french arabic

 

رؤية جديدة للواقع

 

حوار مع فريتيوف كابرا

 فريتيوف كابرا

في هذا الحوار القديم نسبياً (مونتريال، 1987)، لكنْ المحتفِظ بكل جِدَّته، مع أستاذ فيزياء القسيمات السابق والمنظِّر المنظوماتي فريتيوف كابرا* دعوةٌ إلى التوازن بين التفكير العقلاني والحدس، بين التحليل والتأليف، بما يسهم في بناء نظرة جديدة إلى العالم…

***

سمير كوسا: فريتيوف كابرا، أنت فيزيائي مختص في دراسة القسيمات. في عام 1975 أصدرتَ كتابك الأول طاو الفيزياء الذي بلغت مبيعاتُه في العالم ما يقرب من مليون نسخة. وقد حاولتَ في هذا الكتاب أن تبيِّن وجود تلاقٍ بين الفيزياء الحديثة وفلسفات الشرق الأقصى القديمة. فما الأسباب التي دفعت بك إلى استشعار هذا التلاقي، وما فحواه؟

فريتيوف كابرا: لقد قادني الرصد أولاً، لا المحاكمة العقلية، إلى ملاحظة هذا التلاقي. وقد فوجئت، بعدما تعرفت إلى الفلسفات والحِكَم الشرقية، بوجود تشابهات وتلاقيات مدهشة مع حقل اختصاصي: الفيزياء.

لاحظت، أولاً، دور المفارَقة [أو المحيِّرة] في كلٍّ من بوذية زِنْ والفيزياء الكوانتية. فمن المدهش أن نرى الباحثين من الطرفين تواجههم حالاتٌ مفارقة [أو محيِّرة]. ولم أفهم سبب هذا إلا بعد فترة، لأنه عندما نبتعد في كلتا الحالتين (تجارب الفيزياء والتأمل) عن تجربة الحواس الاعتيادية نلج واقعاً بعيداً غير مألوف. كان ذلك اتصالي الأول مع الأمر. كنت أيضاً قد تأثرت كثيراً بفرنر هايزنبرغ، أحد أبرز مؤسِّسي الفيزياء الكوانتية. وقد وصف في عدد من كتبه، مثل فيزياء وفلسفة، وصفاً حياً تجربة الفيزيائيين في العشرينات، الذين رأوا أنه يتعذَّر فهم المعطيات الجديدة الخاصة بالذرات، لأن اللغة والمفاهيم والتصورات الأساسية لم تعد تصلح لوصف هذا الواقع الجديد. وهذا قد رماهم في أزمة عميقة. ثم قارنت هذا مع ما يكابده مريد الزن، مثلاً، الذي يعاني هو الآخر من أزمة عاطفية، وجودية وروحية. صرف الفيزيائيون سنوات طويلة قبل أن يتوصَّلوا إلى وصف يناسب هذا الواقع الجديد. ويمكن أن نلحظ الآن أن هذا الوصف الجديد للعالم المادي هو في الواقع قريب جداً من الطريقة التي ترى من خلالها الفلسفاتُ والحِكَم الشرقية هذا الواقع الفيزيائي عينه. قمت بعد هذا، خلال سنوات، بدراسة معمَّقة لهذه التشابهات، ثم نشرتها في كتابي الأول طاو الفيزياء.

س. ك.: وما فحوى هذا التقارب؟

ف. ك.: يمكن أن نقول إن هناك موضوعين رئيسيين في الفيزياء الحديثة، وفي العلم عموماً. فلننظر أولاً إلى الفيزياء: الموضوع الأول هو وحدة كل الظواهر وتواكلها. لم يعد العالم يبدو كأنه تجميع لأجسام، بل صار، بالأحرى، كشبكة من العلاقات لا تقبل الفصل. إنها التجربة، إذن، التي بيَّنت للفيزيائيين محدودية مفهوم الشيء وضرورة استبدال مفهوم الشبكة والنماذج الطاقية به. أما الموضوع الثاني، فيقول إن هذا الواقع – شبكة العلاقات هذه – واقع ديناميٌّ في الجوهر. فليست الطاقة، في الواقع، سوى قياساً للنشاط، كما نعلم منذ نسبية أينشتاين. لدينا، إذن، في الوقت ذاته، صورة موحَّدة كلانية وديناميَّة. نجد هذا عينه في المنقولات الروحية: أولاً، وحدة العالم، وحدة الأشياء بما فيها الراصد، ثم الخاصية الديناميَّة للعالم.

س. ك.: هنا تنطرح أسئلة عدة. يقول بعضهم إنك اخترت واحدة فقط من التأويلات الممكنة لنتائج الفيزياء؛ ويتساءل آخرون عما إذا كانت الوحدة التي تكشَّفت الفيزياء عنها هي الوحدة ذاتها التي يختبرها الصوفيون في أعماقهم. إذ يقول الفيزيائيون إننا نجد الوحدة في المستويات العميقة للمادة، في ما وراء عالم الذرات والقسيمات، بينما لا تُظهِر الفيزياء هذه الوحدة على مستوانا الماكروسكوبي؛ أما بالنسبة للصوفي، فإن هذه الوحدة ماثلة على كل المستويات. فهل إن اللغتين المستخدمتين لوصف الوحدة متماثلتان من حيث التعبير، من دون أن تغطيا الواقع ذاته؟ ما رأيك بهذا الخصوص؟

ف. ك.: من الصحيح، فيما يخص تأويل الفيزياء، أنه واحد من التأويلات الممكنة، ولكنه التأويل الذي يلقى القبول الأكبر والانتشار الأوسع في أوساط الفيزيائيين. يتفق الجميع على أن ثمة وحدة على المستوى المادونذريِّ، وأنه لا توجد أجسام مستقلة بعضها عن بعض، بل واقع ديناميٌّ نشيط. هذا محض فيزياء عادية. توجد بالطبع تفسيرات أخرى أتيت على ذكرها في طاو الفيزياء، ولا تؤيدها إلا أقلية مهملة من العلماء.

أما فيما يخص سؤالك الثاني، فقد راودتني في البداية الشكوك ذاتها فيما يخص الكلمات، وقلت في ذاتي إنه يمكن بالمثل إيجاد توازٍ بين الفيزياء والفلسفة الماركسية، أو غيرها من الفلسفات، انطلاقاً من تماثل في الكلمات المستخدَمة. لكن ما أقنعني بصحة هذه المتوازيات أمران جديدان: الأول هو التماسك والانسجام المتزايدان لهذه المتوازيات؛ أما الثاني فهو يرتبط بتعذُّر تعلُّم التصوف من قراءة الكتب فقط؛ إذ يجب أن نمارسه على الأقل حتى درجة معينة فيه حتى نمتلك فكرة عمَّا يتحدث عنه الصوفيون.

من الأكيد أن الصوفيين يختبرون وحدة العالم على كل المستويات، وليس فقط على مستوى المادة العميق؛ لكنني قمت، في كتابي، بمقارنة ما يقوله الصوفيون في خصوص الواقع الفيزيائي مع ما يقوله الفيزيائيون في صدد هذا الواقع عينه. ويجب أن نعلم عندما نقول إن الصوفيين يتحدثون عن الوحدة أيضاً على المستوى الماكروسكوبي أن هذا صحيح. إلا أننا هنا حيال عالم ماكروسكوبي نراه من [أو في] حالة وعي خاصة، هي التأمُّل، حيث يتبدل هذا الواقع، فلا يبقى الواقع الذي ألِفناه. بالمثل، فإن واقع الفيزيائيين على المستوى الذري ليس واقعنا اليومي.

لقد قمت، إذن، بمقارنة هاتين الرؤيتين، وأكَّدت بوضوح أن هذين الطريقين، المختلفين تماماً، موجودان للوصول إلى وصف هذا الواقع ذاته.

س. ك.: مفاد اعتراض آخر أن النظريات العلمية دائمة التبدل في حين أن رؤيا الصوفي تتخطى الزمن. فما الذي يتبقَّى بالتالي من صلاحية لهذه المقارنات؟

ف. ك.: أجل، يقرُّ العلم اليوم بأنه لا يمتلك الأجوبة الصحيحة. ونفهم الآن أن كلَّ ما نقول تقريبي ضمن نموذج محدود. حتى إن النظريات المكتملة، مثل الميكانيكا الكوانتية، والنسبية الخاصة، وميكانيكا نيوتن، إلخ، التي لم تعد نظريات مؤقتة، هي برغم ذلك تقريبية ومحدودة، ويمكن دائماً تحسين الوصف الذي جاءت به؛ ذلك هو البحث العلمي. لكن يجب أن نعلم أنه عندما نحسِّن هذه النظريات، على مراحل متتالية، باستعمال نماذج جديدة، فإن المعرفة لا تتغير اعتباطياً، ولا تُبطِل النظريةُ الجديدةُ صلاحيةَ سابقتها بصورة مطلقة. هكذا، لم تبرهن الفيزياء الكوانتية على أن الفيزياء النيوتنية خاطئة؛ لقد بيَّنت أنها محدودة، لكنها تبقى صالحة في عالمنا. ويمكن أن نورد أمثلة عدة مماثلة في هذا الخصوص. لذا فإني أعتقد، بالمثل، أن أبحاث المستقبل لن تنفي تلك الوحدة الأساسية وتلاحمَ الكون بأجزائه والطبيعةَ الديناميَّة في الجوهر لظواهره.

س. ك.: لقد استلهمتَ كثيراً في تصوراتك نظريةَ البوتستراب. لكن هذه النظرية تطورت منذ ذلك الحين لتخرج في حلة جديدة هي البوتستراب الطوبولوجي. يمكننا أن نتساءل فيما إذا كان هذا التطور، وأيضاً بروز نظرية الأوتار الفائقة التي تشترك والبوتستراب في بعض الأسس، يعزز أفكارك أم يضعفه.

ف. ك.: أشير، أولاً، إلى أن التلاقي الذي تحدثنا عنه ليس مؤسَّساً على البوتستراب فقط، خاصةً أنه لا توجد أسس في البوتستراب أصلاً! والذي حدث مؤخراً مع البوتستراب – وهو موضوع دراستي في الفيزياء – هام جداً. لقد وجدنا مع البوتستراب الطوبولوجي الإطارَ الرياضي والنظري الملائم للتعبير عن هذه الأطروحة. إلى هذا، فإن المقاربة الأخرى في فيزياء القسيمات، وهي نظرية الحقول، راحت تتلاقى والأوتار الفائقة مع البوتستراب. لأن فكرة الوتر جاءت أصلاً من مجال مصفوفة البوتستراب S. وأعتقد أن ما ذكرتُه في طاو الفيزياء بخصوص البوتستراب صار اليوم أصحَّ مما مضى. والمشكلة هي أن الصياغة الرياضية غير معتاد عليها؛ وقليلون يتجشمون مشقة دراستها. البوتستراب مدرسة أقلية، لكنني أعتقد أن هنالك أملاً كبيراً.

س. ك.: وكيف تصنِّف البوتستراب بالنسبة إلى أطروحات ديفيد بوهم؟

ف. ك.: لقد صارت الآن أقرب إليها من كل النظريات الأخرى. لقد تقارب في الآونة الأخيرة جيفري تشو، واضع منهج البوتستراب، وديفيد بوهم واحدهما من الآخر كثيراً. فكلٌّ منهما يعرف الآخر، وقد جمعتْهما لقاءاتٌ وأحاديث كثيرة. ويعتقد تشو، على الأقل، أن النظريتين ستلتقيان مستقبلاً في نظرية واحدة. نرى، مثلاً، أن نقطة الانطلاق لكلٍّ من النظريتين هي مفهوم شبكة العلاقات حيث لا وجود لواحدات أساسية، وتعمل كلتاهما مع الطوبولوجيا ومع المصفوفات. إذن توجد معالم شكلية عدة متشابهة.

س. ك.: وما الدور الذي تنسبه إلى كلٍّ من الفكر والخبرة الصوفية؟

ف. ك.: يلعب الفكر دوراً مهماً في تحليل هذه الخبرة وفي تفسيرها. لكنه محدود لا يقوى على القيام بهذا إلا جزئياً.

يقول الصوفيون جميعاً إن على المحاكمة العقلية واللغة أن تبقيا، في مآل الأمر، في الخلف، لأنهما عاجزتان عن الإحاطة كليةً بالخبرة. نجد الأمر عينه في الفيزياء: يمكن للفكر أن يقترب من هذا الواقع، لكنْ دائماً بصورة تقريبية ومحدودة. ولهذا لن نعرف أبداً الحقيقة النهائية من خلال العلم، بل تقريبات ليس إلا. وأقصد من هذا تعذُّر وجود تقابُل مطلق بين الوصف والشيء الموصوف.

س. ك.: هل تعتقد، بالتالي، أن ذلك ممكن في التصوف؟

ف. ك.: لا. فذلك عند الصوفي واقع خبرة لا يمكن ترجمتها بواسطة اللغة. فحالما يودُّ الصوفي أن يتحدث عن ذلك فإنه يخضع للقيود ذاتها التي يخضع لها رجال العلم.

س. ك.: لقد انطلقتَ، إذن، من هذه الرؤية الموحَّدة الديناميَّة، ثم قمتَ بتطبيقها على أوجه الحياة الاجتماعية كلِّها في كتابك الثاني نقطة الانعطاف. فكيف توصَّلتَ إلى ذلك؟

ف. ك.: كان ذلك عملاً استغرق حوالى عشر سنوات. تحققت، بادئ الأمر، من أن التحول في المفاهيم والتصورات الذي حدث في الفيزياء يقع الآن في علوم أخرى. وتناقشت طويلاً مع علماء من حقول مختلفة، كالبيولوجيا والطب وعلم النفس والعلوم الاجتماعية، فتبيَّن لي أن الأزمة التصورية التي تحدث عنها هايزنبرغ في الفيزياء هي أيضاً أزمة اجتماعية. إنها أزمة شاملة في كل البلاد.

ويبدو أن طريقة النظر إلى التكنولوجيا وطريقة السلوك النقلي والاتفاقي لم يعودا يقويان على حلِّ مشكلاتنا ضمن إطار رؤية آلتية فات أوانها. لذا اجتهدت في دراسة البدائل الممكنة؛ وبذلك اكتشفت أننا نشهد في الواقع ولادة رؤية جديدة في مختلف العلوم وفي المجتمع. إنها رؤية كلانية، أفضِّل تسميتها "إيكولوجية"، تأخذ في حسبانها أن كل الظواهر متواكلة وأننا متجذِّرون في المنظومة الطبيعية وفي دوراتها.

س. ك.: ولكي تصف ذلك وتفسِّره استخدمتَ نظرية المنظومات. فهل لك أن تقول لنا ما فحوى هذه النظرية؟

ف. ك.: يمكننا أن نقول إن الرؤية الجديدة للواقع رؤية إيكولوجية، وأن أفضل صياغة علمية لها، بنظري، هي نظرية المنظومات الحية التي ترجع إلى الأربعينات مع السيبرنتيك، لكنْ التي لم تتم صياغتها جيداً إلا في السنوات العشر الأخيرة. فما هي المنظومة، وخاصة ما هي المنظومة الحية؟ إنها كلٌّ متكامل لا يمكن اشتقاق خواصه من أجزائه الصغرى، بل من مبادئ انتظامها. يجب أن نفهم، بالتالي، ديناميَّة الكل حتى نفسِّر سلوك الأجزاء. هذه النظرية، إذن، لا تقطِّع المنظومة إلى قطع أولية، بل تحاول فهمها بالاعتماد على مبادئ التنظيم. ومبدأ التنظيم الرئيسي هو الانتظام الذاتي. تنتظم منظومة حية، بالتالي، من تلقاء ذاتها، ولا تفرض عليها بيئتُها من الخارج بنيتَها وترتيبَها وعملَها، على الرغم من كونها غير معزولة، وباقية على اتصال وثيق مع وسطها؛ إلا أن هذا الاتصال وهذا التفاعل لا يمنعان المنظومة من الانتظام ذاتياً. من هذا المبدأ نخرج بفهم للحياة وللمنظومات الحية. وتنسحب هذه المنظومات على مجال واسع؛ فكلُّ متعضية حية، كل خلية، كل نبات، كل حيوان، وصولاً إلى الإنسان ثم إلى المنظومات الاجتماعية، كالعائلة والجماعة والمنظومة الإيكولوجية، هي منظومات تتم دراستها بواسطة هذه النظرية.

س. ك.: لكي تتضح الأمور، أنت لا تقصد التخلِّي عن الفكر التحليلي والاستعاضة عنه بنموذج كلاني جديد. المهم بنظرك، كما أظن، هو أن يقوم توازن بين الاثنين لأن كليهما ضروري؟

ف. ك.: أجل، تماماً. لكن النموذج القديم سيشكِّل دائماً حالة خاصة، له صلاحيته ضمن حدود معينة، كما أن الفيزياء النيوتنية، على سبيل المثال، ما زالت تصلح لبناء آلة خياطة. هذه الرؤية الآلتية، إذن، بالنسبة إلى الأعمال الميكانيكية، هي الأبسط والأكثر عملية؛ لكنها ينبغي ألا تحدِّد رؤيتنا للعالم. أما فيما يخصُّ الفكر، فإنني أدعو إلى توازن بين التفكير العقلاني والتفكير الحدسي، بين التحليل والتأليف، وليس إحلال واحد مكان الآخر. إنه توسيع للإطار.

س. ك.: ما هي الحركات القادرة اليوم على حمل هذه الرؤية وتطبيقها على المجتمع؟

ف. ك.: أعتقد أن أهم الحركات هي: الحركة الإيكولوجية، الحركة النسائية، حركة السلام، حركة الطبابات الكلانية، الحركات الروحية، إلخ. ويُلاحَظ، حالياً، تقارب بين هذه الحركات التي اتضح لها أنها تمثِّل أوجهاً مختلفة للرؤية ذاتها. هكذا ظهرت في الولايات المتحدة الأميركية الحركة النسائية–الإيكولوجية (فهي، إذن، حركة تجمع كلاً من الحركتين الإيكولوجية والنسائية)؛ ويجري الحديث في ألمانيا عن حركة السلام النسائية، إلخ. أعتقد بوجود مثلث ذي مغزى بين الحركات الثلاث: الإيكولوجية/السلمية/النسائية. قد يكون ذلك نواة تحول اجتماعي. ويعود الفضل إلى هذه الحركات في ولادة حركة "الخضر" في ألمانيا وفي بلدان أخرى.**

س. ك.: المشكلة مع هذه الحركات، وخاصة الحركات ذات النزعة الكلانية، كما في الطبِّ، تكمن في وجود الكثير من الخيال المجنَّح في قلبها، ونقص بيِّن في نضجها. ألا تعتقد أن هذا يؤذي نمو هذه الحركة في الوسط العلمي؟

ف. ك.: إنها مشكلة كبيرة. كل ما يمكن أن نقوم به هو التنبُّه إلى ما نقول وإلى من نعمل معه. فليس من السهل دائماً تمييز النزوة من الشيء السويِّ.

س. ك.: ما هي، إذن، المعايير التي يجب اتِّباعها؟

ف. ك.: إنه لأمر في غاية الصعوبة. يجب ابتداع معايير جديدة. فلنأخذ الطب مثالاً. يتخذ الطب الكلاسي النموذج الديكارتي–الميكانيكي قاعدة له، ولا يأخذ بالحسبان سوى الجزء الصغير من العلل والظواهر التي تؤدي إلى المرض – وهي الآليات البيولوجية على وجه الخصوص – فيطرح جانباً العوامل الاجتماعية، والإيكولوجية، والنفسية، إلخ. لذا فإن أحد المقاييس أو المعايير لتقويم طب يدَّعي أنه كلاني هو أن نرى إن كان يترك جانباً أحد العوامل السابقة أم لا. يتأسَّس النموذج الطبي–البيولوجي الكلاسي على تصور محدود لمفهوم المعالجة. وهذا ليس سوى تدخل من قبل الطبيب العارف بما هو خير لنا. أما الجسم في الرؤية الجديدة فإنه منظومة ذاتية الانتظام، وهو يعرف ما هو مفيد له. ويلعب الطبيب هنا دور معاوِن يُعِدُّ التربة ويخلق الوسط المناسب للشفاء الذي تنجزه المتعضِّية بنفسها.

يمكننا أن نتساءل، أيضاً، فيما إذا كان المعالِج الكلاني يتصرف بطريقة سلطوية، كما في النموذج القديم، أم يرى نفسه كمعاوِن للمريض؛ وهذا مقياس هامٌّ يسمح بتمييز أشياء لا يستهان بها. يمكننا أن نلحظ أيضاً أن الطب الكلاسي، عموماً، طبٌّ شفائي أكثر منه طباً وقائياً، كما في الطب الكلاني.

هنالك، إذن، معايير كالتي أوردتُها، ويمكن أن نجد مثيلات لها في علم النفس، في الإيكولوجيا، وفي السياسة، إلخ. إنه عمل تحليلي شاق وهام للغاية يجب القيام به.

س. ك.: نبقى مع مثال الطب. سيردُّ عليك الأطباء أنه ليس في إمكانهم احتواء كل العوامل التي تحدثت عنها في تشخيصهم.

ف. ك.: أمام الأطباء إمكانيتان:

-         إما أن يركِّزوا اهتمامهم على الطب البيولوجي؛ ويجب عليهم، عندئذٍ، أن يتركوا للآخرين حق تعريف المرض؛

-         وإما أنهم يريدون الاحتفاظ بهذا الحق؛ وعلى أفقهم، وقتها، أن يتَّسع ليشمل علم النفس، والتغذية، والبيئة، والتلوث، والمناخ الاجتماعي، إلخ، وغيرها من العوامل التي تؤثر جميعاً في الصحة.

س. ك.: سؤال أخير: كيف ترى تطور هذه الأبحاث على كلا المستويين النظري والاجتماعي؟

ف. ك.: أرى التطور من خلال السيرورة السياسية الديمقراطية؛ لكنْ مع ديمقراطية جديدة تسمح بظهور أشكال سياسية جديدة. لكني لست أرى – وأنا أشدد على هذه الناحية – العلماءَ والعلمَ يحملون لواء تحقيق هذه الرؤية الجديدة. فعلى الرغم من أن بعض العلماء يعملون على هذه الناحية، إلا أن غالبيتهم ما زالت أسيرة النموذج القديم.

سيأتي التغيير، في اعتقادي، من المجتمع ذاته بمساعدة الحركات التي جئت على ذكرها.

*** *** ***

أجرى الحوار وأعدَّه: سمير كوسا


* فريتيوف كابرا Fritjof Capra أستاذ فيزياء القسيمات السابق في جامعة بَرْكلي (كاليفورنيا). اشتهر من خلال كتابه الأول طاو الفيزياء (المترجم إلى العربية، دار طلاس، دمشق) الذي أثار ضجة كبيرة في الأوساط العلمية والفكرية. قام كابرا في هذا الكتاب بمقارنة رؤية الشرق الصوفية للمادة مع رؤية الفيزياء الحديثة. وقد حاول كابرا فيما بعد تطبيق هذه الرؤيا، الكلانية والحيوية، على المجتمع كلِّه، نظرياً في كتابيه نقطة الانعطاف وشبكة الحياة، وعملياً في نشاطات معهد إلموود Elmwood Institute الذي أسَّسه عام 1983، وأخيراً في مركز التوعية الإيكولوجي Center for Ecoliteracy الذي يديره حالياً.

** أسَّس فريتيوف كابرا معهد إلموود عام 1983. ويعتقد كابرا وزملاؤه أن هذه المؤسَّسة مركز للقاءات تتم في مناخ الرؤى الجديدة الكلانية والايكولوجية التي ستسمح بتجنب الخراب الناجم عن أخطاء مدنية تقنية مبنية على قيم خاطئة. توفر المؤسسة ركيزة فكرية للحركة الخضراء، وتقود إلى تقارب السياسة والإيكولوجيا والقيم الروحية. يصرح كابرا، في هذا الصدد، بما يأتي:

"تتميز السنوات الأخيرة بوجود تباين أساسي بين رؤية آلتية وأبوية للعالم ورؤية كلانية إيكولوجية. وعلى الرغم ذلك فإن مؤسَّستنا الاجتماعية ما زالت تتعلق بمفاهيم عتيقة تقود محدوديَّتُها، حالياً، إلى ظواهر متعددة لأزمة شاملة. وفي حين تمنع الدراسة التقليصية لمسائل عصرنا غالبيتَنا من التفكُّر في حلول معقولة، نرى ظهور رؤى إيكولوجية مبنية على وعي للترابط الأساسي بين كل الظواهر وعلى دمج الأفراد والمجتمعات في سيرورة الطبيعة الدورية. وقد تم تأسيس معهد إلموود بغرض نشر هذه الرؤى الجديدة وتطبيقها، في سبيل حلِّ المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية."

توجِّه معهدَ إلموود المبادئ الآتية: وعي التلاحم الكلِّي، الحكمة الإيكولوجية، السلام واللاعنف، حقوق الإنسان، العدالة الاجتماعية والاقتصادية، لامركزية السلطات الاقتصادية والسياسية، التنوع الثقافي–الحضاري، وعي بعدأبوي، القيم الأخلاقية والروحية، والديمقراطية.

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود