الفصل السابق

نداء الأعماق

مدخل إلى علم النفس المركَّب - 2

 

ديمتري أفييرينوس

 

النماذج البدئية

بالدخول إلى هذا اللامتعيِّن، إلى بحر الطاقة السابق على التمايز الفردي، خطا يونغ خطوة لم يجرؤ فرويد على القيام بها. لقد رأى يونغ، وهو بعد طفل، أحلاماً عجيبة وتخلّقات نمت بشدة غير اعتيادية؛ وبعيد قطيعته مع فرويد سمح عامداً لهذا المظهر من نفسه أن ينشط من جديد وترك للجانب اللاعقلي من طبيعته أن يعبّر عن نفسه بكل تلقائية. وفي الوقت نفسه درس هذا الجانب علمياً بأن دوّن ملاحظات مفصّلة عن تجاربه الداخلية.

فيما يتعدى الخافية الفردية personal unconscious (نتاج القصة الشخصية) التي درسها فرويد، دعا يونغ بحر الطاقة هذا بـالخافية الجامعة collective unconscious التي تمثل تناضُد الخبرات والتجارب الألوفية للبشرية: "لو كان بالوسع تشخيص الخافية، لاتّخذت ملامح إنسان جمعي يحيا على هامش تمايز الجنسين، والشباب والشيخوخة، والولادة والموت، مسلَّح بخبرة إنسانية تكاد تكون خالدة عمرها مليون أو مليونان من السنين." والمُقدِم على ارتياد هذه الخافية ليس بمنجى من المخاطر والمهالك: فالطاقات المرعبة التي تنبجس عندئذ من الوعي تُغرق الكيان كما الطوفان؛ ونشهد هبوطاً "هبوطاً في المستوى الذهني" قد يصل إلى حد انحلال الوعي، ويشغل المعالج النفسي في أثنائه، بفضل التحويل، مكان أنية بديلة. وإن مضامين الخافية الجماعية أو كيفيات تجلي "حكمتها الخالدة" هي ما دعاه يونغ بـالنماذج البدئية Archetypen أو "الأعيان الثابتة"، بحسب مصطلح محيي الدين بن عربي. وهذه النماذج، أكثر منها بنيانات مسبقة التشكّل، هي بالحري مراكز للطاقة الخافيّة، عصيّة على الإدراك الواعي، وكمونات مشكِّلة تُنَمْذِج المادة اللامتمايزة التي يأتي بها دفق الطاقة النفسية. إنها ديناميات أو زُخُم صرفة تتبدّى على هيئات متنوعة للغاية وتنتظم السلوك الغرائزي وتغذي المخيّلة العفوية بالصور وتكوِّن مقولاتها "البَدَرية" a priori، إذا جاز التعبير؛ إنها تحتوي على شحنة انفعالية قوية من نسق "قدسي" numinous (يتخطى الإنسان)، بحسب تعبير رودولف أوتّو . وهذه الشحنة موجبة وسالبة في آن معاً: فالنموذج البدئي هو في الوقت نفسه عامل لاغنى عنه للتطور الداخلي، وهو، من خلال الفتنة التي يمارسها، سلطان مغوٍ أو غول مريع. وهذه النماذج، بما هي "قوى" متوارَثة، تستبدّ بحياة الإنسان برمّتها وتشكّل لحمتها وسداها. فلاإبداع فردياً أو جماعياً بإطلاق في نظر يونغ لأن هذا الإبداع قوامُه، في معظمه، المواد النموذجية البدئية المستقاة من الخافية الجماعية.

                         جوبيتر وسيميلي؛ تفصيل من لوحة زيتية لغوستاف مورو (1895): عالم اللاوعي بكل جلاله وجماله

من أقوى هذه النماذج البدئية بلامنازع نموذجا الوالدين. وهنا ينبغي علينا ألانرتكب الخطأ المتمثل في رؤية إسقاطات تتشكّل في "الصور الأبوية" بدءاً من الشخصية العيانية، كما فعل فرويد الذي كان أسير التفكير العقلاني، "الخطِّي" linear، السائد في عصره. فالعكس هو ما يحصل: الأب والأم المنظوران هما تعيّنان للنموذج البدئي غير المنظور؛ ومن هنا مظهرهما الإنساني الفائق في نفس الطفل .

إلى جانب نموذجي الوالدين، يعلّق يونغ أهمية كبرى على "صورة النفس" التي يسميها قريناً animus عند المرأة وقرينة animus عند الرجل. وصورة النفس هذه تُدرِج صورة وخصائص الجنس المقابل (والمكامِل) للفرد في البسيكي الواعية بمقدار ما يتمايز هذا الفرد عن والديه. والقرينة هي "هيئة المرأة هذه التي تلعب دوراً خطيراً في أحلام الكائنات المذكرة؛ وهي تدعى بمصطلح قرينة بسبب من كون الرجل، منذ أزمنة متقادمة قد عبّر في أساطيره عن فكرة معيّة مبدأ مذكر ومبدأ مؤنث في جسم واحد." (كارل يونغ، علم النفس والدين)[1] وبالمثل، فإن القرين يمثّل "الهيئة المذكرة لنفسانية المرأة"، أي المظهر المنطقي والعقلاني للمنظومة النفسية المؤنثة. وهاتان الهيئتان كثيراً ما تظهران في الأحلام، إلا أن الأنا تجهل وجودَهما، واستيعاؤُهما، الذي يتطلب خبرة وجرأة، وهو عند الغالبية الساحقة من الناس من مهام النصف الثاني من العمر، يمثل لحظة حاسمة في العلاج النفسي اليونغي.

والقرينة في حدِّها الأقصى هي القوة التي تنتزع الرجل من عالمه الفكري؛ لذا فإنها تظهر أولاً بوصفها "الفاتنة المغوية"، المحرِّضة على الفوضى. فبعض أنماط القرينة سلبي محض، تسلب مَن تجتذبه لبَّه، تسلبه "دينه ويقينه"، شأن "المليحة في الخمار الأسود".[2]

وإذن، فكل ما لايزال في البسيكي كامناً، غير متعيِّن، غير متمايز، لابثاً في الخافية، قابعاً في ثناياها، يخلعه الفرد ويسقطه: يخلع الفرد على غيره من البشر "ظلَّه"، مثلما يخلع كذلك "نظيره من الجنس المقابل". وهو يختار شريكاً في الحب موضوعاً يمثل خصائص نفسه (من قوة أو ضعف). يقول يونغ: "الرجل غالباً ما ينحاز في الحب إلى اختيار المرأة التي توافق كأحسن ما تكون الموافقة أنوثته الخافية." (والعكس صحيح عند المرأة.)

إن "صورة النفس" على صلة مباشرة مع بنيان القناع؛ فإذا كان القناع قناعاً فكرياً جاء القرين (أو القرينة) عاطفياً لا محالة. وفي حين أن القناع هو الوظيفة التي تلعب دور الوسيط بين الأنية والعالم الخارجي، فإن صورة النفس هي الوظيفة التي تلعب دور الوسيط بين الأنية والعالم الداخلي (انظر الترسيمة). وعندما يكتشف المرء في ذاته ويوعّي فيها الجزء ذا الجنس المقابل في نفسه يصبح أقدر على الإمساك بزمام انفعالاته.

هكذا يولد التناغم رويداً رويداً من "الشواش" أو "العماء" Chaos، ويمكن للقرينة عندئذٍ أن تُظهر وجه المسارِرة الذي يتحدث عنه آخر بيتين في فاوست تصدح بهما الجوقة السرّانية: "الأنثى الأزلية تجتذبنا إلى الأعالي." إنها نظام ابن عربي و بياتريتشه دانتي و صوفيا Sophia الغنوصيين. ويقود استدماج القرينة لدى الرجل، واستدماج نظيرها القرين لدى المرأة، إلى التحقّق الداخلي لأحَدي الجنس الأسطوري Androgynos أو Hermaphroditos، آدم الأول قبل أن تُستل حواء من ضلعه، بحسب الرموزية القديمة.[3]

 ربة الصليب ذي العروة؛ قماشة ملونة مكتشفة في أنتينوي، القرن 3-4: القرينة بما هي النفس ككل، واهبة الحياة والسلام

وككل ما يتعلق بالخافية الجامعة، لا تنفصل النماذج البدئية بعضها عن بعض بحدود صارمة؛ فبينها صلات رحم، و"معابر"، واشتباكات. إنها أشبه ما تكون بالمبادىء الأربعة والستين المكوِنة للكون في كتاب التحوّلات Yi king الصيني التي لاتني يتحول بعضها في بعض إلى غير ما نهاية. فالنماذج البدئية تتجلّى، ليس من الداخل وحسب، بل وعلى هيئة مواقف يقابل فيها الحدث الخارجي معطى نفسياً. وبذلك نكون في حضرة نوع من الترابط، مختلف بالكلية عن العلاقة السببية، يشير إليها يونغ باسم التزامن sinchronicity. وبالتالي فإن النموذج البدئي يجب أن يُعتبَر عاملاً غير نفسي البتّة، نستطيع أن نرى فيه الجسر الواصل بين العالمين الداخلي والخارجي، باعتباره يصوغ في الوقت نفسه المنظومة النفسية والمُتَّصَل المكاني-الزماني.

نداء الأعماق

إن ظهور الخافية الجامعة ورسائلها، في الأحلام العفوية وفي الفنون[4] التي تبدي شبهاً بالثيمات الأساطيرية والحكايات القديمة (دون أن يكون الحالم على علم بها في الأغلب)، على مسرح الاهتمامات المعاصرة يشكِّل في نظر يونغ الطريقة التي تجتهد الطبيعة من خلالها في حل كبرى مشاكل الساعة. إن التنمية الهائلة للوعي الصريح بتشييد الإنسان بنية فوقية فكرية بحتة وقمع تعويله على طبيعته النفسية النموذجية البدئية من جهة، يقابلها بوار هذا الوعي لاعتقاده بإمكان الاستغناء عن ينابيع النفس والجانب اللاعقلي التي نُحِّيت باعتبارها من مخلفات العصر الأساطيري. والعاقلة اللوسيفرية (الإبليسية) قد اغتصبت منزلة الروح الخلاق الذي لم يعد ينبغي التفتيش عنه في الأعالي بعدُ، وكأنه شعلة نار، بل في الأعماق حيث مَكْمَن المياه، كما تشهد رؤى العديد من الناس في أيامنا هذه. إن الكرب المعاصر، الناجم عن اغتراب الإنسان عن نفسه وانسلابه، هو نداء الغور العميق فيه، هو الدوار المكابَد في شواهق الفكر حيث كفّ الكائن عن الضرب بجذوره في التربة الخصبة لاستمداد نسغ الحياة الشافي. لقد كان الإنسان القديم يحيا في ظل الخافية الجماعية ويستمد حياته من كنز الصور المقدسة، لكن دعوى الحداثة طغت واستبدّت مصرّة على روح المغامرة واستقلالية العاقلة، فنبذت، واحدة إثر واحدة، قِطَع هذا التراث الإنساني المشترك، الموغل في القدم، تاركة الإنسان بلا وسيط، وجهاً لوجه أمام المجهول وخالقةً وضعاً مزعزَعاً واهِناً، كركغور والوجوديون أبلغ من يمثِّل له. ولقد عزّز القرن الثامن عشر مع الثورة الصناعية هذه السيرورة وأدرجها في المنظور النفسي والروحي، بما جعل الأديان بدورها تلفظ مخزونها الأسطوري لفظاً مطرداً متحوِّلة إلى عقائد وشعائر وشرائع جوفاء.[5] وإن أجمل فتوحات العلم الحديث ليس في مكنتها أن تقدم عوضاً عن ضياع النفس هذا. فالإنسان المعاصر، متى اختلى بنفسه، يشعر بفاقة روحية مُخِلّة بالتوازن. لقد كتب يونغ في ذلك: "العصاب إنما هو عذاب نفس فقدت معناها." على أن هذه ليست إلا مرحلة، حرجة لكنها خصبة، من مراحل المغامرة الإنسانية المغرقة في القدم، الضاربة بجذورها في البدايات البكر لوجود الإنسان على الأرض. فمعاينة أن السماء الفيزيائية خالية، وتفكُّك الأنظمة التوتاليتارية، بما هما قد وضعا حداً للإسقاط الذي كان الإنسان يقوم به لأشواقه وتطلّعاته على العوالم النائية والقوى الفائقة، وحتى على المجتمع (الجماهير) كل هذا يدعوه إلى أوْبَة إلى نفسه ويطلق فيها سيرورات خلاقة جديدة. إنه من الآن فصاعداً مدعو إلى إبداع كون Kosmos، أي عالم منظّم، بدءاً من نفسه.

التفردن والكلّية

هذا العالم المتجدد هو ثمرة ما أطلق عليه يونغ اسم سيرورة التفردن individuation process. وهو يشرح هذا المصطلح بكون الإنسان، ما دام لم يحقق استيعاء أو استدماج المضامين النموذجية البدئية للخافية، فإن هذه تنخلع انخلاعاً إيجابياً أو سلبياً بحسب الحالة على هيئات خارجية، بحيث أن المرء يسبح في حالة من المشاركة في المحيط، هي من بقايا "المشاركة الصوفية" participation mystique، أو بالأصح المشاركة الخافيّة التي وصفها لوسيان ليفي-برول[6] باعتبارها حالة البدائيين. أما التفردن فهو يفضي إلى انكفاء الإسقاطات، من حيث إن الإنسان يجرِّد العالم الخارجي من فتنته المسلَّطة عليه ويبلغ الاستقلالية، محققاً فرادته النوعية الأتمّ: وبذلك يستحق كل الاستحقاق اسم فرد individuo. لكنه لا يكون بهذه المثابة منفصلاً عن الآخرين وعن الكون، بل على العكس تماماً: فالأنا الواعية، إذ تجد نفسها قد اتسعت إلى ما لانهاية، تشعر أنها على تواصل وثيق مع مجال يشترك فيه المرء مع البشرية ومع العالم أجمع (الخافية الجامعة ونماذجها البدئية)، فتسلس قيادها لإيقاعات هذا الأخير؛ ومحلَّ قانونها التعسُّفي والمؤثرات الخارجية الاعتباطية يحلّ ناموس جوّاني لا يقل سرية وقوة عن مثيله الذي يحكم البحر والنجوم والمجرات.

التفردن هو "صيرورة المرء فرداً"، وهو، "بمقدار ما نعني بالفردية خاصيتنا الصميمية، الفريدة والنهائية، التي لا تضاهى، بلوغُ المرء ذاتَه."[7] وسيرورة التفردن مبرهن عليها بوجود أفراد لا ينتهي التأسّي النفسي لديهم تبعاً لهذا الشكل المعتاد المحدود أو ذاك؛ إذ تتواصل المواجهة مع الخافية، بمساعدة عالِم النفس أو بدونها، وتفسح المجال لمكابدة اختبارات روحية يتجسد فيها معنى الحياة. ومثل هذا التطوّر يقلع عادة حوالى "وصيد الأربعين"، أي في مستهل النصف الثاني من العمر، ولا يُستحسَن التشجيع عليه قبلئذٍ إلا في حالات استثنائية عموماً؛ ذلك لأن المهمة الملقاة على عاتق الإنسان إبان النصف الأول من حياته هي "التلقين الخاص بالواقع الخارجي"، بتمكين أناه وتعزيزها وذلك بتوكيد نفسه في العالم الخارجي؛ بينما مهمة النصف الثاني هي "التلقين الخاص بالعالم الداخلي".

والتفردن individuation يدفع إلى الواجهة الأمامية للشخصية بنسق من القيم أرفع من نسق الأنا ومقدّر له أن يستمر بعدها على ما يبدو. فهو بهذه المثابة يشكل استعداداً طبيعياً لنهاية الحياة التي هي بمعنى من المعاني غاية الحياة. إن يونغ يعلق أهمية نفسانية كبرى على ظاهرة الموت ويعزو إليها قيمة إيجابية، على كونه، كرجل علم، يمتنع عن البتّ في أمر آخرة محتملة. التفردن هو الثواب على رحلة طويلة مفعمة بالتصاريف والمصاعب والمواجهات في سبيل التأليف بين مضامين الخافية؛ رحلة إيناع للشخصية ومعرفة للنفس متعاظمة يصبح بها الإنسان "ما هو إيّاه" حقاً، على حد تعبير غوته. التفردن هو الكنز الأنفس يحرسه التنين؛ هو "الجزّة الذهبية"؛ هو الغرال الأقدس؛ هو قِبلة القلب والدخول في قدس الأقداس. وإلى جانب الوحوش والغيلان، يكتظ الدرب المفضي إليه بالشخوص المسعِفة التي تعاون المرء على اجتياز ممرات محفوفة بالمخاطر، من نحو القرينة "مرافقة الموتى" psychopompe (مثل أرياذني وخيطها الذي يستعين به البطل ثيسيوس على الخروج من المتاهة labyrinthos الكريتية الشهيرة)، الحكيم الشيخ، الحيوان المرشد: الضفدعة، السلحفاة، الأرنب، الوعل، إلخ.

والواقع أن مواجهة صورة النفس واستدماجها تتواصل في مواجهة النموذج البدئي لـ"الحكيم الشيخ"، بما هو تشخيص المبدأ الروحي (مكافئتُه في سيرورة التفردن عند المرأة هي "الأم الكبرى" magna mater التي تمثل للطبيعة). وعندئذٍ يتعين على المرء أن ينقِّب في أعمق تضاعيف ماهيته أو مبدئه الأصلي "المذكر" (المبدأ "الروحي") أو "المؤنث" (المبدأ "المادي")، من حيث إن الرجل، بحسب يونغ، يتّحد في ماهيته بالروح بينما تتحد المرأة في جوهرها بالمادة.

 الأم الكبرى، "سيدة الحيوان". لقد بجَّلت اليونان القديمة أولاً الآلهة المؤنثة، رامزة بها إلى القوى ما تحت الأرضية السائدة على الحياة الحيوانية والنباتية

يدعو يونغ هاتين الهيئتين النموذجيتين للخافية بـالشخصيتين مانا. و مانا mana كلمة ميلانيزية تعني "الناجع نجوعاً خارقاً". لكن القوى التي تنشِّطها هذه المعارف في الفرد ليست في متناوله حقاً إلا عندما يتعلم بكل تواضع كيف يميز نفسه عنها.

بعدما يتم للمرء استجلاء وجهه المظلم (الظل)، والجنس المقابل فيه (القرين أو القرينة)، وعلاقته مع الروح أو الهيولى، يتعرّف إلى الوجه المزدوج للنفس، ويسبر طبقات الخافية طبقة طبقة حتى يحقق كلية كيانه. يترافق "الوصول" بإرهاصات تعلن عن قربه هي رموز الكلِّية: الشجرة، الجوهرة، كرة النور، الحجر المكعب، المندلة[8] mandala، إلخ. وهذه الكلية هي إجمالاً قطب الرحى الذي يتم عليه ويتحقق شيئاً فشيئاً الدوران اللولبي الداخلي الجامع بين الأضداد. والصورة النموذجية التي تقود من مواجهة أعماق الخافية إلى صلة بين المنظومتين النفسيتين الجزئيتين (الواعية والخافية) تتم في نقطة مركزية مشتركة تدعى الذات das Selbst، هي آخر مقامات طريق التفردن (الذي يذكّر، كما نرى، بدرجات المسارَرة)، وتتخطى الأنا التي تشغل بالنسبة إليها موقع الكويكب التابع من الشمس. وفقط عندما تُستدمَج هذه النقطة المركزية يحق لنا الكلام على فرد "دائري كلِّي".

 الأنا بين القناع والقرينة/القرين والنفس في كلِّيتها

والخاصية الغامضة للذات تجعل التعريف بها أو تحديد كنهها أمراً عسيراً جداً. والصعيد الفينومينولوجي الذي يقف عليه يونغ يمنعه من أية صياغة ميتافيزيائية لها. فهو، إذ قارن بين رموز الذات والرموز المعبرة عن الألوهة في الأديان والأساطير، خلص مع ذلك إلى القول بأن الذات هي عينها صورة الله imago dei في النفس. لكن كلمته الفصل بهذا الصدد نقع عليها في الجملة التالية المستقاة من أواخر ما كتب: "ليس للتجريبي أن يقول شيئاً عن العلاقة بين الذات والله". فههنا، شأنه في كل ما قال وكتب، لا يبالي يونغ ببناء منظومة عَقَدية dogma، إنما همُّه ينحصر في تبيان طريق؛ إذ إن على الإنسان ألا يواحد نفسه مع الذات قبل بلوغه على درب التفردن مرحلة متقدمة يتم فيها هذا التواحد على نحو طبيعي وتلقائي لئلا يتعرض لانتفاخ inflation خطير (نيتشه)؛ بل عليه بالحري أن يسلك بإزائها سلوك التابع لا سلوك السيد؛ وبذلك يتعلم التواضع الحقيقي الذي لا رياء فيه.

حصيلة سيرورة التفردُن أو التحقُّق الفردي هي تحوّل في النظرة وفي الكيان ككل؛ وهي خبرة تفعم القلب وتُعجِز الوصف. والإنسان "المتفردِن" يستجيب بعدها راضياً لكل مواهب الحياة، ويعرف في كل هذا التوكُّل الرضيّ الحرية الحقّة. فهذه في الواقع ليست قطعاً مجرد حرية الاختيار أو إمكانية إشباع رغبات الأنا المتناقضة: فممارسة "حرية" من هذا النوع تفضي لا محالة إلى الإحساس بالتفاهة والعبثية، كما كابده بعض الوجوديين السارتريين. فالتفردن لا يستبعد المسؤولية الاجتماعية بالمعنى النبيل، بوصفها جزءاً لا يتجزأ من سيرورة إيناع الشخصية والتحقق الذاتي. والحرية الحقّة من هذا المنظور هي انقياد المرء طوعاً وبرصانة مع ما يرافق ذلك من ألم "إيجابي‎"[9] لنظام يتخطى الإنسان المحدود، يشعر بفضله أنه يشغل مكانه الصحيح في كون يمتلئ بالمعنى والغاية والقدسية: إن هذا ليذكرنا بـ"العمل بمشيئة الآب" في المسيحية - "حبّ القدر" amor fati الرواقي، و"الإسلام" بمعناه الكوني الأشمل.

 أيقونة روسية من القرن السادس عشر (ملوك 2: 9-13) تجمع بين مشهد الياس النبي يُنقَل إلى السماء، وبين مشهد آخر يظهر فيه ملاك يوقظه ويطعمه (ملوك 1: 9-15). قسَّم الرسَّام لوحته تقسيماً محورياً، يسيطر على القسم الأيسر منها اللون الأحمر لعربة النار. بينما يظهر على القسم الأيمن اللون البني للطبيعة . ومن أعلى الصخور المرتفعة، يظهر أليشع النبي ممسكاً بطرف ثوب الياس بيده اليمنى. يصعد الياس إلى السماء في مركبة تجرها أربعة خيول وملاكان يحملان هالته المستديرة. في القسم الأيسر العلوي، يظهر ربع دائرة مليئ بالنجوم، تبث 3 شعاعات زرقاء طويلة ترمز إلى الفردوس، ويظهر النبي منتصباً بعظمة في عربة النار، وقد امتدت يداه تضرعاً باتجاه السماء. الصورة الثانية فيظهر فيها الملاك أمام الياس النائم، وقرب رأسه شجرة العرعر

يونغ والخبرة الدينية

مع أن يونغ بدأ حياته المهنية طبيباً نفسياً فقد لزمه اهتمامه بالدين طوال حياته. فخلافاً لفرويد الذي طبّق التحليل النفسي على الدين، رأى يونغ أن الدين بعد أساسي من أبعاد العلاج النفسي بخاصة، ومن أبعاد الحياة بعامة. لذا اتصف منهاجه التحليلي بخاصية "دينية"، إذا جاز التعبير. وفضلاً عن ذلك فقد حدد موضع نظريته النفسانية في الخبرة الدينية وفي العلاج النفسي في مجرى الموروثين الديني والعلمي الغربيين، موجِداً بذلك فهماً شاملاً للعالم المعاصر.

إن نفسانية التفردن اليونغية لا تُفهم حقَّ فهمها بدون العودة المباشرة إلى الخبرة الدينية وإلى مفهوم الله. فلقد اكتشف يونغ أن معاوديه، فيما هم يدنون من نهاية علاجهم، تشرع مخيّلاتهم المعبِّرة عن النماذج البدئية بتصوير شخص يوحي بالسلطان والهيبة ويشبه أباً قديراً، وأطلق على هذا الشخص اسم صورة الله imago Dei، كما رأينا. تشير كلمة "صورة" هذه إلى الاختبار الداخلي للألوهة، وليس بالضرورة إلى حقيقتها الموضوعية. وبذلك ذهب يونغ مذهب الوظيفية النفسانية، معتبراً أن خبرة الناس عن الله أهمّ بما لا يقاس من أي سجال فلسفي حول وجوده أو عدمه. فمتى تم إبداع صورة الله، أي متى "تصوَّر" نموذجه البدئي وانخلع، ومتى اختُبِر اختباراً واعياً، وتم من بعدُ فهمه أو تأويله، أتت سيرورة التفردن أُكْلَها.

ومع أن يونغ اعتقد بأن هذه الرواية لسيرورة التفردن تصح على غالبية معاوديه ممّن يحتوي موروثهم "الإبراهيمي" على صورة مشتركة لإله واحد، عليّ قدير، فقد كانت نفسانية نماذجه البدئية أوسع من أن تُحَدَّ بدين من الأديان؛ إذ وجدت الأساطير الدينية قاطبة مكاناً في منهاجه النفسي حتى إنه لم يجد حرجاً في الكلام على "الأسطورة" المسيحية. لقد كان موقِناً أن جميع الأساطير، أياً كان مصدرها الحضاري، إنما تعود بأصلها إلى خبرات نموذجية بدئية. ويونغ، إذ أخذ عن المفكر الكبير رودولف أوتّو مفهومه عن القدسيّ numinosum وعمَّمه، أعلن أن الأساطير أو النواتج النموذجية البدئية ذات تأثيرات "مروِّعة" مبعثها الخافية. ولقد مكَّنه هذا الكشف من كتابة شروح نفسانية على معطيات دينية شرقية أيضاً، لا بل ومن التقريب بينها وبين الخبرات الروحية للإنسان الغربي. فعنده أن الرموزية الدينية للبوذية والهندوكية وتعاليم بوذية زِنْ والكونفوشية، كما والفينومينولوجيا الدينية الخاصة بها، هي جميعاً تعبيرات عن خبرات يتمخّض عنها العالم الباطن للإنسان، العالم الذي أهملته المدنية الغربية أشد الإهمال.[10]

من هذا المنطلق، يرى العديد من شرّاح نظريات يونغ أنه وجد في الأديان الشرقية حلاً أو علاجاً للأدواء الروحية للغرب المعاصر، متناسين بذلك أن الصحة الروحية للشرق اليوم ليست بأفضل حالاً منها في الغرب، وأن مؤلفات يونغ في الدين ركّزت في معظمها على الموروث المسيحي، على اعتبار أن المسيحية هي الخبرة الروحية "الشرقية" الوحيدة التي اندرجت عضوياً في اللوحة الثقافية والحضارية للغرب، لا بل صنعتها من وجوه عديدة.[11] من هنا أكبّ على التراث الروحي الغربي مفتشاً عن منقولات ونصوص تعوِّض عن هذا النمو الأفقي الانبساطي "الأعرج" للغرب، المتّجه نحو المزيد من العَقْلَنَة والتكنولوجيا. لقد وجد من خلال دراسته المعمَّقة للعلاقة بين علم النفس والدين أن نصوص الأقدمين الغامضة، المهمَلة في الأعم الأغلب، تلقي ضوءاً كاشفاً غير متوقَّع ليس على أحلامه وتخلُّقاته هو وحسب، بل وعلى أحلام مرضاه وتخلُّقاتهم التي تتكرر فيها متجانسةً صورٌ نموذجية بدئية.[12] لذا يؤكد يونغ، كما رأينا عند الكلام على التوسيع، أن الاطلاع على كتب المعلِّمين القدماء، على اختلاف مشاربهم، أمر لاغنى عنه للمعالج النفسي، إن هو أراد أن يُحسِن فنّه. فلاعجب أنه وجد ضالّته، كما سنرى، في الغنوص (= العرفان) والتصوّف والهرمسية.

إن شمولية يونغ في مذهبه الإنساني لم تحل بينه وبين السعي لإدراج نفسانيته (ونفسانية فرويد أيضاً) في الخبرة الدينية للغرب التي تندرج بدورها في الخبرة الروحية الإنسانية الشاملة. من هذا المنطلق، طوّر يونغ فهمه النفساني للخبرة الدينية الغربية وللعلم الغربي. يذهب يونغ إلى أن الثقافة الغربية مرت في تطورها بأطوار ثلاثة: الأول ديني، الثاني علمي، والثالث نفساني، وأن كلاً من هذه الأطوار كان في الواقع استجابة مختلفة للحقيقة الكلِّية للخافية. فالعصور الوسطى يكاد يغلب عليها الطابع الديني، واختبار الناس للخافية في تلك الفترة كان يتم من خلال صور دينية: الله (نموذج الأب)، الكنيسة والسيدة العذراء (نموذج الأم)، والمسيح (نموذج الذات)؛ وفي عصري النهضة والتنوير، ساد العلم والعقلانية اللذين مالبثا أن قمعا الخافية الجامعة والحقيقة الدينية عبر تبلور أكبر للأنية (= الأنا)؛ وأخيراً، في الفترة المعاصرة المتميِّزة باكتشاف العلم للخافية، يعود العلم والدين إلى الوفاق في خبرة من نوع جديد لا يلغي فيها أي منهما الآخر بل يعمِّقه ويثريه. لقد صنّف يونغ نفسانيَّته (ونفسانية فرويد أيضاً) في خانة العلم الذي أسماه علم الخافية، ألا وهو علم القوى النفسانية العميقة التي لم توجِد الدين وحسب بل العلم أيضاً. بذلك استطاع علم النفس التحليلي أن يؤلِّف بين الدين والعلم تأليفاً جديداً مكَّن يونغ من تقديم نفسانيَّته لمعاصريه من الرجال والنساء كسبيل يتيح لهم أن يكونوا في آن معاً علميين وحداثيين يحيون عصرهم، و"متديِّنين" عميقي الروحانية وراسخين في جذورهم التراثية، دون أن يعانوا من ازدواجية داخلية.

يونغ والكيمياء

كان على يونغ أن ينتظر خمسة عشر عاماً قبل أن يجيء على ذكر التفردن: لقد كان يريد أن يشدّ سيرورة محيِّرة كهذه إلى سابقاتها التاريخية، إلى روايات تقدِّم تخطّيات للأنية الشخصية بدون تحديدات الفكر الإيماني وإسقاطاته. ولقد زوّدته رسالة في الكيمياء والطاوية بعنوان سر الزهرة الذهبية عام 1928 بأولى حلقات السلسلة، إذ تصف الرسالة "دوراناً للنور" ينتهي بتفتح "برعم الخلود". لكنه عندما بدأ بفك "جفر" cipher ألغاز الكيمياء الغربية، إذ ذاك فقط تملَّكه الشعور بأنه وجد ضالّته ومَوقَع نفسانيَّته وحدَّد دوره التاريخي. لقد توصَّل يونغ إلى أن النصوص الكيمياوية الغامضة إنما هي تعبيرات رمزية بديعة عن اختبار الإنسان لانبثاقات الخافية الجامعة بنماذجها البدئية. ولكم أدهشه أن يقع على رموز كيمياوية الطابع في أحلام وتخلُّقات معاصريه.

الأضداد تتعايش في قلب الألوهة، إن في العهد القديم أو في الإسلام (صفات "جمالية" وصفات "جلالية") أو فيما نطلق عليه اسم "وثنيات": فسفر أيوب مثلاً يجعل الشيطان واحداً من أبناء الله الواقفين أمام الربّ. لكن التمايز المسيحي التقليدي، على غير الغنوص، فصل جذرياً بين النقائض، كما بحد السيف، ورمى بالشر في الظلمات البرانية. ومع ذلك فقد وُجِد في كل العصور أناس مأخوذون بـ"الجمع بين الأضداد" coincidentia oppositorum؛ وقد أتاحت الكيمياء Alchemy التي خلفت الغنوص لهؤلاء إطاراً أوسع من الإطار الاتّباعي استطاعوا فيه مزاولة عملياتهم. فـ"حجر الفلاسفة" ("الشيء الأعظم" أو "الإكسير" بلغة جابر بن حيّان) مادة خسيسة مظلمة تتفتح عن الروح الإلهي القابع فيها بفعل "التدبير الأعظم". والكيمياء بهذا المعنى ليست مجرد عقيدة باطنية، إنما خبرة تحوّل جذري في الشخصية في متناول كل من يشعر في أعماقه بدافع إلى مثل هذا التحوّل. ففي عهد كانت المادة فيه مجهولة كان الكيمياوي يخلع صورة الخافية على جسم يختاره ويجتهد في تحقيق "تصيير" transmutation رصاصه ذهباً على أساس الجمع بين الأضداد الذي كان التوق إليه هاجسَه. بيد أن المريدين الحقيقيين لهذا العلم السامي كانوا على بيِّنة تامة من الأمداء النفسانية والروحية لتدبيرهم؛ فكانوا يطلقون على أنفسهم اسم "الفلاسفة" أو "الحكماء"، ويصرّون على أن ذهبهم "ليس ذهب العوام" aurum non vulgi وعلى أن جوهرتهم هي "حجر الغيبة" lapis invisibilitatis والخلود. و"تدبير الإكسير الأعظم"، مثله كمثل التفردن، يستمر على مدى سنين طوال. إنه حركة دائرية، ودوران موصول تظهر للمرء في أثنائه ألوان متعاقبة هي بصورة رئيسية: "السواد" nigredo (الذي يذكّر بمواجهة الظل وبالكرب الناجم عن انحلال الوعي)، ثم "البياض" albedo (الذي يقابل استدماج القرينة أو القرين)، فالـ"حمرة" rubedo (نور الوعي وقد تجدد وأصبح فاعلاً)، ترمز إليها على التوالي معادن الرصاص والزئبق والكبريت. وإن لكل كيمياوي دربه الخاص؛ وهذه سمة تشترك فيها الكيمياء مع التفردن.

بذلك يسّرت الكيمياء للإنسان، إبان قرون طوال، بأن يعبر بكل عفوية عن تفتّحه الداخلي وبأن يحقق في سر قلبه "التجديد الكلي" apocatastasis، بعث التناغم الأصلي، الإبلاء من الجرح المفتوح في قلب الألوهة، المغفرة لإبليس ونجاته التي أعلنها كل من أوريجينس في المسيحية وابن عربي في الإسلام. وتبيِّن الممارسة النفسانية بأن المواد التي تيسرها الخافية للإنسان الحديث تترجم من جانبها إرادة التقريب بين "الأقطاب المتضادة". ويعود يونغ مراراً وتكراراً إلى رؤيا لاهوتي شاب يعاونه فيها "مجوسيان" في رحلته الداخلية يعرف أنهما المجوسي الأبيض والمجوسي الأسود. بيد أن المجوسي الأبيض في الرؤيا متوشح بالسواد بينما الأسود متوشح بالبياض. وهذا الأخير هو من يقدّم للحالم "مفتاح الفردوس". الخير والشر ينزعان إذن إلى الاقتران واحدهما بالآخر وتشكيل وجهين متكاملين مشابهين للـيَنغ yang، و الـين yin في الحكمة الصينية، وهما فيها مبدآن متضادان متكاملان يرمز اجتماعهما في دائرة الـطَيْ جي tai-ji إلى "المبدأ الكلي"، الطاو Tao، "الطريق". والأحلام في عصرنا كثيراً ما تنقل صوراً كيماوية يجهلها الحالم، الأمر الذي يفسر كون يونغ لم ينِ طوال الربع قرن الأخير من حياته يفسح في مؤلفاته مجالاً أوسع فأوسع للرموزية الهرمسية أو الكيمياوية.[13] إن إعادة اكتشاف يونغ لسر الكيمياء الأزلية لهي شاهد على أن ثمة فينا جوهراً يتملص من تقلبات الحياة وأوصابها، وعلى أن هذا "الحجر الإلهي" lapis divinitatis هو ينبوع حياة خصبة لا تنضب.

 الإنسان بعد انتهاء عملية "تدبير الإكسير" في الكيمياء. إنه، وقد امتلأ بسلام المعرفة، يتذوق حضوره الكلي في الكون؛ لقد اختفت أدوات التدبير ولم يتبقَّ إلا شيء واحد يشير إلى وقوعه. إبريق الشاي! فكما تقول حكمة بوذية زن: "نكهة الشاي من نكهة التأمل"

مساهمة يونغ في دراسة الدين

يعود الأثر البليغ الذي تركته نظريات يونغ النفسانية على دراسة فلسفة الدين وفينومينولوجيّته والذي يفوق برأينا أثر النظريات الفرويدية بكثير إلى رأي يونغ بأن الدين متأصل في الحياة الإنسانية ولا يصح أن يُختزَل إلى مركَّب أبوي يجب حلّه لكي يسترد المرء عافيته النفسية، ولا إلى عوامل متعلقة بتطور العلاقات الاقتصادية والوعي الاجتماعي؛ غير أن الأمر لا يقتصر على ذلك فحسب. إن همّ الباحثين في فينومينولوجيا الدين ينحصر أساساً في توصيف الصور والرموز والأساطير والتأويل hermeneutics ومعنى الخبرة الدينية؛ ونظرية يونغ النفسانية في رموز الأحلام النموذجية البدئية تيسِّر للباحث مهمة شدّ خيال القراء والمستمعين، آنياً ومباشرة، إلى الرموز في النصوص الدينية والأدبية. وبما أن النماذج البدئية تعبِّر عن نفسها بنوع من لغة الرموز العامة فإن تحليل النصوص يجب أن يتيسَّر بدون أن يؤخَذ بالضرورة السياق التاريخي والاجتماعي الذي أُبدِعت فيه بعين الاعتبار.

ولقد ظهرت دراسات عديدة أصيلة في الأساطير الدينية استفادت من نفسانية يونغ، أشهرها مؤلفات جوزف كمبل ولاسيما كتابه الرائد البطل ذو الألف وجه[14] و كتاب أقنعة الله في أجزائه الأربعة. لقد جمع كمبل بين معرفة واسعة بميثولوجيا الديانات العالمية وديانات الشعوب "البدائية" وبين فهم أصيل لنظريات يونغ النفسانية، مؤسِّساً منهاجه التأويلي على التأويل النفساني، ساعياً من خلاله إلى تشييد نموذج معنوي واحد ينتسج عبر المضامين العديدة للأساطير المتنوعة دعاه الأسطورة الأصلية monomyth. وهذه الثيمة الواحدة النائتة من كل الأساطير هي قصة مغامرة البطل كشخصية نموذجية بدئية. وهي تحدث على ثلاث مراحل: مغادرة البطل للجماعة؛ يلي ذلك سلسلة من الأهوال والمهالك والامتحانات تقوده إلى انتزاع شابة حسناء أو كنز نفيس من قبضة سلطان ذي حَوْل؛ والعودة، أخيراً، بالحسناء التي ظفر بقلبها انتهاءً بالنكاح المقدس، أو بالكنز الذي فاز به وتقديمه للجماعة.[15] إن أساطير مختلف الثقافات والحضارات، على تنوعها، تروي هذه القصة وتعيد روايتها. ومع أن تفاصيل كل رواية تكاد تبدو فريدة فإن المعنى النفساني يبقى هو هو فيها جميعاً لأن المضامين النموذجية البدئية للخافية الجامعة هي هي في العالم قاطبة.

أما مؤرخ الأديان الفذ مرشيا إلياده فقد استفاد من نفسانية يونغ استفادة مختلفة. صحيح أنه اعتقد، مثله كمثل كمبل، بأن الأسطورة هي المفتاح لفتح مغاليق الأديان كافة، إلا أنه، على غير كمبل الذي استعمل منهاج يونغ في تأويل الأساطير، عوَّل على القيم والمثل الأكثر "فلسفية" التي اعتنقها يونغ في نفسانيَّته التحليلية. لقد صفّق إلياده مراراً لنظرية يونغ في الدين والعلم الغربيين لقناعته بأن للحياة الإنسانية بعداً دينياً متجذِّراً فيها، وبأن أدوات تفسير الحداثة كالعلم البحت والتدوين التجاربي للتاريخ empirical historiography تجاهلت هذا البعد، وبأن من شأن منظور علم النفس المركَّب إلى أديان الإنسانية أن يعيد إليه الاعتبار. لقد وجد إلياده ضالته في فكرة يونغ أن العقل البشري متديِّن بطبعه، وبخاصة عندما يعبِّر عن هذا التديُّن بأساطير تضرب بجذورها في الأعماق النفسانية أو في الخافية الجامعة. لذا فإن إلياده كثيراً ما أشار إلى مفاهيم من نحو النموذج البدئي والخافية الجامعة والبسيكي، لا بل وتبناها أساساً للتحليل العلمي في مؤلفات عديدة.[16]

يبقى أن نذكر مقترَباً أجدّ وأحدث للأسطورة الدينية تأثّر هو الآخر تأثُّراً عميقاً بخبرة يونغ في هذا المجال، ألا وهو عمل وِندي دونِغِر أوفلاهرتي. وهذا المقترَب المتعدِّد المناهج الهام يختلف عن مقتربي كمبل وإلياده كليهما، من حيث إنهما استفادا من يونغ في صياغة نظرية شاملة في الأساطير الدينية، بينما تركِّز أوفلاهرتي انتباهها على التفاصيل النصية للأساطير، مستعملة أدوات تأويلية عدة بالإضافة إلى علم النفس، وتشدد على السياق التاريخي والثقافي للأسطورة التي تدرسها. ففي كتابها نساء وخنثيات وبهائم أسطورية أخرى، على سبيل المثال، تناقش أوفلاهرتي أساطير تلعب فيها الفرس الدور الأساسي. ولكي تبلغ أقصى ما تستطيع من الدقة والحيوية تورد مقبوسات مختلفة تصف الفرس وفِعالها والثيمات والصور الأسطورية المتصلة بها. يقودها ذلك إلى استنباط مصادر أو مستويات عدة لأسطورة الفرس: فهي ترمز إلى النزاعات النفسانية للحياة الأسرية، وهي تمثل للتوتر السياسي الذي يطرأ على المجتمع، وهي كذلك إفصاح عن طبيعة الألوهة. ولا تكتفي أوفلاهرتي بذلك، بل تحاول أيضاً وصف دورات الأساطير التي تسود فيها الفرس، لتضعها في سياقها التاريخي والجغرافي والحضاري الخاص. يظهر تأثير يونغ واضحاً في مسعاها لإعطاء الصورة الدينية كل العيانية والمباشَرة اللذين يتصف بهما التخلُّق الفردي، في الوقت الذي تربط فيه هذه الصورة بنصوص أخرى مستقاة من حضارات أخرى. ولا نظنّنا نجانب الصواب إذا وصفنا منهاجها بأنه مقترَب "متعدِّد المنظورات" لميثولوجيا الأديان كافة؛ وهو، بما هو كذلك، واعد بالتوسع في استعمال نفسانية يونغ في فهم الرموز الدينية وإغناء الجهود التي بذلها كل من كمبل وإلياده في هذا الاتجاه.

خاتمة

يقول باراكِلسُس، الطبيب الحكيم: "خُلق العالم غير ناجز والله وضع الإنسان فيه لكي ينجزه." فليبدأنّ الإنسان بنفسه إذا لم يكن يريد أن يبدي له العالم، الذي هو منه "المختصر الشامل" والنموذج البدئي، مظهرَه الأقتم والأشد قساوة. ففي قرن حققت فيه الفيزياء، وقد غاصت بباصرتها إلى قلب المادة، تصيير الكتلة إلى طاقة في ألق يذهب بالأبصار لكنه يزهق الأرواح، هو ثمرة ما أسماه روبرت أوبنهايمر "فعلة إبليس"، فإن مغامرة ارتياد باطن الإنسان، تلك المغامرة الإنسانية الأزلية التي أفلح فيها ذلك البالوي البسيط،[17] أفضت بذلك إلى إعادة "الصنعة الإلهية" opus divinus التي تحدّث عنها الفيزيائون الأقدمون إلى المنزلة اللائقة بها.[18] وبينما يفكر بنو الإنسان في استيطان المريخ و"يلوِّثون" الفضاء بأقمارهم الصناعية ويرسلون مركباتهم إلى خارج المنظومة الشمسية قبل أن تفصح لهم أمّهم الأرض عن سرّ واحد من أسرارها؛ بينما يجتاحون الغابات ويصيدون بعض صنوف الحيوان حتى الانقراض ويستهلكون في عقود قليلة ما استغرق بناؤه الأرضَ ملايين السنين؛ بينما يقتتلون على حفنة تراب ويطالبون بالسلام وهم يقصفون الأبرياء ويتشدقون بنظام عالمي جديد؛ بينما يحدث كل هذا، يعيد علم نفس الأعماق فتح الدرب القديم الذي قاد دانتي عبر الأفلاك الكوكبية إلى قلب الوردة السرّانية المقدسة، نظيرة الزهرة الذهبية في الصين وزهرة اللوتس في مصر والهند. ومثل هذه "المصادفات" تشهد على أهمية يونغ للحاضر، وموازَنَتِه، إذا ما عُمِل برأيه، لمدنيَّة تلفظ الإنسان بعنف خارج نفسه، وتحكم عليه بذلك بجهل أصل نزاعاته الداخلية وبالتفتيش عنها في حلول وهمية تزداد تعقيداً ونأياً به عن نفسه في مسعى لا جدوى منه (عذاب طنطال في الأسطورة اليونانية). إن طريقة يونغ تتيح للإنسان، بالعودة إلى نفسه، أن يجد في نفسه، بنفسه، لنفسه وللكل، في سيرورة جدّ طبيعية، كرامته السامية المتأتِّية عن الحقيقة المنغرسة في كيانه منذ الأزل، التي أعلنتها الحكمة المشرقية على تعدد مشاربها، وبذلك تبدو مؤهلة لمنح الإنسان ذلك "المدَد الداخلي" الذي هو في أمس الحاجة إليه، لا لشيء إلا لكي ينجو وبنجاته، يشهد للحقيقة وتعي "الفكرة" ذاتها فيه.

 يونغ في شيخوخته، مدخناً غليونه: "هاكم الإنسان الذي، منذ أصل الأشياء نفسه، لم يسكن إلى مأوى، ولم يتَّكل على شيء [...] خبِّروني أين يريح جسمه، وأين نثوى حياته في ساعات النهار الإثنتي عشر. فقد عُرِف عنه - لو تدرون - أنه مضى إلى الهند صباحاً وآب إلى هنا مساءً [...]"

*** *** ***

 

الفصل السابق

المراجع

لاغنى لكل باحث مهتم بفكر يونغ عن العودة إلى الأعمال الكاملة لكارل غوستاف يونغ التي نشرتها جامعة برنستون:

- The Collected Works of C.G.Jung, 20 vols, tr. R.F.C.Hull, ed. G.Adler, M.Fordham and H.Read, Princeton, 1953-1979.

أما المراجع بالإنكليزية والفرنسية التي اعتمدناها نحن، بالإضافة إلى الببليوغرافيا المتوفرة باللغة العربية حتى وقت إعداد هذا البحث، فهي وفق الترتيب الأبجدي لأسماء مؤلفيها وعناوينها:

 

Cahier de l’Herne, Carl Gustav Jung, Paris 1984.

GAILLARD, Le Musée imaginaire de C.G.Jung, Paris, 1998.

HANNAH, B., Jung: His Life and Work, New York, 1976.

HOELLER, S.A., The Gnostic Jung and the Seven Sermons to the Dead, Wheaton, Ill., 1989.

HUMBERT, É.G., Jung, Paris, 1983.

JUNG, C.G., Aïon : études sur la phénoménologie du Soi, Paris 1983.

---------------, L’âme et la vie, Paris, 1976.

---------------, Analytical Psychology: its Theory and Practice (the Tavistock Lectures), London, 1984.

---------------, Correspondance Freud-Jung, Paris, 1970.

---------------, L’Énergétique psychique, Paris, 1970.

---------------, Le Fripon divin, en collaboration avec C.Kerenyi et P.Radin, Paris, 1958.

---------------, La Guérison psychologique, Paris, 1971.

---------------, L’Homme et ses symboles, Paris, 1964.

---------------, Introduction à l’essence de la mythologie : l’Enfant divin – la Jeune Fille divine, en collaboration avec C.Kerenyi, Paris, 1987.

---------------, “Ma vie” - Souvenirs, rêves et pensées, recueillis et publiés par A.Jaffé, Paris, 1973.

---------------, Métamorphoses de l’âme et ses symboles, Paris, 1989.

---------------, Mysterium Coniunctionis, Princeton, 1989.

---------------, Présent et avenir, Paris, 1970.

---------------, Problèmes de l’âme moderne, Paris, 1962.

---------------, Psychologie et éducation, Paris, 1964.

---------------, Psychology and Alchemy, London, 1989.

---------------, Les racines de la conscience, paris, 1971.

---------------, La réalité de l’âme : 1. Structure et dynamique de l’inconscient, Paris, 1998.

---------------, The Spirit in Man, Art and Literature, London, 1984.

---------------, Synchronicity: an Acausal Connecting Principle, Princeton, 1973.

---------------, La vie symbolique : psychologie et vie religieuse, Paris, 1989.

LINSSEN, R., De C.G.Jung à Krishnamurti, Bruxelles, 1950.

McLYNN, F., Carl Gustav Jung: A Biography, London, 1997.

PERROT, É., La voie de la Transformation selon C.G. Jung et l’Alchimie, Paris, 1970.

PROGOFF, I.,The Symbolic and the Real, London, 1977.

STAUDE, J.R., The Adult Development of C.G.Jung, London, 1981.

WILHELM, R. (tr.), I Ching or Book of Changes, with a foreword by C.G.Jung, London, 1989.

 

ببليوغرافيا كارل غ. يونغ بالعربية

يستطيع القارئ غير الملمّ بغير العربية الإفادة مما تُرجِم من مؤلفات يونغ إلى العربية؛ وهي، حتى وقت إنجاز هذا البحث، الكتب التالية وفق التسلسل الزمني لصدورها:

- Modern Man in Search of a Soul, London & Henley, 1981.

نقله إلى العربية وقدم له نهاد خياطة بعنوان: علم النفس التحليلي، دار الحوار، اللاذقية، طب1 1985، طب2 1998.

- Réponse à Job, postface de Henry Corbin, Paris, 1964.

نقله إلى العربية نهاد خياطة بعنوان: الإله اليهودي: بحث في العلاقة بين الدين وعلم النفس، دار الحوار، اللاذقية، 1986.

- Psychology and Religion, Yale University Press, 1950.

نقله إلى العربية نهاد خياطة بعنوان: الدين في ضوء علم النفس، دار العربي، دمشق، 1988.

- Un mythe moderne : Des “Signes du ciel”, Paris, 1963.

نقله إلى العربية نهاد خياطة بعنوان: ظاهرة الأطباق الطائرة في ضوء علم النفس، دار المنارة، اللاذقية، 1989.

- Aspects du Drame contemporain, Paris, 1970.

نقله إلى العربية نهاد خياطة بعنوان: النازية في ضوء علم النفس، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، 1992.

- L’Homme à la découverte de son âme, Genève, 1970.

نقله إلى العربية سامي علام وديمتري أفييرينوس بعنوان: الإنسان يبحث عن نفسه، دار الغربال، دمشق، 1993.

- Psychologie de l’inconscient, Paris, 1989.

نقله إلى العربية سامي علام بعنوان: النفس الخافية، دار الغربال، دمشق، 1995.

- Dialectique du moi et de l’inconscient, Paris, 1964.

نقله إلى العربية نبيل محسن بعنوان: جدلية الأنا واللاوعي، دار الحوار، اللاذقية، 1997.

- Types psychologiques, Paris 1967.

نقله إلى العربية سامي علام وفائز بشور بعنوان: الأنماط النفسانية (قيد النشر).

بالإضافة إلى كتب أعدّها ونقلها إلى العربية نهاد خياطة، متخيِّراً دراسات متفرقة ليونغ:

- دور اللاشعور ومعنى علم النفس للإنسان الحديث، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، 1992.

- التنقيب في أغوار النفس، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، 1996.

- البنية النفسية عند الإنسان، دار الحوار، اللاذقية، 1997.

والكتاب الأخير عبارة عن نصوص تتناول المسألة الدينية، استقاها نهاد خياطة من كتب يونغ التي ترجمها إلى العربية وعلّق عليها.

نضيف إلى المؤلفات السابقة مؤلَّفين شارك فيهما يونغ:

- Man and His Symbols, Conceived and edited by Carl Jung, London, 1983.

نقله إلى العربية عبد الكريم ناصيف بعنوان: الإنسان ورموزه: سيكولوجيا العقل الباطن، دار منارات، عمان، 1987.

- Richard WILHELM (tr.), The Secret of the Golden Flower: a Chinese Book of Life, with a forward and a commentary by C.G.Jung, London, 1984.

نقله إلى العربية نهاد خياطة بعنوان: سرّ الزهرة الذهبية: القوى الروحية وعلم النفس التحليلي، دار الحوار، اللاذقية، 1988.

يمكن لقارئ العربية كذلك أن يطلع على الكتب الأربعة التالية التي تُعتبر، كل منها بطريقته، مداخل ممتازة إلى فكر يونغ ونظريته النفسانية، نذكرها أيضاً وفقاً للتسلسل الزمني لصدورها:

- E.A.BENNETT, What Jung Really Said, 1967.

نقله إلى العربية مدني قصري بعنوان: ما قال يونغ حقاً!، دار الجليل، دمشق، 1994. 

- Élie G. HUMBERT, C.G.Jung : Psychothèque, Paris, 1974.

نقله إلى العربية وجيه أسعد بعنوان: كارل غوستاف يونغ: الأساسيات في النظرية والممارسة، منشورات وزارة الثقافة في ج ع س (الدراسات النفسية 32)، 1991.

- Charles BAUDOIN, L’œuvre de Jung et la psychologie complexe, Paris, 1963.

نقله إلى العربية وقدم له سامي علام بعنوان: علم النفس المركَّب: تفسير أعمال يونغ، دار الغربال، دمشق، 1992.

- Jolan JACOBI, La psychologie de C.G.Jung, Neuchâtel et Paris, 1950.

نقله إلى العربية ندره اليازجي بعنوان: علم النفس اليونغي، دار الأهالي، دمشق، 1993.

نضيف إلى ما سبق كتباً مترجمة لمحللين يونغيين أو مفكرين تأثروا بيونغ:

- Robert LINSSEN, La mutation spirituelle du IIIe millénaire, Paris, 1982.

نقله إلى العربية وقدم له ندره اليازجي بعنوان: التطور النفسي في الألف القادمة، دار الغربال، دمشق، 1982.

- Pierre DACO, Comprendre les femmes et leur psychologie profonde, Marabout.

نقله إلى العربية وجيه الأسعد بعنوان: المرأة: بحث في سيكولوجية الأعماق، منشورات وزارة الثقافة في ج ع س (الدراسات النفسية 11)،

- Pierre DACO, L’interprétation de rêves, Marabout.

نقله إلى العربية وجيه الأسعد بعنوان: تفسير الأحلام: بحث في سيكولوجية الأعماق، منشورات وزارة الثقافة في ج ع س (الدراسات النفسية 16)، 1985.

- Pierre DACO, Les voies étonnantes de la nouvelle psychologie, Marabout.

نقله إلى العربية وقدم له سامي علام بعنوان: علم النفس الجديد وطرقه المدهشة، دار الغربال، دمشق، 1990.

- Pierre DACO, Psychologie et liberté intérieure, Marabout.

نقله إلى العربية سامي علام بعنوان: من السجون إلى الحرية، دار الغربال، دمشق، 1992.

- Ania TEILLARD, Ce que disent les rêves: le symbolisme du rêve, Paris, 1970.

نقله إلى العربية أديب الخوري بعنوان: حديث الأحلام: رمزية الحلم، دار الطليعة الجديدة، دمشق، 1998.

- Joseph CAMPBELL, The Power of Myth, with Bill Moyers, New York, 1988.

نقله إلى العربية ميساء وحسن صقر بعنوان: قوة الأسطورة، دار الكلمة، دمشق، 1999.

- Allan COMBS & Mark HOLLAND, Synchronicity: Science, Myth, and the Trickster, New York, 1996.

نقله إلى العربية ثائر ديب بعنوان: التزامن: العلم والأسطورة والألعبان، دار مكتبة إيزيس (آفاق 1)، دمشق، 2000.

يبقى أن نضيف ما جاء عن يونغ في كتب موسوعية ومعاجم عربية أو مترجمة:

- فاليري ليبين، مذهب التحليل النفسي وفلسفة الفرويدية الجديدة، دار الفارابي، بيروت، 1981؛ الفصل الأول من الباب الثاني ("مجادلات في مدرسة التحليل النفسي") مخصص لـ"كارل يونغ والسيكولوجيا التحليلية"، ص 91-111. والكتاب يتناول التحليل النفسي بالنقد من وجهة نظر ماركسية.

- عبد المنعم الحفني، موسوعة أعلام علم النفس، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1993، مادة "يونج"، ص 411-21.

- عبد المنعم الحفني، المعجم الموسوعي للتحليل النفسي، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1995، مادة "يونج، كارل غوستاف"، ص 683-8.

- عبد المنعم الحفني، موسوعة مدارس علم النفس، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1995، مادة "مدرسة زيورخ"، ص 477-9.

وكذلك الدراسات المنشورة ليونغ، عنه، أو التي تتطرق إليه، في مجلات عربية:

- كارل غوستاف يونغ، "رمزية التحول في سورة الكهف"، بترجمة نهاد خياطة، مجلة كتابات معاصرة، العدد 12، تشرين الثاني-كانون الأول 1991، ص 83-88. (غيّر محرر المجلة في العنوان الأصلي للبحث)

- ندره اليازجي، "أنماط العقل"، مجلة المعرفة، العدد 357، حزيران 1993، ص 56-73.

- كارل يونغ، "سيغموند فرويد كما يراه كارل غوستاف يونغ"، بترجمة الرحوتي عبد الرحيم، مجلة المعرفة، العدد 388، كانون الثاني 1996، ص 44-71.

- ندره اليازجي، "علم النفس الديناميكي والتأليف النفسي"، مجلة المعرفة، العدد 392، نيسان 1996، ص 10-32.

- ديمتري أفييرينوس، "التكامل الداخلي في الأدب: زهرة اللوتس نموذجاً"، مجلة كتابات معاصرة، العدد 27، نيسان-أيار 1996، ص 47-53.

- نبيل محسن، "دور اللاوعي في المعالجة النفسية"، مجلة المعرفة، العدد 400، كانون الثاني 1997، ص 75-92.

- ديمتري أفييرينوس، "خبرات على تخوم الموت"، مجلة المعرفة، العدد 401، شباط 1997، ص 49-81.

- جوزيف كامبل، "مدخل إلى علم النفس اليونغي من خلال حياة صاحبه وأعماله"، بترجمة نهاد خياطة، مجلة المعرفة، العدد 423، كانون الأول 1998، ص 75-97.

- نبيل محسن، "مسألة الأنماط النفسية"، مجلة المعرفة، العدد 443، آب 2000، ص 83-98.

- نبيل محسن، "المعالجة النفسية بالطرق الطبيعية"، مجلة معابر (www.maaber.ws)، العدد 2، كانون الثاني 2001.


[1] هذا ما يعبّر عنه المثل الألماني: "كل رجل فهو يحمل حوّاءه في نفسه."

[2] من نماذج القرينة السلبية في الميثولوجيا الساحرة كيركي Circe التي حولت رفاق عوليس إلى خنازير، على حد ما جاء في ملحمة الأوذيسة، ومن نحو ليلى المجنون في التراث العربي. نورد هنا، على سبيل الطرافة، بعض ما جاء في رسالة من جبران خليل جبران إلى ميخائيل نعيمه، مؤرخة في شباط 1923، مما يشي بالخاصية "الجهنمية" للقرينة: "يعلم الله أنني لم أصرف شهراً في غابر حياتي يماثل الشهر الماضي بصعوباته ومصائبه ومشكلاته ومعضلاته. ولقد سألت نفسي مرات ما إذا كانت "جنيّتي" أو "تابعتي" أو "قرينتي" قد تحولت إلى عفريت يعاديني ويقاومني ويوصد الأبواب أمامي ويضع العثرات في سبيلي. [الحرف المائل من تدخلنا] منذ مجيئي إلى هذه المدينة العوجاء [يعني بوسطن] وأنا في جحيم من الدنيويات، ولولا شقيقتي لتركت كل شيء وعدت إلى صومعتي نافضاً غبار الدنيا عن قدميّ. عندما استلمت برقيتك في هذا الصباح شعرت كمن يستيقظ من حلم مزعج وبقيت هنيهة أفكر وأسترجع تلك الساعات اللذيذة التي صرفناها متحدثين عن الأمور الروحية والفنية ونسيت أنني في معمعة وأن فيالقي في حالة حرجة، ولكنني ما لبثت أن عدت فتذكرت مصائبي الغابرة والآتية وتذكرت أن من الواجب عليّ البقاء هنا والقيام بوعودي وتحقيق مواعيدي []. أنا في هذه الأيام بحاجة ماسة إلى تمنيات الأصدقاء وصلوات المتعبدين بل وأنا بحاجة إلى نظرة حلوة في عين مخلص." (ميخائيل نعيمه، المجموعة الكاملة، مجلد 3، بيروت، 1979، ص 309-10)

[3] راجع دراسة لنا بعنوان "التكامل الداخلي في الأدب"، كتابات معاصرة 27: "اختبار الموت واللقاء بالقرين الحي"، ص 52-3.

[4] الواقع أن يونغ لم يغفل حتى درس الفن الحديث، فتأمّل في أعمال كتّاب وفنانين معاصرين، أمثال جويس وبيكاسو.

[5] لقد ساعدت يونغ دراساتُه التاريخية على ريادة العلاج النفسي للكهول وكبار السن، ولاسيما من يشعر منهم بأن حياته فقدت معناها، فساعدهم على تقدير موضع حياتهم في الصيرورة التاريخية. لقد هاله أن معظم هؤلاء المرضى أضاعوا معتقدهم الديني، ووجد أنهم إذا استطاع كل منهم أن يكتشف "أسطورته"، كما تعبّر عنها أحلامه ومخيِّلته، تمكّن أن يصبح شخصية أتمّ وأكثر تكاملاً. ستكون لنا عودة إلى هذا الأمر في الفقرة التالية.

[6] فيلسوف فرنسي (1857-1939)، عرّف الآداب والأعراف الاجتماعية تبعاً للأخلاق (أخلاق الأعراف وعلمها، 1903) وطلع بفرضية تطور للذهن البشري (العقلية البدائية، 1922).

[7] ليس الأمر عبارة عن تشديد فرداني للطبع كما قد يتراءى لبعضهم، إنما هو تحقيق لوحدانية الفرد وإبداعه الخاص. فالإبداع ليس ما نفعل بقدر ما هو ما نحن في سيرورة تحقُّقنا بذاتنا.

[8] مصطلح سنسكريتي يشير إلى أشكال دائرية أو مربعة أو مثلثة تفيد التركيز والتأمل.

[9] المصطلح للفيلسوف ندره اليازجي الذي يميز بين "الألم السلبي" الناجم عن التعلق والرغبة وبين "الألم الإيجابي" الذي هو "غبطة تحقيق المطلق من خلال ألم الحياة". أنظر: "فلسفة الألم" في دراسات في المثالية الإنسانية، الأعمال الكاملة مج 2، ص 241-51.

[10] من أجل التحقُّق من صحة أطروحته في النماذج البدئية واكتساب خبرة إضافية في كيفيات تعبيراتها قام يونغ بزيارات لمن يُطلق عليهم خطأً اسم "القبائل البدائية"، فعاش بين ظهراني هنود البويبلو في نيومكسيكو وصحراء أريزونا (1924-1925)، وبين سكان جبل إلغون في كينيا منكباً على درس سلوكهم ومعتقداتهم وحياتهم الروحية الغنية (1925-1926)؛ كما قام بعدئذٍ بزيارة شمال أفريقيا والهند. ولقد أكدت هذه الزيارات الاستطلاعية العلمية أهمية نظرية النماذج البدئية بوصفها لاغنى عنها لدرس علم نفس الدين وفينومينولوجيّته.

[11] لعل هذا يعود إلى تنشئته المسيحية التي تمرّد عليها في شبابه دون أن ينقطع تأثيرها عليه من جهة، وإلى محبته العميقة للتراث الإنساني الذي أبدعه الغرب مستلهماً المثل والقيم المسيحية من جهة أخرى.

[12] الواقع أن هذه الصور، من جهة، تكاد تتماثل في ظهورها في الكسموغونيات والتراثات الشعبية لمختلف الشعوب، في العقائد الباطنية، في أحلام الراشدين "المتمدِّنين"، المعصوبين منهم وغير المعصوبين (أسطورة بروميثيوس مثلاً)، من جهة أخرى. ففي علم النفس والدين (1939) بحث يونغ الوظيفة الرمزية للعدد 4 (نموذج الرباعي أو الرابوع tetractys) في فلسفات الشرق الأقصى وحِكَم العصر الوسيط المسيحي والكيمياء، كما وفي أحلام معاود معصوب، ليقيم الدليل على الوشائج فيما بينها، من حيث تبيانه أن هذا الرمز مرتبط بفكرة الله كخالق للعالم ("الربّ" مظهِراً وجوده بخلق العناصر الأربعة).

[13] إن عدداً من مؤلفات يونغ الأساسية، من نحو علم النفس والكيمياء وسرّ الاقتران، عبارة عن شروح نفسانية عميقة على بعض النصوص الكيمياوية التي درسها وتأويلات نافذة لها تُبرز دلالتها الحيّة لفه الأحلام والعلل الكامنة وراء الاضطرابات العصابية والذهانية إجمالاً.

[14] Joseph CAMPBELL, The Hero with a Thousand Faces, rev. ed., Princeton, 1968.

[15] أنظر: جوزيف كامبل، قوة الأسطورة، ترجمة حسن وميساء صقر، دار الكلمة، دمشق 1999، ص 185-237.

[16] لابد هنا من الإشارة إلى الترجمة الممتازة التي قام بها أ. نهاد خياطة لعدد من كتب مرشيا إلياده، نذكر منها: أسطورة العَوْد الأبدي (دار طلاس، دمشق 1987)، المقدَّس والدنيوي: رمزية الطقس والأسطورة (دار العربي، دمشق 1987)، مظاهر الأسطورة (دار كنعان، دمشق 1991). لقد كان من شأن ترجمة مثل هذه الكتب أن تحدِث ثورة في فهم الدين والخبرة الدينية في بلادنا، لكن تقوقع أصحاب العقائد على أنفسهم واطمئنانهم إلى امتلاكهم للحقيقة المطلقة يحول دون حدوث مثل هذا التفاعل الإيجابي.

[17] واصل يونغ اكتشافاته وكتابته حتى آخر حياته؛ أما التدريس من المناصب الأكاديمية التي تولاها إبان حياته كرسي أستاذية علم النفس الطبي في جامعة بازل (1943) والأستاذية الفخرية للفلسفة وعلم النفس (1933-1942) في كلية العلوم الفلسفية والسياسة في جامعة تسورش البوليتكنية الاتحادية وممارسته النفسانية فقد اضطر للتخلي عنهما عام 1944 على إثر أزمة قلبية حادة. ولقد احتفظ حتى آخر حياته بولعه بالأشياء البسيطة: الريف السويسري الذي ترعرع فيه، التراث الفلاّحي، الحياة في الهواء الطلق. وابتنى وزوجه إمّا دارة جميلة على ضفة بحيرة تسورش، حيث استضافت تلك المرأة الرائعة زوار زوجها المتميزين، وعاونته في عمله، وكانت لها إسهاماتها الأصيلة في علم النفس المركب، ولاسيما في موضوع القرين والقرينة. عاش يونغ حتى تخطى الخامسة والثمانين، وتوفي في 6 حزيران 1961 في كُسْنَخْت.

[18] لقد وضعته خبرته الشخصية الغنية، وممارسته المديدة للعلاج النفسي، ومعرفته الواسعة بالتاريخ، في منزلة فريدة أهّلته لإبداء تعليقات نافذة بعيدة النظر على الأحداث الجارية في عصره. فمنذ أواخر العشرينيات أدرك أن ألمانيا مقيّض لها أن تحتل موقعاً خطيراً في أوروبا قد يترتب عن نتائج كارثية؛ لذا رأى في الثورة النازية مغزى جسيماً وأبدى وجهات نظر لاقت معارضة شديدة، مما أدى إلى رميه بالانحياز للنازية تارة، وبمعاداة السامية طوراً. ولدينا ما يثبت أن فرويد كان من وراء هذه الاتهامات المغرضة؛ لكن هذا لم يحُل دون أن يكون عدد من تلامذة يونغ (النساء منهم بالأخص) يهوداً.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود