتكلم عليه الأيقاظ لا يمكن أن يمارسه دماغ مسموم أو متخلف النمو. إن الاستيعاء الذي يتكلم عليه الزن ينطوي على عناصر أكثر بما لا يحصى مما قد يتبادر إلى ظننا. فالانتباه ليس ذهنياً وحسب. ومقر الوعي لا يعود يُدرك في الدماغ حصراً. والجسم البشري حامل حكمة غريزية تفوق إمكاناتها الهائلة إدراك أجناسنا الفائقة العقلنة. وهذه الحكمة الغريزية الفطرية تنجم عن وصلة مباشرة للبنية بـ"العقل الكوني". والمقابل الجسماني لهذه الوصلة يقع في مركز أسفل البطن ويدعى هارا Hara. إن ممارسة الجودو تبيّن فعالية وعي الـهارا. يعلِّم معلِّمو الجودو من مذهب الزن أن "الحركة المدبَّر لها حركة غير موفّقة". ينزع الغربيون إلى تدبّر حركاتهم في الجودو، إلى تعقّل كل شيء، إلى تنسيق كل شيء بالذهن. إن موقفاً كهذا  يقودهم إلى الإخفاق. "الأحزمة السود" لا"يدبِّرون" أبداً مسكة جودو. هؤلاء الأبطال يدينون بعصمة نجاحهم لاستيعائهم التام للهارا. وهذا يعني أن حركات الدفاع عن النفس وكل المنعكسات لا يعود يمليها  الدماغ والذهن التحليلي، بل حكمة الجسم الغريزية. يعلِّمنا المعلِّمون اليابانيون أن استيعاء الـهارا والاستعداد الكامل لاستقبال طاقات هذا المركز طريقة من طرق بلوغ "الذهن الكوني" (الذي يشار إليه أحياناً باللاذهن No-Mind أو الفوقذهن Supermind).

*   *   *

 

يفتح لنا ما قيل للتوّ آفاقاً مختلفة جداً عن الآفاق التي ألفناها حول ممارسة الانتباه الكامل. الـساتوري هو حالة الانتباه الكامل. وهذه يجب أن تمارَس ممارسة متواصلة في أثناء علاقاتنا اليومية مع الكائنات والأشياء.

ذات يوم سأل مريدو معلم زن مشهور بحكمته أن يشرح لهم الوسائل التي استعملها لتحقيق يقظته الداخلية. فأجابهم: "الأمر بسيط جداً. عندما أجوع آكل، وعندما أتعب أستريح." أصابت المريدين خيبة شديدة لدى سماعهم كلام معلِّمهم وظنوا أنه يسخر منهم، فأجابوه أنهم جميعاً عندما يجوعون يأكلون، لكن ما من أحد منهم بلغ اليقظة بفضل هذا. أجابهم المعلم: "عندما تجوعون لا تتغذون إلا بجسمكم لكن ذهنكم في غير مكان. وعندما تتعبون تستريحون جسمانياً لكن خيالكم وخواطركم أنشط من ذي قبل."

يتم الحصول على اليقظة بالحضور التام فيما نفعل. ينبغي على المرء أن يكون "حاضراً في الحاضر". لقد أعطى معلم الزن د.ت.سوزوكي حوالى عام 1960 في نيويورك حلقة محاضرات مخصصة لسائقي السيارات، تناولت الزن وفن القيادة. فإذا كان ذهننا ونحن خلف مقود سيارتنا في غير مكان، وكنا مرهقين بهموم لا تمتّ بصلة إلى ظروف اللحظة الراهنة لن تكون لنا سرعة الاستجابة الضرورية لتجنب عائق غير متوقَّع. ينبغي على سائق الزن أن يكون تام الاستعداد، ليس منتبهاً للطريق وحسب، لكنه منتبه من برهة لأخرى، مرتاح البال إبان كل ظروف الحياة. وهذا ييسِّر ما يسميه الزن "سرعة المنعكسات في الارتياح". تلكم ينبغي أن تكون أيضاً نتيجة يوغا متوازن. وتلكم هي الخطوط الرئيسية، المعروضة عرضاً موجزاً، لما يسميه الزن "التلاؤم الكامل مع لغة الوقائع". من هذا المنظار لا تعود الحياة منقسمة إلى أفعال عادية وأخرى خارقة للعادة. فكل اللحظات، كل أفعال الحياة "العادية" يمكن أن نحياها حياة خارقة للعادة.

لابد لنا في عصرنا من التلاؤم مع لغة الوقائع حيث كل التطور التقني يولِّد تعجيلاً لا سابقة له لإيقاعات الحياة. الوقائع تتسارع إلى حد تتباعد فيه يوماً بعد يوم أكثر فأكثر عن الأفكار وعن أصحابها. فحتى يستجيب المرء استجابة ملائمة للغة الوقائع يجب أن يمتلك علماً تاماً بنفسه. وكل علم تام بالنفس يجب أن يقدر على الإجابة على أربعة أسئلة أساسية: بماذا نفكر؟ كيف نفكر؟ لماذا نفكر؟ وخاصة، "مَن" يفكر؟ وبما أن الزن يقدم إجابة واضحة على هذه الأسئلة  الأربعة[5] يمكن أن يُعتبَر علم نفس تام، أي علم سلوك يضيئه علم نفساني. وبمقدار ما نعجز عن الإجابة على الأسئلة الأربعة المذكورة أعلاه فإننا نبقى على جهلنا بالدوافع العميقة لخواطرنا وانفعالاتنا ورغباتنا وأفعالنا. إن الزن والتشآن واليوغا ليست مفيدة وحسب للغربيين الذين يستندون إلى روح واقعية وعملية، لكنها عون لا غنى عنه لليقظة الداخلية ولفرح بالحياة أصيل.


1 Robert Linssen, Le Zen, art de vivre, Marabout-Université, Verviers, 1970 & Krishnamurti, psychologue de l’Ère nouvelle, Courrier du Livre, Paris, 1971.

2 Robert Linssen, Spiritualité de la Matière, Planète, Paris, 1966.

3 Robert Linssen, Le Zen, Marabout, 1970 & Krishnamurti, Courrier du Livre, 1971.

4 R. Linssen, Le Zen, Marabout & Krishnamurti, Courrier du Livre.

[5] أنظر توسّعنا في هذه النقطة في:R. Linssen, Le Zen, Marabout .

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود