french arabic

 

عدالة بلا نهاية*

 

هشام الطيِّبي

 

يُحكى هنا وهناك أن ثمة إرهابيين ماتوا من جراء مطارحتهم الحب لسبعين كاعباً في آنٍ معاً. لم يتورع اختصاصيون ذائعو الصيت عن استخدام هذه الحجة لتعليل فعل كانوا يتعجَّلون فك أحجيته. ومن جانبي لا أتمنى لهم اعتداءات انتحارية ترتكبها نساء (مع أن بعضها قد سبق ووقع!) لأن من شأن هذا الأمر أن يكدِّرهم للغاية.

أما وأن الأمر كذلك فقد آن الأوان، ربما، للتساؤل، بعد استبعاد التحليلات التبسيطية التي تختزل الموضوع إلى صراع حضارات، تلك التحليلات التي تعجُّ بها الصحف ذات النمط الفضائحي، والإذاعات المفتقرة إلى القصص، والتلفزيونات المستأصَلة فصوصها الدماغية اعتباراً من الثامنة مساءً، حول ما يمكن أن يؤسِّس لمثل هذه التصرفات. ولسوف نجد عندئذٍ أن موضع الاتهام ليس الدين، ولا حتى في إحدى صوره التي قد تكون أشد تطرفاً أو جذرية من الأخريات، إنما شيء أكثر عيانية، ووضوحاً، وخطورة بكثير.

إن توجيه الاتهام للإسلام وللمسلمين أمر سهل، لكنه يعني قبول السكوت عندما تتم أفعال مماثلة أو مشابهة لا يرتكبها مسلمون. فلنبدأ أولاً بالتساؤل فيما إذا كانت الأعمال الإرهابية لا تتم دائماً إلا على يد مسلمين فقط، وفيما إذا كانت طريقتهم الانتحارية ليست إلا إسلامية فحسب، أو فيما إذا كان طُعْم العذارى هو الذي يجعل المسلمين بهذه الفَوْعة.

لابد من الاعتراف بعدد من الوقائع. إن الأعمال الإرهابية المجنونة ليست مرتبطة بدين معين دون سواه. وإن منها ما يُرتكَب في العالم أجمع، لأسباب شديدة التنوع. وهي كذلك ليست حكراً على عصر بعينه. فالقرن التاسع عشر، باعتداءاته الفوضوية العديدة، قد أعمل الحديدَ والنارَ في أوروبا، الكاثوليكية، البروتستانتية، الأرثوذكسية أو العلمانية. ولا يبدو على القرن العشرين أنه قد هذَّب الوسائل المستعمَلة في الماضي: الشيوعيون، الجيش الأحمر، الألوية الحمراء، الباسك، الجيش الجمهوري الإيرلندي، نِحلة آوم في اليابان، أبنية الـ إف بي آي، ومنذ أمد قصير، أونابومبر في البلاد عينها، كل هذه الاعتداءات – وأعفيكم من سرد المزيد منها – هل ارتكبها كلَّها مسلمون؟

أما الاعتداءات الانتحارية، فهي، بالمقابل، من اختصاصهم، كما قد يقال. بيد أن البادئين بهذه الأعمال، في التاريخ الحديث، كانوا يابانيين! فلعل ثمة صلة ما بين الشنتوية والإسلام أفلتت من فطنة الباحثين؛ إنما ما دام لم يؤتَ ببرهان على ذلك، ينبغي الاقتناع بفكرة أن الإسلام ليس بحد ذاته ناشر اعتداءات.

لكن مكمن الخطر في هذا الدين، كما قد يقال عندئذٍ، في أن فاعلي الاعتداءات واثقون من ثوابهم. لقد وُعِدوا بسبعين كاعباً (الأمر الذي لا يسع أحدهم أن يرفضه!)، وبعدد كبير من القصور والجنان (من منَّا لا يحلم بها!)، ناهيك عن أنهار اللبن والخمر والعسل. إن خارطة جنة المسلمين باتت الآن معروفة أكثر من خارطة العالم. فمن شأنها، إذن، أن تسوِّغ كل الانحرافات، حتى أكثرها تعصباً بطبيعة الحال. بذلك يُتَخََيَّل رجال من حديد، عديمو الحسِّ، معبَّئون، لم تبق في أدمغتهم غير صورة واحدة: حلم نكاح كوني أبدي في مكان خرافي. فيكون ضرب من الجماع غير المنقطع، إذا جاز التعبير، هو الثواب لكل مسلم صالح، وبطبيعة الحال، على نحو أقل تصعيداً، للأكثر تعصباً فيما بينهم.

هذا النمط من الهَلْس ليس فيه ما يطمئِن أحداً. والقوم محقون في إثارتهم للمشكلة. لكن من شأنه أيضاً أن يسائلنا. وبما أن المشكلة كثيراً ما تُطرَح من منظور الدين، لم لا نعود إلى النصوص؟

لو كانت الجنة، حكماً، من نصيب كل مَن يحسب أنه يستحقها، لماذا يتكلم الله على يوم الحساب؟

ألم يقل عن نفسه إنه "ملك يوم الدين" (سورة الفاتحة 4). ألم يقل: "وما أدراك ما يوم الفصل؟" (سورة المرسلات 14) ألم يقل: "ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب" (سورة إبرهيم 51). ألم يقل أيضاً: "واتَّقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم تُوفَّى كل نفس ما كسبت وهم لا يُظلَمون" (سورة البقرة 281). ألم يقل أيضاً وأيضاً: "والوزن يومئذٍ الحقُّ..." (سورة الأعراف 8)

أي مسلم هو من الغطرسة بحيث يستبق الحكمَ فيما سوف يبتُّ فيه الله نفسُه، الربُّ الأوحد، يوم الحساب؟ هل طُرِح هذا السؤال أصلاً؟

إن كون أسرتي تضمُّ مسلمين، منهم الأتقياء، ومنهم الأقل تُقَى، وإن كوني قرأت باهتمام الترجمات البديعة للنصوص الصوفية التي قام بها لويس ماسينيون أو هنري كوربان، يخوِّلني أن أقول بأنه إن كان شيء يميِّز المسلمين، وجميع الموحِّدين بصفة عامة، في قرارة إيمانهم وفردياً، فهو مخافة اليوم الآخر. أهي محكمة تنعقد جلستها، فيعيِّن فيها الجناةُ الحقيقيون والأبرياء الحقيقيون أنفسَهم بأنفسهم؟ هل العدل ما يزال في حاجة لأن يقيمه الله؟ المسلم، كغيره، ليس أبداً مستيقناً من نجاته لأن الحساب ليس من اختصاصه. إذ ليس لغير الله أن يبتَّ في الشر ويبتَّ في الخير، وهو وحده القاضي لأنه وحده أيضاً عَدْل.

يحسن بنا، إذن، أن نعود إلى هذا المأزق حيث التبسيط يزعم أنه ينطوي على مبادرات شخصية، مقلِقة من حيث أساسها.

من وجهة نظر فردية، ينبغي إيلاء المزيد قليلاً من الانتباه لهؤلاء الرجال الذين مضوا إلى حتفهم، طوعاً، في سماء منهاتن. ينبغي أن نبدأ بتذكُّر كتاب فِركور الرائع صمت البحر. ألم يبدأ كاتب الساعات القاتمة هذا ببثِّ روح في أجسام الجنود الألمان قبل مقاتلتهم؟ إن سوزان زونتاغ، النيويوركية الأمريكية، تعاود سلوك هذا الطريق عندما تذكِّر، محقَّة، بأن من المضحك رميَ هؤلاء الإرهابيين بالجُبْن. فالجُبْن، على حدِّ قولها، صفة أولئك "الذين يقتلون خارج إطار الاقتصاص، من أعالي السماء"، بينما الشجاعة – والمختصون في الأخلاق يعلمون ذلك جيداً – "فضيلة محايدة أخلاقياً". لذا فإن من المضحك بنظري، بالقدر نفسه، اختزالهم إلى حالة متعصبين أغبياء.

كان هؤلاء الرجال قد قاموا بدراسات طويلة – وهذا ليس متاحاً لجميع الناس -، دراسات صعبة (طب، هندسة طيران، مال)، وكانوا أبناء أسر ميسورة، متزوجين، وبعضهم كان والداً لأطفال صغار. ومع ذلك، فقد "قبلوا أن يموتوا لقتل آخرين"، كما تقول سوزان زونتاغ: إذن فقد ضحُّوا بأنفسهم.

إن لفعل "ضحَّى" sacrifier معانٍ عديدة. إنه يعني ذبح، وهب، أطاع؛ لكنه في صيغته الضميرية se sacrifier يعني الإخلاص ("تقديم النفس قرباناً، يقول قاموس روبير الصغير، الإخلاص بالتضحية بالنفس وبالمصالح"). ألم يئن الأوان لكي نتساءل حول المعنى الذي تتخذه هذه الكلمة في هذا السياق المأساوي؟

لهذا السؤال إجابات عديدة، ما في ذلك ريب، لكن أفضلها ليست بالضرورة حيث ذهب كثيرون لتصيُّدها.

فلنحاول، أولاً، أن نطَّلع على ما فعله هؤلاء الرجال قبل أن يموتوا. إذا كانوا مسلمين، فليس من الضروري أن يكون المرء فقيهاً ليحزر ما فعلوا: لعلهم فكروا في أسرهم، في أقربائهم، وفي الكراهية التي سوَّغت هذه العملية. وفي غضون دقائق حياتهم الأخيرة، كرروا بلا كلل كل أنواع الدعاء، التي يُختصَر معناها في الاتكال على رحمة الله. وأخيراً، وهم ما يزالون أحياء، نطقوا بالشهادتين، لأن على المسلم، ما دام هذا بإمكانه، أن يشهد بإيمانه قبل أن يموت: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله." وفي كل الأحوال، فقد ماتوا عالمين أنهم سوف يواجهون نظرة القاضي الواحد الذي يفصل باسم الحقِّ. وإن كونهم شهداء ليس بحد ذاته ضمانة للنجاة، مادام القرار الأخير بيد الله وحده.

ولعل هذه هي حبكة الموضوع. العدالة مطلقة وإلا فهي ليست عدالة. ولهذا السبب، لا يمكن أن تكون، بما هي كذلك، إلا إلهية. أما وأن الذي لا يعوَّض قد وقع، وأن آلاف القتلى يشهدون عليه، كيف لا نقف مذهولين أمام المصير الذي اختاره هؤلاء الرجال لأنفسهم. لقد اختار هؤلاء الرجال، على الأرض، أن يجسِّدوا العدل. و"العَدْل" أحد أسماء الله الحسنى الـ 99 التي أحصاها الفقه الإسلامي. ولئن كان الله في المسيحية قد تأنسن لكي يخلِّصنا، فإن هؤلاء الرجال اختاروا، من جانبهم، أن يكون عَدْلاً لكي يثأروا لنا.

لعله كان في جعبة بورخيس الكثير مما يقول في تبادل الأدوار والأسماء والنصوص هذا. وهذا التبادل، الذي لم يلفت برأيي نظر كتَّاب المقالات بما يكفي، هو الذي يسمح لنا بأن نفهم رهانات هذه الفعلة. إن التعصب الذي تطايرت شظاياه في الأجواء الأمريكية لا يجوز أن يُختَزَل إلى الإسلام، لأن العدل كان في نيَّته (كم هو عدد الذين يعرفون أن هناك عدداً لا يستهان به من المسيحيين العرب أو غير العرب أو من الذين يدينون بأديان أخرى يعيشون في فلسطين وفي الأقطار العربية عموماً). لقد كان ذلك التعصُّب تعصباً إسلامياً، لكنه كان قبل كل شيء تعصباً للعدالة، لـ"عدالة بلا نهاية" حصراً (ولنكن ممتنِّين لرئيس الولايات المتحدة على جرأته في هذا التشدُّق).

لقد تعرَّفت الشعوب والأمم والأفراد على الفور في هذه الفعلة إلى مداها الشمولي. وإن الهتافات التي قيل إنها هتافات فرح في فلسطين لم تكن التعبير عن الإسلام، إنما هتافات شوق إلى العدل. وتلك الهتافات الأقل ضوضاء، التي هزَّت العالم لا تقل شوقاً عنها: ألم تذكِّر صحيفة أرجنتينية بأن الاعتداء جرى في الذكرى الثامنة والعشرين لموت أيِّندي، أي في 11 أيلول 1973؛ ألم تُعَنْوِن صحيفة باسكية أحد أعدادها بـ "هذا جنيتموه على أنفسكم..."؛ ألا تتحدث صحيفة روسية عن "فخ مقيت نُصِب للأمريكيين" (راسيا، موسكو)؛ ألم يجئ في افتتاحية صينية أن "السياسية الأحادية الجانب للولايات المتحدة صارت أكبر أشكال الإرهاب في العالم" (يومية الشعب، بيجنغ)؛ ألم تكتب صحيفة في البوركينافاسو أن "معقِل الثقافة الحربية، البنتاغون، هو الذي استهدفته الطائرة الثالثة" (جريدة الخميس، أوغادوغو)، إلى آخر ما هنالك. هذا الإصرار – المشروع للغاية، أليس كذلك؟ - على العدالة، بِمَ يجب أن نجابهه؟

ينبغي أن نجابهه بالقانون.

الإسلام عدوٌّ يسهل التعرف إليه. أما تحويل جبال أفغانستان إلى هضبة قبلهيمالاوية فهو أشبه برفع صخرة سيزيف. والعواقب الناجمة على مناخ الأرض قد لا تقل نزواً عن مزاج أحد رعاة البقر. فمادامت اتفاقات كيوتو لم تطبَّق، فليُعفونا من ذلك.

ليس هذا هو الحل الأصلح إذن.

ينبغي إذن البدء بالتفكير.

وبادئ ذي بدء استشارة الحقوقيين (وهناك العديد منهم في الولايات المتحدة!)، وسؤالهم، على سبيل المثال، فيما إذا كان ينبغي العودة، على هذه الأرض، إلى هذه العدالة المطلقة التي سبق لها أن عبَّرت عن نفسها في شريعة حمورابي منذ 1700 سنة ق م. وبما أن القانون قد تطور منذئذٍ، فأغلب الظن أنهم سوف يجيبون بأن هذا ليس مرغوباً فيه. ولعل أن يكون بينهم مَنْ يُخلِص لمهنته أكثر من سواه، فيذكِّرنا ببضعة مبادئ أساسية، ولاسيما بواحد من المبادئ التي يتعلَّمها طلاب السنة الأولى في الجامعة:

القانون ليس العدالة، وهو قطعاً ليس المناقب، وليس الأخلاق، ولا الإنصاف.

ليس القانون إلا جملة من النصوص التشريعية، الغرض منها تحديد ما هو جائز، وما هو واجب في الجماعات البشرية، خارج نطاق أي تعالٍ. إنه جملة بشرية تتراكم فيها اجتهادات بشرية. وهو بذلك ليس خارج الدين وحسب (وإن يكن سَكينياً)، بل يقع حتى خارج الواقع نفسه، من حيث إن واقعية القانون واقعية تشريعية ليس إلا.

يميِّز القانون بين وقائع يمكن توصيفها تشريعياً، لأنها تدخل في باب هذه الفئة أو ذلك المفهوم التشريعي، وبين الوقائع التي لا تدخل في هذه الأبواب. إنه حرفياً سرير بروكروست، يترك للمشرِّع خيار توسيع مجال صلاحيته أو تضييقه.

ينبغي أن نجابهه بكل القوانين: القانون الدولي، القانون الدستوري، القانون الشخصي، القانون العام، القانون الإداري، قانون الأعمال، قانون التأمينات، قانون الحيوان... كل القوانين.

القانون مضادٌّ للتعصب بامتياز. إنه بارد، متعالٍ، أصمٌّ، أعمى، أبكم، غير إنساني، ناءٍ، ولعلَّه ظالم، وأحياناً متجاوَز، قطعاً، لكنه زمني وتاريخي. إنه من صنع بشر، بانتظار يوم الحساب، عند من يؤمنون باليوم الآخر.

إن بوسع التفسير الكتابي والتلمودي أن يعلِّمنا الكثير بخصوص هذا الأمر: "واتَّبع البِرَّ ثم البِرَّ، لكي تحيا..." (تثنية الاشتراع 16: 20) إن قول الله هذا هو الذي يفرض إيجاد محاكم أو مجالس للأبرار، من الحكماء وذوي الفطنة (وهذا هو المغزى من حكم سليمان)، يديرون الحياة في المجتمع: و"ألله في جماعة الله قائم. في وسط الآلهة يقضي" (مزمور 82: 1) بينهم. إنه قائم بينهم لأنه يدين مؤسسة القضاء المقدس، وحضوره فيه مشروط بحسن عمل المؤسسة. والتتمة المنطقية لهذه الوصية هي أن شعب إسرائيل قد كرَّم المحاكم فوق كل شيء على الدوام، وفي المحاكم كرَّم فن التسوية.

في وقت تعلن فيه أمريكا العاطلة الحربَ على الشر، لم لا نذكِّر بهذه الوصايا البسيطة من كتاب مقدس، إنما التي يرفعونها دون أن يطالهم القصاص. الخير، بما أنهم الناطقون باسمه، يتطلب مؤسسات عادلة تُعالَج فيه قضايا هذا العالم، وإن يكن قرية عالمية، بين قضاة ورجال قانون. فليكن العدل والتسوية هما كلمة السواء إن شئنا أن يتعرَّف الله إلى حزبه!

ألم يئن الأوان لكي تدير شؤون العالم مؤسساتٌ صلبة، قائمة دستورياً، تعمل بحسب إجراءات محددة نظامياً؟ أيجوز أن تُخرِجنا عن طورنا روحُ ثأر تكون عاقبتها دائماً المزيد من القتلى؟

أما حكام أمريكا (وشعبهم قطعاً على غير دراية بالأمر!)، فلماذا يرفضون تطبيق اتفاقات كيوتو؟ لماذا يريدون أن يضربوا بمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية عرض الحائط؟ لماذا يحدُّون من مفعول الاتفاق على الألغام المضادة للأشخاص؟ لماذا يُقحِمون دائماً بنوداً تحديدية للمعاهدات الدولية؟ لماذا أعلنوا رفضهم للاقتصاص الفعلي من البلاد المبيِّضة للمال القذر؟ لماذا يرفضون الانضمام للمفاوضات المتعددة الأطراف؟ لماذا يحذَرون المحاكم الدولية؟ لماذا يستهينون بالأمم المتحدة، حيث هم، مع ذلك، مثل حيوانات مزرعة أورويل، "سواسية أكثر من سواهم"؟ أينبغي أن نبتهج الآن، والمجتمعُ المدني الدولي، المبني بمشقة بالغة، قد وجد نفسه عديم الصوت؟

في أي عصر ندخل؟ كم عدد الذين يتكبدون مشقة الكلام على ذلك؟ كم عدد الذين يتشجعون على التمرُّد عليه؟ التلفزيونات تعتنق رأي CNN التي يعترف مديرُها نفسه بأن النموذج الأمريكي مبني على تطفيل المتفرجين. الصحف والإذاعات تحلل الوقائع ساخنة، وتحترق فيها؛ كما احترقت في كوسوفو، في العراق، في أمريكا اللاتينية، في آسيا الوسطى، في الاتحاد السوفياتي، أو في الصين. كم عدد الذين يجرؤون على الإعلان بأن التحقيقات حُسِمَت قبل أن تتم؟ أيكون أن شركة بوينغ قد صمَّمت مسبقاً أبواباً معزولة خاصة يستطيع الإرهابيون أن يرموا جوازات سفرهم منها؟ سعوديون موتى يجدون أنفسهم طيَّارين على متن طائرات يونايتد إيرلاينز، وآخرون أحياء بحق، جالسين مرتاحين في منازلهم، يتنامى إليهم أنهم لاقوا مصرعهم وهو يقودون تلك الطائرات عينها؟ ومصريون لا يقلون حياة عن أولئك يهتفون إلى ذويهم ليعلموا منهم أنه يُفترَض فيهم أن يكونوا ميتين منذ ثلاثة أيام ومتَّهمين بالإرهاب بعد موتهم؟ على مَن يضحكون؟ أين هي هذه الدلائل؟ من هم هؤلاء المحقَّقون؟ أفراد من هذا FBI الذي، في واكو، اتُّهِم أنه اخترع أدلة وأضاع الملفات في اللحظة المناسبة؟ عملاء لهذه الـ CIA التي زوَّد أحد أفرادها المقيمين في الباكستان الجاني في الاعتداء الأول على مركز التجارة العالمية منذ سنتين بتأشيرة الدخول؟ عمَّ يبحثون؟ وماذا يجدون؟ لماذا أُغلِق نطاق الدخول إلى مسرح الواقعة دون التلفزيونات كلِّها؟ ابتغاء الشفافية؟ ابتغاء اللياقة؟ أفي بلاد التلفزيون القمامة، والأحكام المصوَّرة، والاغتيالات على الهواء؟

في الوقت الذي تعيد فيه التعصُّبات النظر في تحالفاتها، هل أحسسنا فعلاً بمقدار الخطر؟ هل نسينا بهذه السرعة هذه الائتلافات بين بلاد الجنوب وبلاد الشمال ضد أعداء من الشرق أو من الغرب، سرعان ما يصيرون من جديد أصدقاء للشمال أو للجنوب؟ ألا تذكِّرنا بشيء هذه الجثث العديمة الوجوه التي صارت واقعاً بعيد المنال؟ ألم نقرأ 1984 جورج أورويل؟ على خلفية الأعمال الإرهابية، هل نسينا اللحن المأساوي والنبوئي لهذه الرواية؟ إلى أين جاؤوا يسوقوننا؟

بيد أن الخطر بيِّنٌ فيما يتعلق بالعالم الإسلامي. بعضهم، وإن لم يكونوا عديدين، سوف يسمعون التنادي إلى الجهاد. تلكم الحال في الباكستان من الآن، وفي إندونيسيا (أيجب أن نذكِّر بأن فيها200 مليون مسلم غير عربي؟)، وفي الفيليبين (بينما مئات الفيليبينيين مدفونون تحت أنقاض التوأمين)، وهي الحال في كل البلاد الإسلامية الأخرى، حيث لم تصمت الأصوات إلا بفضل قمع الشرطة. هؤلاء القوم سوف يستجيبون للظمأ اللانهائي إلى العدل بتعصُّب لا يقل عنه للعدل، لا يقل عنفاً وشرعية في شطحه. والجهاد، ما في ذلك ريب، آيل إلى الإخفاق، ولكن من ذا يقينا عواقبه المدمِّرة؟ وحكام الولايات المتحدة يعرفون ذلك. وفي هذه اللحظة بالذات يتأهبون. وجنرالات الباكستان يعرفون مسبقاً أن خزائنهم سوف تمتلئ بالدولارات. وكل جنرالات البلاد الإسلامية وغير الإسلامية يعرفون ذلك. وهم يتأهبون له. وهم مستعدون لتمويل هذه المأساة. وإذا كان ينبغي الحد من حرية حركة المجاهدين فسوف يحدُّون. وإذا تطلب الأمر تعزيز السيطرة على الشعوب فسوف يعزِّزون. وإذا كان يجب تسليح الميليشيات فسوف يسلِّحون. والويل للديموقراطيين!

الويل للذين صحوا للحرية. الحرية لا تتجزأ. كل الشعوب سوف تشهد تعزيز المؤسسات القمعية. والدول التي ما كادت تخرج بعد من سنيها السوداء سوف تعود إليها بلا إبطاء. والدول التي لم تتشوَّق قط إلى هذا الخروج سوف تطمئن إلى خياراتها. والراغبون في الاحتجاج سوف يُدعَوْن إلى لزوم الصمت. والمحتجون فعلاً سوف يودَعون في السجن.

إن الحلم بصرح تشريعي صلب ومستقر سوف ينهار؛ وكذلك الحلم بقواعد عقلانية وفعَّالة للقانون؛ والحلم باستقلالية القضاء سوف يتلاشى؛ والأحلام بدعاوٍ اعتراضية سوف تذهب في خبر كان. ولكنْ، من سيرثيها؟

ينبغي ألا نغترَّ. إن تعصب العدالة واجب الوجود بذاته. ولسوف يطرد نفسه بنفسه. لكن هذا يجب ألا يحول بيننا وبين قراءة التاريخ. فهو لا يعيد نفسه، لكنه يعدو كاللولب، على حد قول فيكو.

لقد كان يوم 11 أيلول يوماً بالغ الرمزية لعدة أسباب. إنه، فيما يتعلق بهذا القرن، يؤرخ لموت آلاف الأبرياء في اعتداء شائن (ولهذا السبب وحده "كلُّنا امريكيون"). وهو يؤرخ، فيما يتعلق بالقرن المنصرم، القرن الذي مازال يرخم تحت رماد البنتاغون المبقور، لموت سلفادور أيِّندي في انقلاب دبَّرت له وكالة الاستخبارات الأمريكية، ربما في تلك المكاتب عينها التي زالت عن الوجود. ففي سنتياغو، في ذلك الحادي عشر من أيلول، تم الاعتداء على رمز: قصر المونيدا الذي احترق في ذلك اليوم. مهزلة مروِّعة، جديرة بهالوين، كانت مهزلة نظامٍ أمِلَ في أن يكون اجتماعياً، ديمقراطياً، وعادلاً.

من نسي أن بينوشيه نُصِّب من أجل ضمان حرية عبور المستوردات من الموز الأمريكي؟

من وراء اللازمة الجديدة التي ترتسم – لازمة صدمة حضارات تبعث من جديد إمبراطورية إسلامية نعرف جميعاً أنها لم توجد إلا لتزول سريعاً – هو لون جديد من ألوان الحرب الباردة يعود بحشود متلاعبيه، ومضلِّليه، ومحقِّقيه، وملحقيه العسكريين. والدول التي لن تقبل أن تمتثل لنصائح السفراء الأمريكيين سوف تشهد انعدام استقرارها أو عزلَها عن الأمم المتحضِّرة. وإذا اتفق لها أن تصرَّ على مواقفها فلن يتورع البنتاغون عن إعادتها إلى "العصر الحجري" (مع أنها لم تخرج منه بعد!). والمشايعون سوف يستفيدون من تسهيلات اعتمادات مدعومة (افهم: لشراء معدات أمريكية!). وأمريكا اللاتينية لم تخرج بعد من حلقة الكرم هذه، التي سوف تستمر طويلاً في دفع فوائدها.

ما العمل المتبقِّي إذن؟

الذي يحصي العصيَّ ليس كمن يتلقَّاها على جنبيه: فما ألذَّ أن ننظر من اليابسة، عندما تتلاعب ريح عاتية بأمواج اليمِّ الواسع، إلى مصائب الآخرين الرهيبة.

أنصح بقراءة أورويل أيضاً وأيضاً: "الكلمة الفصل هنا هي أسودأبيض. فلهذه الكلمة، كالعديد من الكلمات اللغجديدة، معنيان متناقضان. إذا طُبِّقَت على خصم، فإنها تشير إلى عادة الادعاء صلفاً أن الأبيض أسود، بعكس الوقائع البيِّنات. وهي، إذا طُبِّقَت على أحد أعضاء الحزب، فإنها تشير أيضاً إلى قابلية الظن بأن الأسود أبيض، لا بل، ومعرفة أن الأسود أبيض، ونسيان أننا اعتقدنا غير ذلك ذات يوم. وهذا الموقف يتطلب تغييراً مستمراً للماضي، الذي تجعله ممكناً المنظومة الذهنية التي تحيط فعلاً بكل ما تبقى والمعروفة في اللغجديدة باسم الفكر المزدوج."

لقد بلغ الأمر ذلك أو كاد.

في لعبة الشطرنج الكبرى هذه التي تنتظم اليوم، قليلة هي الدول المَلِكات، والحصان صار هو الملك. الولايات المتحدة، الصين، روسيا، الهند وأوروبا سوف تلعب ببيادقها. أما بقية العالم فسيكون ملعوباً. الصين إمبراطورية. وروسيا تسعى لأن تصير كذلك. أما الهند فلا تُسمِع صوتها كثيراً. بقيت أوروبا. فماذا يمكن أن نأمل من أوروبا؟

كل شيء. وبدون الوقوع في الوهم.

إنها تجمُّع من أمم، تسري فيها التعددية الثقافية منذ قرون.

أوروبا لا تعني بعد أن التاريخ قد انتهى؛ فهذه النهاية ليست إلا الشكل ما بعد الحداثي للفاشية.

أوروبا لا تعني بعد تناسي الأغلاط وتكرار الإساءات، بما هي قراءة كويكرية للأناجيل.

أوروبا لا تعني الرهان على مؤسسات أقليَّات نخرها المال–الملك.

أوروبا لا تعني الخنوع للأشكال الأكثر تنوعاً من الظلامية الطائفية.

أوروبا هي وريثة البحر المتوسط. فنحوها يتوجَّه الذين يريدون ببساطة أن يعيشوا. وهي أيضاً وريثة عدد من الحروب. فإليها يلجأ أولئك الحالمون بالسلام. لقد شدَّتها إمبراطورياتها إلى تاريخ العالم، ومآسيها قد دنَّستها وطهَّرتها.

أوروبا هي جماعة من دول القانون، تسهر فيها مؤسسات فوقومية supranationales على شرعية الإجراءات. وهي، مهما قيل، جماعة من الدول يسهر فيها مواطنون غيارى، عديدين، على احترام المبادئ والحقوق الأساسية.

ففي أوروبا لم يعد حق الاقتراع الحصري، على طريقة كبار المنتَخِبين، موجوداً منذ قرون. فالأغلبيات تفوز عندما تَنتخِب، بينما تخسر الأقليات عندما يعوزها العدد الكافي من المنتَخِبين. ولعله يتاح يوماً للمهاجرين أن يصوِّتوا.

والأحكام لا يُنطَق بها باسم الله المنتقم، ولا تفسَّر كذلك في ضوء القيود الفكرية للآباء المؤسِّسين. ذلك أنه توجد دساتير تبتُّ في الأمور ومبادئ أساسية تتعدَّاها.

لذا ينبغي بناء أوروبا. وذلك لا يتطلب حتى تدمير قرطاجنة. وما همَّنا إذا كانت أوروبا مالية، حقوقية، أو عسكرية. فهي سوف تبقى دائماً، بفضل نضال مواطنيها، اجتماعية وحرَّة.

ينبغي على الأوروبيين أن يبنوها. بلغاتهم جميعاً.

وليرفضوا أن يؤخَذوا أسرى على الماي فلاور باسم الخير، أو باسم الشر، أو باسم عملة تُعلِن إيمانها بالله.

بيد أنه لابد من الانتظار. الإقلال من مشاهدة التلفزيون، الإكثار من الاستماع والقراءة، والعودة إلى المعنى الأصلي للديمقراطية التشاركية. النضال ضد أولئك الذين يريدون أن ينشروا أوروبا بأي ثمن، ضد مَن لا مشاريع عندهم، بل مصالح.

ينبغي تكوينها.

في هذه اللحظة، بدأت التحقيقات والتوقيفات. ولعله يحسن بنا أن نذكر أن عدداً من هؤلاء "الإرهابيين" كانوا هنا في فرنسا تحت مذكَّرة إحضار، بينما ارتأت ألمانيا وإنكلترا والولايات المتحدة أن من الفطنة عدم تسليمهم، خوفاً، ربما، من رؤية حقوقهم بعدالة منصِفة منتهَكةً في هذا الجزء من القارة.

يحسن بنا التذكير أنه في هذا البلد، إذا زعم المرء أنْ ليست لديه إلا أفكار بسيطة، فقد دُعِمت هنا، على الرغم من كل شيء، وسطياً، أنظمة دكتاتورية قطعاً، لكنها تقدمية، علمانية، وآخذة بالتعددية الدينية.

لماذا نخفي ذلك، والذين كانوا يضحكون أمس باتوا يبكون اليوم؟

على أنه لابد للأسف من المزيد من الانتظار.

وإلى الخارجية الأمريكية نرفع صلواتنا.

قبلئذٍ بأمد بعيد، في عصر خالٍ شهدته كل الإمبراطوريات، استفاقت دول غنية، متحضِّرة، ومقتدرة، في قصور في إسبانيا. بيد أن العالم كان قد تغير، ومجد الأيام الخوالي صار جَزَع اليوم.

يومذاك كتب شاعر أندلسي هو أبو البقاء الرُّندي البيتين التاليين

لكل شيء إذا ما تمَّ نقصـانُ        فلا يُغَرَّ بطيب العيش إنسانُ

هي الأمور كما شاهدتُها دولٌ       مَنْ سَرَّه زمنٌ ساءَتْه أزمانُ

وبعد بوقت طويل، فلنقرأ أبيات بول فاليري:

نحن المدنيَّات،

بتنا نعلم الآن،

ومنذ الأزل،

أننا فانيات...

*** *** ***


* الآراء الواردة في هذا المقال تعبِّر عن وجهة نظر صاحبها، وليس عن وجهة نظر هيئة التحرير.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود