|
الإنسان
وأخلاقه الثلاث
نحو
أخلاق "ثالثة"
سمير
كوسا
يتعذَّر
في
هذا المجال الضيِّق تقديم عرض وافٍ لفلسفة
ستيفان لوباسكو (1900-1988) العلمية بكلِّ أبعادها، وهو قد
عَرَضَ لها وبسطها عبر ستة
عشر كتابًا وفي مقالات عديدة.* ولم يخطئ أحد الفلاسفة حين
قال عن لوباسكو إنه أشبه ما يكون بهيغل القرن
العشرين.
لم
يتبع لوباسكو أيَّ معلِّم فكري عندما طلع
بقوانين فلسفته الأساسية، بل اتبع في بحثه
مسيرة منطقية استنتاجية. ولا شكَّ في أن
الفيزياء الكوانتية، التي درسها لوباسكو في
العشرينات، كانت المصدر الأكبر في تشكيل
فلسفته، ولو أنه استقى من مصادر عدة أخرى،
كالفيزياء والبيولوجيا والفسيولوجيا
العصبية وعلم اللسانيات والفن إلخ. يمكن
تلخيص فلسفة لوباسكو بكلمتين: منطق الطاقة logique
de l’énergie.
فكلُّ شيء في الكون هو طاقة؛ وهذه الطاقة
انتظمت، في نهاية الأمر، في جُمَل مختلفة.
ويكمن سرُّ هذه التنظيمات في منطق الطاقة
ذاته، أي في القوانين التي تسمح لها
بالاجتماع. ولهذا يختلف منطق لوباسكو عن غيره. فالمنطق،
في شكل عام، استدلالي؛ في حين أن منطق لوباسكو
هو منطق البُنى (أو المنظومات) وتعددها
وديناميَّتها الطاقية. ونجد كلمات عدة تتكرر
دائمًا في كتابات لوباسكو وتسمح له بوصف
الطاقة في حالاتها المختلفة. نذكر من هذه
الكلمات العويصة: -
تحيين
أو تفعيل actualisation: وتعني جعل شيء ما حاليًّا
أو متحقِّقًّا actualisé. -
تكمين
potentialisation:
الانتقال من حالة التحقُّق إلى الكمون. -
مُجانَسة،
تجنيس homogénéisation:
سيادة طابع أو مستوى واحد في جملة ما. -
مُبايَنة، تَغايُر hétérogénéisation:
تعدد المستويات في جملة ما. -
تضاد contradiction. -
تناوئ، صراع، تناقض antagonisme. وتنطلق
فلسفة لوباسكو من قبول التضاد كحدٍّ واقعي في
كل جملة (أو منظومة). وتنتظم الطاقة في جُمَل
ثلاث رئيسية: 1.
المادة–الطاقة
الماكروفيزيقية أو الفيزيقية (المادة غير
الحية). تبيِّن
دراسةُ العالم المادي أنه يخضع للمبدأ الثاني
في الترموديناميكا القائل بتزايد الأنتروبيا
entropie في جملة معزولة. فكل طاقات
الجملة، من ميكانيكية وكهربائية (الطاقات
النبيلة!)، تتحول عقب التفاعلات العديدة إلى
طاقة حرارية (طاقة خسيسة!). وهذا يعني أن
الجملة تصير تدريجًا متجانسة، وفي صورة غير
عكوسة، لتمتلك في النهاية مستوى طاقة وحيد.
وحتى تتجانس جملة لا بدَّ من أن تكون في
البداية متنوعة أو متباينة. وهكذا،
يقول لوباسكو، كان التباين في البدء فعليًا،
ثم راح ينتقل شيئًا فشيئًا إلى حالة الكمون (تكمين).
في حين أن التجانس كان في البدء كامنًا وبدأ
في الظهور ليتحيَّن (أو يتفعَّل). وهكذا تمتلك
الطاقة خواص التحيين والتكمين. وتخضع كل جملة
أو تجربة لهما مع ما يرافقهما من تباين وتجانس.
فلكي يسقط حجر إلى الأرض، مثلاً، لا بدَّ من
أن تنتقل الطاقة الجاذبة من حالة الكمون إلى
حالة التحيين؛ وبالعكس، حتى نرفع حجرًا (بأية
وسيلة)، يجب أن نصرف طاقة في رفعه، وهي طاقة
كانت كامنة وحينَّاها لدى الرفع، كالقوة
العضلية، في حين أن الطاقة الجاذبة تصير
كامنة. 2.
المادة–الطاقة
البيولوجية أو البيوفيزيقية، أو فيزياء
الظواهر الحية. رأينا
أن النظام السابق يسير نحو تجانس مستمر؛ ولكن
يمكن لجملة ما أن تسلك طريقًا معاكسًا نحو
التباين والتنوع المستمرين، كالمادة الحية.
وقد سُمِّي هذا التباين المتزايد
بالإنتروبيا السالبة (عكس الإنتروبيا).
ويعتمد النشاط الطاقي في هذه الجُّمَل على
العناصر الذرية المعروفة، التي تقوم ببناء
منظومات متباينة أكثر فأكثر تعقيدًا، حتى نصل
إلى الكائنات الحية بأنواعها المتعددة. وما
يميِّز هذه الجُّمَل عن سابقاتها هو الطبيعة
الإحصائية لانتظام الطاقة؛ إذ نجد في
الجُّمَل الفيزيقية مادة متباينة، كما نجد في
الجُّمَل البيولوجية مادة متجانسة. إلا أن
سيادة إحدى هاتين الخاصيَّتين هي التي تحدد
المادة التي نحن في صددها، مع كلِّ ما يترتب
على ذلك. فالتحيين
الأعظمي للتجانس على التكمين الأصغري
للتباين يعطي النظام الفيزيقي؛ في حين أن
التحيين الأعظمي للتباين على التكمين
الأصغري للتجانس يعطي النظام البيولوجي.
وتتألف المادتان السابقتان من المادة–الطاقة
الذرية (أو فيزياء الذرة). نحن نعلم أن المادة
تتألف من ذرات تحتوي على نواة شحنتُها
الكهربائية موجبة، وتدور من حولها، في مدارات
مختلفة، إلكترونات شحنتُها سالبة. ويعود
اختلاف هذه المدارات إلى مبدأ باولي القائل
بأنه لا يمكن لقسيمين متماثلين، كإلكترونين،
أن يتواجدا في الحالة الكوانتية ذاتها. ولهذا
تتعدد المدارات وتتنوع الذرات. إن
الذرة هي جملة: جملة "النواة" وجملة "النواة
والإلكترونات". والجزيء هو جملة جُمَل: فكل
جزيء يتركب من ذرات. ويمكن أن نستمر في هذا
التعداد حتى نصل إلى الكواكب والنجوم
والمجرات إلخ. ولما
كانت الفوتونات لا تخضع لمبدأ باولي السابق –
إذ يمكنها أن تتواجد في الحالة ذاتها – فإن
تحول طاقة جُمَل "مادية" إلى طاقة
فوتونية يُعَدُّ تجانسًا في الطاقة، في حين
أن أساس تباينها هو مبدأ باولي السابق الذي
يمنح للطاقة نوعًا من الفردية. ويُعَدَّ هذا
المبدأ، بحسب لوباسكو، أساس كل مادة حية. 3.
المادة–الطاقة
في الحالة ث T (من "ثالث")،
وتشتمل على: المادة–الطاقة النووية أو
فيزياء النواة الذرية. تُظهِر
النواة وجودًا عنيفًا لديناميات متناقضة؛
ولهذا لا بدَّ، لكي نفتِّت، النواة من أن
نقصفها بجسيمات عظيمة الطاقة، تقوم بالإخلال
في توازن هذه التفاعلات القوية من خلال زيادة
قوة بعض الديناميَّات المتضادة والمتوازنة
أساسًا على حساب غيرها. وهكذا
تُعَدُّ مادة النواة "مادة ثالثة" تختلف
عن المادتين سابقتي الذكر. فنحن مع النواة في
قلب التناقض الأشد والمناوئة الأمنع. ويشكل
مبدأ التناقض، بحسب لوباسكو، الأساس
التكويني لكل طاقة ولكل جملة. فحتى تكون كمية
من الطاقة في حالة الكمون، وحتى تتحيَّن من
بعدها، لا بدَّ من وجود كمية طاقة مقابلة
ومتناقضة مع الأولى حتى تبقى على الأولى في
حالتها من خلال تحقُّقها الفعلي، ثم حتى تصير
كامنة وتتيح للأولى بأن تتحقق (أو تتحين). -
المادة العصبنفسية neuropsychique
أو فيزياء النفس: نجد
في الجهاز العصبي المركزي لدى الإنسان خواص
الطاقة السابقة: التضاد المنظم في خواص
التجانس والتباين مع عمليات التكمين
والتحيين المرافقة. وفي
حين يسود التجانس في قلب المادة
الماكروفيزيقية، ويسود التباين في قلب
المادة البيولوجية، فها هما تتواجدان سوية
على تضاد وتناقض في قلب المادة النفسية وقلب
المادة النووية. وقد سمَّى لوباسكو حالة
التوازن هذه، التي تمثل أكبر تركيز للطاقة،
الحالة ث – وهي حالة في منتصف الطريق بين
التكمين والتحيين. وخلاصة
القول، فإن منطق لوباسكو ذو ثلاثة حدود: 1.
منطق
ينطبق على المادة غير الحية (وما هو إلا منطق
أرسطو الذي نستخدمه في كل لحظة)؛ 2.
منطق ينطبق على
المادة الحية؛ 3.
وأخيرًا،
منطق الحالة ث. وفي
هذا المنطق الثالث (أو هذا الحد الثالث) يفقد
مبدأ الهوية صلاحيته؛ إذ يمكن لكلِّ جملة أن
تحتوي على عناصر متضادة تمامًا. وقد
صاغ لوباسكو هذه الحدود الثلاثة في حلَّة
رياضية لازمة لكلِّ تعامل حقيقي معها. وقد
تمكَّن لوباسكو بفلسفته هذه من أن يكتشف
المادة المضادة قبل أن يأتي العلماء على
ذكرها. أما المادة الثالثة فإن العلماء لم
يكتشفوها حتى الآن. والكتاب
الذي نعرضه**
ينطلق من وجود هذه الجُّمَل (أو المواد)
الثلاث في الإنسان، وبالتالي من تمكُّن
الإنسان على المستوى الفردي والجماعي من
اتباع ثلاثة أنواع من الأخلاق. وهكذا
يمكن أن نجد مجتمعًا متجانسًا، حيث تسود فكرة
واحدة ونهج واحد، ويموت كل إبداع حقيقي (كالدكتاتوريات).
أما المجتمع الثاني فهو مجتمع التباين
والتفكك: فلكلِّ فرد موقفُه الخاص ومعتقدُه
الخاص المتناقض مع المواقف والمعتقدات
والمشاعر الأخرى. أخيرًا المجتمع الثالث، وهو
مجتمع الحالة ث. وهذا المجتمع يقبل مواجهة
التضاد ليحياه بأبعاده كلِّها؛ أي أن هناك
نوعًا من التوازن بين التباين والتجانس. أما
القسم الثاني من الكتاب فعبارة عن حوار بين
لوباسكو وعالم الفيزياء بَسَراب نيكولسكو
والباحثة سولانج دومايي–نيل حول الأفكار
المطروحة في القسم الأول. وللأسف لم ينجح هذا
الحوار، على أهميَّته، من تحقيق الهدف
المنشود. فالذين لا يعرفون فلسفة لوباسكو سوف
يشعرون بنوع من التشتت؛ أما الذين ألِفوا هذه
الفلسفة فسينتابهم شعور بالتكرار المضجر. ولا
أستطيع في النهاية سوى إسداء النصح بقراءة
كتب لوباسكو المهمة، التي لم أوفِها أيَّ حق.
فلا شك في أنها ستكون، بكل أبعادها الثورية،
في القلب من فكر الألفية الثالثة وفلسفتها. *** تنضيد:
نبيل سلامة ملحق
مختارات
من الإنسان وأخلاقه الثلاث
"[...]
المنطق المثنَّى لا يستطيع أن يحيط بالتنوع
اللانهائي لتجلِّيات الطاقة في عالمنا: إن
فكر ستيفان لوباسكو، إذ دفع بمسلَّمات المنطق
الكلاسي إلى التقهقر حتى خنادقها الأخيرة،
فقد جعلنا نكتشف أنْ وحدَه المنطق المثلَّث
قادر على الإحاطة بالواقع في جملته. [...] كتاب الإنسان
وأخلاقه الثلاث يبسط مفاهيم المنطق
المثلَّث في مختلف المجالات التي تعلِّل
النشاط البشري حصرًا: الجسماني والبيولوجي،
ولكن أيضًا النفساني، في أشكاله المتنوعة:
الوجدان، الفن، الفلسفة، والسياسة، الدين...". *** مقتطفات
هامة من الكتاب:* *
نشير على القراء العرب
الراغبين بالتوسع في الاطلاع على فكر
المرحوم ستيفان لوباسكو بالعودة إلى كتاب:
بَسَراب نيكولسكو، العبرمناهجية:
بيان، بتقديم أدونيس
وترجمة ديمتري أفييرينوس، دار مكتبة
إيزيس، دمشق 2000، ولا سيما ص 33-42؛ كما نحيل
قراء الفرنسية منهم إلى المؤلَّف الجماعي
عن لوباسكو الذي صدر بإشراف هوريا بدسكو
وبَسَراب نيكولسكو: Stéphane
Lupasco : l’homme et l’œuvre,
sous la direction de Horia Badescu et Basarab Nicolescu, Éditions
du Rocher, coll. « Transdisciplinarité », Monaco, 1999. **
Stéphane Lupasco, L’Homme et ses trois éthiques, avec la
collaboration de Solange de Mailly-Nesle et Basarab Nicolescu, Éditions
du Rocher, coll. « L’esprit et la matière », Monaco, 1986. *
بترجمة
ديمتري أفييرينوس.
|
|
|