French Arabic dictionary of non-violence

فـاقـدةُ الـوجـهَـة

الـسَّـفَـر، الـهُـويُّ[1]

فرانسواز كلواريك[2]

 

1

سورية ليست رحلةً خارجيةً وحسب، بل رحلةٌ داخلية أيضًا. ولقد راودني دومًا شعورٌ بأن شيئًا ما يحدث يخص اللاوعي: ضربٌ من الرحلة الداخلية يتم بالتزامن مع الرحلة الواقعية.

ذلك أن الحرية لا تُكابَد إلا بالفن – وسورية لم تفرض نفسها عليَّ إلا بالفن والثقافة والدفء الإنساني. وهذا اللقاء، والبلبلةُ التي أحدثَها، مازالا، في معظمهما، لغزًا.

إن ما يغلب بنظري على كلِّ اعتبار هو أننا، في هذه البقعة من العالم، راسخون دومًا في الجوهر. ففي سورية ثمة هوية ثقافية حقيقية، وهي ليست جنة مفتعلة قطعًا.

في السفر هناك شيء من الغريب حتمًا، لكن هناك أيضًا شيء من الحميم. هناك في سورية شيء يومئ إلينا – الأنأى مسافةً في الأقرب إلى النفس –، ولعل ذلك لأن هذا البلد ضارب الجذور في أصل العالم.

في مقدوري، جزمًا، أن أحدِّثكم عن الأسباب الخارجية – البيِّنة – لانجذابي هذا إلى سورية، أي عن الضياء الفريد، عن الروائح، عن الترحيب، عن الضيافة، عن الموسيقات، عن الجمال. غير أن ما أشعر به أكثر تجريدًا: ما أشعر به هو أن مفهوم الزمن في سورية مختلف. لكأن الزمن في سورية حر، لكأنه غير موجود، لم يعد واقعًا. أو لنقل، بالأصح، إن جميع الأزمنة متساكنة على هذه الأرض. الأزمنة كلها موجودة هنا، في الآن نفسه، اليوم، لكن الأمس أيضًا.

سورية مهد أقدم حضارة في العالم – أنتم تعرفون ذلك طبعًا. لكن العجيب في نوعه أن هذا يُحَس فعلاً، يُكابَد، يُرى، يُلمَس، في الضياء، على الحجارة، في الأطلال، وعند الناس. يشعر المسافر أنه يقع في كل مكان على البرهان الصامت على وجود التاريخ، البرهان على كثافة تاريخ الإنسانية وذاكرتها.

في سورية، لا يتيح الضوءُ رؤيةَ الموجود وحسب، بل ورؤية ما لم يعد موجودًا، ومدى النظر يتعدى المرئي بكثير.

وإنها لتجربة مُبلبِلَةٌ فعلاً أن يُختطَفَ المرءُ إلى أرض أخرى وأن يفتح عينيه على مشهد راسخ في الجوهر، يكاد لا يكون مدفونًا حتى.

2

الغيرمكان في القلب من الكتب الخمسة التي ألهمتْني إياها سورية.

الغيرمكان مجرد كلمة، مكان، انفعال، فكرة، ولعله وهم من بنات المخيلة.

والغيرمكان، حصرًا، يجد المسافرُ في سورية شيئًا منه: في اللغة، في الكتابة، في المواقع الأثرية، في الثقافة.

وكلمة "غيرمكان" تتضمن كلمة "غير". اختبار الغرابة عبر اكتشاف "الغير" يتيح اكتناه الغريب الساكن فينا. والسفر، على نحو ما، ليس إتاحة المجال للتغرب وحسب، بل وللاغتراب عن الذات أيضًا.

يبدو أننا في حاجة للذهاب لرؤية غيرمكان، للقاء الغير، الآخر... ولأن كلاًّ منا مختلف حصرًا يمكن لهذا اللقاء أن يتم.

إن شرطنا ككائن بشري ينطوي على افتقارنا إلى شيء ما. وهذا الشيء المفتقَر إليه، هذا النقص، هو علَّة الرغبة، هو ما يدفعنا إلى الجري والسفر والكتابة والرسم إلخ إلخ.

وإذن؟ السفر؟

ولكن من أين تأتي فكرةُ مغادرة موطننا هذه؟ ماذا يدفعنا إلى الارتحال؟

وعلى كل حال فإن العالم يأتينا كل يوم، عبر التلفزيون، عبر المجلات، عبر الصحف. فهل بنا شوقٌ حقًّا إلى ما تمليه علينا كتيباتُ وكالات السفر والأدلاءُ السياحيون، أم أننا نتشوق إلى شيء آخر؟

لحسن الحظ، أو لسوئه، يقع النظرُ في أغلب الأحيان على معالم. فقبل الرحلة السياحية، في أثنائها، وبعدها، توضع علامات. في المتاحف، في المواقع الأثرية، في معارض الرسم، يجد المسافر، في أغلب الأحيان، شروحًا وأسهُمًا، مع تحذيرات. يُشرح له ما سوف يرى، وما يراه. وأحيانًا يمكن أن يقال له أين ينبغي أن يلتقط صورة ومتى! ففي السفر، تقوم الوكالاتُ السياحية والأدلاءُ بتحضيركم، فلا يبقَ عليكم سوى الذهاب إلى المكان المطلوب للتأكد من أن المَشاهد والأطلال وأعمال الفن أو المتاحف التي حدَّثوكم عنها موجودة فعلاً في الأمكنة التي ينبغي أن تكون موجودةً فيها!

لكن السفر ليس مجرد الانتقال المادي، ومن فرط الرغبة في رؤية كل شيء لا نعود، ربما، نرى أي شيء على الإطلاق.

وأخيرًا، ليس الارتحال بهذه البساطة. فهو يحتِّم على المرء أن يتجهز بعدد من آليات الدفاع. ويفضَّل أن يكون متأهبًا لتحمل الجديد وغير المتوقَّع: إذ يحسن به أن يكون مسلحًا نفسيًّا لئلا يترك للصدمات الانفعالية أن تطغى عليه.

3

كائنٌ ضعيف هو السائح. إنه بعيد عن بلاده، يفتقد نقاط علاَّمه المعتادة – أسرته، أصدقاءه، بيته... حتى إنه في كثير من الأحيان قد غادر لكي يبتعد عن هذا كلِّه... لكن ما يجعله ضعيفًا هو الذي يحتل الصدارة، وقد تنزع آلياتُه الدفاعية إلى الأداء أداءً مختلفًا، وحتى، ربما، إلى خذلانه التام في بعض الأحيان. إنه في وضع يجتمع فيه الضدان: فهو، في آنٍ، طالبٌ للغريب، للجدة، لكنه متعلق بنفسه من غير دروعه الاعتيادية أيضًا. لذا يمكن لِلِقاء قوي، غير متوقع، أن يطغى عليه ويطرح عليه سؤالاً شديد القوة، بل أقوى من أيِّ جواب متاح – وهذا الجواب، على كلِّ حال، جواب قاصر.

وإنه لمن قبيل المفارقة أن يحيل السفرُ مَن يغادر خارج الدروب المطروقة عادة إحالةً حادة إلى قصته الشخصية...

قد يتفق للسفر وللمرض أن يلتقيا، أن يتلامسا، أن يتصادما. فمن شأن الجمال، أو الفن، أو جوٍّ مشحون وخاص أن يحرض اضطرابات شديدة نوعًا. وإن هذا ما حصل فعلاً لشخصية كتابي الأخير: فاقدة الوجهة.

من الواضح أننا في أثناء السفر نعقد صلاتٍ أخرى مع حواسنا، مع أنفسنا. ففي بلد أجنبي، لعله غريب، حيث لا نفقه اللغة، ولا الكتابة أحيانًا، قد تشتد الروائحُ والألوانُ والخيالُ اشتدادًا مختلفًا. وتحت وَقْع صدماتٍ انفعالية ناجمة عن إدراكات جديدة يمكن لانفعالات قديمة أن تنبجس من جديد.

ففي يوميات أسفاره في إيطاليا، تفتقت عبقريةُ ستندال الأدبيةُ عن وصف آلية الاضطراب في أثناء السفر أمام الجمال. لعل الخبرة التي يتكلم عليها لم تحدث له قط. وسيان إن حدثت أم لم تحدث. فما يفضي به إلينا أطلق اسمَه على جملة من التظاهرات المرضية التي نقع عليها عند العديد من المرضى المنقولين إلى قسم طوارئ الطبابة النفسية من مستشفى سانتا ماريا نووڤا في فلورنسا.

متلازمة ستندال هو الاسم الذي أطلقتْه غراتزييلا مغريني، الطبيبة النفسية في فلورنسا، على الأشكال المتنوعة التي يمكن لهذه المتلازمة أن تتخذها – وأعني: خلل مؤقت في التوازن، نوبات جزع، اختلالات جسمانية شديدة، أفعال غريبة، إحساسات بفقدان الشخصية، أفكار تأويلية للواقع قد تتفاقم حتى سَوْرات هذيان حادة.

إن الجامع بين هؤلاء السواح الذين يجدون أنفسهم في طوارئ فلورنسا الطبية النفسية هو أن الأعراض تطرأ جميعًا عند مواجهة مباشرة مع عمل فنيٍّ أو مع جوٍّ يضخِّم الإدراك الجمالي.

دوناتيللو (1386-1466)، تمثال داوود البرونزي في البارجيللو.

ولسوف أعطيكم بضعة أمثلة أكثر عيانية، وبعبارات أقل اختصاصًا من الناحية الطبية النفسية. فعلى سبيل المثال، إذن، شهد تمثال داوود لدوناتيللو عدة سائحين يتجردون من ثيابهم أمامه، فيما انبطح آخرون على الأرض مرتعدين، وغاب آخرون عن الوعي. أما لوحة باخوس للكارافاجيو فقد تسببت، هي الأخرى، في كثير من الاضطرابات.

الكارافاجيو (1573-1610)، باخوس.

واعتبارًا من عشرات الأشخاص الذين نُقلوا إلى الطوارئ، بات في الإمكان تقرير أنهم، عمومًا، رجال أو نساء تتراوح أعمارهم بين العشرين والأربعين، من غير أية سوابق طبية نفسية. وقد تبين لنا أنهم يسافرون دومًا على حدة من المجموعات السياحية. وهم يُشفَون من الاضطرابات سريعًا، وخير معالجة هي إعادتهم إلى بلدهم الأصلي.

كنيسة سانتا كروتشه ("القلب المقدس")، فلورنسا.

في يومياته روما وناپولي وفلورنسا كتب ستندال في 22 كانون الأول 1817:

أخيرًا وصلت إلى سانتا كروتشه. هناك، إلى اليمين من الباب، يقوم قبرُ مكيلانجلو؛ وأبعد منه، هو ذا قبرُ ألفييري الذي نحته كانوڤا. ألمح قبر ماكياڤيللي؛ وقبالة مكيلانجلو يرقد غاليلي. أي اجتماع مدهش هذا! انفعالي بالغٌ من العمق حدَّ الخشوع. تديُّنُ هذه الكنيسة الكالح، سقفُها البسيط الخشبي الهيكل، واجهتُها غير الناجزة، هذا كله يكلِّم نفسي كلامًا مؤثرًا.

ثم يطلب ستندال من راهب أن يفتح له باب المصلَّى حيث توجد جداريات الڤولترَّانو، وهناك ندخل في صلب الموضوع. هو ذا قد كتب:

هناك، جالسًا على مرقاة مركع، أميل برأسي إلى الوراء وأسنده إلى المِقرأ حتى أستطيع النظر إلى السقف. لعل كاهنات الڤولترَّانو منحنني أشد لذة منحني إياها الرسمُ يومًا. فقد أدخلني في حالة أشبه بالوجْد مجردُ فكرة أنني في فلورنسا، وأنني مجاور للعظماء الذين رأيت قبورهم لتوي. وإذ استغرقت في مشاهدة الجمال الجليل، لاح لي أني كنت أراه عن كثب، لا بل كنت ألمسه إذا جاز لي القول. بلغت ذلك الحد من الانفعال الذي تتلاقى فيه الأحاسيسُ السماوية التي تمنحها الفنونُ الجميلة مع المشاعر المشبوبة. ولدى خروجي من سانتا كروتشه، كان عندي خفقان قلب، ما يسمَّى في برلين بالأعصاب. كانت الحياةُ عندي مُستنفَدة، وكنت أمشي يتخلَّلني خوفٌ من السقوط.

ومع ذلك فقد ثاب ستندال إلى صوابه. خرج من سانتا كروتشه، وجلس على مقعد، وأخرج من محفظته أبياتًا لشاعر إيطالي، هوغو فوسكولو. وقد قرأ أبيات فوسكولو وأعاد قراءتها في لذة فائقة.

يقول لنا ستندال إنه لكي يخرج من اضطرابه احتاج إلى سماع صوتٍ صديقٍ يشاركه انفعاله. الأبيات التي قرأها كانت بلا عيب في نظره. إنها تسمِّي في لطافة، لكنْ بكلمات خصوصًا، ما من شأنه أن يذهب بالصواب، أي ما يتوارى خلف هذه المقابر الباذخة والساحقة، ما يتوارى خلف هذه اللوحات المهيبة، خلف هاتيك النسوة: الكاهنات، المتمتعات بموهبة التنبؤ بالآتي النادرة.

وهذا بالضبط ما لم يستطع السواح أن يفعلوه: أن يقولوا اضطرابهم وأن يرمِّزوه. لقد تعرفوا إلى شيء ما دون أن يستطيعوا تسميته. وهذا "الشيء" كان فيهم أصلاً. لقد وجدوا أنفسهم في مكان كانت كثافةُ الجمال فيه أقوى من أن يحتملوها. لقد وجد المسافر المتوحد نفسه في نوع من جنون الرؤية. لقد تكبد انفعاله الجمالي من غير أن يستطيع صياغته أو تصعيده.

وإذن، فهل يجب الاحتراس من النظر؟

في غيرمكان، بعيدًا عن الوطن، ربما كانت الأشياء التي يلحظها المرء، الأشياء التي تؤثر فيه، هي التي توجد أصلاً في رأسه على نحو مجرد. إنها حاضرة هنا على نحو مختلف، لكنها حاضرة أصلاً.

الغرابة هي أن نلتقي في الخارج بهذا الحميم الذي نحتفظ به سرًّا في الداخل – خصوصًا إذا لم نستطع أن نعبِّر عنه بكلمات.

الاضطراب الذي يجمع بين هؤلاء المسافرين، في توعك خفيف أو في عَرَض مرضيٍّ نفساني أشد وطأة، يحيل إلى النظرة، إلى تعثُّر في النظرة، إلى لحظة تأخذنا على حين غرة. الزوار متوازنون تمامًا لدى وصولهم، وسرعان ما يُشفَون في الغالب لدى مغادرتهم الأمكنة المسبِّبة للداء.

لكن الشائق في الأمر هو التساؤل الذي تحرِّضه هذه المتلازمة حول الصلة التي يعقدها الإنسانُ بين قصته الشخصية وبين قصة الأمكنة.

4

هذه "الفاقدة الوجهة" – شخصية كتابي الأخير – مثال جيد على متلازمة ستندال هذه. إنها مسافرة شديدة الحساسية تخرج من راحة الرحلة المنظَّمة، لتفسح المجال لانفعالاتها بأن تبتلعها. فهي، إذ تنطلق مع مرشد سياحي، تقرر فجأة ألا يُسافَر بها بعدُ، وألا تُنقَل، وتريد أن تتعلم الحرية.

وإذ تصل إلى حلب مع مجموعتها من السواح، وبعد بضعة أيام من زيارات تتخللها الشروحُ ومن مواقع تمر بها مرور الكرام، تقرر أن "تفسد التنظيم". وبذلك تنفتح، وتقرر أن ترى العالم بعينيها هي.

فهي إذ يُتعِبُها الناسُ الذين كانت تستعرض معهم المَشاهد والمتاحف، وتعاف نفسُها هذه السياحةَ "المعقمة" والبرنامج المفروض سلفًا، وتمل المرور بقرى وبأناس من غير أن تراهم وتكلمهم، من غير أن تتوقف، تتفلَّت من الأعراف، من اليقينيات، من العادات، فتترك المجموعة والباص يغادران حلب من غيرها.

وإنها لسوف تدفع غاليًا ثمن خروجها من الدروب المعبَّدة والمعلَّمة.

في سورية، هناك شيء اختطفها وأعادها إلى أفكار جوهرية.

هو نص أردتُ به أن أقول إننا لا نعرف أبدًا ما نحمله من "غريب" فينا، أردتُ به أن أعبر بكلمات عن اللحظة التي يحتد فيها التوترُ بين الحميم والغريب.

هذه "الفاقدة الوجهة" تكابد كلَّ ما تستشعره من غير أن تُشرِكَ فيه أحدًا، من غير أن تقوله، في حلب أولاً، ثم في دمشق. تصيبها أصداءٌ غريبة، آثارُ فجر الإنسانية. إنها تحب الأذان، جلبةَ المدينة العربية، صدوحَ الموسيقى فجأة في الشارع، ألوان المدن والأراضي، غبار الصحراء، غبار الحجارة. تحب الناس الذين تلتقي بهم. تحب وكفى.

ما تشعر به شديد الغرابة. إنها تستوعي التاريخ، وفي آنٍ معًا، تاريخها هي.

سياحاتُها في مدينة حلب، أحلامها بين الواقع والخيال، المَشاهد التي تصادفها وتحبها، تجعل منها امرأةً لم تكن تعرفها. تستسلم للأحاسيس التي تطغى عليها.

تصل إلى دمشق قبل أن يحين موعدُ عودتها إلى فرنسا، فتبدأ العوارض الخطيرة.

دمشق مدينة منقوشة في التاريخ، في الثقافة، في الفن، في الفن والدين، في الفن والموت. وإذ تُفقِدُها كثافةُ الجمال وجهتَها وتسحقُها، تستغرق في جنون الرؤية. ما تراه يُظهِر ويحجب ما لا تستطيع أن تقوله. هناك إفراط في شيء ما: إفراط في الرغبة؟ في النشوة؟ إنها تتعرف إلى شيء، لكنها لا تعرف كنهه.

في متحف دمشق، جمالُ تمثال وقوتُه – تمثال عُثِر عليه في أرض موقع ماري الأثري – هما اللذان سوف يُجهِزان على مقاومتها النفسية، ورحلتُها سوف تصير رحلةً مَرَضية. ولكنْ ليست القوى الجمالية هي العلَّة بقدر ما هي المواجهة مع الموت. في هذا المكان الاستثنائي، صارت على تماس مع عالم "آخر". هذا التمثال، الجميل، الذي صار بمرور الزمن عملاً فنيًّا، هو التعبير المجازي عن هذا العالم الآخر، ذي العجيج، العديم الشكل، القديم قدم الزمان. لكأن الجميل لم يعد إلا عتبة الرهيب. شيء مكبوت ارتد على أعقابه.

نظرُها حطَّ على شيء أبعد بكثير من النشوة الجمالية. حطَّ في حركة عودة نحو شيء من نسق القديم، هناك، بالضبط حيث تنعدم الكلمات. التمثال الكبير العينين صار حامل لغز أبعد من المتناوَل. كل شيء كان هناك، تحت النظر، ومع ذلك كان اللغز.

تمثال إبش إيل (ماري)، متحف اللوفر.

أمام التمثال لا تجد مخرجًا. "فاقدة الوجهة" التي لا تعوِّض ليست ستندال: إنها تكابد شعورها الجمالي من غير أن تستطيع تفكيك رموزه. ذلك أن الكلام، النقد، الخطاب هو فعلاً ما يزيل الإبهار ويُشرِك في الحدث. كأنما ينبغي إنتاج "المعنى" للإفلات من الغرق. إنها لا تستطيع أن تقول شيئًا، ولا أن تفكر في شيء، ولا أن تصوغ شيئًا.

العودةُ إلى الأصل ليست عند المسافرة عودةً إلى الينابيع وحسب، لكنها كذلك إفساح المجال لعودة الينابيع – وهذه التجربة كانت عنيفة.

"فاقدة الوجهة" تكابد جنون الرؤية، لكن الجنون هناك ينقلب إلى جزع. فالنظرُ قد عَبَرَ إلى غيرمكان. إنها لا تستطيع أن تنطق بكلام، لا تستطيع أن ترمِّز ما يجتاحها. شيء ما ارتطم عنيفًا بواقعها عبر مصادفة اللقاء مع التمثال. انتابها من جراء ذلك ما يسمَّى بلغة الطبابة النفسية سَوْرة هذيان حادة.

ثمة في سورية نوع من التعامل الطبيعي مع علم الآثار، مع الماضي، مع الحياة، مع الموت. في ماري، كان العباد يذهبون إلى معبد عشتار ليضعوا فيه مصلِّين من الحجر يمثلونهم وهُم يصلون؛ وكان الغرض من هذه التماثيل مواصلة ابتهال الذين كانوا يضعونها على دَكَّات في الحَرَم المقدس. كانت توضع بمثابة نذور، وأيديها المضمومة على صدورها تشير إلى الإجلال.

وهذه المنحوتات إنما هي تذكار للراحلين، تستدعي حضورهم، تعقد الوحدة بين الروحي والبشري، في شغف عظيم. كتل الصمت هذه هي اللقاء بين الحجر والصلاة والحب. ونحن لا نعرف شيئًا يُذكَر عن الذين أبدعوها. بعضها يبدو وكأنه من أعمال أساتذة في النحت، وبعضها الآخر نتاج عمل متسلسل. القرابين مغفلة الأسماء، لكنها تحمل سمات المقرِّبين على أمل أن تتعرف الإلهةُ إليهم، فلا تنساهم. تماثيل ماري هي البرهان على أبدية الانفعالات البشرية. إنها تبعث في الحاضر من جديد أحاسيس مدفونة.

النظرة، لوحة لفرانسواز كلواريك.

شخصية "فاقدة الوجهة" تطرح أسئلة: ما العبرة من مغادرة المرء نطاقه اليومي، صيرورته غريبًا عن لغته، صيرورته أو صيرورتها مَن يرى؟ لماذا يتفق لنا أن نهوي في ما نراه؟ ماذا يحدث في اللحظة التي يكف فيها النظرُ إلى الجمالي عن أن يكون لذة؟

وإنه لمن خلال سلسلة من الجلسات نتخيلها تحليليةً نفسيةً تتمكن المسافرةُ من استعادة وجهتها بعد أن تعود إلى باريس. إنها تعثر من جديد على خيط قصتها، وتضفي "معنًى" على ما اختبرتْه في سورية. تكتشف أننا نستطيع أن نفهم الحاضر بفضل الماضي الأقدم، الأقصى، الأعمق دفنًا، الأكثر نسيانًا.

فالمستقبل يمكن له أن يُضاء في ضوء أحداث مستعادة.

5

توجد فينا انفعالاتٌ بقيت معلَّقة غير مبتوت فيها. كل أحد يحمل ذاكرته، مع ما يعرف منها، ومع ما لا يعرف.

وعلى الرغم من هذه القصة الخاصة نوعًا ما، يُستحسَن الذهابُ ورؤية غيرمكان، أبعد قليلاً من الذات، يُستحسَن الذهاب نحو الآخر، العبور من الذات إلى الآخر، التنحِّي جانبًا للنظر حوالى الذات.

والآخر سوف يحوِّل النظر، سوف يجدد المرجعيات، يعدِّل المعتاد، ويُحدِث قطيعة. ففي التحول عما نحن إياه، في اللقاء مع الآخر، في ما هو خارج الذات، يمكن لشيء ما أن يحصل، يمكن لشيء ما أن يومئ بإشارة.

وسورية نبَّهتْ فيَّ، بما لا ريب فيه، شوقًا قويًّا جدًّا إلى الإبداع.

أكتب وأرسم من موقعي كغربية. فالنظرة ليست صافيةً أبدًا، بل تتغذى بالخبرات التي أجتازها. وكل نص أكتبه ينهل مما أعرف حيث أعيش.

الغيرمكان، كما قلت لكم، هو في القلب من الكتب الخمسة التي ألهمتْني إياها سورية. غيرمكان الجنون في الكتاب الأول: البيمارستان: مقام للجنون وللحكمة، غيرمكان المسافر في الكتب اللاحقة: سورية: رحلة بالذات، الخان، زمن القناصل، وفاقدة الوجهة.

وإذا أجزت لنفسي أن أكتب عن البيمارستان فلأني أعمل منذ أمد طويل في مستشفى طبي نفسي في منطقة باريس، ولأن تاريخ الجنون يستهويني منذ سنين عديدة. ولقد اهتممت كثيرًا بتاريخ الطب العربي وبالطريقة المجدِّدة للغاية التي عالج بها المرضَ الذهني منذ القرن الثامن. وهكذا فإني، انطلاقًا من نقاء هندسة معمار المستشفيات القروسطية للشرق الأدنى، وانطلاقًا من بُعد الترحيب، تساءلت حول الدور الذي كانت تؤديه هذه الهندسة في المعالجة الطبية النفسية. اكتشفتُ جودة العيادة، فن التشخيص، حسن تدبُّر حالة المريض الذي لا يمارى فيه، أخلاق الإصغاء، ممارسة الكلام.

سورية: رحلة بالذات وفاقدة الوجهة نصَّان يحاولان أن يقولا كيف يمكن للصدمة الجمالية أن تُفقِدَ المسافرَ الحساس نقاط علاَّمه وتجعله يهوي في شيء مقلِق إلى حدِّ الغرابة. من المدن المهجورة على الهضاب الجيرية، إلى الرصافة وماري، مرورًا بمار سمعان، يبين هذا الكتابان أن السفر ليس بريئًا أبدًا.

دير مار سمعان العمودي، حلب.

أما الخان فهي رواية عن القطيعة، عن الهوى. إنها قصة رجل جريح، أوجدتُه عبر خبرة الناس الذين أصغي إليهم منذ سنين. ولسوف يعود إلى الحياة بفضل الترحيب الذي يلقاه في سورية، بفضل الجمالية والحكمة اللتين يكتشفهما في هذا البلد.

الكتابة عن سورية، أو الرسم، هو وسيلة للبقاء فيها حين لا أكون فيها، وسيلة للسفر إليها، في الرأس.

في كل مرة، أحب أن أعيد قول جمال الأمكنة، أحب أن أعود بالسنين، بالقرون، إلى الوراء، لكي أُحسِنَ فهمَ هذا الجمال، لكي أُحسِنَ فهم الحاضر. وغايتي هي المصالحة بين الثنائيات: ماضي/حاضر، لاوعي/وعي، شرق/غرب، فكر/انفعال، إلخ.

الرسم أو الكتابة وسيلتان للسفر، لتعديل المعتاد، لإعادة التفكير في الواقع، لإحداث قطيعة.

لعلكم فهمتموني: هذا البلد، في نظري، ليس مكانًا جغرافيًّا وحسب، بل انفعال.

ختامًا، أود أن أشكر المركز الثقافي الفرنسي في دمشق على دعوته، وبالأخص جوليان شونيفيس وأوريلي شين، وكذلك الوكالة الثقافية بحلب: أندريه نوح وليلى طنبة.

أود كذلك أن أشير إلى أنني، بفضل دعوة أولى كهذه، منذ خمس عشرة سنة خلت، اكتشفت سورية. قيل لي يومذاك: نأمل فعلاً لدعواتنا أن تثمر عن شيء، أن ينبثق شيءٌ ما من اللقاء مع هذا البلد.

أرجو ألا أكون قد خيبتُ هذا الأمل.

* * *

 

ملحق

21[3]

حلب تنأى، تستحيل إلى ذكرى. ولعل المسافة أن تتيح لي أن أكلمكم عنها كلامًا مختلفًا.

من الفندق، كان المشهد من غرفتي يكاد يضم المدينةَ كلَّها. القبح مخيف، لكن الجمال مخيف هو الآخر. ظللتُ مسمَّرة، عيناي شاخصتان في القلعة. لم أضق ذرعًا بالمنظر، فكنت أصرف ساعاتٍ من الكآبة المحض مكتفيةً بالنظر. كنت في حاجة إلى اجتياز هذا الخواء الداخلي لكي أبلغ شيئًا آخر. كنت، أحيانًا، أحيا لحظة من السعادة، مجانية.

أحتفظ في قعر عيني ببذرة المدينة، بخيالات المآذن والقباب على صفحة السماء، بلون الحجارة التي بهتت بتأثير الشمس والسنين. قرمزية، رمادية، بيضاء، أو مذهبة، بحسب الساعة. كانت المدينة تكتسي بتلاوين وقورة وجميلة، وأحيانًا كان الضوء يبدو ورديًّا. بعد الظهر كانت المآذن تتحول إلى الذهبي. استبد بي شعورٌ بالأبدي، بجمال كثيف. المدينة كلها التي أبلاها الزمان، تحت نظرة واحدة، في بياضها الصباحي المغبر، تركتْ أثرًا لم يُمَّحَ، بل انتشر.

حلب تثير في نفسي الرغبة في البكاء.

أصف لكم صورةً معزولة. لكن المنظر كان أوسع بما لا يقاس، كان أكثر حضورًا. فالمواجهة مع بلد حامل للأبدية متعذر قولها. فالانفعال يفيض عن الإطار المعتاد للمتعة الجمالية.

مشاهد أخرى، ضياء آخر، لغة أخرى، كتابة أخرى، أساليب حياة أخرى. كنت أبتدع نفسي امرأةً مختلفة. كان الارتحال هو التغرب. وهذه الرحلة كانت خارجيةً وداخليةً في آنٍ معًا. كنت أكتشف مَشاهد جديدة، بشرًا مختلفين، لكني لم أكن أعرف ماذا أفعل بهذا كلِّه. هذا البلد كان يستثير شيئًا جديدًا، لكنه موجود أصلاً. شيء ما كان يرتد إليَّ من الخارج لم أستطع أن أسمِّيه. شيء ما كان يومئ لي بإشارة، من الأنأى مسافةً، في الأقرب إلى النفس.

سورية صارت لي حقل مُسارَرة بالانفعالات، والنظرة ما انفكت تتصفَّى، وقد انعتقت من نفسها أخيرًا. وإذ لم يعد ثمة ما يحد من رؤية العين، باتت هذه تلامس مسألة الحب، لا أدري كيف، لكني أشعر بذلك. لقد ذهبت حقًّا حتى أرى في غيرمكان، حتى الإنهاك.

فلعل الصمت أن يقول أكثر عن النظر.

لكني أعلم أنكم تسمعون ما لا أقول.

*** *** ***

ترجمة: ديمتري أڤييرينوس


 

horizontal rule

[1] نص المحاضرة التي ألقتها فرانسواز كلواريك في المركز الثقافي الفرنسي في دمشق في 24/04/2007.

[2] كاتبة ومحللة نفسية ورسامة، خريجة المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة بباريس. تتجاور في لوحاتها عوالم وأديان وثقافات وحضارات مختلفة، مستلهمةً من جمالية منحوتات مدينة ماري. من كتبها: البيمارستان: مقام للجنون وللحكمة، سورية: رحلة بالذات، الخان، زمن القناصل، فاقدة الوجهة. وهي تُواصل التفكر في معنى الإبداع، وقد خصت بالدراسة عدة نساء فنانات، مثل سيرافين دُه سنليس وكامي كلوديل. عرضت أعمالها في فرنسا في المركز الثقافي السوري، في متحف الأورانجوري (باريس)، وفي غاليري لوپون (حلب). وهي تقيم وتعمل في باريس.

[3] فرانسواز كلواريك، فاقدة الوجهة، ص 73-75.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود