previous

 

الأسطورة والتاريخ

(2 من 2)

 

فراس السوَّاح

 

نعود الآن من هذه الجولة التي استعرضنا خلالها عدداً من نماذج التاريخ المقدس، لنقول بأن كل ما سقناه أعلاه، يشير إلى رغبة الإنسان القديم في الاحتفاظ بنوع من الذاكرة الجمعية التي تعطي وجوده في هذا العالم امتلاءً ومعنى. فهذه الفترة القصيرة التي يحياها الفرد أو الجيل ليست معلقة في الفراغ، بل هي نقطة في سياق طويل ذي مغزى حفظته الأساطير. فالأسطورة تزود الإنسان بذاكرة تاريخية تعطيه إحساساً بأن لحياته وجوداً مبرراً. بدون هذه الذاكرة يصير الإنسان إلى حالة أشبه بالموت – لأن نسيان الماضي نوع من أنواع الموت. فالموت نسيان. والموتى الهابطون إلى العالم الأسفل، في الميثولوجيا الإغريقية، يشربون في طريقهم من نبع النسيان لكي يقضوا حياة الآخرة بدون ذاكرة، أي بدون تاريخ. غير أن ما يفرق الذاكرة الجمعية الأسطورية عن الذاكرة الجمعية الأخرى التي يصنعها علم التاريخ هو محتوى كل منهما (كما ألمحنا إلى ذلك في الجزء الأول). فالتاريخ الأسطوري لا يحفل بغير الأحداث الناجمة عن تداخل عالم الآلهة بعالم البشر، وهو يُغفِل الأحداث الدنيوية العادية، ولا يرى فيها ما يستحق العناية بجمعها وحفظها وتذكُّرها. فإذا ما قُيِّض لحادثة ما، أو شخصية ما، أن تخلَّد في الذاكرة فإن ذلك لن يتأتى إلا عن طريق أسْطَرَتها ورفعها من مستوى الواقع إلى مستوى الحدث الميثولوجي. فملوك المدن الإغريقية القدماء، من أمثال عوليس وأغاممنون ومينيلاوس، وأبطالها الخالدون، من أمثال أخيلياس وباتروكلوس، لم تصل أخبارهم سماع الإغريق إلا بعد إلباسهم حلَّة ميثولوجية أصيلة. ومن بين جميع ملوك سومر القدماء، لم تحتفظ الذاكرة الشعبية إلا بسيرة جلجامش، ملك مدينة أوروك، الذي خُلِّد بواسطة الأسطورة، لا بواسطة التاريخ. ومثله الملك سيف بن ذي يزن عند عرب ما قبل الإسلام، والملك آرثر وفرسان المائدة المستديرة لدى الأنكلوساكسون.

إن الأشخاص التاريخيين، والأحداث التاريخية بشكل عام، لا ترسخ في الذاكرة الجمعية للإنسان القديم إلا لفترة وجيزة من الزمن، لا تلبث بعدها أن تتلاشى أو يتغير وجهُها بفعل الأسطورة. ففي دراستنا لنص دمار مدينة أور السومرية (راجع "الأسطورة والمعنى"، معابر، الإصدار الخامس) رأينا كيف تم انتزاع هذه الحادثة من سياقها التاريخي ومن جملة ترابطاتها الواقعية ونقلها إلى المستوى الميثولوجي. فالنص لم يذكر أية معلومات عن هوية الجيش الغازي، ولا عن المقدمات التاريخية التي قادت إلى حصار المدينة واستباحتها، بل اكتفى بوصف الدمار الذي حلَّ بالمدينة، والمحاولات اليائسة التي قامت بها إلهة المدينة وإلهُها من أجل إقناع مجمع الآلهة بالتراجع عن قرارهم في تدمير أور. وينطلق محرِّرو التوراة من الموقف الفكري نفسه عندما يصفون دمار أورشليم وترحيل أهلها إلى بابل، تاركين القارىء في جهل تام بالظروف والملابسات التاريخية التي أدَّت إلى حصار المدينة وتدميرها – وذلك لأن هذه المصيبة قد حلَّت بقرار إلهي من الربِّ، عقوبة على آثام أهل يهوذا ومعصيتهم. والحادثة برمَّتها ليست موضع تأمل تاريخي، بل تأمل ديني. وبما أن هذه المدينة لن تعود إلى سابق عهدها أبداً فإن الرؤى المسيحية اللاحقة تختتم الأسطورة بنزول أورشليم جديدة من السماء لتتحقق على الأرض. نقرأ في رؤيا يوحنا 21: 2: "وأنا يوحنا رأيت المدينة المقدسة، أورشليم الجديدة، نازلة من السماء من عند الربِّ، مهيأة كالعروس المزيَّنة لرجلها."

إن عناية الإنسان القديم بالتاريخ المقدس وتجاهله للتاريخ الدنيوي قد دفع به إلى تجاهل دوره تماماً في حركة التاريخ. فهو يعزو إلى الآلهة كل المنجزات الحضارية والابتكارات التكنولوجية التي قادت عملية الارتقاء والتقدم. فالإله، لا الإنسان، كان أول فلاح، وأول راعٍ، وأول من حلب البقر وصنع الزبدة والجبن، وأول من طحن وخَبَز الخبز، وأول من صنع المحراث. نقرأ في نص سومري يحكي عن أصل الحبوب وأصل تأهيل الماشية، فيُرجِعها إلى الإله لهار الذي كان أول من ربى الماشية، وإلى أخته أشنان التي كانت أول من زرع الحبوب:

في تلك الأيام، قال إنكي لإنليل:

"أي أبتي إنليل. لهار وأشنان

اللذان خُلِقا في الدولوج (= بيت الخلق)،

 دعنا ننزل بهما من الدولوج."

 وهكذا، تنفيذاً لكلمة إنكي وإنليل المقدسة،

 هبط لهار وأشنان من الدولوج.

 من أجل لهار أقام إنليل وإنكي حظيرة

 وقدَّما له علفاً، عشباً ونباتاً و [...]

 ومن أجل أشنان بنيا بيتاً،

 وقدَّما لها المحراث والنير.

 فأقام لهار في حظيرته

 راعياً تفيض الخيرات من بين يديه.

 ووقفت أشنان في الحقل بين محاصيلها.

 من خيرات السماء أنتج لهار وأشنان،

 وإلى مجمع الآلهة قرَّبا خيراتهما،

 وإلى الأرض وهبا نسمة الحياة.[1]

وفي نص سومري آخر نجد أن المعول – وهو الأداة اللازمة لكل نشاط بنَّاء – قد صنعته الآلهة في بداية الأمر، ثم أعطته بعد ذلك لأهل سومر من أجل استخدامه. يبتدىء النص بافتتاحية عن الخلق والتكوين، على عادة أساطير الأصول الرافدية:

إن الإله الذي أخرج إلى الوجود كل شيء نافع،

الإله الذي لا مُبَدِّل لحكمه وقضائه،

إنليل الذي أنْبَتَ البذور من الأرض،

قام بإبعاد السماء عن الأرض،

فجعل هنالك مجالاً ترتع فيه المخلوقات.

في نيبور، عماد السماء والأرض، قام بـ [...]،

وأخرج المعول إلى الوجود. وبذلك حلَّ اليوم

الذي فرض فيه العمل وقرَّر المصائر.

وعلى المعول والسلَّة أسبغ القوة.

بعد ذلك يصنع إنليل قالباً يقوم الآلهة باستخدامه من أجل خلق الإنسان. وتمتلىء بلاد سومر بالناس، فيقدم لهم إنليل المعول ليستخدموه في أعمال البناء والعمران.[2]

إضافة إلى جهل الإنسان القديم بأصول ابتكاراته التكنولوجية، كان جاهلاً بأصل مؤسَّساته وقوانينه وتشريعاته؛ فهذه جميعاً قد جاءت من السماء وابتدرتها الآلهة من أجله. وأكثر من ذلك، فإنه لم يكن يعرف الكثير عن أصل وتطور ونمو المدن التي شيَّدها أسلافه الأولون، وكان يعتقد أن مدنه التي يسكنها قد بنتها الآلهة في سالف الأزمان وسكنت فيها قبل أن يسكن البشر، وبنت لأنفسها هناك بيوتاً وقصوراً ومعابد. إن الإشارات الموجودة في النصوص الميثولوجية المشرقية حول هذا الموضوع أكثر من أن تحصى. فمدينة نيبور (نِفَّر) بناها الإله إنليل، كما يقول لنا أحد النصوص (أوردتُه في الجزء الأول من هذا البحث)؛ وأوروك، كبرى مدن سومر في مطلع عصر الأسرات، هي "صنعة يد الآلهة"، على حد تعبير نص ملحمة جلجامش في لوحها الأول؛ وبابل العظيمة، بمعابدها التي تناطح أبراجها السحاب، بناها الإله مردوخ، على ما تنقله إلينا أسطورة التكوين البابلية في لوحها السادس؛ ومدينة إيريدو، أول وأقدم المدن في وادي الرافدين، بناها الإله إنكي بيتاً لسكنه. نقرأ في أسطورة سومرية حول هذا الموضوع:

بعد أن تفرقت مياه التكوين،

بعد أن ظهر اسم البركة في السماء،

بعد أن غطت الأعشاب والنباتات وجه الأرض،

ربُّ الأعماق، الملك إنكي،

إنكي، الربُّ الذي يقرِّر المصائر،

بنى بيته من فضة ولازورد.

بعد ذلك يتوجَّه إنكي إلى نيبور، مدينة إنليل، ليحصل من هناك على بركات أبيه. وبعد أن يتلقَّى إنليل هدايا ابنه، يقف بين الآلهة ويشيد بمدينة إنكي:

قال إنليل لآلهة الأنوناكي:

"أيها الآلهة الواقفون من حولنا.

لقد بنى ابني بيتاً، الملك إنكي بنى إريدو،

وكجبل رفعها فوق الأرض،

وفي مكان طيب أقامها.

إيريدو، المكان الطاهر الذي لا يدخله أحد،

بُنِيَت بفضة وزُيِّنت بلازورد،

وبيته في عهدة القيثارات السبع كُرِّس للتراتيل."[3]

فإذا كان للإنسان بعد ذلك أن يباشر بنفسه أي فعل خلاق فإن الفعل يسير على غرار فعل سابق مشابه قامت به الآلهة؛ وهو إذ يبني معبداً أو سوراً أو مدينة، فإنما يفعل ذلك وفق صورة مسبقة رسمتها الكائنات العليا: فالملك غوديا السومري بنى معبد المدينة في لجش وفق تصميم مرسوم على لوح أطلعه عليه الإله نيدابا في الحلم؛ وعندما قام الملك الآشوري ببناء مدينة نينوى، فعل ذلك وفق الخطة المرسومة في هيئة القبة السماوية منذ الأزمنة السحيقة.[4] وفي كتاب التوراة يقوم الربُّ بإطلاع موسى على صورة المسكن المؤقت الذي سوف يصنعه له: "فيصنعون لي مقدِساً فأسكن بينهم، بحسب جميع ما أنا مُريك من شكل السكن وشكل جميع آنيته. كذلك فاصنعوا لي." (الخروج 25: 8-9) وبعد ذلك يتلقَّى داود تعليمات مفصَّلة عن تصميم هيكل أورشليم: "جميع ذلك تلقَّيته مكتوباً بيد الربِّ، لأفهم جميع أعمال الرسم." (1 أخبار الأيام 28: 19) وهذا الرسم قد هيَّأه الرب منذ البدء، على حد قول الملك سليمان الذي تلقَّى من ابنه داود مخطط الهيكل ليعمل على بنائه: "وأمرتني أن أبني هيكلاً في جبلك المقدس، ومذبحاً في مدينة سكناك، على مثال المقْدِس الذي هيأتَه منذ البدء..." (سفر الحكمة 9: 8) وقبل أن تُبنى مدينة أورشليم بيد الإنسان، كان هنالك أورشليم سماوية من صنع الله. وهي التي يتكرر ذكرُها في أسفار الأنبياء (مثل سفر طوبيا 8: 16، وأشعيا 59: 11، وحزقيال60)؛ وهي التي رآها يوحنا نازلة من السماء كالعروس المزيَّنة لرجلها، في المقطع الذي أوردناه أعلاه من رؤيا يوحنا.

انطلاقاً من هذا الموقف الفكري نفسه، يعزو الإغريق كلَّ إبداع أدبي وفني يصدر عن الإنسان إلى ربات الفنون والموسيقى اللاتي يُلهِمْن الشعراء والرسامين والنحاتين، كما يعزو عرب الجاهلية كل إلهام شعري إلى مصدر ما ورائي يتمثل عندهم بجنيات وادي "عبقر".[5] وما زلنا، إلى يوم الناس هذا، نعزو كل إبداع إنساني إلى "إلهام" يأتي من خارج الإنسان، ولا ينبع من داخله. وهذه بقية من تلك التركة الميثولوجية التي لا تنظر إلى الإنسان باعتباره صانعاً لماضيه وحاضره، بل باعتباره أداة لتنفيذ الخطط الإلهية.

هذا التجاهل لحقيقة ما جرى في الماضي، واستبدال تاريخ مقدس تكشف عنه الأساطير به، جعل الإنسان القديم خارج الصيرورة التاريخية، بدون ذاكرة دنيوية ذات محتوى له معنى ومغزى. ولا أعني هنا أن المجتمعات القديمة لم تحتفظ على الإطلاق بذاكرة دنيوية، وإنما أعني، بالدرجة الأولى، أن هذا الذاكرة الدنيوية، في حال وجودها، لم تلعب دوراً في مساعدة الإنسان على فهم حاضره باعتباره نتاجاً صرفاً لأفعاله ومنجزاته الماضيات. فالعبرة هنا ليست فيما نحفظه عن الماضي، بل في المعنى الذي نسبغه على ذلك الماضي وفي القيمة التي نعطيها له. وليس المهم هو ما نسجِّله عن الأخبار السالفة، أو ما نتذكره من إنجازات الجماعات والأفراد، بل اعتقادنا بأثر ما نسجِّله أو نتذكره على صيرورة التاريخ، وبمدى فعالية المجهود الإنساني كمحرِّك للتاريخ. بتعبير آخر، كيف ننظر إلى التاريخ الدنيوي في مقابل التاريخ المقدس.

لقد ابتدأت الكتابة التاريخية كجنس مستقل عن الأسطورة، عندما لم يعد الإنسان القديم يرى في الأحداث الماضية، أو الأحداث الحاضرة، تدخلاً ماورائياً من أي نوع. عندئذٍ بدأ التاريخ يتجرد من قدسيَّته، وأخذ الإنسان يبحث في الأسباب والنتائج من خلال روابطها وصلاتها الدنيوية الواقعية، وولد علم التاريخ الذي حلَّ محل الأسطورة في صنع الذاكرة الجمعية، وقاد إلى تعريف الإنسان بدوره الأساسي في صنع نفسه، وبأهمية نشاطه الخلاق على حركة التاريخ. ورغم أن هذه القفزة جاءت نتيجةً من نتائج صراع الفلسفة مع الأسطورة في الثقافة الإغريقية، وما نجم عن ذلك من ظهور المؤرخين الإغريق الأوائل، إلا أن المقدمات البعيدة لنشوء الكتابة التاريخية أنجزتْها ثقافةُ الشرق القديم. فمنذ أواسط الألفية الثالثة ق م كانت الممالك السورية والرافدية تحتفظ بأرشيف ملكي متنوع الموضوعات، يحوي عدداً لا بأس به من الوثائق التي تعطي صورة عن الأحداث الجارية، وفيها وثائق يمكن اعتبارها بحق نموذجاً جنينياً للكتابة التاريخية. من هذه الوثائق نصٌّ يغطي قترة طويلة من التاريخ البابلي تقدَّر بحوالى سبعة قرون، تبدأ بصعود صارغون الأكادي (حوالى عام 2300 ق م) وتنتهي بقدوم الكاشيين الذين أنهوا حكم أسرة حمورابي في بابل. وهذه ترجمتي للنص نقلاً عن الباحث ليو أوبِّنهايم:

صارغون، ملك أكاد، صعد على العرش في عهد عشتار.[6] لم يكن له مضارع أو معارض، فنشر هيبته المرعبة فوق كل البلاد. عَبَر البحر في الشرق، وقهر بلاد الغرب برمَّتها، وفي السنة الحادية عشر من حكمه جعلها لساناً واحداً، وأقام لنفسه نصباً تذكارياً هناك، ثم جلب جزية الأقطار عبر النهر على الأطواف. أسكن موظفي بلاطه حوله في مساحة تبلغ خمسة فراسخ مضاعفة، وسيطر على أرجاء البلاد بلا منازع. حمل على بلاد كالازا فجعلها خراباً وأطلالاً، ولم يترك مكاناً يعشِّش فيه الطير. في زمن شيخوخته قامت المدن المحكومة بثورة عليه، وضربت الجيوش حصاراً حوله في أكاد. ولكن صارغون شنَّ هجوماً عليهم مفاجئاً، فهزمهم وسحق جيوشهم الجرارة. ثم قامت ضده بلاد سوبارنو بقضِّها وقضيضها، ولكنها ما لبثت أن خضعت أمام جبروت قواته؛ فعمل على توطين قبائلها الرحَّل في الأرض وجاء بممتلكاتهم إلى أكاد. بعد ذلك عمد صارغون إلى إزاحة التربة عن أساسات مدينة بابل، وبنى فوقها مدينة أخرى قريبة من أكاد. فثار غضب الإله العظيم مردوخ بسبب هذا التدنيس، وقضى على شعب صارغون بالمجاعة، مشيحاً بوجهه عنهم، وحرم صارغون من الراحة في قبره.

نارام سن، ابن صارغون، حمل على مدينة أبيشال فحاصرها ونقب سورها، ثم قبض بنفسه على ملكها وعلى نبلائها. كما حمل على بلاد ماجان وقبض بنفسه على ملكها.

شولجي، ابن أورنمو، أوْلى مدينة إيريدو الواقعة على البحر عناية كبيرة. ولكنه سلب ممتلكات بابل ومعبدها ودنَّسها، فثار غضب الإله مردوخ وحكم على جثمانه بالدنس.

إيرا إميتي، ملك إيسين، وضع البستاني بل أبني على العرش كملك بديل، ووضع على رأسه التاج. ولكن الملك مات في قصره وهو يتناول الطعام، فبقي البستاني على العرش وجرى تتويجه ملكاً.[7]

إيلي شامو، كان ملكاً على بلاد آشور في زمن سومو آبو ملك بابل.

حمورابي ملك بابل، جمع جيشه وحمل على رم سن، ملك أور، فقهره. ثم قهر بعدها مدينة لارسا، وأخذ ممتلكاتها إلى بابل [...]

شمسو إيلونا، ابن حمورابي وملك بابل، جمع جيشه وسار ضد رم سن، فقهر أور ولارسا، وقبض عليه حياً في قصره. ثم حمل على [...] وألقى الحصار عليها [ فجوة واسعة في الرقيم].

إيليما إيلوم [...] الماء [...] بنى [...] ولكن شمسو إيلونا حمل عليه [...] وملأت جثثهم البحر. بعد ذلك، شن شمسو إيلونا حملة أخرى على إيليما إيلوم وشتت جيشه.

أبيشي، ابن شمسو إيلونا، قام [...] وفكر في أن يحتجز مياه دجلة. نفذ خطته بوضع ردمٍ في النهر، ولكنه لم يستطع القبض على إيليما إيلوم.

في أيام شمسو ديتينا، قامت بلاد حاتي بحملة على أكاد. إيا جميل، ملك بلاد البحر، قام بحملة على عيلام. وبعده، قام أولام بورياش، أخو كاشتلياش ملك الكاشيين، بحملة على بلاد البحر وقهرها.

آغوم ابن كاشتلياش، دعى جيوشه وحمل على بلاد البحر فقهر دُر–إيا، وهدم معبد إيا هناك.[8]

نلاحظ من قراءتنا لهذا النص أن الكاتب لم يحاول تقديم مسرد متكامل لتاريخ المنطقة خلال الفترة الزمنية التي يغطيها النص، بل اختار بعض العلامات البارزة في ذلك التاريخ، تاركاً الكثير من الفجوات الزمنية الواسعة فيما بينها. كما أنه لم يعمل على تحليل الأحداث وفهمها في سياقاتها التاريخية الصحيحية، ومن خلال علاقة الأسباب بالنتائج، ناهيك عن اعتماد التفسيرات اللاهوتية في النظر إلى أسباب تفكُّك وانحلال الدول والممالك. ومع ذلك فإن أمثال هذا النص من نماذج الكتابة شبه التاريخية هي التي مهَّدت لجنس الكتابة التاريخية التي ظهرت أولاً في اليونان، ثم في أقطار الشرق القديم. فبعد هيرودوتس وثوكيديدس وغيرهما ممَّن باشروا الكتابة التاريخية في الغرب منذ مطلع القرن الخامس ق م، ورأوا إلى الأحداث الماضية والحاضرة في معزل عن المعنى الديني، ظهر في ثقافتنا الشرقية أيضاً عددٌ من المؤلفين الذين باشروا نوعاً من الكتابة التاريخية المستقلة عن الأسطورة بهذا المقدار أو ذاك – ومنهم بيروسوس (برغوشا) البابلي، وفيلون الجبيلي، ومانيتو المصري. لكن الكتابة التاريخية لم تتحول إلى علم مستقل تماماً وملتزم بمناهج البحث والتقصي إلا في الثقافة الغربية الحديثة ابتداءً من القرن التاسع عشر. إن الذاكرة الإنسانية تُبعَث اليوم على أوسع نطاق ممكن في محاولة جبارة تطمح إلى استعادة الماضي برمَّته: ماضي الثقافة، وماضي الحياة، وماضي الكون – لمعرفة من نحن، ولماذا نحن على ما نحن عليه الآن، وإلى أين نسير.

غير أننا يجب أن نتذكر بأن هذا المشروع الإنساني الضخم مدين بأصوله للأسطورة. وعندما نتذكر ذلك يجب أن نحذر: نحذر من الانبثاقات اللاواعية للأسطورة وتسرُّبها إلى علم التاريخ، متسربلةً برداء علمي يُخفي معالمَها الأصيلة. فرغم كل المنطلقات العلمية التي تصدر عنها الكتابة التاريخية الحديثة، فإن نوعاً من النزوع الأسطوري الخفي يبقى كامناً وراء عمل المؤرخين من جهة، ووراء فهم قرَّاء التاريخ وتفسيرهم لما يُقدَّم إليهم من مادة. ويتضح ذلك بشكل جليٍّ عندما يتم بعث التاريخ القديم كجزء من مشروع قومي شامل، حيث يتحول الهوس القومي إلى هوس تاريخي، وبالعكس. ومثالنا على ذلك ما تم إبان صعود الحركات القومية الحديثة شرقاً وغرباً، عندما كُتِب التاريخ وجرى تفسيره انطلاقاً من الأوضاع الراهنة، في عملية معكوسة: أي أن الماضي صار يُقرَأ في ضوء الحاضر، وليس العكس. وهذا منطلق ميثولوجي صرف، أشرنا إلى بعض نماذجه في موضع آخر من هذا البحث. وتعبِّر هذه النزعة عن نفسها بطريقة خاصة، لدى الأمم المستضعَفة التي تحاول الاستناد إلى عصورها الذهبية الخالية من أجل استمداد العون على مواجهة أوضاعها المتردِّية الراهنة، وعلى تجاوز عقدة النقص والإحساس بالاضطهاد وبالعجز. ذلك أن قراءة التاريخ، شأنها في ذلك شأن قراءة الأسطورة، ترمي الإنسان خارج اللحظة الراهنة لتضعه في زمن حقيقي غير متخيَّل،[9] يمنحه القوة ويعطيه الإحساس بأنه سليل ذلك البطل أو وريث تلك المرحلة الذهبية التي تُؤمَلُ استعادتُها. بذلك يحيلنا التاريخ الدنيوي، مرة أخرى، إلى التاريخ المقدس وقد ألبِس حلَّة جديدة تليق بالعصر.

أخيراً، هنالك سؤال ينطرح عند هذه المرحلة الختامية من بحثنا هو: إلى أي حدٍّ يمكن للتاريخ المقدس أن يشفَّ عن تاريخ دنيوي؟ وهل نستطيع تلمُّس حوادث تاريخية تحت المستوى الظاهر للحوادث الأسطورية؟

لقد قلت في موضع سابق من هذا البحث إن الأحداث والشخصيات التاريخية لا تخلد في الذاكرة الشعبية إلا من خلال الأسْطَرَة. وهذا يعني أننا قادرون على تلمس أحداث تاريخية وراء عملية السرد الميثولوجي في العديد من النصوص الأسطورية التي هدفت، من حيث الأساس، إلى الانتقال بسلسلة من الأحداث من مستوى الواقع إلى مستوى الأسطورة. غير أن المعلومات التاريخية التي نستطيع استخلاصها من الأسطورة لا يمكن الركون إليها في عملية إعادة بناء تاريخ ثقافة ما، ما لم تجرِ مقاطعتُها مع المعلومات المستمَدَّة من مصادر أخرى، كتابية كانت أم أركيولوجية، وذلك وفق منهج علمي منضبط. ولكي أجعل هذه المسألة واضحة أمام القارىء، سوف أعمد إلى عرض واحد من النماذج الأسطورية المشرقية التي قادتني دراستُها إلى اكتشاف النواة التاريخية التي قامت عليها حبكتُها الميثولوجية. ونموذجنا هنا هو النص السومري المعروف لدى الباحثين بعنوان إنكي وإنانا الذي أقدِّم فيما يلي ترجمتي الكاملة له،[10] متعةً القارىء وفائدةً له في آن معاً:

إنكي وإنانا

نقل تقاليد الحضارة إلى أوروك

 في مطلع هذا النص نجد الإلهة إنانا، المعبود الرئيسي لمدينة أوروك في مستهلِّ عصر السلالات الأولى (مطلع الألفية الثالثة ق م)، تستعد للسفر إلى موطن الإله إنكي، ربِّ الأعماق المائية العذبة والمعبود الرئيسي لمدينة إيريدو العريقة التي كانت المركز الرئيسي للثقافة العبيدية السابقة على الثقافة السومرية في وادي الرافدين الجنوبي:

إنانا وضعت على رأسها الشوجارا – تاج السهول،

ومضت إلى حظيرة الأغنام، جاءت إلى الراعي.

هناك أسندت ظهرها إلى شجرة التفاح.

وعندما أسندت ظهرها برز فرجُها بهجةً للناظرين.

فرحت إنانا بفرجها الرائع، وأثنت على نفسها، ثم قالت:

"أنا ملكة السماوات، سوف أزور إله الحكمة.

سوف أمضي إلى الآبسو، المكان المقدس لإريدو،

وأقدم فروض التبجيل لإله الحكمة في إيريدو،

وأتلو صلاةً لإنكي عند أعماق الماء العذب."

ثم اتَّخذت إنانا طريقها وحيدة.

هدف هذه الرحلة، كما سوف يتضح بعد قليل، هو رغبة إنانا، إلهة مدينة أوروك، في الحصول على ألواح نواميس الحضارة التي يحتكرها إنكي، إله مدينة إريدو، منذ القدم. وتدعو النصوص السومرية هذه النواميس بالـ"مي" Me؛ ومن امتلكها من الشعوب حاز قصب السبق في ميدان الحضارة وانتقل من البدائية إلى المدنية.

عندما صارت على مقربة من الآبسو،

ذاك الذي اتَّسعتْ أسماعه،

ذاك العليم بالـ"مي" – نواميس السماء والأرض،

ذاك الذي يطَّلع على أفئدة الآلهة،

إنكي، إله الحكمة العليم بكل شيء،

نادى خادمه إيسموند:

-         هلم يا معيني، هلم إليَّ!

إن الفتاة الشابة على وشك دخول الآبسو.

عندما تلج إنانا إلى الهيكل المقدس،

قدِّمْ إليها كعك الزبدة طعاماً،

وصُبَّ لها ماء بارداً ينعش قلبها.

قدِّمْ أمامها الجعة عند تمثال السبع،

وعامِلْها كندٍّ لنا وَلِد،

حيِّها عند المائدة المقدسة، مائدة السماء.

صدع إيسموند لما أمِر به.

وعندما دخلت إنانا إلى الآبسو،

أعطاها كعك الزبدة طعاماً،

وصبَّ لها ماءً بارداً لتشرب،

وقدَّم أمامها الجعة عند تمثال السبع،

عامَلَها بما يليق بها،

وحيَّاها عند المائدة المقدسة – مائدة السماء.

بعد ذلك يأتي إنكي فيستقبل إنانا ويجلس معها إلى المائدة، يعاقران الخمرة معاً. يُكثِر إنكي من الشراب الذي تحثُّه إنانا، على ما يبدو، على اجتراعه. تلعب الخمرة برأسه، فيأخذ بالبوح لإنانا عن نواميس الحضارة، مهدياً إياها واحداً إثر آخر:

إنكي وإنانا شربا الجعة معاً.

شربا مزيداً من الجعة معاً.

شربا مزيداُ ومزيداً من الجعة معاً.

بالأكواب البرونزية الطافحة بالشراب،

بأكواب أوراش أم الأرض،

تبادلا الأنخاب وتباريا.

ثم قال إنكي رافعاً نخب إنانا:

-         باسم قدرتي، باسم هيكلي المقدس!

سأعطي ابنتي إنانا ناموس الكهنوت وناموس الألوهية،

سأعطيها التاج النبيل الدائم وعرش المُلك.

فأجابت إنانا:

-         أنا أقبل بها.

ويتابع إنكي شرب الأنخاب... ومع كل نخب يهبها عدداً من النواميس، فتقبلها إنانا. وبعد المجموعات الثماني الأولى من النواميس المتعلقة بالكهنوت والألوهية والمعبد وطقوس خدمة الآلهة وما إليها، ينتقل إنكي إلى إهدائها نواميس الشؤون الدنيوية، كالزراعة والحرف والموسيقى والتعدين والعدالة إلخ. وعندما تستلم إنانا جميع النواميس تقف أمام إنكي وتقرُّ باستلامها النواميس، معدِّدة إياها واحداً واحداً:

"لقد أعطاني الأب إنكي نواميس الحضارة.

أعطاني ناموس الكهنوت الأعلى.

أعطاني ناموس الألوهية.

أعطاني ناموس التاج النبيل الدائم.

أعطاني عرش المُلْك.

أعطاني الصولجان النبيل.

أعطاني العصا.

أعطاني قضيب وحبل قياس المسافة.

أعطاني الخنجر والسيف.

أعطاني فن الجماع.

أعطاني فن تقبيل القضيب.

أعطاني فن الدعارة المقدسة.

أعطاني أدوات الموسيقى الصادحة.

أعطاني فن الغناء.

أعطاني فن اللياقة والكياسة.

أعطاني بيوت السكن الآمنة.

أعطاني حرفة حفر الخشب.
أعطاني حرفة صناعة النحاس.

أعطاني... إلخ.

وبعد أن تنتهي من تعداد ما استلمته من نواميس الحضارة تستعد لمغادرة المكان، وإنكي ما يزال تحت تأثير الخمرة:

تكلَّم إنكي مع خادمه إيسموند:

-         أي تابعي ومعيني إيسموند!

إن المرأة الشابة ستتوجَّه إلى أوروك،

وإني أرغب في وصولها سالمة إلى مدينتها.

جمعت إنانا النواميس المقدسة،

وحملتْها جميعاً في زورق السماء،

وتم دفع الزورق، فانساب بعيداً عن المرفأ.

وعندما زال مفعول الخمرة من رأس شارب الجعة،

عندما زال مفعول الخمرة من رأس إنكي،

عندما طارت الخمرة من رأس إله الحكمة العظيم،

تطلع إنكي في أرجاء الآبسو،

وجالت عينا ملك الآبسو في أنحاء إيريدو،

جالت عيناه في أنحاء إيريدو، ثم نادى خادمه:

-         أي تابعي ومعيني إيسموند!

-         ها أنا ذا واقف أمامك مستعد لخدمتك!

-         ناموس الكهنوت الأعلى، والألوهية،

والتاج النبيل الدائم، أين هي؟

-         لقد وهبها مليكي لابنته إنانا.

يكرِّر إنكي سؤاله أربع عشرة مرة ليلقى من إيسموند الجواب نفسه. وفي جوابه الأخير يقول إيسموند:

-         لقد وهبها مليكي لابنته إنانا،

لقد وهبها جميع النواميس المقدسة.

التفت إنكي إلى إيسموند قائلاً:

-         زورق السماء المحمَّل بالنواميس الإلهية،

أين هو الآن؟

-         زورق السماء في الميناء الأول على الطريق.

-         إمضِ إليه، خذ معك تنانين الإينكوم،

دعهم يُرجِعون زورق السماء إلى إيريدو.

وصل إيسموند إلى إنانا وقال:

-         أي سيدتي، لقد أرسلني الأب إليك،

وإن كلمة الأب إنكي هي كلمة القانون.

كلمات إنكي ينبغي ألا تُعصى.

قالت له إنانا:

-         ما الذي قاله الأب إنكي

وما الذي زاد في قوله إنكي؟

ما هي كلماته، كلمات القانون التي ينبغي ألا تُعصى؟

أجاب إيسموند:

-         قال مليكي:

"دَعْ إنانا تتابع طريقها إلى أوروك،

واستعِدْ زورق السماء والنواميس إلى إيريدو."

صرخت إنانا:

-         لقد بدَّل الأب كلمته التي أعطانيها،

نكث بعهده ولم يفِ بوعده.

خدعني عندما قال،

خدعني عندما أعلن على الملأ:

"باسم قدرتي، باسم هيكلي المقدس!"

وبخدعة أخرى أرسلكَ إليَّ.

وما إن أنهت إنانا كلامها هذا،

حتى انقضَّت تنانين الإينكوم وأمسكت بالزورق.

هنا نادت إنانا خادمتها ننشوبور:

-         لقد كنتِ فيما مضى ملكة الشرق

والآن أنت القيِّمة المخلصة على هيكل أوروك.

فيا معينتي التي تقدِّم النصح الحكيم،

ويا مقاتلتي التي تحارب في صفي،

تعالي أنقذي زورق السماء والنواميس المقدسة!

ننشوبور شقَّت الهواء بذراعها،

وأطلقت صرخة تهز الأرض،

قذفت تنانين الإينكوم وأعادتهم إلى إيريدو.

عند ذلك نادى إنكي خادمه إيسموند مرة ثانية:

-         أي معيني إيسموند!

أين زورق السماء الآن؟

-         إنه في المرفأ الثاني على الطريق.

-         إمضِ وخُذْ معك خمسين من عمالقة الأورو،

ودعهم يُرجِعون زورق السماء إلى إيريدو.

انقض العمالقة الطائرون وأمسكوا بزورق السماء،

لكن ننشوبور أنقذت الزورق من أيديهم.

عند ذاك نادى إنكي خادمه إيسموند مرة ثالثة:

-         أي معيني إيسموند!

أين زورق السماء الآن؟

-         لقد دخل لتوِّه محطة دولما.

-         أسرع، خذ معك خمسين من وحوش اللاباما،

دعهم يُرجِعون زورق السماء إلى إيريدو.

أمسك وحوش اللاباما بزورق السماء،

لكن ننشوبور أنقذت زورق السماء من أيديهم.

في المرة الرابعة أرسل إنكي الكوكالجال ذوي الصوت الثاقب.

في المرة الخامسة أرسل إنكي الإنيولون.

ولكي ننشوبور أنقذت الزورق من أيديهم في كل مرة.

عند ذاك نادى إنكي خادمه إيسموند للمرة السادسة:

-         أي معيني إيسموند!

-         أين زورق السماء الآن؟

-         إنه على وشك الدخول إلى أوروك.

-         أسرِعْ، وخُذْ معك حراس قنال الإيتورونجال.

دعهم يُرجِعون زورق السماء إلى إيريدو.

أمسك إيسموند وحراس القنال بزورق السماء،

ولكن ننشوبور أنقذت الزورق من أيديهم.

عند ذلك قالت ننشوبور لإنانا:

-         أي مليكتي! عندما يصل الزورق،

عندما يدخل أوروك من بوابة نيجولا،

دعي الماء يرتفع وينداح في مدينتنا،

ولتمخر المراكب البعيدة المدى بخفة قنواتنا.

أجابت إنانا ننشوبور:

-         في اليوم الذي يصل فيه زورق السماء،

في اليوم الذي يدخل فيه بوابة نيجولا،

فليرتفع الماء وينداح في شوارعنا،

ليرتفع الماء ويسري في الممرات،

ليخرج الأطفال فرحين مغنين،

ولتحتفل أوروك كلها.

ليخرج الكاهن الأعلى ويستقبل الزورق بالأناشيد،

وليَتْلُ الكاهن الأعلى الصلوات الكبرى.

ليذبح الملك الشياه والثيران قرباناً،

وليسكب من كأسه الجعة تقدمة.

لتضجَّ أصوات الطبل والطنبور،

ولتعزف موسيقى التيغي العذبة.

لتعلن البلاد وتُعلي اسمي،

وليسبِّح كل شعبي بحمدي.

وهكذا كان.

عند ذلك نادى إنكي خادمه إيسموند:

-         أين زورق السماء الآن؟

-         إن زورق السماء في الميناء الأبيض.

-         إمضِ، فإنانا قد صنعت عجائب هناك.

الملكة إنانا قد صنعت عجائب في الميناء الأبيض،

صنعت عجائب من زورق السماء.

في تلك الأثناء كانت النواميس تُنزَل من الزورق.

وعندما انتهى إنزال النواميس التي تلقَّتها إنانا،

تم إعلانها على الملأ وتقديمها لشعب سومر.

ونطقت إنانا قائلة:

-         إن المكان الذي رسا فيه قارب السماء،

سوف يُدعى بالميناء الأبيض.

إن المكان الذي قُدِّمت فيه النواميس،

سوف يُدعى بالميناء اللازوردي.

وهنا نادى إنكي إنانا قائلاً:

-         باسم قدرتي، باسم هيكلي المقدس!

لتبقَ النواميس التي أخذْتِها في هيكل مدينتك،

ولينصرفَ الكاهن الأعلى إلى الإنشاد في الحرم المقدس.

لتزدهر أحوال أوروك،

ويبتهج صغار مدينتك.

ليكن شعب أوروك حليفاً لشعب إيريدو،

ولتتبوأ أوروك مكانتها العظيمة.

على هذا النحو ينتهي النص. فما هو الحدث التاريخي الذي تقدِّمه هذه الأسطورة على طريقتها؟

لم تظهر المستوطنات الزراعية في وادي الرافدين الجنوبي حتى وقت متأخر من الألفية السادسة ق م. ففيما بين أواخر الألفية السادسة وأوائل الألفية الخامسة بدأت المستوطنات الزراعية الأولى بالظهور في هذه المنطقة التي دُعِيَت فيما بعد سومر، وأخذت بالتشكل ملامح الثقافة التي عرفت بالثقافة العُبيدية أو ثقافة تل العُبيد، نسبة إلى أول مواقعها المكتشفة. ورغم أن هذه الثقافة قد استمدت اسمها من موقع تل العُبيد، إلا أن مدينة إريدو كانت أهم وأكبر حواضرها. وقد بلغت هذه المدينة في نهاية فترة حضارة تل العُبيد حجماً كبيراً بمقياس ذلك العصر، حيث نافت مساحتها على العشرة هكتارات، ووصل تعداد سكانها إلى أربعة آلاف نسمة. وهذا أكبر تجمع سكاني حققته الحضارة الإنسانية حتى ذلك الوقت في أي مكان من العالم. أعطت الحضارة العُبيدية فنوناً متقدمة تجلَّت في الفخاريات الملونة ذات الطابع المتميز، والدُمى الطينية، وصناعة الأختام. كما تجلَّت في العمارة الراقية التي وضعت الأسس الأولى للعمارة السومرية اللاحقة. وقد تم اكتشاف عدد من آيات العمارة العبيدية متمثلة بمعابد الإله إنكي، المعبود الرئيسي لهذه المدينة. وفي مجال التكنولوجيا يبدو أن الحضارة العُبيدية قدمت عدداً من الابتكارات المهمة، وخاصة في مجال الري والفلاحة والحرف اليدوية. ومن المرجَّح أن يكون المحراث والعجلة قد ابتُكِرا خلال هذه المرحلة.

استمرت آثار الثقافة العُبيدية قائمة من حوالى عام 5300 ق م إلى حوالى عام 3600 ق م. وهنا بدأ الآثاريون يتلمسون حلول ثقافة جديدة محلَّها دُعِيت بحضارة أوروك. ففي مدينة أوروك تم اكتشاف أولى المصنوعات اليدوية التي أشَّرت إلى بداية هذه الثقافة الجديدة. وكانت أوروك أكبر وأهم موقع خلال هذه الفترة التي استمرت حتى حوالى عام 2900 ق م. وقد استطاعت التنقيبات الأثرية تتبُّع الانتقال الحضاري من مرحلة العُبيد، حيث كانت إريدو مركز الثقافة في سومر، إلى مرحلة أوروك 1، عندما تحول الثقل الحضاري من إريدو إلى أوروك. كما أمكن لعلماء الآثار تلمس التغييرات الواضحة في النواتج المادية التي أشَّرت إلى ذلك الانتقال، وذلك من خلال الأساليب الفنية المتَّبعة في تشكيل الأختام، والأنماط المعمارية، والمصنوعات اليدوية، وما إليها. ومن أهم الملاحظات الأركيولوجية الخاصة بموضوعنا هنا أن مدينة إريدو، التي استمرت قائمة خلال فترة أوروك، تبنَّت الأنماط المعمارية والفنية الأوروكية الجديدة. أما أوروك، التي كانت عبيدية الطابع حتى ذلك الوقت، فقد أخذت منذ عام 3600 بإظهار جميع التقاليد الثقافية التي اصطلح الآثاريون على تسميتها بالتقاليد الأوروكية.[11]

وهذا بالضبط ما حاولت أسطورة إنكي وإنانا أن تنقله إلينا. فإنانا، الإلهة الرئيسية لمدينة أوروك، حصلت على نواميس الحضارة من إنكي، الإله الرئيسي لمدينة إيريدو. وبانتقال النواميس، غابت ثقافة إريدو لتحلَّ محلَّها ثقافة أوروك. نحن هنا أمام حالة فريدة من تطابق مضمون تاريخ مقدس مع مضمون التاريخ الدنيوي – لكنْ مع التذكير بأن الأسطورة هنا تبقى أمينة، بالدرجة الأولى، للتاريخ المقدس، لأنها لا تعطي الإنسان أهمية تُذكَر في صنع حضارته وتقرير مصيره.

*** *** ***


[1] S. N. Kramer, Sumerian Mythology, op. cit, pp. 53-54.

[2] Ibid, pp. 51-52.

[3] Ibid, pp. 62-63.

[4] ميرسيا إلياد، أسطورة العود الأبدي، بترجمة نهاد خياطة، دار طلاس، دمشق، 1987؛ ص 24.

[5] من هنا جاءت كلمة "عبقري" التي تدل على الإنسان الفائق الإبداع، المتواصل مع منبع الحكمة الإلهي الخفي.

[6] يرد تعبير "عهد عشتار" الوارد هنا في أكثر من نص بابلي، لكن دلالته ما زالت غامضة.

[7] عند خسوف القمر كان الملك السومري يتنازل عن عرشه مؤقتاً لواحد من عامة الشعب، لأن وقت الكسوف كان شؤماً على الملك. كما كان ملوك بابل ينزلون عن العرش بضعة أيام لواحد من عامة الشعب خلال أعياد رأس السنة، والسادة يخدمون عبيدهم أيضاً، وذلك كجزء من ممارسة طقسية تهدف إلى استحضار حالة الفوضى التي كانت سائدة قبل أن يُحِلَّ مردوخ النظام في الكون.

[8] Leo Oppenheim, “Babylonian Historical Texts” (in J. Pritchards edt., Ancient Near Eastern Texts), Princeton, 1969, pp. 260-267.

[9] وهذا ما يميز بشكل جذري بين قراءة الرواية وقراءة التاريخ.

[10] D. Wolkstein and S. N. Kramer, Inana, Harper and Row, New York, 1983, pp.12-27.

[11] انظر هذه المعلومات التاريخية والأركيولوجية بتفصيل أكثر في كتاب:

Charles Redman, The Rise of Civilization, Freeman, San Francisco,1978.

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود