الفصل الثاني - الجزء الثاني: ابن الأمير أو ابن الفقير الفصل الأول - الجزء الثاني: رزّوق، فلادو، جورج وأريس

    الفصل الثاني

أقاصيص الأهل...

(1945-1954)  

أكرم أنطاكي

آ

الخطوات الأولى...

طائر الليل: لعل الاعتراض الأول على أية "سيرة ذاتية" هو أن الإنسان يتحدث فيها عن نفسه. وحين يتحدث المرء عن نفسه، تضعف الموضوعية عموماً؛ حيث إن هناك ميلاً إنسانياً طبيعياً دائماً لإبراز ما يناسب وإخفاء ما لا يناسب. وهنا، لا تنفع التأكيدات، مهما صدقت و/أو تم التأكيد على صدقها. ولكن ليس هذا هو الأهم، إنما مجرى الحياة، ومن خلاله ما...

كتب أريستيدي (142) على الصفحات الأولى من "الكتاب المقدس" أنه...

"... في الحادي عشر من شهر كانون الثاني عام 1945 رُزِقنا طفلاً مباركاً أسميناه أكرم (143). وَهَبَه الله طول العمر والتوفيق...".

 أكرم محمولاً من قبل جدته أولغا

"كانت ولادتك في مشفى الدكتور نخمن (144) [الذي أضحى اليوم "المشفى الطبي الجراحي"] الواقع قرب مدرسة اللاييك في شارع بغداد. وقد جاء معظم أفراد العائلة من حمص وحلب في حينه إلى دمشق للمباركة...".

و"في 23 كانون الثاني 1945 ولد لرزق الله (145) طفل أسماه كريم (146)، تيمُّناً بعمِّنا (147) الذي في حلب...".

"كانت تسميتك بأكرم (148) أيضاً تيمناً بالعمِّ [الـ]ـكريم [الذي] قدَّم لنا ولرزق الله (149) هدايا ثمينة جداً في هاتين المناسبتين السعيدتين...".

وكانت هناك خلافات في محيط الأسرة بين أبي وشقيقه الأكبر حول موضوع هذه التسمية. فكلاهما كان يرغب في التيمُّن بالعمِّ الغني في حلب؛ لكن هذا كان في الظاهر وحسب. أما الحقيقة فهي أن والدي كان في تلك الأيام عاطلاً عن العمل؛ وتلك كانت المشكلة الأولى، والأهم، التي عانت منها أمي (150) في بيت زوجها، والتي أثقلت، بعض الوقت، على أجوائنا العائلية...

والأحوال كانت تغيرت كثيراً من حول لطف الله منذ زواج أبنائه الثلاثة، وخاصة منذ زواج والدي ومجيء والدتي لتسكن في منزل الأسرة. فقد أضحت في العائلة ثلاث كنائن لا يستهان بهنَّ. ثم إن الأوضاع بين الأبناء أمست متفاوتة مادياً. لذا كان من الطبيعي أن ينفرط العقد القديم القائم، وأن تتبدل الأحوال عبر الخلافات والصراعات والصغائر، فتنعكس على العلاقات العائلية...

وكانت ليندا (151) زوجة فلادو (152) (اسم التصغير لعمِّي فلاديمير) أول من سعى لإبعاد زوجها عن نفوذ أهله. فساعدته، عن طريق أقربائها، على إيجاد وظيفة مستقلة عن رزُّوق (153) (وكان جميع الإخوة يعملون في البداية مع رزق الله في المكتب). كما أمَّنت من اليوم الأول منزلاً مستقلاً لها ولعائلتها – وإن ظلوا، توفيراً للمال في حينه، يتناولون الغذاء والعشاء في منزلنا...

ثم تلتها ماري (154) التي سرعان ما أقنعت رزُّوق (155) بالاستغناء عن خدمات شقيقيه جورج (156) وأريس (157) (اسم التصغير لوالدي) اللذين كانا يعملان معه في المكتب. جورج كان يعمل محامياً شريكاً في مكتبه، وكان مستلماً جميع أعماله؛ أما والدي فكان يعمل مسئولاً عن مكتبه ومسجِّلاً في كلِّية الحقوق. وبقي رزُّوق في المكتب وحده، وحلَّ فيليكس نصري (158) لديه محلَّ أبي...

"تأثر والدك وعمك جورج (159) كثيراً بما حدث وبإبعاد رزُّوق لهما، فانقطع والدك عن دراسة الحقوق؛ كما تأثر جدك الذي رأى فيه بداية تصدُّع لأسرته. وسرعان ما سعى فأمَّن، عن طريق معارفه، وظيفة في الدولة لكلا ولديه الأصغرين. وكانت تلك الوظيفة في الميرة (أي مكتب الحبوب)...".

أما والدتي فقد افتعلت في حينه مشكلة في المنزل كان من نتائجها (الإيجابية بالنسبة لها) أنْ "توقَّفنا عن الاستقبالات اليومية على الغذاء وعلى العشاء، وأنْ سلَّمني جدك مصروف العائلة. وعادت الأمور إلى مجاريها وتصالح الجميع." وإنْ...

بقي طبعاً ذلك الواقع المتمثل بانفصال رزق الله (160) وفلاديمير (161) من جهة، وبقاء جورج (162) وأريستيدي (163) مع العجوز من جهة أخرى، في ذلك المنزل، حيث ولدتُ، وحيث كانت تعيش أسرتي، الحلبية – اليونانية الجذور، المسيحية – الأرثوذكسية المذهب، المتحررة فكراً، والمتوسطة حالاً. وكان منزلنا المستأجر المتواضع يقع، كما ذكرت، في شارع العابد قرب المجلس النيابي أو "البرلمان"...

ودمشق، التي كانت ما تزال في ظلِّ الانتداب الفرنسي، كانت تتهيأ – على بركة الله – لمرحلة استقلالها (المفترَض القادم). وكانت حكومتها حكومة "كتلة وطنية" يترأسها السيد فارس الخوري (164) ؛ وكان وزير ماليَّتها (ابن عمِّنا) نعيم أنطاكي (165)...

وكانت "الكتلة الوطنية"، التي قادت المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الفرنسي في سبيل الاستقلال، قد انشقَّت على نفسها، فأضحت موزعة بين أولئك (الشباب) الذين اتخذوا من حلب مركزاً لهم وباتوا يعرفون بـ"حزب الشعب"، برئاسة رشدي الكيخيا (166) ومعروف الدواليبي (167)، والذين انضمَّ إليهم عمي رزق الله (168)؛ وبين من تبقى من شخصياتها في البلد، برئاسة شكري القوتلي (169) وسعد الله الجابري (170) وعبد الرحمن كيالي (171) وجميل مردم بك (172) وميخائيل ليان (173) وصبري العسلي (174)، وأضحوا "الحزب الوطني"، كما كانت ميالة نسبياً إلى التعامل مع إنكلترا على حساب فرنسا، حليفتها في الحرب العالمية الثانية. ففي حينه، كانت إنكلترا هي المنافس المباشر والرئيسي لفرنسا في الصراع الدائر على المنطقة عموماً، وعلى سورية خصوصاً...

"... وإنكلترا (كما كان يقول أبي رحمه الله) كانت تبدو وكأنها الراعية بين القوى العظمى للاتجاه العروبي... فهي التي كانت وراء تأسيس "الجامعة العربية"... وهي التي باتت بعد الحرب الثانية "تدعم" العرب – نسبياً – في صراعهم مع الصهاينة في فلسطين...".

وكانت ليلة ذلك الثلاثاء 29 أيار 1945، وحادث العدوان على البرلمان...

"كان صوت الرصاص يلعلع، وكأنه فوق رؤوسنا، وكنَّا نختبئ جميعاً في غرفة الطعام، أنا وأنت بين ذراعيَّ تحت الطاولة، ومعنا جدك وعمك جورج (175). كان والدك يغطينا أنت وأنا بجسمه. وفي الصباح، وقد توقف إطلاق النار، صعدت مع والدك إلى سطح المنزل حيث جمعنا فوارغ الرصاص. ثم كان انسحاب القوات الفرنسية من وسط دمشق. وكانت مظاهرات صاخبة، هاجم المتظاهرون فيها الكوبيراتيف (التعاونية) الفرنسية التي كانت واقعة قرب منزلنا ونهبوها. وقد كان من بينهم جارنا الياس (الحلاق) الذي شاهده والدك وهو يشارك في السرقة. كما قيل، نقلاً عن شهود عيان، أن ضابطاً بريطانياً كان يرشد المتظاهرين إلى موقع اختبأ فيه زميل له فرنسي، قام المتظاهرون بالتنكيل به. وبعد أن هدأت الأحوال قليلاً، أرسلنا والدك إلى بيت أهلي في حمص حيث مكثنا بعض الوقت...".

وكان جلاء الفرنسيين – جزاهم الله خيراً! – عن سوريا نيسان 1946...

"في تلك السنة، يا أكرم (176)، عانينا من بعض المشاكل. فقد مرضت أنت بالحصبة، وكان عليَّ أن آخذك إلى آخر خط المهاجرين صباح كل يوم لتستنشق الهواء العليل، كما أوصانا الطبيب، وكنت في تلك الأيام حاملاً. فلم أتحمل الإعياء وأجهضت. لقد كانا توأمين ذكرين، كما قيل لي فيما بعد...".

ربما كنت في صغري طفلاً مدللاً

وكانت الانتخابات التي جرت في البلاد في 7 من تموز 1947...

"وفاز رزق الله (177) بالنيابة عن "حزب الشعب" في حلب...".

"كان جدك سعيداً في تلك الأيام، لا يعطي فرحته لأحد. فقد أضحى ابنه البكر، أستاذ الجامعة، أحد ألمع وجوه البلد...".

تعززت مكانته وبات يُدعى إلى بعض الاحتفالات التي كانت تجري في بعض السفارات، وخاصة في السفارة الروسية، حيث التقى في إحدى المناسبات بألكسندروس (جحا)(178) مطران حمص وصديقه القديم في الدراسة. ودار بينهما، بحضور السفير، حديث طريف جاء فيه على لسان المطران (جحا)...

-       لو أكملتَ دراستك معي في روسيا يا لطفي لكنت اليوم مطراناً مثلي...

فردَّ لطف الله (179) عليه ضاحكاً:

-       أنا وضعي اليوم، يا صديقي، أفضل من وضعك. فأنت مطران، بينما أنا "بابا"!

ولكن لطف الله (180) كان تجاوز "المرحلة البابوية". فقد كان أضحى "جدُّو" منذ زمن، وكان عدد أحفاده يتزايد. ففي 9 تموز 1947 كان حدثٌ فاق في أهميته بنظر الأسرة "الجلاءَ" و"الانتخابات"، حيث...

"... رُزِقنا طفلة مباركة أسميناها إكرام (181)... وَهَبَها الله طول العمر والتوفيق...".

كانت ولادتها أيضاً في مشفى الدكتور نخمن (182) الذي كان صديقاً لجدي وموضع ثقة الأسرة...

أكرام وأم حنّا

"فور ولادة إكرام، غادرت أمي (أولغا (183)) منزلنا في صباح اليوم التالي عائدة إلى حمص..."، احتجاجاً منها على الله وعلى والدك اللذين خرقا عقدهما معها، فرُزِقنا بابنة؛ بينما هي كانت "متعاقدة" على ولد. فأضحت هذه الحادثة، منذ ذلك الحين، موضوع تندُّر في حلقتنا العائلية.

وحلقة الأسرة كانت – ولم تزل – الانتماء الأول لأبناء شعبنا، والموضوع الأول الشاغل لأي عائلة في هذا البلد. وشؤون أسرتنا، تحديداً، كانت تتمحور في حينه (حين يكون غائباً) حول الجد (لطف الله (184)) ومغامراته النسائية وقصصه التي لا تنتهي؛ حول جولات لعب الورق (فعائلتنا كانت مشهورة بولعها بلعب الميسر)؛ حول الزيارات لمتبادلة بين الأهل والأقارب؛ وإلى حد ما، من خلال عمي رزق الله (185)، حول بعض السياسة المتعلِّقة بما كان يجري في البلد حيث...

سحقت الحكومة الوطنية عام 1947 تمرُّد زعيم عشيرة في جبال العلويين، كان قد تسمَّى بالربِّ، يدعى سليمان المرشد ( (186)، الذي، تضامن معه في حينه الكثير من أبناء طائفته...".

"وكان قريبنا حبيب هلال (187)، زوج نديمة (188) – رحمهما الله –، من بين الدرك الذين شاركوا في اقتحام آخر معاقل "الربِّ" واعتقاله...".

"وكان شكري القوتلي (189) – الله يرحمه ويذكره بالخير – يماطل في التوقيع على حكم الإعدام الصادر بحق هذا الأخير، لأن أمَّه كانت "حلَّفته بأن لا يعدم أحداً"...".  

** ملاحظة هامة

"واشترينا راديو. في تلك الأيام كانوا قلائل مَن يملكون الراديو. وأضحت بنات الجيران – وكنَّ من بيت العشي – يداومن في منزلنا لسماع أغاني أسمهان (190)التي كان شعبنا يتابعها بشغف أكثر مما كان يتابع أخبار البلد عبر الإذاعة وخاصة الصحف...".

"فقد كانت ما تزال هناك صحافة في البلد. وكانت هذه الصحافة ما تزال حرَّة...".

"وكان الدستور الذي أقرَّه أول برلمان ما يزال محترماً؛ وكان لا يتضمن أي دين أو معتقد للدولة مفترضاً؛ مما كان يبدو في تلك الأيام بديهياً (من حيث الظاهر) أن "الدين لله والوطن للجميع"... وكانت حرمة الدولة والوظيفة العامة ما زالت مصونة ومطبَّقة على الجميع. فلم يكن أحد يجرؤ على استغلال موقعه الرسمي لمنافعه الخاصة ومنافع زلمه ومحاسيبه."

عن هذا العهد يقولون – والعهدة على الراوي – أنه "تقدَّم أحد النواب ذات يوم باستجواب للحكومة مفاده أن الحكومة الأمريكية أهدت سيارة كاديلاك لرئاسة الجمهورية، وأن الحكومة قبلتْها وباتت تستعملها. ولكن، لما كانت مخصَّصات الرئاسة هي سيارة واحدة ونفقات هذه السيارة فقط، لذلك طلب ذلك النائب "رجاءً توضيح كيف يتم تأمين مخصَّصات السيارة الثانية؟""

وطلبت الحكومة الاستمهال في الإجابة، التي جاءت في الجلسة القادمة، على لسان رئيس الحكومة، تقول إن رئاسة الجمهورية لم تتجاوز ما خُصِّص لها بهذا الخصوص، وأنها لا تستعمل سوى سيارة واحدة فقط. أما السيارة الثانية فهي مستبقاة لديها من باب الاحتياط...".

كانت هذه الأوضاع طبيعية ومنطقية. لكن الأمور تغيرت، من بعدُ، نتيجة قيام "دولة إسرائيل"...

كان ذلك في أيار 1948، حين اندلعت "حرب فلسطين" بين العرب عموماً والصهاينة الذين انتزعوا، بمساعدة القوى العظمى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا السوفيتية، ومن طرف واحد، دولةً لهم في المنطقة أسموها "إسرائيل"...

تلك الحرب التي لا أتذكر من وقائعها، وبشكل ضبابي جداً، إلا صباح ذلك اليوم (.../.../1949 – لست متأكداً تماماً من التاريخ)، حين استيقظت على دوي انفجار وزجاج متكسِّر...

"اقتحمنا، والدك وأنا، غرفة النوم بعدها مباشرة، لننتزعك وشقيقتك إكرام (191) من تحت الزجاج الذي كان يغطي سريريكما، دون أن تصابا – شكراً لله – بأي أذى...".

يومها قامت طائرة مقاتلة (إسرائيلية على ما يبدو) بإلقاء قنبلة على دمشق للضغط على حكومتها من أجل إجبارها على قبول وقف لإطلاق النار على الجبهة السورية الفلسطينية التي كانت ما تزال مشتعلة... وقبلت الحكومة السورية وقف إطلاق النار والتوقيع على اتفاق الهدنة مع إسرائيل في رودس في 20/7/1949...

أما نحن، آل أريستيدي لطف الله أنطاكي (192)، فقد سفَّرنا والدي، كالعادة، بسيارة مستأجرة إلى بيت جدي في حمص حيث بقينا بعض الوقت...

وأعود لصور العائلة لتلك الأيام. وأحاول، من خلالها وذاكرتي، استعادة شتات بعض ما تركته السنين عالقاً...  

أنا وإكرام في بيت جدنا في حمص

هذا بيت جدي لوالدتي في حمص؛ وقد كان منزلاً طريفاً من حيث موقعه المميَّز في حي الحميدية. فقد كان مطلاً على مقهى عُرِف بالاسم نفسه في الجانب الآخر من الشارع. وكان فخماً من حيث طرازه، كالعديد من المنازل السورية التي تعود إلى أوائل القرن؛ يتألف من طابق أرضي مؤجَّر ومن عدة حوانيت، كانت أيضاً مؤجَّرة. وكان جدي يسكن في الطابق الثاني (العلوي) مع عائلته الكبيرة نسبياً، حيث كان يقطن في ذلك المنزل آنذاك جدتي أولغا، وخالاي إميل (193) وألبير (194)، إضافة إلى خالاتي إفيو (195) وثريا (196) وفينوس (197). أما خالتي أوديت (198) فكانت تزوجت من تاجر يدعى شكري عبود (199) وانتقلت معه إلى بيروت...  

بنات حسيب العاقل، من اليمين إلى اليسار: أمّي جالسة، ثم وقوفاً فينوس وإفيو، ثم أوديت جالسة، ثم ثريا واقفة. وبين أمّي وأوديت، أنا ونبيل

وأحاول أن أرى نفسي من خلال ابتسامة ذلك الطفل الجميل الذي يقولون إنه كان سعيداً ومدللاً في طفولته، ويتملَّكني شعور بالانقباض والألم. فهذا المظهر السعيد كان فقط بعضاً من الحقيقة...

وتمرُّ أمامي صورة كلبي بوبول الذي غادرني فجأة...  

أنا وأبي وبوبول مع أصدقاء العائلة من بيت الشرف

ويستعيد ذهني حلماً غريباً كان يراودني، بين الفينة والأخرى، عن حياة كنت أعيشها في غابة مع زوجة كنت أحبها؛ وآخر عن حريق ليلي واجهتُه بخوف مع كلٍّ من أبي وأمي في مكان قريب جداً من منزلنا. ثم حين سألت أمي وأبي في صباح اليوم التالي عن ذلك الحريق، ضحكا مني وطمأناني أن شيئاً من هذا لم يحدث. أما أنا، فقد كنت واثقاً أني شاهدت حريقاً كبيراً...

حريقاً كان، ربما، انعكاساً مبالغاً فيه لما تركتْه الخلافات الصاخبة بين والدي في نفسنا حين كنَّا أطفالاً من انطباع غير مستحَب رافقنا طوال سني طفولتنا وشبابنا. تلك الخلافات التي كانت تعود، من حيث مسبباتُها، إلى المزاج العصبي لكلا والديَّ، من جهة، وخاصة لضيق الحال المادية، وما كانت والدتي تدَّعيه من عدم مسئولية أبي تجاه عائلته، من جهة أخرى.

فأبي – رحمه الله – كان من بين أبناء لطف الله أنطاكي (200) ذلك الذي لم ينجح في دراسته، فلم يتجاوز الثانوية العامة. وبالتالي، كان ذلك الابن الأصغر الذي، متشبِّهاً بوالده، ظل يتصرف كالابن المدلل، حتى بعد أن أصبح أباً لعائلة، غير عابئ باحتياجاتها المادية المتنامية وبتطلعات والدتي الطموح في التشبُّه بسواها. وأشير هنا إلى أن مصاريف منزلنا في حينه كانت مشتركة، وأن عمي جورج (201)، الذي بقي عازباً حتى وافته المنيَّة، كان يتحمَّل قسطاً منها...

وأفكر أني لم أكن في طفولتي شديد الإعجاب بوالدي. كنت متأثراً جداً بما كانت تنقله لنا أمي عنه، المتعلق بلامبالاته فيما يتعلق بالأمور المادية. فهي كانت تفضِّله غنياً كأخيه البكر. كما كنت أخافه في صغري وأكره صداماته المتكررة مع والدتي التي كنت أحبها، ولم أزل. ولكني أعترف اليوم، بمرارة، أني كنت مخطئاً جداً في تقويمه. فقد كان صافياً وطيباً وشريفاً لأقصى حدٍّ – وهذا كان الأهم في شخصه الذي نقله إلينا. لكني لم أفهمه في حينه، مع الأسف، ولم أصادقه، بالتالي، إلا متأخراً جداً...  

وأتذكر بحنان كيف كان، في كل ليلة، بعد أن يعود من سهرته، وبعد أن ينام الجميع، وبعد أن كان يتأكد من أن الجميع قد نام، يشعل الزيت المقدس أمام "الأيقونة"، ثم يقف وحيداً (وهو لا يعلم أن "طائر الليل" كان يراقبه) يصلِّي...

"السلام عليك يا مريم... يا ممتلئة نعمة... الربُّ معك... مباركة أنت بين النساء... مبارك ثمرة بطنك سيدنا يسوع المسيح..."

في تلك الأيام، كان رئيس الدولة هو السيد شكري القوتلي (202)(زعيم الكتلة الوطنية)، وكان رئيس وزرائه آنذاك هو السيد خالد العظم (203). ولكن هذا العهد لم يدم طويلاً؛ إذ سرعان ما انعكست الأوضاع المحيطة على الأوضاع المحلية عبر منطق الدهماء وأحزابها في المزاودة...

وكان في 30 آذار 1949 انقلاب عسكري بقيادة قائد الجيش السوري آنذاك الزعيم حسني الزعيم (204) الذي اعتقل في حينه ممثلي السلطة الشرعية (رموز الاستقلال) وزجَّهم في سجن المزة...

والحق يقال إني لا أذكر شيئاً ملموساً عن عهد حسني الزعيم (205). فقد كنت آنذاك في سن الرابعة. ولكني أذكر، فيما بعد، بعض ما كان يجري حوله من حديث ضمن حلقتنا العائلية الصغيرة. فقد "كان رجلاً جدعاً..."، على حدِّ قول والدي للتعبير عن إعجابه بجرأته الشخصية. ويقصُّ لنا والدي، حين كان يتحدث عن حسني الزعيم (206)، كيف واجه هذا الأخير بشجاعة، بعد أن أطيح به، فريقَ الإعدام، على عكس رئيس وزرائه السيد محسن البرازي (207)، ويضيف: "إنه كان أزعر ومتهوراً، كغالبية ضباط جيش المشرق L'Armée du Levant الذي ورثناه عن الاستعمار، فأضحى، من بعدُ، نواة جيشنا الوطني...". ويحدِّثنا أيضاً عن مغامرات الزعيم (208) الشهيرة أيام فرنسا، حين كان ضابطاً في "جيش المشرق"، وكيف سطا ذات ليلة، بمعونة جنوده، على كازينو اللاذقية لاستعادة ما خسره في تلك الليلة على طاولة القمار. ويضيف: "... كان السبب الحقيقي لانقلابه هو ستر فضيحة السمنة الفاسدة التي تم شراؤها للجيش في حينه، والتي كان متورطاً بها مع العقيد البستاني (209)...". فوالدي لم يكن يعير اهتماماً كبيراً للارتباطات الخارجية المحتملة لانقلاب الزعيم الذي "... بهدل نفسه حين سلَّم أنطون سعادة (210)، زعيم القوميين السوريين (الذي كان ملتجأً إلى سورية) إلى السلطات اللبنانية التي أعدمته. ولكن من أطاح بهم من السياسيين لم يكونوا عموماً أفضل منه بكثير. فإن استثنينا خالد العظم (211) الذي كان نظيف اليد وجريئاً، فلم يخضع له، وكذلك رئيس الدولة شكري القوتلي (212) الذي تعمَّد الزعيم بهدلته، وخاصة معروف الدواليبي (213) (صديق رزُّوق) الذي كان جدعاً، ولم يخضع له هو الآخر، نرى أن الكثير منهم خضع بسرعة للدكتاتور الجديد، مما أفقد النظام البرلماني الذي كان قائماً القاعدةَ الأخلاقية لشرعيَّته. ففيضي الأتاسي (214) وفارس الخوري (215) تساهلا، إن لم نقل لم يرفضا التعاون مع الزعيم؛ بينما عفلق (216) الذي دعم الزعيم في البداية مع الحوراني (217)، ثم اختلف معه، تنكَّر لمبادئه عندما اعتقله الزعيم ووضعه في برميل "قاذورات". فغالبيتهم، يا بني، كانوا جبناء وقصيري النظر...".

"ثم إن حسني الزعيم (218) كانت له، رغم كلِّ مثالبه، بعض الإيجابيات. فقد كان معجباً جداً بأتاتورك (219)، لا يحب المشايخ و"تَلْبَسَتهم". وقد أقر القانون المدني، ومنع الناس من التمختر بالبيجامات في الشوارع، وألغى لبس الطربوش. والزعيم اليوم قد مات؛ فالله يرحمه ويسامحه؛ لأنه، قطعاً، لم يكن مدركاً شناعة ما فعل. وما فعله كان، بكل بساطة، أنه بهدل الاستقلال، فجعل كل شيء مباحاً من بعده...".

دام حكم الزعيم (220) ، الذي دشَّن تقاليد تسلُّط الجيش على مقاليد الأمور في البلاد، ستة أشهر. أطاح به بعدها زميلُه وشريكُه في الانقلاب سامي الحنَّاوي (221) الذي أعدمه، معيداً السلطة مؤقتاً، عبر "حزب الشعب"، إلى الشرعية البرلمانية المنتهَكة...

وأسأل والدي عن الحنَّاوي (222)، وهل كان فعلاً، كما يدَّعي بعضهم، عميلاً للإنكليز؛ فيجيبني أنه...

"لم يكن حتى أهلاً لذلك. كان لا يفكر إلاً في بطنه. إن افتقدته وجدته في "المطعم الصحي"..."!

أما الوالدة فتحدِّثنا أنه في تلك الليلة التي أطيح فيها بالزعيم (223) كان صديق العائلة المقدَّم زياد الأتاسي (224) يقضي السهرة في منزلنا مع زوجته لمياء (225). وقد لحظ الجميع في المنزل في حينه أنه كان مضطرباً. لكنه رفض الإجابة على تساؤلات والدي إليه حول أسباب اضطرابه. ثم تبين في اليوم التالي أن سبب اضطرابه كان معرفته المسبقة بما كان مهيئاً في هذه الليلة...

وأستمر، مستعيداً، من خلال الصور، ملامح أصدقاء العائلة في تلك الأيام؛ أولئك الذين كان زياد (226) ولمياء (227) الأتاسي من أعزِّهم...

"كانت لمياء بنت فيضي (228) صديقتي من حمص...".

كما غدا ابنهم البكر وسيم (229) من أصدقاء طفولتي المفضلين.

كما كان العم صلاح برمدا (230) (ابن عم رشاد (231))، ذا الوجه البشوش دائماً، الصديق الحميم لوالدي ولعمي جورج (232). وعنه كانت تروى القصة الطريفة التالية:

"كان الجو مثلجاً في دمشق قي تلك الليلة. وكانت العائلة مجتمعة في الصالون تتسامر، ومن بينها خالتي فينوس (233) – وكانت جاءت من حمص لقضاء بعض الوقت في منزلنا – حين قرع باب الدار بقوة. فصاحت خالتك بعفويَّتها الحمصية: "من ذلك الحمار القادم في مثل هذا الطقس؟" وفتح والدك الباب، فدخل العم صلاح (234) ضاحكاً، نافضاً الثلج من على منكبيه، قائلاً: "أنا هو ذلك الحمار أيها الأصدقاء!" وهربت خالتك إلى المطبخ لتختبئ وهي تردد: "لم أكن أقصد... لم أكن أقصد!" وانفجر الجميع ضاحكاً...".

كما كان يضحك نيقولا بولص (235) (الأكتع)، الذي أسترجع اليوم صدى ضحكته العريضة الجميلة التي كان يطلقها من أعماق قلبه، والذي أتأمل صورته مع والدي وفكتور دادا (236) (الخياط) الذي أسترجع ظلَّه الخفيف وذكرى ابنتيه الجميلتين، سامية (237) ومنى (238)...

"... وفي أواسط عام 1949 ذهب خالك إميل (239) إلى فرنسا ليدرس الهندسة. وقد جاء إميل قبل أن يذهب إلى عندنا إلى دمشق. فاجتمع بأبي (خاله) وطلب منه التوسُّط لدى العم كريم (240) (خاله الآخر) لمساعدته، كما ساعد رزق الله (241) في دراسته. فتحمَّس جدُّو للأمر، وسافرا معاً إلى حلب، حيث وافق كريم على تحمُّل التكاليف الكاملة لدراسة ابن أخته في فرنسا، كما تحمَّل سابقاً تكاليف دراسة رزق الله. وأضحى والدي يرسل لإميل كل بضعة أشهر ما كان يصلنا من عمِّك كريم تسديداً لنفقات دراسته...".

"كان إميل (242) يكتب في رسائله إلينا من فرنسا في تلك الأيام أنه لن ينسى لنا أبداً هذا الفضل طوال حياته، وأنه سيعيد كلَّ قرش أربعة، وسيتكفل بدراستك، كما تكفَّل العم كريم (243) (نتيجة توسط جدِّك) بدراسته. وكان هذا الادِّعاء موضوع تندُّر في حلقتنا العائلية بين والدك وبين أبيه. فوالدك كان يسأل جدك في كل مرة وهو يضحك: "هل تعتقد يا أبي أن إميل (244) سيوفي بدينه كما يقول؟" فيتبسَّم هذا الأخير ويجيبه: "قطعاً لا أعتقد ذلك أيها الذكي، ولكن... هذا لا يهم...".

ثم كان انتقال رزُّوق (245) من منزله في حي الشعلان إلى منزل مستأجر آخر أوسع وأجمل، يقع في حي الحبوبي القريب. وكان جارُه في نفس البناء "الساحر" المعروف، في حينه، الدكتور سلمون (246)...

-       هل كان الدكتور سلمون (247) ساحراً فعلاً يا بابا؟

"أنا لا أؤمن بهذه الخزعبلات. ولكن يبدو أنه كانت للدكتور سلمون (248) طاقات غير اعتيادية؛ على الأقل، مقدرة هائلة في التنويم المغناطيسي، ومن خلاله، إيهام الجمهور بما يريد. مثلاً، وهذا حدث بحضوري، كانت هناك حفلة له في سينما الفردوس، وتأخر نصف ساعة عن الحضور، فبدأ الجمهور يتململ ويتذمَّر. وحين حضر الدكتور سلمون وسألهم عن سبب تذمُّرهم وأجابوه لأنه تأخر عن موعد الحفل، كان ردُّه ضاحكاً أنه لم يتأخر! فلينظر كلٌّ لساعة يده ليتأكد. ونظر الناس إلى ساعاتهم (وأنا منهم) فوجدوها كما قال تماماً أي متأخرة نصف ساعة...".

"وانتقل عمك فلاديمير (249) وعائلته إلى بيروت...".

"وكان أبو رزُّوق (250) ما زال يسافر كل بضعة أشهر إلى حلب لملاحقة دعوى الأرض...".

***  

 ملاحظة هامة: لقد وردتنا، وحول هذه الفقرة بالذات عدة رسائل من أبناء الطائفة المرشدية وأهمها كان ما من الدكتور محمد منيف من مصياف الذي قدم، وفيما يتعلق بما جرى، رواية أخرى مختلفة. وملخص هذه الرواية المستقى من مجمل رسائله يقول:

 

1 – أن " سلمان المرشد لم يدَّعِ الربوبية، بل هو إمام حاول النهوض بشعبه، ففتح المدارس وشقَّ الطرقات، وطالب بأن يكون شعبُه متساويًا مع غيره من حيث الحقوق المدنية. وقد صحَّح المعتقد مما قد لَحِقَ به من خرافات.." و...

2 – أنه حين أتوا لاعتقاله لم يقاوم إنما " سلّم نفسه كي يحمي شعبه من التنكيل " و...

3 – أن رئيس الدولة آنذاك، السيد شكري القوتلي، قد ".. تدخَّل شخصيًّا واتصل بالقاضي وطلب منه أن يعدم سلمان المرشد بأية طريقة كانت، كما اعترف القاضي نفسه.. ".

 

وهي أمور تستحق التوقف عندها و تحتاج من قبل المؤرخين الباحثين عن الحقيقة التاريخية للكثير من البحث والتمحيص. أمور رأيت من باب الأمانة أن أوردها كما جائتني مؤكداً أن ما ذكرته في مذكراتي هو فقط  ما كان يحكى آنذاك في وسطي العائلي حيث الشيء الوحيد الذي بوسعي جزمه حول هذا الموضوع هو واقع أن قريبنا المسكين المرحوم حبيب هلال كان من بين الدرك الذين اعتقلوا سلمان المرشد آنذاك..."

 

الفصل الثاني - الجزء الثاني: ابن الأمير أو ابن الفقير الفصل الأول - الجزء الثاني: رزّوق، فلادو، جورج وأريس
 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود