french arabic

 

الحياة الحقيقية هي مواجهة اللحظة

 

لقاء مع إريك باريه

 

الذهاب إليه أصل الجهل؛ المقام فيه أصل المعرفة.

ابن عربي، الفتوحات المكِّية

 

ماذا بوسعك أن تقول لنا، هنا في مقاطعة الكيبك وفي كندا، تعريفًا بالشيفاوية الكشميرية التي تنهل منها منذ سنوات طوال؟

إنها واحدة من صياغات الهندوسية. فإذا شئنا أن نكون مغالين في السطحية لقلنا بأن الجانب الميتافيزيقي من الهندوسية قد تمَّت صياغته في الشيفاوية [نسبة إلى الإله شيفا]، والجانب الأكثر تديُّنًا في الفشناوية [نسبة إلى الإله فشنو]، والجانب – لنقُلْ – اليوغي، فيما يسمَّى بالـ"شكتية"، أي عبادة الإلهة. لكن هذا كلَّه يبقى على السطح؛ إذ توجد عناصر ميتافيزيقية في الفشناوية، وعناصر دينية، شعائرية، في الشيفاوية، كما توجد في عبادة الإلهة. بالوسع القول إن رجلاً نقليًّا يحمل سمات الشيفاوية، أي يستشعر اللاثنوية، ويسلك في العالم كـ"فشناوي"، أي يحترم تعبيرات الحياة كافة، وفي قلبه يعبد الإلهة، أي يكرِّم الماهية بتحرير الطاقات الإلهية التي تكوِّنه.

التعريفات، التصنيفات، عمقيًّا، ألا تهمك؟

قد يهمني هذا على صعيد معيَّن، لكن هذا – قطعًا – لا يمتُّ إلى الحياة الحقيقية.

كيف استطعتَ أن تطبِّق الشيفاوية في حياتك؟

عندما يُخترَق المرءُ بتلاوين معينة، برؤى للأشياء بعينها، فإن هذا يولِّد فيه الحب. نحن نحب دومًا ما يخترقنا. في المحبة، تصير مماثلاً لما تحب، تعبيراتٍ، ومواقفَ، وحتى على صعيد الاستجابات الداخلية. لا شيء يتم منذئذٍ على نحوٍ إرادي. عندما تهوى تراثًا نقليًّا ما فإن هذه المحبة العميقة هي التي سوف تنتج مَوْضَعَة عضوية.

هل يضايقك بعض الشيء عندما يُطلَب منك أن تتكلم على حياتك الشخصية؟

هذا لا يضايقني. لكن ما يحدث لي شخصيًّا لا أهمية له، لا بالنسبة لي ولا بالنسبة إلى بيئتي. إن تعميق طريقة الشيفاوي هي التي تهمنا هنا.

هل لك أن تكلمنا على علاقتك بالله، بالألوهية؟ هل تعتقد في آنٍ معًا بإله لاشخصي وبإله شخصي؟

كلمة الله مجرد تصور. عندما يرتفع عنكِ تصور "الله" فمن الممكن أن تبقى حميمية ما. لكن الحميمية غير قابلة للصياغة مطلقًا في عبارات. الإله الذي يتكلم عليه إكهَرْت محض إصغاء، لكن ليست له لحية بيضاء!

إنه، إذن، ليس إلهًا بشري الشكل، شخصيَّا؟

آلهة الهند ليست اختراعات تصورية؛ إنها عناصر ماثلة بين حالتين، بين حالة الصحو وحالة النوم العميق، بين حالة النوم العميق وحالة الحلم. وعندما تَهَبين ذاتكِ، من حيث تدرين، إلى هذه اللحظات فإن هذا العالم اللطيف بأسره يمكن أن يحيا فيكِ. لكن كلمة الله لا تتدخل. ليست هناك ديدان وحلزونات وأسماك وبشر وملائكة وحسب؛ هناك أشياء أخرى كثيرة، ولدى العبور بين الحالات المذكورة تتم هذه الصلات. في اليوغا يتم استكشاف الجسمانية والنفسانية؛ فكل هذه العناصر ذات النقاء الكبير متجسِّدة، إلى حدٍّ معين، في نواحٍ معينة من الجسم ومرتبطة بها.

ماذا تعني؟

أعني أننا لسنا في حاجة إلى ركب الطائرة لأداء الحج إلى فارَنَسي [مدينة مقدسة في الهند] وزيارة محارق الجثامين فيها. فهذا كلُّه محمول في النفس. التلاوين، الروائح، الأذواق، المَلامِس، الأصوات، تقابل هذه المراتب للألوهية. الجسم معمول من هذه الأصوات والروائح والأذواق والإدراكات. وعندما نتخلى طوعًا عن الجسمانية المصنوعة من الدفاعات والمخاوف والرغبات والتعلقات فإن جسمانية جديدة تحضر، جسمانية كونية. في تلك اللحظة، تتملكنا قناعة حميمة بما يمكن أن تعنيه عبارة "العالم موجود في الذات". وهذا ليس تصورًا.

فما هي، برأيك، الطريق الأكثر مباشرة لبلوغ إدراك الإلهي؟

هي القبول التام لغياب الإلهي. هي استيعاؤكِ أن حِراكيَّتكِ لا تني تقوم على الرفض والتأجيل. هي استيعاؤكِ أنك تحيين في الذاكرة وحسب، أن الجسم لا يني يحيا في الجذب–النبذ، في الخوف، أن المرء لا يني يكون مرجعية لنفسه. رؤيا غياب الله هذه هي أول انعكاسات الألوهية.

كان رجل يتشكَّى من حرمانه من الله فأجابته [الحكيمة الهندية] ما أنندا ماي: "أنت الآن موجود في الحالة التي يعبِّر فيها الله عن نفسه بغيابه." هذا انعكاس، مثله كمثل الانعكاسات الأخرى: ينعكس الله أولاً بوصفه غيابًا، ثم بوصفه حضورًا، ثم، إذا حظي الذي أدرك غيابَ الله فحضورَه بنعمة التخلِّي، يبقى هناك يقين.

تلكم هي الطاعة الكاملة التي تكلم عليها إكْهَرْت، ذلكم هو هذا القبول، هو الله الذي يتعالى على الإله الخالق والمخلوق. الإله الخالق إله محدود. ثمة شيء يوجد فيما يتعدى الإله الخالق، فيما يتعدى المخلوقات: إنه الإله الحق، وهو بلا شكل. وهو ليس حكرًا على أي دين، وكل الأديان ترجع إليه. إنه النور الذي يضيء حالات الصحو والحلم والنوم العميق.

إنه ما يجعلكِ تجيبين، إذا سُئلتِ على حين غرة "هل أنت موجودة؟"، بنعم. تقولين: "أنا." ذلك هو الانعكاس الظاهري لهذا الإله. إنه ليس "أنا هذا... أنا ذاك...". فقط: "أنا." إنه القلب.

عندما يحيِّيكِ مسلمٌ فإنه يلمس قلبه بيده. إنه الصمت العميق الذي تشترك فيه المنقولات جميعًا. ليس هناك قلب مسيحي ولا قلب هندوسي.

والصحوة، هل تشترك فيها المنقولات جميعًا؟

المنقولات جميعًا تكلمت على التواضع.

الصحوة هي التواضع، هي الكفُّ عن ادِّعائكِ أنكِ هذه أو تلك، الكفُّ عن ادِّعائكِ أنك كاتبة، الكفُّ عن ادِّعائكِ أنك تقودين حياتك، وتبيُّن أن تيار الأشياء حاضر، والاستسلام لهذا التيار بدون تعمُّد القيادة. عندما تقرأين ابن عطاء الله السكندري، ليمن بانغ، أو الـريبهو غيتا، تجدين ذلك الصمت نفسه، ذلك التواضع عينه، اللذين يرأسان التعبير. لكنْ ليس ثمة صحوة شخصية. عندما كان إكْهَرْت يُنهي عظته كان يقول دومًا، في صورة أو في أخرى: "فلنصلِّ لكي تتجسَّد هذه الحقيقة فينا." إنه لم يزعم قط أنه مقيم في الحق.

أقول هذا لأن هذا المفهوم عن الصحوة، كما نعرفه في أمريكا الشمالية أو في الغرب، يتخذ معنى أكثر إفراطًا بكثير، إذا جاز لي القول...

هذه تجارة. أولئك [المبشرون بهذا المفهوم] يطلبون الأوسمة، وسام جوقة الشرف! لقد بتنا نعلم حقَّ العلم الآن أن جوقة الشرف لا تعني شيئًا يُذكَر.

... تعني جوقة شرف الروحانية؟

أجل! أناس كثيرون تقلَّدوا، إذن، جوقة الشرف. فمن السهل شراء امرأة شابة جميلة؛ من السهل في مجتمعنا كسب مال وفير. وأخيرًا، العنصر الأخير... باتت الصحوة تُشترى. لكنها ليست باهظة الثمن.

أو يمكن لها أن تكون باهظ الثمن.

إنها سلعة كأية سلعة أخرى. الصحوة الشخصية هي قصور في الفهم. الصحوة هي التحقق من أنه ليس ثمة مَن يستطيع أن يصحو. إذ ذاك تجدين نفسكِ في برهة من التواضع الكامل. قولك "أنا صاحية" قول زائف، لا معنى له.

أليست هناك آثار فسيولوجية ترافق هذا التواضع الذي يأتينا فجأة؟ وقبلئذٍ، هل ثمة مفاجأة؟ هذا كليشيه آخر فيما يتعلق بالصحوة هنا. يقال إنه شيء يأتينا فجأة ترافقه، علاوة على ذلك، ظواهر نورانية وغيرها. سِرْك متكامل في الواقع...

ثمة درجات في نسبية الجهل. أي أن بوسعكِ أن تلحظي نوعًا ما من التطهُّر. قبل خمس سنوات، عندما كان رجلٌ يترككِ، كنت تكتئبين فترة لا يستهان بها. وإذا اتفق للرجل التالي أن يتركك سوف تكتئبين مدة خمسة عشر يومًا، ثم مدة يومين. قبل عشر سنوات، إذا اتفق لكِ أن تجدي نفسكِ بلا مال وعليك دفع إيجار بيتكِ، كان هذا ليخرجكِ عن طوركِ. وذات يوم، تجدين نفسكِ بلا مال وعليكِ تسديد إيجار بيتكِ، لكنكِ تخرجين وتنظرين إلى السماء وتشعرين بالسعادة. لا مراء في أن المرء يدرك نوعًا من السكينة تستتب فيما يمكن أن نسميه طريقة روحية. في وسعكِ أن تتبيَّني إلى أيِّ حدًّ، في فترة خالية، كان جسمكِ في ارتكاس دائم، في توتر مستمر. كنتِ تنامين ثماني ساعات كل ليلة وتستيقظين متعبة. بوسعك أنِ تتبيَّني أنكِ في فترة لاحقة صرتِ تنامين ثلث هذه المدة وتستيقظين بعدها حاضرة تمامًا. إذا قيل للمرء بأنه رجل أحمق فما من ناحية من جسمه تهتز من جراء هذا التعليق. بوسع المرء أن يتبيَّن هذا تمامًا. إنه رصد محض موضوعي.

على صعيد الأثر الفسيولوجي للصحوة، قال معلِّمي بأنه فعلاً، في أعقاب فهم تام، يتغلغل التحوُّل في الخلايا كافة وتحدث مناغمة جسمانية وذهنية. لم يُلفَت النظر إلى هذه الظاهرة إلا في الهند. في البوذية وفي الإسلام قلما جرى ذلك؛ أما في المنقول المسيحي فلم يُشدَّد قط على هذا الاستظهار – لسبب أصيل أنه ليس بذي أهمية على الإطلاق. عندما يتحرر المرء من نفسه، إذا اتفق لإعادة موازنة أن تتم في جسمه، وإذ تحولت نفسانيَّتُه، فإن هذا لا يخُّصه لأنه لم يعد شخصًا.

الصحوة مباغتة، في حين أن تحول الجسم، في الزمكان، متدرِّج. لا حاجة حتى إلى الكلام عليه، بمعنى أن طلب الصحوة ليس التفتيش عن تعبيرات عنها. إنها، عمقيًّا، استشعار الحرية. وهذا لا يمت بصلة إلى أثر ما. وبالوسع القول إنه يكاد يكون من المؤسف أن تكون ثمة مثل هذه الآثار. الأهم هو أن يشعر المرء أنه حر.

الذهن وحده هو الذي لا يني يسعى إلى مغامرة جديدة أو المغامرة نفسها غير المحققة أبدًا، مغامرة الانضمام إلى الروح، بينما يظل الجسم موجودًا – مغامرة الذهاب من السطحي إلى العميق.

أجل. ولكن من منظار المشرق، لا يوجد جسم وروح: إنهما شيء واحد. أما في الغرب، فقد توهَّم القوم أن الجسم والروح مختلفين. الجسم هو الدماغ. والدماغ هو الفكر. والجسم والفكر شيء واحد. ليس ثمة فرق. ربما كان ثمة أناس ذوو طريقة سطحية؛ لكن الطريقة السطحية، من منظار طريقة عميقة، ما هي إلا تمويه. بوسع بعضهم أن يظنوا أن طريقتهم سطحية، لكن هذا سيصير، عاجلاً أم آجلاً، إلى طريقة عميقة. يجب عدم الحكم على التوجُّه الإنساني. كل إنسان يتبع مسيرته بحسب قوانينه هو. ليس هناك طريقان متماثلان. إذ ذاك فإن الكلام على السطحية والعمق لا يقع إلا تحت باب الشرح.

أظن أن [نسرغاداتَّا] مهراج [حكيم هندي] هو القائل بأن القديسين كانوا في ماضيهم أبالسة وأن الأبالسة هم قديسو المستقبل. وحده الزمن يجيز لنا إطلاق نعت. لن أقحم نفسي في جدال كهذا لأنه لا وقت ثمة، ولكن، على صعيد معين، يجوز أن نقول ذلك. إذن، سطحي، عميق... هذا كله عديم المعنى.

فيما يتعدى غرائبية روحية معينة، كيف يمكن للشيفاوية أن تتحقق في حياة الأمريكيين الشماليين؟

البشر جميعًا يطلبون الشيء نفسه، يسعون إلى الشيء نفسه. كلهم يريدون أن يكونوا سعداء، كلهم يريدون أن يشعروا بالرضى؛ هذا ما يجتمع عليه البشر قاطبة. هذا ما يجعلكِ لست قطة. فالقطة على الأريكة تنعم بالرضى التام. أما الإنسان فيتحرَّق من تمام عدم رضاه. فبعد أن ينعم بهنيهة من الرضى لا بدَّ، عاجلاً أم آجلاً، أن يفتش عن شيء آخر – وهذا لأنه يستشعر هذه الحرية ويطلبها بكل ما أوتى من وسائل: بالحرب، بالسِّلم، بكل الشذوذات الممكنة. وبذلك فإن نضجًا يتم فيه. إنكِ تفتشين في الاتجاه الصحيح.

إذا استطاعت الشيفاوية الكشميرية أن تحرض عند بعض الأشخاص تساؤلاً أو تساعدهم على تدقيق الأمر فهذا بديع. إذا قرأتِ عظات إكْهَرْت فالأمر سيَّان. ما يهم هو أن تتم صياغة منقول روحي ما في العصر الذي تُستَشعَر فيه هذه الحاجة. عندما تقرأين إكْهَرْت فإن هذه المَوْضَعَة تتم تلقائيًّا لأنها نصوص عظيمة. عندما تقرأين نصوصًا كثيرة التداول لا بدَّ من القيام بالمَوْضَعَة، الأمر الذي يتطلب أحيانًا وجود شخص يقوم بالمَوْضَعَة عنك، مرشد روحي.

أتعتقد أن بوسع المعلِّم الروحي أن يعين "التلميذ" على التحرر؟

لا. لكنْ بوسعه أن يعين الشخص الذي يلتقي به على تبيُّن أنه ليس متحررًا، وعلى تبيُّن صراعاته الداخلية ونقائصه بصورة أفضل. وهو سوف يقوده إلى استيعاء مبلغ ضيق حياته ومبلغ تشوُّقه إلى ما يتعدى المحدودية. لكن ليس ثمة صحوة، وبالتالي ليس ثمة مَن يصحو، وبالتالي ليس ثمة شخص يتلقى العون. الأمر عبارة عن سيرورة نضج، كما لو أن طفلاً صغيرًا يطلب أشياء معينة فتروين له أسطورة؛ وبعد أربع سنوات، عندما يطرح السؤال عينه، تروين له أسطورة أخرى أكثر جوهرية؛ إلى أن يحين يوم تستطيعين فيه أن تعبِّري له عن الأشياء تعبيرًا أكثر مباشرة. المرشد الروحي هو مَن يساعدك في صياغتك، في تساؤلك، في تدقيق نفسك.

أتعتقد أن من الضروري اتخاذ مرشد، بدونه يعاني المرء مرارًا أو تكرارًا من الضلال، أو حتى من ركود؟

المسألة غير مطروحة، كما لو أنك تسألين: "هل من الضروري للمرء أن يعشق؟" إما أن تعشقي وإما أن لا تعشقي. تلتقين بأحد أو لا تلتقين به. إذا التقيتِ به فهذا عظيم؛ وإذا لم تلتقي به فهذا عظيم كذلك.

هل بوسع المعلِّم أن يعيننا على إخماد ضجيج العالم؟

لا. عندما يخمد ضجيج العالم، عندئذٍ فإنك تلتقين بمَن ينبغي أن يعِينَك.

مرارًا ما يقال بأنه هو الذي يفتش عنَّا، ولسنا نحن الذين نفتش عنه؛ الأمر عبارة عن تلاقٍ.

إنه تيار. تيار يتولَّى أمركِ. هناك فارق كبير، فارق تام، فارق مطلق، بين المعلِّم وبين المرشد الروحي. المعلِّم هو مَن نسميه غورو [بالسنسكريتية: "كاشح العتمة"]. الغورو هو المقيم تمامًا في الحق، وينعكس حضورُه في حضور التلميذ. تعليمُه لا معنى له مطلقًا: فهو لا يعلِّم. كيانه وحده هو تعليمه. بعض المعلِّمين يصوغ عبارات، يجيب على أسئلة؛ وبعضهم الآخر لا يجيب. وكلام الذين يجيبون منهم ليس تعليمهم الحقيقي.

أما المرشد الروحي فهو مَن استشعر الحق استشعارًا عميقًا وتبيَّن تناقضاته الداخلية؛ لكنه ليس مقيمًا في الحق عن معرفة. إنه يختبر لحظات تمر فيها، من خلاله، عناصر فائقة لقدراته ويمكن لتعليم، لتيار ما، أن يعبِّر عن نفسه بواسطته؛ وهو بهذه المثابة يستطيع أن يشارك أحد أصدقائه مَسارَه. هذا ما يُسمَّى أوبا غورو، وهو يساعد على تدقيق السؤال الأساسي. لكن وحده مالكُ الحقِّ في منزلة الغورو في الهند مقيمٌ في الحق؛ مَن لم يعد يستطيع أبدًا أن يعود إلى أيِّ أداء شخصي؛ مَن ليس لرغبة أو لخوف أن يطاله أبدًا – وإلا فإن هذا يعني أن الشخص ما زال فيه أداء شخصي، محدود، ارتكاسي.

يقول المعلِّم إكُهَرْت عن القديس بولس بكل وضوح: "عندما غادرتْه النعمة، بقي على ما كان عليه": رجلاً مسكينًا.

لا رغبة ثمة عند المعلِّم. ليس للمعلِّم أنية تأتي من حين لآخر ثم تنصرف.

ولكن مادام هناك شخص أليس ثمة أنية؟

أجل. ولكن عند المعلَّم لم يعد ثمة شخص.

على ذلك فلا بدَّ أنهم [المعلِّمون] شديدو الندرة، أليسوا كذلك؟

أمثال المعلِّم إكْهَرْت ثلة صغيرة فعلاً. لكن وجود واحد فقط يكفي للبرهان على هذه الإمكانية. عندما تلتقين بمثل هذا الكائن الذي لا يدَّعي شيئًا، ولا يعلِّم شيئًا، ولا يطلب شيئًا، فإنك تنقدحين. وهذا ما يهم.

هل ترى أننا في الغرب مسكونون بشخص مثل ديكارت أكثر مما نحن مسكونون بالله؟

الله هو الذي ينير الحياة. أما ديكارت فغير موجود.

مع ذلك فهو القائل: "أنا أفكر، إذن أنا موجود."

نعم، الناس يقولون أشياء كثيرة.

لكن ديكارت وَسَم الغرب بِسِمَتِه.

لا. لقد وَسَمَ عددًا من أساتذة الجامعات الذي يحتاجون إلى كسب معاشهم.

... والفلسفة، في الحدِّ الأدنى.

عندما يُنتزَع منك طفلُك ويقطَّع إربًا أمامك فإنك لا تهتمين كثيرًا بما يقوله ديكارت. الحياة لا تهتم بعاهات الفلاسفة الفرنسيين.

إننا نعيش عصرًا شديد القتامة – له، من جراء ذلك نفسه، جانبُه المضيء – لكنه قاتم على الصعيد السياسي والاجتماعي. هل ترى أن ثمة أمل يُرتَجى للخروج من أزمة نهاية القرن والألفية هذه؟

آمل ألا يكون ثمة أمل كهذا لأن ما هو قاتم، في المآل، هو البحث الروحي المزعوم. ما هو قاتم، هو رؤية أساتذة اليوغا عند كل منعطف شارع. ما هو قاتم هو "الوساطة الروحية". ما هو قاتم هو البحث الروحي العصري، هو ذلك اللون من الهروب من الآن. بالمقابل فإن ما هو رائع، ما هو "مبشِّر"، هي الحرب الدانية، هي الكوارث القادمة، لأنها تشكِّك بعمق في الكائن البشري، ترغمه على طرح الأسئلة الصحيحة. أما كل ما تبقى فيبقيه على سباته.

لذا يجب عليه أن يكون على بيِّنة أن حال العالم هي فرصته. إذا كانت الآلهة تغدق على العالم هذه الأحداث فهي الهدية الكبرى. بكل أسف هناك عصور تكون فيها الكوارث هي السبيل الأوحد إلى فرض التساؤل. الآلهة، من فرط كرمها، سوف تعيننا، على ما أظن، في هذا الاتجاه أكثر فأكثر. كل رومانسية اليوغا هذه، رومانسية المشرق، الروحانية، كل هذه الرياضات الروحية القائمة على التقدم، على التطهُّر، تعود حقًّا إلى العصر المظلم. إنها حقًّا باب من الفضة، من الطاقة. لكنها ذات يوم سوف تختفي تمامًا، وفي تلك اللحظة، ربما سنكون في حاجة إلى الكوارث لكي توقظنا.

من شأن آرائك أن تثير فضيحة...

الفاضح هو أن نوهم الناس بأنهم، بممارسة تمارين معينة، سيشعرون أنهم أحسن حالاً وأن تساؤلهم العميق سوف يستكين. هو أن نجعلهم يظنون أنهم باتباع هذا العلاج، بتبني ذاك المفهوم، أو بلبس ذلك الثوب من لون معين، بتعليق صورة غورو دارِج على جدار أو على صدورهم، فإن ذلك سوف يحرض تساؤلاً عميقًا. هذه هي الشعوذة بعينها.

الحياة الحقيقية هي مواجهة اللحظة. إن مختلف ممكنات النزاع تتجلَّى في العالم، والمرء يواجهها، ينظر إلى ما تمسُّه فيه، ينظر إلى ماهية الموت، الدمار. وبذلك يتبيَّن موقعه. عندما يتقوض بيتكِ، ويتحطم جسمكِ، وتُباد أسرتكِ، فإنك تتبيَّنين إلى أيِّ حدٍّ أنتِ حرة من نفسكِ أو لستِ كذلك. أما الجلوس في غرفة لممارسة اليوغا، ومضغ لقمة من الرز الكامل مئة مرة... بالطبع يتمتع المرء بصحة متينة لكن التساؤل ينعدم. إنها بلية حقيقية.

فهل يجب التألم من أجل التطور؟

لا، لا. يجب النظر. يجب السؤال. لستِ مجبرة على التألم عند وقوع كارثة. إنما يجب عليكِ النظر بعمق. ماذا يعني الألم عمقيًّا، وكيف يعمل ذلك فيكِ؟ ما هو جسمكِ؟ ما هي صلتكِ به؟ عندما يتوجع جسمكِ ماذا يحصل؟ عندما يتنفس جسمكِ ماذا يجري؟ رؤية هذا كلِّه من الأهمية بمكان. ينبغي أن تكون ثمة مُساءلة للَّحظة. والحياة هي التي تجلب التساؤل.

لم أقصد مما قلت بأن كافة التعبيرات التي تكلَّمنا عليها مؤذية، إنما لنقل بأن أكثر من 99% منها مؤذٍ فعلاً. أما إذا نظرنا إلى الأشياء نظرة مختلفة فيجوز أن نقول بأن هذا مراد من الآلهة حتى لا يكون الواحد بالمئة ذاك في متناول الناس، لا الذين لا يستأهلونه منهم، بل الذين ليسوا متمتعين بالقدرة على اقتباله. إذن يجب التنقيب في هذا الركام عما إذا كان ثمة شيء جدي. بالمثل فإنكِ تجدين في الهند أربعة أو خمسة ملايين من القديسين على الطرقات: 99% من هؤلاء الـسادهو [الزهَّاد] مجرمون، مرضى نفسيين، وأناس بسطاء. هناك فقط واحد بالمئة من الـسادهو ذوو عمق كبير جدًّا، وقيافتهم هي قيافة الآخرين عينها: عراة وعلى جباههم شيء من الرماد ويمسكون بأيديهم حربة مثلثة بحسب انتسابهم. وهذا الواحد بالمئة يتستر وراء الجمهور حتى يكون المريد الباحث فعلاً عن الحقيقة مجبرًا على استعمال طاقته وذائقته كلِّها لتمييز الـسادهو الأصيل. لهذا التلاطم في المشرق قيمته، إلى حدٍّ ما، من حيث إنه يستر شيئًا أعمق. إنها علامة من علامات الأزمنة، علامة انحطاط.

ما هو موقفك من رياضات الزهد؟

لا موقف عندي. لا بدَّ من وجود الملوك والمجرمين وسائقي التكسي والزهَّاد. إذا ولدتِ لكي تمتهني الخبازة فهذا بديع. إذا ولدتِ لكي تعتكفي في غار فهذا بديع أيضًا. فالعالم سوف يستفيد من صمتكِ. أما إذا شئتِ أن تصيري زاهدة لكي تصمتي فإن الهياج الذهني الدائم الذي سيعتمل فيكِ في غاركِ سيعكِّر عليك صفو جوِّك كلِّه. الزهد وظيفة كأية وظيفة أخرى. إنها وظيفة عضوية ليست أعلى مرتبة من وظيفة المومس أو المصرفي أو الجندي. إذا كنتِ عفيفة، إذا كنتِ زاهدة بطبيعتك كذلك، فإن هذا الميل يتجسد فيكِ في لحظة معينة من حياتك. وهذا رائع.

حياة الزاهد حياة جميلة جدًّا. الزاهد لا يتألم. الزاهد المتألم زاهد مزيف. الزاهد – وهذا بيِّن جدًّا – يحيا في الفرح. إنه لا يُنزِل بنفسه إماتات. إنه أسلوب حياة يساء فهمه. الزاهد يحيا في الفرح وحسب. فإذا أُنعِمَ على المرء أن يكون فيه هذا الميل فهذا رائع. أما أن يريد المرء أن يصير زاهدًا، أن يعيش في دير، أن يعتزل العالم بقصد أن يفهم، فهذا ضرب من ضروب الغباء ومجرد تعويض. اذهبي إلى دير، وراقبي الرهبان، واستمعي إلى أحلامهم وكيف يعنِّفون رغباتهم الجنسية، يعنِّفون حياتهم كلها. الأمر غالبًا كارثة. أما إذا أتاكِ الأمر طبيعيًّا، عندئذٍ يكون رائعًا. إنها ليست وسيلة؛ إنها التعبير عن اكتفاء أخير. وهذا يمكن أيضًا أن يعبِّر عن نفسه عند مصرفي.

بحسب تصور الشيفاوية، كل ما هو لذة، سعادة، يقرِّبنا من الإلهي.

عندما يشعر الجسم بلذة كبيرة جدًّا فإن كل شيء ينبسط. وعندما يكون ثمة ألم فإن كل شي ينقبض. على صعيد معين، اللذة، الفرح، أقرب إلى الفرح النهائي من الألم. البسط مؤاتٍ أكثر من القبض.

واللذة الجنسية؟

اللذة الجنسية لذة عميقة جدًّا. فإذا كنَّا نعرف الفنَّ ونتبيَّن أنه ما من أحد باقٍ لكي يتمتع، فإن الشريكين، في لحظة معينة، يفنيان تمامًا ولا يبقى إلا الاهتزاز والفرح. إنها اللذة الأقرب إلى الإلهي. ومن شأنها أن تنقلب وتصير رعشة روحية عميقة، من حيث إنكِ، حين تحبين، فإنكِ تزهدين في نفسكِ. فإذا قرَّب كلٌّ من الشريكين نفسه للآخر، فإن القربانين، في لحظة معينة، يتلاغيان ويتحولان بالكلِّية.

 

أما إذا كان الجماع أنانيًّا، إذا كانت للرجل حاجة واشترى امرأة لتلبيتها، وإذا كانت المرأة في حاجة إلى الأمان فتزوجت رجلاً لأن هذا أكثر عملية، إذ ذاك فإن العلاقات الجنسية الناجمة عن ذلك مجرد علاقات جنسية لكنها ليست أفعال حب. فعل الحب هو التعبير الأسمى للأشياء. فليس بلا سبب يوجد نشيد الأناشيد عند المسيحيين، وليس بلا سبب كتب ابن عربي ترجمان الأشواق، أو عبَّر جلال الدين الرومي دومًا عن ذلك العنصر، أو كان هذا العنصر، في الهند، يحظى في التنترية [يوغا العشق] باحترام فائق. لكنه فن وليس فعلاً قهريًّا.

والجنسية المثلية، ماذا بوسعك أن تقول لنا فيها؟ ذلك أن العطاء يوجد أيضًا في الجنسية المثلية.

العطاء موجود في كلِّ مكان. الحياة هي العطاء. العطاء موجود أيضًا في الحرب. إذا نظرتِ عميقًا جدًّا فإن انتزاع الحياة من كائن بشري آخر هي أيضًا عطاء، تحرُّر؛ وهذا أيضًا تعليم كرشنا في الـغيتا. العطاء في كلِّ مكان. الجنسية المثلية في الهند محترمة جدًّا. فسيولوجيا كلٍّ من الرجل والمرأة، بالطبع، تجعل منهما متكاملين نوعًا ما. الجنسية المثلية "النفسية" غالبًا ما تكون دفاعًا؛ أما الجنسية المثلية "الجسدية"، العشقية، فليست إشكالية بالضرورة. منحوتات المعابد الهندية تُظهِر رهبانًا مع غلمان، مع خيول، مع إوزات. وهذه تنويعات عشقية محضة. لكلِّ شخص عشقيَّته المختلفة، الأمر الذي أتفهَّمه جيدًا جدًّا. أما أن يفكر المثليُّ في نفسه كمثليٍّ، ويريد نفسه مثليًّا، مثلما يجاهر السوي بجنسيته السوية، فهذا يمثل قصورًا.

إذن فأنت لا تعتقد بأنها مرض كما أراد بعضهم أن يزين لنا؟

مرارًا ما تكون الجنسية السوية أيضًا مرضًا، كالجنسية المثلية، سواء بسواء.

ختامًا، هل تعتقد بأن السكوت من ذهب والكلام من فضة؟

السكوت هو الكلام. الكلام هو السكوت. ما ثمة فرق. إنها النظرة. عندما نسمع عبارة أصيلة فإنها تجلب الصمت والصمت موجود في التعبيرات كافة. ما ثمة فرق.

*** *** ***

أجرت الحوار: كلير فاران

نقله إلى العربية: ديمتري أفييرينوس

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود