next

 دراسات ثيوصوفية

(1 من 3)

 

جهاد الياس الشيخ

 

كلمة أولى

حاولت في هذه الدراسات، قدر الإمكان، إعطاء صورة واضحة عن التعاليم السرَّانية التي كُشِفت للعالم في الربع الأخير من القرن التاسع عشر على يد هيلينا بتروفنا بلافاتسكي Helena Petrovna Blavatsky ، مؤسِّسة الجمعية الثيوصوفية منذ مئة عام. فهذه التعاليم المحتواة ضمن الديانات العالمية كلِّها، والمغلَّفة بحجاب كثيف من الرموز والإشارات، أصبحت المحرِّض للإنسان الباحث في الأسرار ليتجرَّد من الحرف ويعتنق الروح، فيبدأ بالسير على الدرب الروحي.

لاشكَّ أن محتوى هذه الدراسات سيكون عويصاً بعض الشيء لمن لم يألف هذا النوع من الأبحاث. فقد قمت بدراستها لسنوات طويلة في فرنسا، حيث سنحت لي ظروف التعمق في الدراسات الثيوصوفية والالتقاء ببعض الرهبان الهندوس في مركز راماكريشنا في باريس. وقد قمت بالاستعانة ببعض الكتابات الثيوصوفية لبعض الأصدقاء في فرنسا، كما نوَّهت إلى ذلك في المصادر والمراجع، وقمت بترجمة بعض ما جاء فيها نظراً لأهميته – وخاصة فيما يتعلق بالإنسان ومَرْكَباته ("أجسامه") السبع – ولمزيد من التوضيح. وفي نهاية الدراسات أضفت ملحقاً عن الثيوصوفيا من تأليف صديق فرنسي، ارتحل من هذا العالم منذ بضع سنوات. وقد تكرَّم الصديق ديمتري أفييرينوس بنقله عن اللغة الفرنسية.

وبعد، فأرجو أن أكون قد حققت بذلك بعض الفائدة للقارئ العربي.*

***

1

تساؤلات

لم يَكنِ الإنسان يتساءل عن المغزى من وجوده في هذا الكون الشاسع، ولِمَ قُدِّر عليه البقاء ضمن دائرة مبهمة من التساؤلات التي لم يجد لها جواباً شافياً. من هذه التساؤلات ما يتعلق بعلَّة اضطراره إلى مغادرة هذا العالم "قسراً عنه" عند اقتراب هذا الشيء المدعو بـ"الموت"، ليطبِّق عليه قوانينه "غير المنطقية" التي لا ترحم. ففي رحاب هذا الكون المترامي الأطراف نشهد موت الأشياء كلِّها، بدءاً من النبتة الصغيرة إلى الإنسان، امتداداً إلى موت النجوم نفسها، وندرك أنه، عاجلاً أم آجلاً، لا مفرَّ لنا من تجرُّع هذه الكأس المُرَّة حتى آخر قطرة، مستسلمين للقدر الذي يبدو لنا وكأنه يعبث بمصيرنا، ويطيح كلَّ قوانين "المنطق" التي اعتدنا عليها. لكأننا – في جهلنا – نريد أن نطبِّق هذه القوانين التي اخترعناها على الموت نفسه! ولكن الكون الذي يسير حسب القانون الكلِّي الواحد، بتناغم وتوازن إلهيين، يتيح للموت أن يبقى صامتاً، صمت أبي الهول، أمام توسلاتنا بأن يتركنا "هنا" ويرحل عنا بعيداً.

إن ضيق أفق الإنسان يجعل منه شبيهاً بالبطل الأسطوري سيزيف الذي لا ينفك يدفع حتى قمة الجبل بالصخرة، التي لا تلبث أن تعود للانحدار إلى الأسفل، ليبدأ سيزيف محاولته من جديد للارتقاء بها إلى الأعلى، فيتكرر سقوطها، وهكذا دواليك في دوائر أبدية مغلقة. ولكن سرعان ما يتبين لنا – وكلُّنا سيزيف – استحالة تحقيق هذا الأمر ما دمنا نعتبر أن الصخرة منفصلة عن الجبل.

في أوقات التعب والإرهاق، وفي لحظات الصمت، يبدأ الإنسان بالتفكير من جديد في الوسيلة المثلى للانتصار على الموت. وهنا الخطيئة المميتة التي يرتكبها أغلب البشر. فالموت لم يكن – ولن يكون أبداً – عدوَّ للإنسان؛ بل هو جزء من النظام الكوني الذي وضعه الإله المطلق ليساعدنا على الوصول إلى الانعتاق من دائرة الوجود، دائرة الولادة والموت المتكرِّرة التي يطلق عليها الهندوس اسم سمسارا samsara. فكل ما هو موجود في الكون المتجلِّي خاضعٌ لمبدأ الثنائية، لمبدأ السلب والإيجاب، لمبدأ الخير والشر، لمبدأ الحياة والموت، لمبدأ النور والظلمة، لمبدأ الرحمن والشيطان. فبدون هذه الثنائية لا يمكن للحياة أن تستمر، وبالتالي لن يفهم الإنسان نفسه، ولن يفهم الكون المحيط به، وسيبقى خاضعاً للمؤثرات الخارجية التي تتلاعب به، وسيزداد مفهوم الانفصالية بينه وبين الكون الذي يحيا فيه، مما سيولد فيه الإحساس بالعبثية absurde، كما أشار إليها الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو في روايته الغريب L’étranger.

يفجعنا نبأ موت صديق عزيز علينا، ونبدأ بالتذمر من قسوة ذاك "الإله" الذي لا يتورع عن انتزاع طفل رضيع من بين ذراعي والدته، ويترك تلك الأم الثكلى تكفكف دموعها طوال حياتها وقد فقدت كل أمل بعودة الأشياء كما كانت سابقاً؛ ونبكي صديقاً فارقنا من هذه الحياة بشكل مفاجئ – وكأننا نحن باقون للأبد! – ونلوم الإله الذي يتلاعب بنا وبأحبائنا. ولكننا سرعان ما ننسى الأمر برمته تحت وطأة مشاغلنا اليومية واهتماماتنا المادية التي نتعلق بها بأنيابنا وأظافرنا، معتقدين أنها الضمانة الوحيدة لبقائنا سعداء في هذه الحياة، فننسى كل ما يتعلق بالموت لأننا نعتقد أنه بلية لا يُبتلى بها إلا "الآخرون"!

ما هو الموت؟ سؤال يتكرر على ألسنة الكبار والصغار، الأغنياء والفقراء، الصالحين والطالحين، لأن الجميع معني بالأمر؛ ولا يفيد شيئاً اتباع سياسة النعامة والتغاضي عن التفكُّر بالموضوع بهدوء وتعقل. بل بالأحرى يجب علينا التأمل بالعالم المحيط بنا لكي ندرك أنه لا يوجد شيء عبثي أو مصادفة في الكون، بل قانون أزلي، سرمدي، يوجِّه وينظم الحياة بدقة في كل مستوياتها. هذا القانون لا يعرف الخطأ ولا يستجيب لشفاعة قديس ولا لصلاة "تجارية"؛ وفهمنا له يتيح لنا تقبُّل فكرة الموت واعتباره بوابة رئيسية للوصول إلى الانعتاق من هذه الدورة التجسدية المتكرِّرة المدعوة سمسارا samsara، وانتفاء الحاجة بعده إلى إلقاء اللوم على الإله الكلِّي الرحمة بسبب أخطائنا، وإدراكنا، بالتالي، أن آلامنا ما هي إلا نتائج لأفعالنا، الواعية وغير الواعية، ضمن سياق صيرورة الوجود الكلِّية.

*

ونعود للتساؤل من جديد: كيف نفهم الموت وأسراره؟ لاشكَّ أنه سؤال مشروع. وللإجابة عليه، علينا معرفة الكون وتجلِّياته، وكيفية انبثاقه من المطلق، وماهية القوانين التي تسري فيه وتوجِّهه، بكل مستوياته، العليا والدنيا، المنظورة وغير المنظورة. فالحكمة الهرمسية القديمة لا يزال يُسمَع صداها: "كما في الأعلى كذلك في الأدنى." لذا، قبل دراستنا للكون وتقسيماته السباعية، سنبدأ بموجز عن البنية الباطنية للإنسان وتقسيماته السباعية أيضاً. فكل شيء في الكون سباعي[1]، بما في ذلك الإنسان نفسه. فالدراسات الثيوصوفية[2] تقسم البنية الإنسانية إلى مجموعتين[3]:

أ‌.        المجموعة الأولى، وهي ما تسمى بالثالوث العلوي (أو الأنيَّة الروحية)؛ وتشمل:

1.     الروح أو آتما atma، وهي نوع من الموناد the Monad: الشعلة الإلهية الكامنة في الإنسان.

2.     الجسم الإشراقي، بودهي buddhi، وهو مركبة لآتما.

3.     الجسم العقلي، ماناس manas، وهو مركبة لآتما والجسم العقلي.

هذا الثالوث العلوي هو ما نسميه بالفردية Individuality.

ب‌.   المجموعة الثانية، وهي ما يسمَّى بالرباعية الدنيا (أو الشخصية personality، أو الأنا الدنيا)؛ وتشمل:

4.     الجسم الرغائبي kama rupa، مقرُّ الرغبات.

5.     الجسم النوراني the astral body، مركز العواطف والشهوات والأحاسيس.

6.     الجسم الأثيري etheric double، أو برانا prana، طاقة الحياة؛ وهو حامل السيالة العصبية الذي يُمِدُّ الجسم المادي بالبرانا الموجودة في الكون كلِّه والمركَّزة في الشمس.

7.     الجسم المادي الأخير physical body؛ وهو الأكثف بين الأجسام السبعة.

إذاً، فالإنسان مؤلف من فردية خالدة، تتجسد دورياً من حياة إلى حياة، حاملة معها خبرات الأعمار السابقة، وشخصية تندثر بموت صاحبها، وتعود ذراتها إلى عالمها الأصلي، ليعاد تشكيلها لبناء مَرْكَبات (أجسام) جديدة لبدء تطور وتجسُّد جديدين.

من أجل دراسة مَرْكَبات الإنسان دراسة صحيحة، يجب أولاً دراسة الإله والكون، لأن الإله والكون والإنسان غير منفصلين بعضهم عن بعض. فعلى الرغم من امتلاكنا أداة ذهنية تجبرنا على فصل الأشياء بعضها عن بعض تسهيلاً لدراستها، لا غنى لنا عن الاحتفاظ بفكرة أساسية في هذه الدراسات، ألا وهي فكرة وحدة الأشياء ووحدة الوجود كلِّه.

إننا مضطرون لترسيخ فكرة الله اللامعروف، اللامتجلِّي، في أذهاننا على الدوام – هذا الإله اللامعروف واللامتجلِّي الذي فيه يتجذَّر الله المتجلِّي بحسب مفهومنا الفكري المحدود؛ وفيه، ومن خلاله، يترسَّخ الكون والإنسان لأن الإنسان عالم صغير Microcosm، لا يختلف في جوهره عن العالم الأكبر Macrocosm؛ فكل ما هو موجود في الكون Cosmos موجود في الإنسان.

فالصورة الرمزية التي تحدثنا عنها الأديان من أن الله أخذ طيناً ونفخ فيه من روحه ليشكِّل الإنسان ليست إلا رمزاً إلى أن الطين، أو المادة التي تشكل نسيج الكون كلِّه، موجودة في مادة الإنسان أيضاً. فالإنسان، أو "طينته" أي جسمه المادي، يحوي الحديد والبوتاسيوم والنحاس وكل مواد الكون قاطبة؛ وتوجد فيه أيضاً "الروح" التي نفخها الله في رئتيه.

قبل أن نبدأ دراسة الكون والإنسان والنظام الشمسي الذي نعيش فيه، سنلقي نظرة خاطفة على بعض المفاهيم التي لم يألفها القارئ العربي، أو سبق له أن اطَّلع عليها اطلاعاً مشوهاً. وأهمُّها مفهوم كارما karma، والعود للتجسُّد reincarnation، أو "التقمص" بالمصطلح الشعبي.

***

2

كارما

فيزيقياً، كارما يعني الفعلaction ، أو الفعل ورد الفعل؛ ميتافيزيقياً، يعني قانون التعويض، أو الحساب، أو إعادة التوازن، أو قانون السبب والنتيجة (السببية الأخلاقية). كارما لا يعاقب ولا يثيب، بل هو، ببساطة، القانون الكلِّي الواحد الذي يقود ويوجِّه كل القوانين ويصنع نتائجها: "كل نتيجة لها سبب، ونفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج."

فكارما يعلِّم أن نتائج اليوم قد تكون في الغد أسباباً، تعطي بدورها نتائج، وهكذا دواليك. وقانون كارما يسري على الكون كلِّه بدون استثناء، من الذرة إلى الإنسان، "المتوحش" أو "المتحضِّر". ولكن في المملكة الإنسانية تكون الأسباب ناتجة عن أفعال صادرة عن وعي وإرادة؛ أي أن كل عمل، أو فكر، أو إحساس، صالحاً كان أم طالحاً، يرتدُّ علينا، سواء في هذه الحياة أو في حياة آتية. ولكن قانون كارما الأخلاقي ينطبق فقط على الإنسان، كونه الوحيد بين الكائنات الذي يتميز بالإدراك والتعقل.

فكما قلنا، يسري كارما على الكائنات والأشياء كلِّها. وهو يطبق قوانينه دون خطأ أو شفاعة، وينظِّم كل العمليات في الطبيعة، النباتية والحيوانية والجمادية والذرية، ويعطي لكلِّ سبب نتيجة مؤكدة، ولا يخضع لمؤثرات خارجة عنه، مهما كانت. ولكنه في الإنسان يتخذ أيضاً بعداً إضافياً أخلاقياً. فكلما كان الإنسان أكثر وعياً ومعرفة، ازداد ضغط كارما عليه. وهذا ما عبَّر عنه المسيح بقوله: "من لا يعرف، ويفعل ما يستوجب الضرب، يُضرَب قليلاً؛ ومن يعرف، ويفعل ما يستوجب الضرب، يُضرَب كثيراً."

في المطلق، في اللامتجلِّي، تكون الحياة في توازن تام. ولكن ما إن يبدأ التجلِّي حتى يحدث كسر لهذا التوازن. فالتجلِّي، بحدِّ ذاته، كسر للتوازن؛ ولإعادة هذا التوازن تكون سعة الحركة المعاكسة بمقدار سعة الحركة التي سبَّبت هذا الكسر. وفي العالم الظاهري، كلُّ حركة، كل فعل، ينتج عنه ردُّ فعل أو حركة ارتدادية معاكسة. وهذا ما نراه يومياً في عالمنا "الفيزيائي" المتطور. ولكن ما لا نراه هو بعض الظواهر غير المنظورة. إننا نسمع بالكوارث الطبيعية التي تحدث على كوكبنا الأرضي، جاهلين أن أسبابها الحقيقية قد تكون غير مرئية لنا؛ إذ إنها، كونياً، قد تعود إلى آلاف السنين الغابرة. والإنسان يشارك، مباشرة أو على نحو غير مباشر، في إيجاد هذه الأسباب. فكل حركة ينتج عنها ردُّ فعل، وردُّ الفعل هذا يؤثر في كل الكائنات وفي الكرة الأرضية نفسها، لا بل يطول النظام الشمسي بأكمله، المقايِس analogous للبنية الإنسانية الباطنية. فإذا جُرِح في أحد أعضائه نجم عن ذلك أثرٌ على الجسم بأكمله، عاجلاً أم آجلاً، إن لم نداوِه بسرعة. ولهذا السبب يندهش أغلب البشر لدى رؤيتهم شخصاً ما، سيئ السمعة، شرير الطبائع، يزيده "الله" جمالاً وغنى وأسباب راحة؛ وبالمقابل، نرى إنساناً آخر، ربما كان جار الأول، طيِّب المعشر، صالح الأعمال، يبتليه "الله" بمصيبة تلو أخرى. ولاشك أن أغلبنا على خطأ في تفسير هذا التناقض، لأننا اعتدنا على إسقاط مفاهيمنا السطحية على الأمور الظاهرية، دون رؤية السبب الباطني الكامن في الأحداث الخارجية.

إن عبارة "ما يزرعه الإنسان إياه يحصد" لا تتوقف عند حياتنا التي نعيشها. فالأعمال، صالحة أم طالحة، ستتفتق عن نتائجها، عاجلاً أم آجلاً، ليس بالضرورة في هذه الحياة، بل ربما يعاني الإنسان نتائجها في حياة قادمة، بالولادة أو التقمص في بيئة تتيح له الظروفُ المحيطة به فيها التكفيرَ عن أخطائه تجاه الآخرين، بتحمُّل " أذيَّتهم"، دون أن يكون قد فعل شيئاً لهم، على الأقل في هذه الحياة، كما يعتقد هذا الإنسان المظلوم.

ما فتئت بعض الروايات "التوراتية" تعمِّق في أذهاننا فكرة الله الظالم، القاسي، المزاجي الهوى... تسأل أحدهم عمَّا فعله الملك داود بقتله أوريا الحثي ليأخذ منه زوجته، فيجيبك أن الله قد غفر له! نعم، هناك غفران، ولكن ليس بهذه الطريقة. فالغفران الذي يُمارَس في مثالنا ذو اتجاه واحد: القاتل. لقد غُفِر له، حسناً؛ ولكن هل فكرنا بالضحية: أوريا الحثي؟ هل فكرنا بالنتائج التي وقعت على زوجته وأولاده من بعده، والآلام التي كابدوها؟! هل نسيها "الله" الذي يلقون عليه جرائمهم، ويلقون عليه الغفران الخاص بهم.

هنا يتدخل كارما، القانون الإلهي، قانون العدل والرحمة، الذي يلاحق المذنب حياة بعد حياة، مع إتاحة الفرصة له بالعودة إلى الصراط المستقيم من خلال تجسِّده من جديد بين أولئك الذين "ظلمهم" في حياة سابقة. ومَن يدرك ذلك يبدأ بتحمل "المصائب" التي يُبتلى بها من حيث لا يدري، على الرغم من نواياه الطيبة. ولكن هذا لا يعني أننا يجب ألا نساعد الإنسان الذي يعاني في هذه الحياة من كارما ماضٍ، من أعمال سيئة قام بها في حيوات سابقات، بل على العكس، يجب علينا مدُّ يد المساعدة له حتى يستنفد هذا الكارما.

*

أنواع كارما

هناك كارما فردي، وهناك كارما جماعي، وهناك كارما وطني، وهناك كارما خاص بجنس بشري معيَّن. فالكارما الفردي أو الجماعي هو نتاج أفعال، واعية أو غير واعية، لفرد أو مجموعة من الأفراد؛ وقد تراكمت هذه الأفعال على كرِّ الزمن وظهرت للوجود في ظروف مؤاتية، بما يؤدي إلى نتائج مرئية، سواء في هذه الحياة أو في الحيوات الآتيات[4]. فهناك الكارما الذي جلبناه معنا من حياة سابقة، ونحن الآن نقوم باستنفاده، أو على الأقل استنفاد جزء منه؛ وهناك الكارما الذي نخلقه في هذه الحياة وندفع ثمنه أو نكافأ عليه في هذه الحياة نفسها؛ وهناك الكارما الذي ينتظر الظروف المؤاتية للظهور في مستقبل قريب أو بعيد قد يمتد لعدة حيوات مستقبلية. وفي الأدبيات الثيوصوفية هناك الكارما الصالح والكارما السيئ. ونقرأ في كتاب نور على الدرب[5] العبارة التالية: "أيها الراغب في فهم قوانين كارما، حاوِل قبل كل شيء أن تتحرر منها. ولن تستطيع فعل ذلك إلا بتركيز انتباهك على ما لا يستطيع كارما أن يؤثر به."

وكارما له حساباته الدقيقة. فالكارما الفردي هو محصلة أو نتائج أفعال الإنسان الواعية وغير الواعية. وبمقدار وعينا لأعمالنا تكون النتائج أثقل أو أخف. وكلما أمعن الإنسان في غيِّه وجبت عليه الحياة مدة "أطول" ليستنفد جزءاً من هذا الكارما الفردي المتراكم. وبعكس ما تقوله لنا التوراة فإن "طول العمر" ليس نعمة إلهية، وإنما هو عبء على الروح؛ فكلما كان الكارما الفردي صالحاً قَصُرَت مدة الحياة على الأرض. قد نندهش لذلك، ولكنه الحقيقة بذاتها. فالأطفال الذين يموتون مبكراً يعودون للتجسُّد فوراً، بعكس الإنسان العادي، لأن الطفل لا تكتمل لديه الفردية individuality قبل بلوغه سن السابعة من العمر؛ فقبل هذه السن لا يتحمل أية مسؤولية أخلاقية، وبالتالي ينتفي وجود كارما لديه، على الأقل في آخر حياة عاشها على كوكبنا الأرضي. وفي دراساتنا هذه سنبحث عن "أوضاع" الموتى من الأطفال والمقتولين والمنتحرين، لنبيِّن أن القوانين التي يخضعون لها تختلف عن القوانين التي يخضع لها الإنسان البالغ الذي يموت ميتة طبيعية. وسنبحث ذلك في الفصل المتعلق بالموت وديفاخان Devakhan، أو ما تطلق عليه الديانات اسم "السماء".

والكارما الجماعي هو محصلة أفكار وأعمال مجموعة كبيرة من البشر قد تمتد لتصير كارما وطنياً، حيث يعاني أصحابه من الحروب والمجاعات والآلام، لأنهم في حياتهم السابقة أوسعوا الشعوب الأخرى شروراً واضطهاداً عنصرياً وقومياً استعمارياً.

قد يتساءل بعضهم عن "الصدفة" أو "الحظ" بنجاة أحدهم من سقوط طائرة، بينما يُقتَل جميع ركابها. والحقيقة أن أفعال الأفراد أو المجموعة الموجودة أثناء هذه الكارثة قد تراكمت على كرِّ السنين لتتركز من جديد وتجذب إليها بطريقة "كارمية" تلك المجموعة من البشر لتعاني هذه الكارثة. ومن كان لديه كارما صالح من بينهم سيعزو نجاته إلى "عناية الله"؛ ولكن الأمر مختلف تماماً. إذ إن نواياه وأعماله الصالحة في حياته السابقة أدَّت إلى مساعدته "ملائكياً"، إذا جاز المصطلح، ليبقى على قيد الحياة. والمثال الذي يتبادر إلى أذهاننا فوراً هو كارثة السفينة تيتانيك.

*

إن عودة الإنسان للتجسد عودة اختيارية نوعاً ما، ولكنها مشروطة بدائرة معينة من الكارما. لذلك يولد الإنسان في بيئة ووطن وشروط تتعلق بالحياة السابقة التي عاشها، من خلال الأشخاص الذين "كانوا" يحيطون به؛ وعاجلاً أم آجلاً، سيجد الإنسان نفسه، بدون إرادة منه ومعرفة، وسط مجموعة من الناس، ذوي وجوه جديدة، كان لها ارتباط معه في حيوات سابقات، لتقتسم وإياه المصير المنتظر.

والأديان لا تشذ عن هذه القاعدة. وعندما يقوم أصحاب دين باضطهاد مجموعة من الناس من دين آخر فإن المستقبل "يخبِّئ" لهم اضطهاداً مساوياً لما قاموا به؛ وهكذا دواليك، إلى أن يتعلم الإنسان أن الأديان كلَّها منبثقة من جوهر واحد، وإله واحد، ولكن بظروف وأشكال مختلفة. ولهذا ما إن ندرك أن "الآخر" جزء منَّا حتى نصبح أحراراً من كارما، ونستيقن أن الولادة ضمن دين معين ليست إلا لاكتساب مزيد من الخبرة والروحانية المتضمَّنة في هذا الدين. وعاجلاً أو آجلاً، سنولد ضمن مجموعة تعتنق ديناً مغايراً للدين الذي كنا نؤمن به في حياة ماضية.

***

3

التقمص أو العود للتجسد

لا يمكن البحث في كارما بدون التحدث عن التقمص، الذي هو مختلف تماماً عن تناسخ الأرواح metempsychosis في أجسام حيوانية، لأن التطور في الكون تطور تصاعدي. فالروح الإنسانية، أو بالأصح الثالوث العلوي (الذي يضم آتماatma ، والجسم الإشراقي بودهي buddhi، والعقل ماناس manas، كما بينَّا) هو الذي يتجسَّد من حياة إلى حياة في المملكة الإنسانية. فالروح الإنسانية تعود للتقمص في مَرْكَبات vehicles (أجسام) إنسانية، لا حيوانية؛ إذ إن الوعي والتطور يسيران للأمام وليس للوراء، في عملية انفتاح، وليس انغلاق. فالتجلِّي له مخطط؛ وهذا المخطط هو التطور؛ وكارما هو القانون الذي يسهر على تحقيق هذا المخطط؛ والتقمص هو وسيلة عمل كارما في المملكة الإنسانية، على المستويات كلِّها، بما فيها المستوى الأخلاقي.

*

والتقمص هو بالحقيقة عقيدة تتضمنها المسيحية. وقد لمَّح لها السيد المسيح في كلامه عن النبي إيليا في عودته (تقمُّصه) بجسم جديد دُعِي يوحنا المعمدان. وحسبنا التأمل في كلام المسيح لنيقوديموس: "إن لم تولدوا من جديد لن تدخلوا ملكوت الله"، لكي نقرأ في هذا القول، على أحد مستويات تأويله، إشارة إلى التقمص. فلقد كانت عقيدة التقمص منتشرة في العالم المسيحي، اليوناني والروماني. وقبلئذٍ تكلم عليها أفلاطون وفيثاغوراس وسقراط وعدد من آباء الكنيسة الذين اضطُهِدوا نتيجة التأثير اليهودي، أو تأثير مَن يُطلَق عليهم اسم "المسيحيين المتهوِّدين" الذين رفضوا عقيدة التقمص، التي هي من أسمى ما وُجِد في العقائد المسيحية الأولى.

*

التطور الإنساني للوصول إلى الكمال لا يتم بين ليلة وضحاها. لذا فإن الروح تحتاج إلى تجسُّدات عديدة لتنقية الشوائب العالقة بها، وتعلُّم الدروس التي رفضتها سابقاً، وإصلاح أخطائها بحق الذين أساءت إليهم في حيوات سابقات. وفي المآل، أليس من العدل والرحمة إتاحة الفرصة مرات عديدة أمام النفس للتوبة وإصلاح العيوب، بدلاً من إلقائها في نار أبدية؟ ولا ننسينَّ أننا ندرك أنه، في أغلب الأحيان، توجد ظروف اجتماعية أو غيرها تسبب للإنسان أخطاء وهفوات قد لا يرتكبها لو وُلِد في بيئة مختلفة أو في بلد آخر؟ أليس أكثر رحمة وعدلاً أن نتيح للتلميذ فرصة إعادة الصف الذي رسب فيه، بدلاً من طرده من المدرسة وحرمانه من العلم الذي يعني المعرفة؟ ومن جهة ثانية، فالقوانين الكونية تقول لنا إن المحدود لا ينتج عنه شيء غير محدود أو أبدي. بمعنى آخر، فإن حياة واحدة تقدَّر بمائة سنة مدةٌ محدودة لا تسبِّب البقاء في جهنم مدة غير محدودة وأبدية.

*

لاشك أن القارئ المطَّلع على الأبحاث التي تعالج موضوع التقمص قد قرأ أو سمع بكتاب عشرون حالة توحي بالتقمص للباحث إيان ستيفنسون[6]. ففي هذا الكتاب يبحث ستيفنسون في عشرين قصة تقمُّص ثبتت صحتها (بحسب رأي الكاتب) من أصل مئات القصص التي راجعها وتقصَّاها شخصياً من بلد لآخر في العالم كلِّه. ولكن لنا، للأسف الشديد، اعتراض كبير على تحليلات هذه القصص والتفسيرات التي قُدِّمت في هذا الكتاب لإثبات صحة الوقائع الواردة فيه والتي كان يُفترض أن تُمحَّص ويُدقَّق فيها جيداً قبل البت في أمرها.

إن معظم حالات "النطق" ليست دليلاً على صحة التقمص؛ إذ توجد في الكون أسرار خافية عن الناس العاديين، بمن فيهم إيان ستيفنسون (مع احترامنا الكبير للمجهود الذي بذله في دراسة حالات التقمص التي وردت في كتابه). لكننا نستطيع أن نوجز بعض التفسيرات والشروح لبعض القصص "التقمُّصية" الواردة في الكتاب اعتماداً على الدراسات الثيوصوفية التي أوردها الباحث الثيوصوفي جان لويس سييمونس القدير في كتابه شهادات وبراهين على التقمص[7].

أ. التفسير البديهي: "النطق" هو استعادة ذكريات الطفولة المنسية إلى السطح في ظروف وأحداث معينة، مما يوحي للإنسان بأنه عاش حياة سابقة. لكن هذه الذكريات في الحقيقة ليست سوى الماضي الكامن للإنسان نفسه.

ب. التفسير النفساني: وهو طرح الشخصية الحقيقية لشخصية وهمية في الحلم نتيجة الضغط النفسي الذي يعانيه الإنسان نفسه، مما يوحي له، وهماً، بأنه عاش شخصية مختلفة في حياة ماضية.

ج. التفسير العلمي: حسب جان شارون، الفيزيائي الفرنسي الكبير، هناك ذاكرة كونية، هي عبارة عن سلسلة متواصلة من الأحداث والترابطات بين أفراد البشرية قاطبة، أو هي نوع من اللاوعي الجمعي، حسب كارل غوستاف يونغ. أي أن الخافية الجمعية collective unconscious تظهر بمثابة محصلة للترسبات المتراكمة للبشرية. فقد يحدث أحياناً أن شخصاً ما لديه حساسية مرهفة يتلقى، عن غير وعي منه، الإسقاطات النفسية والفكرية لإنسان مات منذ زمن بعيد عن طريق النور الكوكبي المحيط بكوكب الأرض. (هذا النور هو المستودع لكل أحداث كوكبنا الأرضي، بما فيها أحداث حياة جميع من وطئ هذه الأرض منذ بدء الخليقة.) وهذه الإسقاطات توحي بأنها ذكريات للشخص نفسه الذي يعتقد أنه كان شخصاً آخر في زمنٍ ماضٍ.

د. التفسير البارابسيكولوجي: وهو ما يُعرَف باسم "الإدراك الحواسي الفائق" ESP؛ وهي قدرة الإنسان، بواسطة أحاسيسه المرهفة الفوقطبيعية، على التقاط أحداث تاريخية حقيقية جرت لأشخاص عاشوا على كوكب الأرض في أزمنة تاريخية مختلفة، وبالتالي، اعتقاده أنها أحداث تخصُّه هو بالذات وعاشها في حياة سابقة. ومن المعروف علمياً استحالة اندثار أية ذراتٍ أو أصوات أو أشعة في الكون، مهما امتد الزمان بها. فأية فكرة تخطر في أذهاننا تنتج عنها اهتزازات تبقى إلى الأبد محيطة بكوكب الأرض؛ وبالتالي فإن الإنسان الذي يتمتع بقدرة إحساس فوقطبيعية يستطيع التقاطها وتجسيمها عن غير وعي في أحلامه والإيمان "يقيناً" بأنها تخصُّه هو بالذات.

هـ. التفسير التليباثي (التخاطري): وهو التقاط أفكار أشخاص معينين واعتناقها، وكأنها أحداث ماضية لحياة سابقة. ويدخل ضمن هذه الأمور أيضاً قدرة الاستبصار clairvoyance والتنويم المغناطيسي hypnosis، حيث يدَّعي المرء، تحت تأثير التنويم المغناطيسي، بأنه كان شخصاً آخر في حياة سابقة. لكن الأمر يختلف تماماً عما يحصل في الواقع؛ إذ إن الشخص المنوَّم، في هذه الحالة، يتلقى لاواعياً أفكار الوسيط، أو أحد المحيطين به، ويقوم الذهن، بالتالي، بـ"فبركة" قصة وهمية تستند إلى بعض المعطيات الحقيقية التي تسبب توهُّم التقمص.

و. التفسير الأرواحي spiritualist: ورائد الأرواحيين في هذا المجال هو ألان كاردك الذي ادَّعى إمكانية إجراء اتصالات روحية مع الموتى. لكن هذه النظرية مستحيلة – إلا في حالات استثنائية جداً – لأن الاتصال الروحي للوسيط مع الميت سيسبب قراءته (لاواعياً) أحداث حياة هذا الميت، وبالتالي إسقاط هذه الأحداث عليه وانتحاله شخصيته، وكأنها ذكريات لحياة ماضية توحي بأنها دليل على التقمص.

ز. التفسير الثيوصوفي: سنتوسع في هذا الموضوع مطولاً في الجزء المتعلق بالموت وصيرورته، وسنوضح كيفية تلاشي الأجسام، والمراحل التي تمر بها الروح، منذ انطلاقها من الجسم المادي حتى دخولها إلى ديفاخان، أو ما يُعرَف بالسماء. ولكننا نستطيع حالياً أن نقول إن السيدة بلافاتسكي، مؤسِّسة الجمعية الثيوصوفية، تعتبر أن الادعاء بأن شخصاً ما هو تقمص أو تجسد لنابليون، مثلاً، ادِّعاء باطل، لسبب وجيه جداً، ألا وهو أن المدة التي تمتد بين الموت والتقمص، أو العود للتجسد من جديد، طويلة جداً بالنسبة للإنسان العادي؛ إذ هي تتراوح بين 1000 و1500 عام تقريباً. وفي حالتنا هذه فإن موت نابليون لم يمر عليه زمن كافٍ لكي يدَّعي أحدهم بأنه "كان" نابليون في حياته السابقة، وقد عاد للتقمص من جديد. ونورد ملاحظة أيضاً بأنه يوجد استثناء بهذا الصدد، وهو أن الأطفال الصغار يتجسَّدون من جديد فور وفاتهم، سواء بعد أيام أو أسابيع أو أشهر، ويمتلكون الجسم النوراني نفسه الذي كان بحوزتهم في حياتهم السابقة. (سوف نعود لاحقاً لهذه النقطة، وسنعرض كذلك بعض العلامات أو الدلائل التي تترافق مع حالات تقمُّصية في الدراسات القادمة.)

***

4

التجلِّي الكوني

بعد أن أوضحنا بعض النقاط الجوهرية عن تكوين الوجود ومفهومي كارما والتقمص، نعود إلى دراسة تشكيل النظام الشمسي في مستوياته السبعة. لقد سبق وذكرنا أن للتجلِّي الكوني وجهان، هما الوعي والطاقة. فالدراسات الثيوصوفية تقول إنه من المطلق انبثق الله اللامتجلِّي. فالمطلق، من حيث كونه خارج متناول مداركنا الفكرية والتخيلية، لا يمكن التعبير عنه.

المطلق هو وجود being ولاوجود non-being في آن معاً. ولهذا تطلق عليه الثيوصوفية اسم الكينونة Being-ness الكائنة في "البدء" (إذا صح استعمال هذه الكلمة مجازاً) في حالة سكون وتناغم وتوازن أبدي.

وبدفق إلهي ذاتي من المطلق نفسه، تحدث موجات واهتزازات، تبدأ بالتكاثف شيئاً فشيئاً، وبذلك تبدأ التعيُّنات والتجلِّيات الكونية. هذا المطلق دعي باسم بارابراهما Parabrahma في الهندوسية، أو العقل الكوني المطلق، أوSat ، الحقيقة الواحدة. إنه اللاشيء، اللامحدود Ain-soph في القبالة السرَّانية، أو كما يقول هيغل: "إنه المطلق واللاكائن في الوقت نفسه."

من هذا المطلق تنبثق ما ندعوه مولابراكريتي Mulaprakriti، أو الأم العذراء. إنها الطاقة الكونية اللامتعيِّنة، جذر المادة وجوهرها، التي منها تصدر كل التجلِّيات والتعيُّنات، وفيها يرقد بحالة كمون الله اللامتعيِّن، أو اللوغوس اللامتجلِّي. ويُرمَز له بالدائرة وفي وسطها نقطة ? (وهو الرمز نفسه الذي تحدث عنه الصوفي الكبير جلال الدين الرومي في كلامه على الفيض أو الانبثاق الأولي). وهذا اللوغوس اللامتجلِّي هو أول لوغوس في الكون، وهو خارج الزمن والفراغ. إنه الواحد، أو النور المطلق، أو الشمس المركزية.

من الواحد، من اللوغوس اللامتجلِّي، تنبثق الثنائية، العدد الثاني في التجلِّي، ورمزه القطر في الدائرة X. إنه بوروشا Purusha + براكريتي Prakriti. إنه الثنائية في الكون كلِّه، قطبا الحياة الواحدة اللذين بدونهما لا يمكن للحياة أن تستمر. إنه الأب + الأم، الوعي والطاقة، منبعا كل حياة متجلِّية. فالأب بوروشا هو المبدأ الذكري (مجازاً)، هو الروح والإيجاب ومصدر الوعي؛ والأم براكريتي هي المبدأ الأنثوي (مجازاً)، هي المادة والسلب ومصدر الطاقة الكونية. وبدون الروح، الوعي، بوروشا، تكون المادة براكريتي ميتة. فهو الذي يبث الوعي في المادة. والأمر نفسه ينطبق على الروح، الوعي، بوروشا. فبدون المادة، براكريتي، يبقى الوعي وعياً كامناً، لأن براكريتي هي التي تهيئ للوعي مَرْكَبات (أجساماً وأشكالاً) يعبِّر فيها عن نفسه، ويفصح عن ذاته، ويحوز على وعي الذات reflexive consciousness.

من الوعي والطاقة، بوروشا وبراكريتي، تنبثق ماهة mahat، الفكرة الكونية التي توجِّه التطور في النظام الشمسي، بكل مستوياته المادية والنفسية والفكرية والروحية، في كل الممالك العنصرية والمعدنية والنباتية والإنسانية وما فوق الإنسانية. فالنظام الشمسي الذي يتجلِّى من mahat، العقل الكوني أو الفكرة الكونية، يُدعى بالنجوم المتجلِّية أو شعلات الأبدية، أو كما يقول لنا كتاب العقيدة السرية[8]: "إنه الحاج الأبدي في رحلة ظهوره واختفائه السرمدية في دورة لا بداية لها ولانهاية."

كذلك الحال بالنسبة للعقل الكوني قبل ظهوره من جديد؛ إذ يكون مستغرقاً في ثنائية بوروشا–براكريتي، الأب والأم. لذا فالعقل المنبثق منهما هو الابن. من هنا فإن الكون المنظور يدعى بالابن المتجلِّي، أو براهما المتجلِّي في الهندوسية. فالفكرة الكونية mahat، أو اللوغوس المتجلِّي، هو طَوْري، يظهر ويختفي في دورة كونية تدعى مانفنتارا manvantara. فظهور الكون Cosmos يدعى شرشتي shrishti، واختفاؤه يدعى برالايا pralaya، أو الراحة الكونية. ولكن من وجهة نظر المدارس الشرقية فإن كفَّ الأشياء عن "الوجود" لا يعني توقفها عن "الكينونة". فالأشياء، وكل ما في الكون، لا تتلاشى، بل تتحول إلى صورة أخرى، كما يقول لنا العلم بذاته عن تحول الذرات من حالة معينة إلى حالة ثانية.

إذاً، فاختفاء الكون بمنظورنا لا يعني عدم "بقائه" في حالة ثانية. وبالفعل فإنه يكون مستغرقاً في رحم المطلق لينبثق من جديد في مانفنتارا جديد، ليتابع تطوره الكوني، حاملاً معه كل التجارب المادية والنفسية والروحية للكون السابق. إنه شبيه بتقمص كوني، نظير كل التقمُّصات التي يسير عليها الإنسان والموجودات كلُّها، كلٌّ بحسب ترتيبه الذري وتطوره النفسي والفكري والروحي. إنها الحياة الواحدة، الأبدية واللامرئية؛ ومع ذلك هي كلِّية الحضور، بدون بداية ولانهاية، ولكنها تتجلَّى طَوْرياً لتختفي من جديد، شبيهة بـ"تنفس كوني"، وكأن للكون رئة يتنفس بها.

وظهور النظام الشمسي يعني بدء "نهار" براهما. إنه الإله نارايانا Narayana الذي يحوم فوق المياه المعنوية للفراغ الكوني، كما تقول لنا الكتب الهندوسية المقدسة، وهو شبيه بما تقوله لنا الكتب اليهودية–المسيحية: "وكانت الأرض [الكون] خربة خالية، وروح الله ترفُّ على وجه المياه." وهو اللوغوس الثالث، براهما أو العقل الكوني، أو ما تدعوه المسيحية بـ"الكلمة" Logos: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كانت عند الله، وكان الكلمة الله. به كان كل شيء وبدونه لم يكن شيء مما كان." (استهلال إنجيل يوحنا)

ثم يأتي بعد ذلك "ليل" براهما، أو اختفاء النظام الشمسي أثناء البرالايا pralaya، أو الراحة الكونية، ليعود الأب والأم، الوعي والطاقة، بوروشا وبراكريتي، ومعهما الابن، العقل الكوني النسبي، للاستغراق من جديد وليصبحا واحداً، حيث يتوقف الزمن.

ولكننا نتساءل عن ماهية الزمن؟ أليس هو تتابع بانورامي لحالات الوعي التي نملكها؟ ألا نطلق صفة "العقل" على مجموع حالات الوعي المدعوة فكراً وإرادة ومشاعر. ففي أثناء نوم الإنسان، كما في أثناء نوم العقل الكوني، ألا يتوقف الذهن عن التعقُّل على المستوى المادي، وبالتالي تصبح الذاكرة معلَّقة؟

الفكرة الكونية mahat، أو العقل الكوني، هو المنظِّم والموجِّه للحياة في مستوياتها السباعية للنظام الشمسي. وعندما يصبح للكون أساس موضوعي ("... والكلمة صار جسداً...") تنبثق منه طاقة كونية تدعى فوهة fohat، وهي الرابط بين الوعي والطاقة في الكون المتجلِّي. ولكن بما أننا لا نعرف شيئاً عن الكون اللامتناهي K، فدراستنا إذاً ستنحصر في النقاط التي تعالِج نظامنا الشمسي C. (نأمل أن يتذكر القارئ أننا في هذه الدراسة نميز بين الكون الكلِّي والنظام الشمسي، والسلسلة الكوكبية التي سنأتي على شرحها لاحقاً. لكننا، منذ الآن، نلفت انتباه القارئ إلى أن كلمتي "الكون" و"النظام الشمسي" مختلفتان تماماً عن المقصود منهما علمياً.)

نود، بدايةً، أن نقول إنه من المطلق the Absolute ينبثق بارابراهما (أتمان atman)، وهو أول "شيء" يمكن تخيُّله؛ ومنه ينبثق العقل الكوني المطلق؛ ومنه ينبثق الكون اللانهائيthe Infinite Kosmos ؛ ومنه تنبثق الآلاف المؤلفة من الأنظمة الشمسية Cosmos. (ونميز بين حرف K كبير في الكون اللانهائي Kosmos وبين حرف C في النظام الشمسي Cosmos.)

وكل نظام شمسي Cosmos يشرف على تطوره لوغوس شمسي يدعى شمساً. وهذا النظام الشمسي مؤلف من سبعة مستويات شمسية، في المستويات الأربعة الدنيا منه توجد السلسلة الكوكبية (توجد سبع سلاسل كوكبية في كل نظام شمسي)؛ وكل سلسلة كوكبية يشرف على تطورها لوغوس كوكبي Planetary Logos. (ما أنه لا يُعرَف شيء عن تطور الأنظمة الشمسية في الكون اللامتناهي فإن دراستنا ستنحصر فقط في نظامنا الشمسي السباعي، وفي السلاسل الكوكبية الموجودة فيه – وعددها سبعة – وعلى وجه التحديد في السلسلة الكوكبية الأرضية والسلسلة الكوكبية القمرية فقط.)

*

بعد ظهور الكون اللامتناهي، بدءاً من اللوغوس الأول اللامتجلِّي الذي دعوناه بالشمس المركزية، ويرمز له بالدائرة وفي وسطها نقطة ?، ينبثق اللوغوس الثاني، الثنائية، بوروشا وبراكريتي، الروح والمادة، الوعي والطاقة. ومنه ينبثق العقل الكوني، أو ما يطلق عليه اسم اللوغوس الشمسي mahat، أو الفكرة الكونية. وهو يشرف على المستويات السبعة للنظام الشمسي، حيث توجد السلاسل الكوكبية. وكل سلسلة كوكبية مؤلفة من سبعة كواكب من A إلى G، متوضعة على المستويات الأربعة الدنيا للنظام الشمسي. وقد سبق لنا أن تكلمنا عن انبثاق النظام الشمسي واختفائه، أو ما تدعوه الهندوسية باسم ليل ونهار براهما، وذكرنا أنه في أثناء ليل براهما يدخل النظام الشمسي في راحة كونية، فيختفي أو يستغرق في المطلق، ليعود للظهور أثناء "نهار" براهما. ونشير هنا إلى وجود أنواع من البرالايا:

1.     البرالايا الصغرى: وهي تحدث لكل كوكب على شكل طوفان، أو استغراق الكوكب في إظلام وغيبوبة، عندما تنتقل موجة الحياة من هذا الكوكب إلى كوكب آخر؛

2.     البرالايا الكوكبية planetary pralaya: وهي تحدث للسلسلة الكوكبية كلِّها بعد انتهاء تطورها؛

3.     البرالايا الشمسية solar pralaya: وهي تحدث لكل السلاسل الكوكبية في النظام الشمسي في المستويات الأربعة الدنيا.

4.     البرالايا الكونية universal pralaya: وهي تحدث للنظام الشمسي بأكمله.

والفرق بين البرالايا الشمسية والبرالايا الكونية هو أن الأولى تجرى فقط على السلاسل الكوكبية، مما يؤدي إلى اختفاء المستويات الأربعة الدنيا من النظام الشمسي؛ أما الثانية، الكونية، فهي تؤدي إلى اختفاء النظام الشمسي كلِّه، أي اختفاء المستويات الأربعة الدنيا والمستويات الثلاثة العليا معاً. الأولى تحدث في "يوم" من عمر براهما؛ والثانية تحدث كل "عمر" كامل من أعمار براهما. لذا فإن الحكمة القديمة تقبل بـ"موت" براهما، وقيامته من الأموات بعد حين.

ويوجد في الوجود كلِّه Kosmos آلاف من مراكز الطاقة اللامتجلِّية (أو آلاف من اللوغوسات المتجلِّية) التي دعوناها باسم "اللوغوسات الشمسية" التي يشرف كل منها على نظام شمسي؛ وهي كلها انبثاقات من العقل الكوني المطلق، تمييزاً له عن العقل الكوني النسبي، أو الفكرة الكونية، أو اللوغوس الشمسي الذي يشرف على سبعة مستويات من النظام الشمسي؛ بينما تشرف الشمس المركزية، أو اللوغوس اللامتجلِّي، على الكون اللامتناهي كله. نجد فيما يلي هنا جدولاً توضيحياً للنظام الشمسي Cosmos في مستوياته السباعية وللسلسلة الكوكبية في مستوياتها الأربعة:

 

المطلق

بارابراهما Atman

العقل الكوني المطلق

الكون اللامتناهي Infinite Kosmos

مستوى أدي Adi (اللوغوس الشمسي أو العقل الكوني mahat)

براهما–براهمآ

عالم النماذج (المُثُل)

aroupa

مستوى أنوباداكا Anupadaka

فاخ–فيشنو

المستوى الآتمي

فيراج–شيفا

المستوى الإشراقي

 

عالم الأشكال

Roupa

المستوى العقلي

المستوى النوراني

المستوى المادي (كوكب الأرض)

 

في الرسم التوضيحي نرى أن المستويات الثلاث العليا في النظام الشمسي هي: Adi, Anupadaka, atmic، أو كما تقول الهندوسية، هي الثالوث براهما، فيشنو، شيفا؛ أو هي الثالوث المسيحي: الآب والابن والروح القدس. لكن هذا الثالوث في الدراسات السرَّانية الميتافيزيائية هو انعكاس متجلٍّ للثالوث اللامتجلِّي (ما قبل التجلِّي الكوني)، المؤلف من اللوغوس اللامتجلِّي (الآب)، ومن بوروشا–براكريتي (الروح القدس – الأم العذراء)، ومن ماهة، الفكرة الكونية (الابن).

 

 

 

 اللوغوس الشمسي، اللوغوس الثالث المتجلِّي ماهة، هو الآب السماوي الذي نحن فيه متجذِّرون، ومن خلاله متجذِّرون في المطلق. وهو ثالوث، ويدعى أيضاً باسم خريستوس Christos، أو براهما، أو كوان شاي ين Kuan-shai-yin في البوذية، أو آدم قدمون في القبالة السرَّانية. وهو نور الله، أو نور المطلق الذي تكلم عليه بولس الرسول، وهو "روح الله التي ترف على وجه المياه"، كما جاء في التوراة.

 اللوغوس الثاني، كوان ين Kwan-yin، أو فيشنو، أو حكمه chokma (أي الحكمة) في القبالة؛ وهو ما تدعوه المسيحية بالروح القدس، أو صوفيا Sophia، الحكمة الإلهية.

اللوغوس الثالث، شيفا، هو الابن، أو الطاقة المتجلية التي "بها صُنِعَت العوالم" في رسالة بولس إلى العبرانيين؛ وهو يدعى أيضا باللوغوس الكوكبي.

وهذه اللوغوسات الثلاثة يرمز لها بالثالوث r، الذي، بدوره، يعطي الرباعية £ والمستويات الأربعة الدنيا المتبقية للنظام الشمسي.

*

في كتاب العقيدة السرية، باستعمال الرمزية الكونية، نقرأ أن "الثلاثة تعطي أربعة، والأربعة تعطي بدورها ثلاثة." أي أن الثالوث العلوي (المؤلف من اللوغوس الشمسي براهما، ومن فيشنو، ومن شيفا) يبدع بدوره الرباعية الدنيا، أي المستويات الأربعة الدنيا في النظام الشمسي. وهذه الرباعية تعطي، بدورها، ثالوثاً، ليتشكل الثالوث في الرباعية، فيصير سباعية، رمزاً للسلسلة الكوكبية المؤلفة من سبعة كواكب، أو سبع سفيرات sephirots، أو سبعة مراكز طاقة (لايا laya). وعلمياً، كما وباطنياً، تُحدِث الطاقة الكونية فوهة fohat سبعة ثقوب في الفراغ الكوني لتشكل سبعة كواكب. أي أن مراكز الطاقة السبعة هي من عمل الطاقة الكونية فوهة في النظام الشمسي المتجلِّي، بدءاً من المبدأ السابع، اللوغوس أو العقل الكوني.

من هنا نرى أن الحكمة تتجدد وتتكرر برموز كونية، مثل السفيرات السبع في القبالة، ومواهب الروح القدس السبع في الكنيسة الكاثوليكية، وأبناء ديفاكي السبعة الذين قتلهم الملك كانسا قبل ولادة كرشنا في الأسطورة الهندوسية.

والرقم سبعة ليس من اختراع اليهود في توراتهم، بل هو رقم مقدس موجود قبل كتاب موسى التوراتي، وقبل يوم السبت Shabat في التراث اليهودي. وما علينا سوى الرجوع إلى الأساطير القديمة لنعاين فيها المزهريات السبعة في معبد الشمس بمصر العليا، النيران السبعة المشتعلة منذ الأبدية على مذبح الإله ميترا، المعابد السبعة المقدسة عند العرب، الجزر السبعة والبحار السبعة والأنهار السبعة في الهند، الآلهة السبعة القوطيين، العوالم السبعة والأرواح السبعة عند الكلدانيين، الأجرام السبعة التي ذكرها هوميروس. والرمز السباعي كان موجوداً دائماً في كتابات الصوفية المسلمين. فالصوفي الكبير العطار الذي كان يقول عنه الرومي إنه اجتاز الوديان السبعة، أو مدن العشق السبعة، كما ذُكِر في كتاب منطق الطير، يروي أن الطيور في ترحالها للبحث عن طائر السيمرغ، رمز الإله، قد مرت بالمراحل السبعة وهي: وادي الطلب، وادي العشق، وادي المعرفة، وادي الاستغناء، وادي التوحيد، وادي الحيرة، وأخيراً الوصول إلى الهدف النهائي، ألا وهو وادي الفقر والفناء، أو الذوبان في الإله. والحكمة القديمة تقول: "تجرَّدْ مما لديك، تنلْ شيئاً أرحب وأجمل وأعمق." وفي البوذية يُرمَز للإله أيضاً بالطائر كالاهامسا Kalahamsa. ولذلك تجيء بعض الكتابات السَّرانية للسيدة بلافاتسكي على ذكر الصلة الخفية الموجودة قديماً بين الحكماء الدروز والبوذيين، وتُورِد ملاحظة هامة، وهي أن اسم "حمزة"، المنتظر مجيئه قبل نهاية العالم، مشتق من هذا الطائر Hamsa.

وكل هذه الرموز تعني أيضاً الأجناس البشرية السبعة التي ذكرتها كتب الهندوس المقدسة، وعلى الأخص كتاب Rig-vida، حيث كانت قد ظهرت للوجود أربعة أجناس بشرية؛ وقد اندثرت كلها. ونحن الآن في الجنس البشري الخامس؛ وقد بقي للبشرية الجنسان البشريان السادس والسابع قبل حدوث الانهيار الكوني للنظام الشمسي برمَّته.

وكما يلاحظ القارئ، فإن الرقم السباعي يعود مجدداً للظهور. والكثير مما يُروى في الأديان ليس إلا رمزاً كونياً أكثر منه حقيقة تاريخية. وأكثرنا يعرف أن عدد تلاميذ المسيح كان اثني عشر تلميذاً؛ وهذا رمز كوني لأن 3 (الثالوث العلوي) Î 4 (الرباعية الدنيا) = 12.

إن عرس قانا الجليل أو العشاء السري اللذين يحدثنا عنهما الإنجيل يرمزان إلى نوع من تلقين الأسرار الذي يحدث بعد أربعة أيام من التجارب وثلاثة أيام من الهبوط إلى الجحيم (3 Î 4 = 12)؛ ووجود المسيح وسط الحواريين هو في الحقيقة رمز لوجود خريستوس Christos، المبدأ السابع في الإنسان atma، والمبدأ السابع في الكون أيضاً. ففي المراحل الأخيرة من تعلُّم الأسرار الكونية، يدخل المريد بهذا الرمز لتحقيقه باطنياً. والأمر نفسه كان موجوداً عند المصريين القدماء: فالمريد في المرحلة الأخيرة يدخل في تجربة مدتها أربعة أيام، ومن بعدُ يدخل إلى قدس الأقداس في الهرم ويبقى "ميتاً" مدة ثلاثة أيام. وفي اليوم الثالث تدخل الشمس من مكان سري إلى داخل الهرم لتسطع على وجه المريد، فـ"يقوم من بين الأموات". والحقيقة هي أن ما يراه المريد هو الشمس الباطنية التي تشع أمام بصيرته، أو عينه الباطنية. وهذه الشمس هي اللوغوس الشمسي أو خريستوس Christos.

والمريد الذي يجتاز هذه التجربة يصبح "صغيراً"، أي مسارَراً بالحكمة Initiate. لذا نجد في الإنجيل أن المسيح يقول: "دعوا الأطفال يأتون إليَّ لأن لمثل هؤلاء ملكوت الله"؛ و"إن لم تعودوا كالأطفال لن تدخلوا ملكوت السموات." لكن اللاهوت، بكل أسف، أخذ الأمور على محمل الحرف: ففيما يخص كلمة "أطفال"، فالمعنى السرَّاني والترجمة الصحيحة لكلام المسيح يختلفان تماماً عما فسَّره علماء اللاهوت، لأن المعنى الحقيقي هو صغار وليس "أطفال". لماذا؟ لأنه في اليهودية في ذاك الزمان كان يُطلق على المسارَرين بالحكمة والروح اِسم "الصغار"، أي المولودين من جديد. وبهذا المعنى نفهم كلمة المسيح في كلامه عن الصغار؛ أي إن لم نصبح صغاراً (مسارَرين بالحكمة طاهرين) فلن ندخل الملكوت. ومن هذا نستدل أن الرواية عن مذبحة الأطفال التي اقترفها هيرودوس ضد 40 ألف بريء لم تكن ضد الأطفال، بل ضد "الصغار" أي المسارَرين. وهي الرواية نفسها التي حدثت أثناء ولادة الإله–الإنسان كرشنا في الأسطورة الهندوسية التي تعود إلى ما قبل الميلاد المسيحي، في المذبحة التي اقترفها الملك كانسا ضد "الأطفال" (أي "الصغار"، المسارَرين بالحكمة)، وذلك بغية قتل الإله–الإنسان كرشنا، مثلما فعل هيرودوس في محاولته قتل الإله–الإنسان يسوع المسيح.

حتى التلمود يطلق على الرسول بولس اسم "الصغير"، أي المسارَر. وكذلك الأمر حينما تكلَّم السيد المسيح على يوحنا المعمدان، إذ قال: "من بين المولودين من النساء لا يوجد أعظم من يوحنا المعمدان، ولكن الأصغر في ملكوت الله أعظم منه." ونتساءل كيف نصالح كلام المسيح عن يوحنا المعمدان بأنه "أعظم المولودين من النساء" مع عبارة "الأصغر في الملكوت أعظم منه"؟ هل يتحدث المسيح عن "الملائكة" في الملكوت؟ لا بالطبع. إذا كان يسوع يتحدث عن إنسان وُلِد ومات، وهو الآن في الملكوت أعظم من يوحنا، فمن البديهي إنه لم يعد هناك داعٍ لذكر أعظمية يوحنا المعمدان بين البشر. أما الجواب فهو أن كلمة "أصغر" تعني المسارَرين الذين حققوا الألوهية، ولم تعد هناك ضرورة لتجسُّدهم من جديد على كوكب الأرض.

*

أود، قبل الاسترسال في هذه الدراسة، التشديد على بعض النقاط والأسماء الواردة في الصفحات السابقة المتعلقة بانبثاق الكون اللامتناهي، وصولاً إلى ظهور النظام الشمسي الخاص بنا، وذلك بالمقارنة مع التجلِّيات الكونية في أديان أخرى.

1.     اللوغوس الأول اللامتجلِّي هو ما دعاه فيثاغوراس باسم الموناد، أو الشمس المركزية في القبالة السرَّانية، وهو الإله المثالي Abraxas عند أفلاطون. وهو ثالوث معنوي يحوي اللوغوس المعنوي، والحكمة الكامنة، والفكرة الكونية.

2.     اللوغوس الثاني، أب + أم (الروح والمادة في الثيوصوفيا)، فهو ما تدعوه القبالة باسم سفيرة أو كتر kether الذي فسَّره أحد الأصدقاء باسم "قطر" الدائرة. وفعلاً فإن رمزه هو X، وهي Bythos، الأم السامية في الغنوصية، والأم العذراء Nout عند المصريين.

3.     اللوغوس الثالث، أو أول لوغوس متجلٍّ، هو الابن المماثل لأبيه: "أنا في الآب والآب فيَّ." (إنجيل يوحنا) وهو المبدأ الكوني السابع في النظام الشمسي، و"روح الله الذي يرفُّ على وجه المياه" (سفر التكوين). وتدعوه الهندوسيَة باسم نارايانا Narayana الذي يعني في اللغة التيبتية "الإله الذي يحوم فوق المياه". ويُرمَز له بالثعبان الملتف على نفسه، مذكِّراً إيانا بالحية في الفردوس. إنه الثعبان المصري Ptah، المطابق لأهورامزدا الفارسي.

من اللوغوس الثالث يبدأ النظام الشمسي بالانبثاق. وهذا اللوغوس، بدوره، ثالوث – آب، ابن، وروح قدس – في التجلِّي. إنه براهما – فيشنو – شيفا (في الهندوسيَة)؛ كترحكمهبينه (حيث كتر، في القبالة السرَّانية، تعني "القطر"، وحكمه تعني "الحكمة"، وبينه تعني "البيِّنة"). وفي التيبت يُطلَق عليه اسم كوان شاي ين؛ ومنه تنبثق كوان ين، أو صوفيا الغنوصيين، أي "الحكمة" نظيرة حكمه. وهذا اللوغوس الثالث mahat هو آدم قدمون في القبالة الذي لا يختلف بشيء عن جوبيتر Jupiter أو زفس Zeus. إنه خريستوس، "البكر من بين الأموات" كونياً، أوزيريس المصري وأهورامزدا عند المجوس. وهو يذكرنا بالإنسان السماوي عند هرمس، وهو ما يطلق عليه أفلاطون اسم اللوغوسLogos  أو الأتمان Atman عند الهندوس. وهو أخيراً تنين الحكمة. ففي رؤيا يوحنا نرى الصورة الرمزية لامرأة حامل، بينما يستعد التنين لالتهام الوليد القادم. إنها صورة رمزية كونية، حيث تمثل المرأة بينه binah، الروح القدس الذي يتهيأ لوضع الطفل (رمز الكون)، "المولود من الروح القدس"؛ بينما يمثل التنين اللوغوس المتجلِّي الذي، بإدراكه وبحكمته السامية، يعرف أن الطفل (أي الكون المهيأ للولادة والانبثاق) ليس إلا وهماً ومصدراً للآلام، لأن ذلك يعني انغلاق الروح في المادة الكثيفة. وللأسف فإن التفسيرات اللاهوتية بعيدة كل البعد عن الحكمة الإلهية في هذه الصور الرمزية.

*

يُعبَّر عن الثالوث الهندوسي براهما – فيشنو – شيفا بالأحرف الثلاث: أ – و – م AUM، حيث حرف A يرمز لبراهما الخالق، والحرف U لفيشنو المحيي، والحرف M لشيفا المميت. وتُستعمَل هذه الحروف الثلاثة كصوت واحد يُدعى بالـمنترا mantra؛ وهو يعتمد على النطق الصحيح والعميق والسرَّاني للألوهة الكامنة في هذا الرمز البوذي والهندوسي، المعبِّر عن الثالوث الأقدس، الواحد في الثلاثة، أو الوحدة في التعددية. ولا يُعبَّر عن هذا الثالوث من الناحية الصوتية فقط، بل هو أيضاً مصدر لإيقاظ الروح وقواها الكامنة عند إدراكنا المعنى الحقيقي العميق لكلمة أوم AUM؛ وهي الأساس لإيقاظ الـشاكرا chakras، أو مراكز الطاقة المتوضعة في العمود الفقري الأثيري للإنسان التي من خلالها تنهمر الطاقات الكونية من الأقاليم العليا لتوقظها وتتفاعل معها لتعيد للإنسان قواه الروحية.

وهذا ما نجده في الإسلام بما يُدعى بالذكر. وهو يعادل اسم المنترا في البوذية. وكذلك في الإسلام يوجد تماثل مع المنترا البوذية في شهادة "لا إله إلا الله". والأمر نفسه في القبالة اليهودية، حيث إن تكرار وترداد أسماء الله بطريقة معينة يؤدي إلى النتيجة نفسها. وفي تاريخ الكنيسة المشرقية نجد ترداداً لهذا الأمر في صلاة يسوع: "يا يسوع المسيح، يا ابن الله، ارحمني أنا الخاطئ"، أو في عبارة كيريليسون Kyrieleison ("يا ربُّ ارحم") اليونانية التي تعبِّر عن تأمل باطني صوفي عميق. ولكن البعد السرَّاني أعمق بكثير من مجرد كلمات وأحرف. فقد كان المتصوفة المسلمون يستعملون أشكالاً هندسية للرمز للإله؛ والكثير منها كان يرمز للثالوث الأقدس. فرمز الدائرة ? كان يعني الرابط بين الأبعاد الأساسية للإسلام: فالقطر في الدائرة X كان يمثل الشريعة الدينية التي تنسحب على الملَّة الإسلامية بأكملها؛ والأشعة الصادرة عنها كانت ترمز للطرق أو الدروب الروحية التي توصل إلى الحقيقة الروحية السامية؛ وهذه الحقيقة هي نقطة الدائرة ? ("الموجودة في كل مكان ولا في مكان" بنفس الوقت) التي تبدع على المستوى الميتافيزيقي "الطريقة" و"الشريعة"، تماماً كالنقطة بالمفهوم الثيوصوفي: فهي التي تبدع القطر والأشعة. وهذه الثلاث (الشريعة والطريقة والحقيقة)، أو الجذر والفرع والثمرة للمسار الروحي، هي، بحسب التصوف الإسلامي، العوالم الأربعة للوجود، وهي: عالم الناسوت – عالم الملكوت – عالم الجبروت – عالم اللاهوت.

***


* إهداء:

كل العرفان والمحبة للأستاذ ندره اليازجي. فمنه تعلمت، ومنه استمددت المعرفة، وبإرشاداته استطعت الاستمرار على الدرب.

إلى الصديق والأخ بالروح ديمتري أفييرينوس الذي استمر لسنوات طويلة في مساعدتي في كل المجالات، وله يعود الفضل في البدء بكتابة هذه الدراسة المتواضعة نتيجة تشجيعه وحرصه على مساعدتي في كشف مكنونات دواخلي.

كلمة شكر ومحبة إلى الصديقة لمى الأخرس لمساعدتها القيمة في إنجاز المخطوطات الأولية لهذا الكتاب وعملها المتواصل على الحاسب رغم مشاغلها اليومية.

كلمة محبة وامتنان للأصدقاء الثيوصوفيين في فرنسا الذين أناروا الطريق أمامي.

جزيل الشكر للصديق بسام رفلة عبد الله لمساعدته في طباعة المخطوطات في شكلها النهائي.

أخيراً، أقدم هذا العمل المتواضع إلى زوجتي العزيزة، وأشكر لها عملها في تصحيح وإكمال المخطوطات الأولية. حسبي وجودها بجانبي لأستمر بالكتابة.

[1] يتكلم بولس الرسول عن "السماء الثالثة"، ويحدِّثنا القرآن عن السماوات السبع، فيما نجد في كتاب القديسة تريزا الآبلية القصر الداخلي وصفاً لهذا القصر – الكون، الجسد – المحتوي غرفاً عددها سبعة.

[2] الثيوصوفيا Theosophy تعني الحكمة الإلهية؛ وهي معرفة أسرار الكون والطبيعة والإنسان الموغلة في القِدَم، والتي تُكشَف للعالم كلما ارتأى الحكماء ضرورة ذلك لمساعدة الإنسان في تطوِّره الروحي.

[3] تعريب مصطلحات المَرْكَبات الإنسانية مأخوذ من كتاب مقالة في التقمص للصديق ديمتري أفييرنوس.

[4] أنظر رسالة جلال الدين الرومي، الصوفي المسلم الكبير، عن تطور الحياة من المعادن إلى الإنسان. "ما يزرعه الإنسان إياه يحصد." (إنجيل يوحنا)

[5] Mabel Collins, Light on the Path.

[6] Ian Stevenson, Twenty Cases Suggestive of Reincarnation.

[7] Jean-Louis Siémons, Revivre nos vies antérieures: témoignages et preuves de la Réincarnation.

[8] H. P. Blavatsky, The Secret Doctrine.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود