الفصل الثاني

نداء الأعماق

مدخل إلى علم النفس المركَّب - 1

 

ديمتري أفييرينوس

 

 

أيّها الإنسان، اعرف نفسك، تعرف الكون والآلهة.

حكمة هيكل ذلفي

 

يا متقرِّىء! أرِ كما أنت، أو كن كما تُرى.

أبو يزيد البسطامي

 

 

 

خُلق العالم غير ناجز والله وضع الإنسان فيه لكي ينجزه.

باراكِلسُس

 

كلّنا مسؤول أمام الكل عن الكل. حالما يفهم البشر أن ملكوت السماوات لن يكون حلماً بل حقيقة حيّة. وهذا الحلم، كما تسمونه، عتيد أن يتم، ما في ذلك ريب؛ ولسوف يأتي، لكن ليس الآن، ذلك لأن لكل سيرورة ناموسها. وهذه السيرورة روحانية نفسانية. فلكي يحوِّلوا العالم ويبدعوه من جديد عليهم أن ييمِّموا وجههم شطر درب آخر. وإلى أن تصبح حقاً، في واقع الأمر، أخاً للجميع لن يتأتى للأخوّة أن تتم [] وإنكم تسألون متى سوف تتم. إنها سوف تتم، لكننا أولاً علينا أن نجتاز فترة عزلة.

فيودور دوستويفسكي

 

ظلّت روايات حياة يونغ وأعماله، حتى وقت ليس بالبعيد، تشدِّد على التأثير الكبير لتسغموند فرويد عليه، مصوِّرة إيّاه مريداً طائعاً أولاً، ومن بعدُ متمرِّداً على "أبيه"، منشقاً. لا، ليس يونغ منافساً لفرويد ولا هو مكمِّل له. إذا صحّ أن شخصية يونغ وأفكاره قد تأثرت إلى حد كبير بتماسه مع فرويد، فلا يقل أهمية عن ذلك الاعتراف بأصالة الرجل وشموليَّته ومنهجه المستقل.  

الملك آرثر وفرسان المائدة المستديرة: رؤيا الغرال الأقدس

يونغ، قبل كل شيء، شاهد على تحقُّق داخلي أصيل أينعت ثماره في منهاجه النفساني ومؤلفاته. وهذه المغامرة الروحية التي نهض بها الرجل أدرجت في مجال العلم الحديث البحث القديم عن الغرال[1] الأقدس، وسلوك الطير الطريق صوب السيمرغ،[2] وغيرهما من الرحلات الأسطورية البطولية. لقد صادف يونغ على درب شبابه الصورة الفاتنة عينها التي فتكت بفردريك نيتشه وأودت به إلى الجنون: صورة زردشت، المبشِّر بالإنسان الأسمى. وبدوره وجد الأقدار تسوقه سَوْقاً إلى مواجهة ما هو في الحاصل أمُّ مشكلات النفس المعاصرة: هل في مكنة الإنسان أن يتخطى نفسه، وبأي السبل؟ ولقد حالفه التوفيق في ذلك أكثر من سلفه، إذ قُيِّض له أن يتحاشى مهالك هذا المشروع الجبار وأن يجعله ممكناً من جديد ومتاحاً لكل توّاق. ففي نهاية مسيرته لا يمثّل يونغ لنموذج البطل أكان اسمه عوليس،[3] سيغفريد[4] أو فاوست بل لصورة فليمون وبافكيس[5] الأخاذة في رائعة غوته الشهيرة فاوست ضيفي الآلهة المغبوطين، المتواضعين والموعودين بالأبدية.

 

 

1. مراحل البحث

ولد كارل غوستاف يونغ في 26 تموز 1875 في كِسْفِل، على الضفة السويسرية لبحيرة كونستانزا، وبعيد ذلك أقام والده القس في شلوسلاوفِن على ضفة مصبّ الراين، ومن بعدُ استقر المقامُ بالأسرة بالقرب من بازل، وكان يونغ آنذاك في الرابعة من عمره. ومع نموِّه جعل ولعُه بالبيولوجيا والباليونطولوجيا وتاريخ الأديان اختيار مهنة أمراً صعباً. لقد كان كارل الفتى مهتماً بخاصة بإيمان أبيه الديني المتداعي، فحاول أن يواصله اختبارَه الشخصي للألوهة. ومع أن يونغ الأب كان رجلاً سَمْحاً، لطيفاً من أكثر من وجه، لم يفلح لا هو ولا ابنه في فهم واحدهما الآخر. لقد بدا أن من المقدَّر على يونغ أن يصبح قسّاً راعياً؛ لكنه إبان العقد الثاني من عمره اكتشف الفلسفة وطالع بنهم كل ما وقع بين يديه من مؤلفات فلسفية. وهذا الاكتشاف المغري، إلى جانب خيبته صبياً في المعتقد الديني التقليدي، جعلاه يعزف عن التقليد الأسري الراسخ ويختار دراسة الطب.

لقد انطرح على يونغ منذ نعومة أظفاره ذلك السؤال المزدوج الذي استبدّ بحياته كلِّها: "ما العالم ومن أنا؟" وعلى الرغم من الفضول الشديد الذي كان يحثُّه دائماً على فهم الواقع الخارجي أدرك على الفور بأن الجواب عليه يقبع في دخيلة نفسه وليس خارجها. ولقد انكشف لناظريّ ابن القس قصورُ الإطار الديني السائد وفرى قلبه الشك، إذ لم يصمد التصوُّر التقليدي عن إله شخصي رؤوف بعباده أمام خبراته الباطنية الأولى التي كشفت له في أعماقه عن سرّ مروِّع mysterium tremendum، عن ينبوع من الرهبة المقدسة. بيد أنه أدرك، بحسِّه السليم، الذي اقترن لديه بجسارة لا تتهيَّب الخطر وجنَّبه مصير نيتشه، بأن على الإنسان أولاً أن يعمل على بناء شخصية متماسكة، متكاملة.[6] لذا فقد استبعد ببأس، ولفترة طويلة، الضيف الخطير الذي كان يلحف عليه منصرفاً إلى دراسة العلم في عصره. وقد لاحت له الطبابة النفسية وسيلة واعدة بمقاربة كلية للإنسان.

درس الطب في جامعة بازل (1895- 1900) حاصلاً على شهادة دكتور من تسورش عام 1902. ثم درس الطب النفسي وحصَّل أطرافاً من علم النفس في باريس على طبيب الأمراض النفسية بيير جانيه.[7] وبعودته إلى سويسرا انخرط في فريق مصحة البُرغولزلي Burghölzli التي كان يديرها حينئذ أويْغِن بلويلر[8] وتتلمذ عليه وسرعان ما أصبح معاونه. وبعد أن دافع عن أطروحته في بسيكوباثولوجيا الظواهر المسمّاة بالغيبية (1902) عكف بالتعاون مع حفنة من المساعدين على صياغة جديدة لاختبار ابتكره سابقوه وعُرِف باسم اختبار التداعيات association test، وطبَّقه بنجاح لا يستهان به؛ فدرس به خصوصاً استجابات المرضى المستغرَبة وغير المنطقية لـكلمات حاثّة،[9] فتبيَّن له أنها ناتجة عن تجمُّعات من الأفكار المترابطة، المشحونة بكثافة شديدة انفعالياً ووجدانياً، والمغيَّبة عن الوعي في المنطقة الخافيَّة من النفس نظراً لمضمونها الجنسي "الفاسق"، المخجِل والمستهجَن غالباً (في نظر أصحابها)؛ وقد وجد أن لهذه التفصُّلات أو التَكَوْكُبات تأثيراً مقَلْقِلاً هو مجلبة للكروب والانفعالات غير المتكيِّفة التي لا تنصاع لتحكُّم الواعية، متملِّصة بذلك من سيطرة الأنيَّة. ولقد نحت يونغ مصطلح مركَّب الشهير للإشارة إلى هذه التكوكبات ووصفها.[10] في تلك الفترة اقترن بإمّا راوشنباخ، رفيقة دربه ومعاونته العلمية حتى وفاتها عام 1955. وقد أنجب الزوجان خمسة أنجال.

 هكذا، اجتهد يونغ أن يتخطى موقفاً وصفياً محضاً للمرض العقلي محاولاً فهمه من الداخل. وقد كرّسته أبحاثه هذه طبيباً نفسياً ذائع الصيت، واقتادته، بواسطة بلويلر، إلى الاطلاع على استقصاءات فرويد وفهمها بعد مطالعة كتابه علم الأحلام الذي وجد فيه صدى وتأييداً لبعض أفكاره وملاحظاته. وقد بعث إلى فرويد بكتابه دراسات في تداعي الكلمات (1904)، فكانت هذه الخطوة فاتحة لصداقة خصبة تعززت مع لقاء الرجلين عام 1907 ودامت حتى عام 1913؛ فكان يونغ رفيقاً لفرويد ومحاضراً معه في سلسلة المحاضرات التي ألقاها في الولايات المتحدة عام 1909 وكانت أول تكريس رسمي للتحليل النفسي. ومذ ذاك أجمع أوائل تلامذة فرويد على اعتبار يونغ "خليفة" المعلم، ولاسيما أن الرجل تقلَّد عام 1911 منصب أول رئيس لـلجمعية الدولية للتحليل النفسي.  

يونغ في عام 1909 في جامعة كلارك، ماساتشوستس. من اليسار إلى اليمين (وقوفاً) أ. أ. برِل، إرنست جونز، زاندور فرنشي، و(جلوساً) فرويد، ستانلي هول، يونغ

على أن خلافاً أساسياً سرعان ما نشب بين فرويد ويونغ لأسباب تتعلق بجبلَّة كل من الرجلين من جهة ولاختلاف عميق في وجهات النظر من جهة أخرى.[11] فقد كان يونغ ولوعاً باستكشاف أسرار النفس الخافيَّة المتجلِّية في الأحلام والتخلُّقات والأساطير والحكايات وعلم الغيب، وحتى في الخرافات التي سعى إلى اكتناه الدوافع العميقة الكامنة من وراء اختلاقها. بيد أن فرويد كان قد انتهى عملياً من وضع الصياغة النهائية لنظرياته في العصاب، مصراً فيها على منشئه الجنسي حصراً؛ وكذلك عقيدته في أن تعابير الخافية كافة إنما هي "تحقيقات خفيَّة لأمانٍ مكبوتة". أما يونغ فلم يكن بوسعه أن يستسيغ تصوراً عن الطاقة النفسية (الليبيدو libido) محدوداً بالدافع الجنسي وحده، لا لشيء إلا لتلبية مزاعم نظرية لا تفي التعابير الغنية للحياة النفسية الخافيَّة حقّها ولا بأي وجه من الوجوه. فالخافية في نظره لم تعد ذلك العامل المقلقِل الذي يتسبب في الأمراض النفسية وحسب، بل رأى فيها أيضاً "جذور الوعي الإنساني وأصل إبداعات الإنسان كافة"، مثلما أصبح الليبيدو يمثل في نظره الطاقة الحيوية النفسية إجمالاً.

بهذه الأفكار ازدادت شقَّة الخلاف اتساعاً بينه وبين فرويد الذي اعتبر أفكار يونغ "غير علمية" ورماه بـ"التصوف". وقد أضحت القطيعة بين الرجلين أمراً محتماً بعد صدور كتاب استحالات الليبيدو ورموزها (1912) الذي توفر فيه يونغ على المواد التي تقدمت بها شابة أمريكية وربط فيما بينها وبين أساطير الإنسانية الكبرى، معارضاً بذلك الكثير من أفكار فرويد. وفي الفترة نفسها استقال من الجمعية الدولية للتحليل النفسي مؤسساً مع أ. ميدر مدرسة جديدة في تسورِش التي استقر به المقام بالقرب منها في كُسْنَخْت على ضفة بحيرتها وتخلى عن مناصبه في جامعتها.

 لقد سببت القطيعة المذكورة ليونغ الكثير من الترح؛ وإذ وجد نفسه بمفرده مفتشاً عن وجهة شعر بأن عليه، لكي يعثر عن مثل هذه الوجهة، أن يجابه في نفسه عالم الظلمة؛ فانكفأ على نفسه عاكفاً على تحليل ذاتي معمَّق اكتسب منه كل الثبات والصحّة في مسلكه في متاهة النفس الخافية. ومهما كان مبلغ الإلهام في قراره بقبول "المواجهة مع الخافية" فإن الخشوع الذي يكتنف حديثه عن هذا القرار وتأريخه له (12 كانون الأول 1913) يحملاننا على أن نرى فيه نقطة التحوُّل الحاسمة في حياته.

إنه الانقلاب الداخلي conversio، "التوبة" metanoia، "الهداية"، منطلق المغامرات الإنسانية الحقيقية قاطبة، والتخلي عن كافة ضوابط الحياة الجارية وتيميم الوجه شطر الداخل بغية استيلاده نظاماً جديداً. وهذا النزول الفاوستي المحفوف بالمهالك إلى "عالم الأمَّهات" انتهى حوالى عام 1918 ببلوغ توازن جديد قوامه التواصل بين الوعي والخافية. وبه دخل يونغ عهد إبداعه الخالص. لقد كانت هذه التجربة المريرة، على حد قوله، "المادة الخام لعمل حياة كاملة".

 

بنيان البسيكي

لم ينشر يونغ بين عامي 1912 و 1921 إلا ثلاثة أبحاث هامة: مقالتان في علم النفس التحليلي (1916، 1917) الاسم الذي أشار به إلى المنهاج العلاجي الذي وضع أركانه و الأنماط النفسانية (1921)، بكر مواليد المخاض السابق. تنطوي المقالتان على كافة الأفكار الأساسية التي بسطها يونغ في مؤلفاته اللاحقة، بينما يتجلى في الأنماط علمُه الغزير الذي لا يتورَّع عن الغوص في مناحي الحياة الإنسانية كلها. لقد كان إنجازه الأول في الأنماطيات النفسانية التمييز بين فئتين من الناس بحسب نمط موقف كل منها من الحياة ووصفهما وصفاً دقيقاً: النمط الانبساطي extravert، الواجِد تحقُّقه الذاتي في العالم الخارجي، والنمط الانطوائي introvert، الواجِد هذا التحقُّق في العالم الداخلي؛ كما وصف بنياناً رباعياً للمنظومة النفسية (الأربعة والصليب يرمزان إلى الكلِّية Totality) ميَّز به بين أربع وظائف نفسية أساسية هي الفكر والعاطفة (الشعور) والإحساس والحدس، تغلب واحدة منها أو أكثر على الشخص وتشكِّل أدوات على الإنسان أن يُحسِن استعمالها لكي يتفتّح بقدر المستطاع عن الممكنات الكامنة فيه. ولقد عبَّر عن فكرة أن المعادلة الشخصية personal equation للمرء هي التي تؤثر تأثيراً خافيّاً على الأغلب، إنما بالتوافق مع نمطه، على مقاربته للعالمين الخارجي والداخلي، وأكد أنه يتعذر على الراصد، في علم النفس بصفة خاصة، أن يكون موضوعياً كل الموضوعية، من حيث إن رصده يتوقف على موضوعات مسبقة ذاتية وشخصية.[12] وهذه النظرة الثاقبة جعلت يونغ يحذر كل أشكال العَقَدية dogmatism والإيديولوجيا والتعصُّب.  

الوظائف النفسية الأربع ضمن دائرة الطَي جي الصينية

من جهة أخرى، يشدِّد علم لنفس التحليلي على الواقعية التامة لكل ما هو نفسي بما لايقل عن "واقعية" العالم الموضوعي في شيء.ومع أن العالم النفسي غير منفصل عن العالم الخارجي بعامّة وعن العالم البيولوجي بخاصة، إلا أنه يتمتع باستقلالية كبيرة وتنتظمه قوانينه ونواميسه الخاصة. وإن مجموع الظواهر النفسية قاطبة، واعيها وخافيها، هو ما يطلق عليه يونغ اسم بسيكي psyche. أي أن البسيكي ليست النفس die Seele،[13] إنما شيء أوسع منها ومستعلٍ عليها كما يشتمل عليها أيضاً.[14]

من هنا فكرة وجود جزء مجهول من البسيكي، هو الطبيعة الأعمق للوقائع النفسية التي لا يحيط بها علم، وذلك لأن "البسيكي لاتستطيع أن تعرف جوهرها" (يونغ، مقالة في استكشاف الخافية). ففي كل تجربة ثمة عدد من المعامِلات المجهولة. "إن ما ندعوه البسيكي لا يجوز بأي حال من الأحوال أن يُواحَد مع وعينا ومضمونه [] ومن ينكر وجود الخافية يفترض في الواقع أننا بتنا اليوم نعرف البسيكي معرفة تامة. وهذا الافتراض لا يقل من حيث وضوح بطلانه عن الافتراض بأننا نعرف كل ما يجب أن نعرف من العالم الفيزيائي. إن بسيكيـنا جزء من الطبيعة ولغزها هو الآخر لا حدود له. ينجم عن ذلك أننا لا نستطيع أن نحدد لا البسيكي ولا الطبيعة، إنما نستطيع أن نؤكِّد فقط على القناعة بأن بعض وجودنا من وجودهما ونصِف بأحسن ما أوتينا سيرهما. وإذن، فخارج الأرصاد المتراكمة إبان البحوث الطبية الصرفة تحثُّنا محاجَجات منطقية ذات وزن على نبذ تأكيدات من نحو "الخافية غير موجودة". فتأكيدات كهذه من شأنها أن تعبِّر عن كره للجديد قديم جداً، أي عن خوف من كل ما هو جديد ومجهول."

 إذا واحَدْنا بين البسيكي والوعي يسهل علينا الانزلاق في الاعتقاد المغلوط بأن الإنسان يولد في العالم ببسيكي خاوية، هي أشبه ما تكون بالصفحة البيضاء التي تسوِّدها الأحداث الواقعة بعد الولادة، وأن بسيكيـه بالتالي لا تحوي فيما بعد شيئاً إلا مستفاداً من التجربة الفردية. بيد أن الخبرة العملية تثبت بالبرهان القاطع أن البسيكي هي أكثر من الوعي؛ فهي تتألف من مجالين اثنين: المجال الواعي والمجال الخافي. فالوعي إنما هو من المقتنيات المتأخِّرة جداً للطبيعة، وهو ما يزال إجمالاً في ميعة الصبا، بل في "المرحلة التجريبية"، إذا جاز التعبير. ففي المرحلة المتقدمة من المدنية التي بلغناها ما يزال الوعي البشري عطوباً وعرضة للتشظِّي؛ وهو لم يبلغ بعد درجة مُرضية من الاتِّصالية. إن الإنسان يتمتع بالقدرة على التركيز على أمر واحد في الآن الواحد، بأن يستبعد في الوقت نفسه كل ما قد يسترعي انتباهه، لكن هذه الملكة القيِّمة جداً التي تسمح بتوجيه العقل وتسليط ضوئه على أشياء بعينها تختلف عن السيرورة التي تحدث هذه الظاهرة وفقاً لها حدوثاً عفوياً، من حيث لا يدري الفاعل وبدون إجازته (وحتى رغماً عنه)؛ الأمر الذي يمكن أن يتسبب في "عصاب"، ينتسب إلى ما يدعوه البدائيون "ضياع النفس". فهؤلاء لا يستشعرون البسيكي بوصفها وحدة، إنما يعتقدون أن الإنسان يمتلك، بالإضافة إلى نفسه هو، "نفساً برية" يمكن أن تتجسَّد في حيوان أو في شجرة، يصبح له أو لها منذئذٍ ضرب من التواحد النفسي مع الفرد البشري. ولما كانت بسيكي الفرد أبعد ما تكون عن التماسك التام، فإن الهاجس الذي ينوء بثقله على البدائي هو خطر تشظِّي بسيكيـه تحت صدمة انفعال جامح؛ ومن هنا حسُّه الأخلاقي العميق الناتج عن ارتباط عضوي بالطبيعة وبالآخرين.

 الرؤية اليونغية للإنسان ديناميّة محضة، وتتلخص بمفهومين: الصيرورة Werdung والتحوُّل Wandlung. الإنسان هو حصيلة تطور الأنواع وفيه يعي العالم ذاته بواسطة تشكل الأنا أو الأنيَّة Ego. والأنيَّة   يقول يونغ "فاعل الوعي"، على ألا تلتبس بالفكر الذي هو إحدى الوظائف النفسية الأربع (الفكر والشعور والإحساس والحدس)، بما أن هناك وعي للعاطفة، ووعي للإرادة، ووعي للكرب، إلخ. "أعني بالأنيَّة يقول يونغ مركَّباً من التفصُّلات يشكِّل مركز حقل الوعي، يبدو لي ممتلِكاً درجةً عالية من الاتصالية والتطابق مع نفسه." (يونغ، الأنماط النفسانية) الأنيَّة هي إذن ذلك الجزء من البسيكي الموجَّه نحو التكيُّف مع الوقائع الخارجية. إن أنيَّتنا تشترك في المجالين الواعي والخافيّ، اللذين يتكاملان ويتعاوضان؛ ولو شئنا أن نمثل على نحو تقريبي لمقاربة ماهية البسيكي (التي نمثِّل لـ"كلِّيتها" بدائرة - والدائرة رمز التمام والكمال)، لبينَّا أن الخط الفاصل بين الواعية والخافية في الأنيَّة يمكن أن يتحرك في الاتجاهين، كما تشير الأسهم والخطان النقطيان على الترسيمة. ومجال الواعية يضيق بمقدار ما تنقص مساحة الجزء العلوي من الدائرة (والعكس بالعكس).

 بيد أن التعزيز الأحادي الجانب للأنا يجب ألا يجاوز حداً معيناً، وإلا فإن قطرة الأنا، فيما يتعدى هذا الحد، تنزع إلى نسيان صلتها بالبحر الآتية منه، والشجرة تتنكَّر لجذورها فتيبس أو تعطي ثماراً ممسوخة. الأنا برعم، لا تتفتح الزهرة بدون أن يتشكَّل أولاً؛ لكنه لابد أن يخلي لها السبيل وإلا قضى. وتلكم هي، على الصعيد الجماعي، نوبات الجنون الهمجية التي عجَّ القرن المنصرم بالأمثلة عليها؛ إنها تتمثل على الصعيد الفردي بـالعصاب neurosis، وهو آفة ذهنية تطالب فيها الخافية المنفية بحقوق مواطنتها. فالعصاب ليس مرتبطاً بأحداث الماضي الرضِّية، ولاسيما الطفلية منها، كما أكد فرويد، بل بـوضع راهن. وإعادة تمرير التيار النفسي، بما هو مصدر التجدُّد الدائم، بلامعوِّقات هي القصد من ارتياد عالم الباطن. ولبلوغ ذلك لا يلتمس يونغ البتة فنوناً تجني على المرء بالحكم على النتائج سلفاً؛ لذا يُعرف منهاجه بمصطلح المواجهة Auseinandersetzung، أي "المصارحة، بلا تحايل ولا مواربة، بين شخصيتين بقصد تحقيق الوعي Bewusstwerdung". وإن موقفاً "موضوعياً"، محايداً ليس جائزاً ولا مقبولاً من جانب المعالِج؛ إذ وحده فاعل يستطيع أن يسعِف فاعلاً؛ وعلى الطبيب أن يكون مع مريضه، في معضلته، وليس مجرد "راصد" له. فالعلاج النفسي إنما هو عملية توليد حية للحقيقة على الطريقة السقراطية maieutikê يفيد منها المعالج والمتعالِج على حد سواء. وإن يونغ يعلِّق بالتالي، شأنه شأن فرويد، أهمية كبرى على التحويل transfer الذي هو الصلة الوجدانية بين الطبيب والمريض. لكن التحويل في شرعه هو أبعد ما يكون عن مجرد خلع projection أو إسقاط صورة أبوية على طبيبه (كما يرى فرويد)، ويلعب لديه انطلاقاً من الطبيب دور الوسيط الفعّال، الحافز على إظهار المضامين الخافيّة. ومنية العلاج النفسي متنوعة تنوع الطبيعة البشرية، ولايصحّ أن يُقرَّر له هدف مسبقاً. فالتطور النفساني بالضرورة يخرج عن كل توقُّع من حيث إن مرامي الطبيعة ونواياها وسبلها ليست مرامينا ونوايانا وسبلنا، اللهم إلا عندما نعيد ربط اللحمة المقطوعة بينها وبيننا؛ والاستعداد المطلوب بإزائها إنما هو انتباه ساهر موصول مع خلو تام من كل رأي مسبق وقبول دائم لغير المتوقَّع. فبإزاء المعالجة النفسية الصغرى Lesser psychotherapy التي تنحو نحو الشفاء من عرض من الأعراض (مس، رهاب، قدع..إلخ) والتي قد تنفع فيها مكتشفات فرويد لإعادة التكيُّف الاجتماعي، ربما وجد الطبيب نفسه منخرطاً في معالجة نفسية كبرى Greater psychotherapy، هي عملية طويلة الأمد لا ترمي إلى ما هو أقل من تحوُّل الشخصية برمَّتها.[15] فبينما يقتصر الفن العلاجي الفرويدي على إبراز المضامين الشخصية الخافيَّة إلى ساحة الوعي، من حيث إنها، إذا نُسِيتْ أو كُبِتتْ، تزعزِع الحياة النفسية الواعية، لا يكتفي يونغ بإعادة المريض إلى حالة السواء التي ليس بحوزتنا تعريف مرضٍ بها. فهو، إذ رأى في الخافية طاقة سابقة على الأنا، لم يضع الحواجز أمام اندفاعتها، رامياً بذلك إلى اعتلانها ومرحِّباً بكل صور التحقُّق الممكنة، لكنْ مع السهر بانتباه للحفاظ على مراقبة الأنا الواعية. وهو في ذلك يجتنب، ما أمكنه، الحطّ من شأن المواد المعتلِنة على هذا النحو؛ فمثل هذه المواقف المتسرِّعة من شأنها أن تقنِّع جهلنا: إذا كان شاعر عظيم إنساناً معصوباً فهذا لا ينال من سرّ عبقريته في شيء لأنه ليس كل معصوب بشاعر عظيم. وإن الإقرار بوجود بُعْد في الإنسان "يتخطى الإنسان [المحدود بأنيَّته] إلى ما لانهاية"، على حد تعبير باسكال، هو ما يميِّز علم النفس التحليلي، أو بالأصح "علم النفس المركب" Complex Psychology، في مقابل التحليل النفسي الفرويدي الذي لايني يختزل أبعاد الإنسان اللانهائية إلى بُعْد واحد فقط هو الجنس.[16]

 

ديناميَّة الصور الأحلامية

المقترب اليونغي إلى الأحلام نظرية في الحلم تتميز بأصالة حقيقية بالقياس إلى الطروحات الفرويدية على ريادة هذه الأخيرة في مجال الأحلام في علم النفس الحديث. فمع أن يونغ يرى، شأنه في ذلك شأن فرويد، أن عدم القبول بفرضية وجود الخافية ينجم عنه تجريد ظاهرة الأحلام من معناها النفيس، ومع أنه، شأن فرويد أيضاً، ينطلق من وجود أنطولوجي للخافية ويعتبر الحلم "الطريق الملكية" via regia المفضية إليها، فإنه يرى في الحلم ظاهرة أغنى من حيث المعنى وأهمّ مما تتصور الفرضية الفرويدية بكثير.[17] إن دراسة الأحلام هي التي وضعت يونغ على مفترق طرق وكانت نقطة التحول الحاسمة التي أدّت به إلى معارضة فرويد في طروحاته. وليس المقصود بذلك هنا الحلم الشهير الذي رآه يونغ في منامه واعترض على تفسير فرويد له وحسب،[18] إنما الآفاق التي فتحها الحلم المذكور أمام بصيرة الرجل، إذ هداه إلى أن نمطي الشخصية لدى المحلِّل والمحلَّل (النمط الانطوائي والنمط الانبساطي) يتدخلان في التحليل تدخلاً حاسماً، من حيث إن تحليل الأحلام هو فعل متبادل بين شخصيتين (يجب أن تكونا متقاربتين لكي يتم التفاهم بينهما) أكثر منه فناً تطبيقياً ذي شكل محدد جامد. وإن يونغ ليبدي أعظم التجلَّة بإزاء الرؤيا ورسالتها. فهذه في نظره تشي بوجود نفسية موضوعية أو حكمة طبيعية، أطلق عليها اسم الخافية الجامعة collective unconscious (= اللاوعي الجمعي) تنحو نحو التعديل الذاتي self-regulation للبسيكي وهي لسان حالها في آن معاً. فلنستعرض أهم مآخذ يونغ على المقترب الفرويدي للأحلام:

1. يأخذ يونغ على فرويد أنه لا يأخذ بالحسبان قدرة المنظومة النفسية على إبداع عُدَد ومواد جديدة، ويأخذ على المنهاج الفرويدي افتراضه أن رمزية الحلم لا تمتُّ بصلة إلا إلى الذاكرة والماضي. بيد أن الواقع التجريبي أو السريري، إن شئت يبيِّن أن الحلم مسرح لأفكار ومشاعر لم تكن واعية في يوم من الأيام قط، ويتفتق فيه الإنسان عن قدرة مذهلة على إبداع رموز متنوعة إبداعاً فطرياً عفوياً.  

"الكابوس"، بريشة فوسلي (1782): لوحة تمثل حلماً مكرِباً، يضم في آن معاً النائمة والرؤى التي تنتابها.

يقابل يونغ منهاج فرويد الممعن في السببية الحتمية بمفهوم الظرفية (الظروف المعينة تتمخض عن أحلام من نوعها) بوصفه الإطار العام الذي يسمح بفهم الأحلام؛ إذ إن المغزى من ثيمة محددة في حلم ما لا يصحُّ استنباطُه بالاشتراط السببي وحده، إنما كذلك بقيمة موقعه في سياق الحلم إجمالاً وخطورة هذا الموقع. فالحلم "يترجِم حال الخافية في لحظة معينة"، ويؤدي في الحالة السوية وظيفة تكاملية بالنسبة إلى الواعية بما يستهدف حل النزاعات النفسية، إن وُجدت، الأمر الذي يضفي عليه قيمته الاستباقية المنذِرِة.

2. كذلك يأخذ يونغ على المنهاج الفرويدي لتفسير الأحلام (التداعي الحرّ) اتِّصافه بالتقليص الذي لا يتيح إلا تفسيراً إرجاعياً يختزل الحلم إلى ثوابت موضوعة سلفاً تفتقر إلى المرونة والشمول.

إن فرويد يربط أحلامنا بخواطرنا ومشكلاتنا الواعية بسببية حتمية، جاعلاً من الحلم الطريقة الأيسر لبلوغ المركَّبات. أما يونغ فيقر من جانبه كل الإقرار بأن أحلامنا يمكن أن تكون منطلَقاً لفن التداعي الحرّ في التنقيب عن الثيمات الوجدانية المكبوتة؛ وهو يقبل بشيء من التحفظ نظرية الكبت والإشباع الخيالي للرغبات؛ لكنه، بالإضافة إلى ما تقدَّم، يلحظ أن بالإمكان بلوغ هذه الثيمات الوجدانية عينها باتخاذ منطلقات أخرى: أبجدية قديمة، لوحة تجريدية، مناقشة عرضية، أو قائمة بكلمات حاثَّة أعدها يونغ لاستقراء المركَّبات، بحسب المصطلح الذي نحته للإشارة إلى هذه الثيمات الوجدانية المكبوتة، باعتبارها شظايا للشخصية تسلك سلوكاً يتَّسم بالاستقلالية والتكرار.

من جهة أخرى، فإن استعمال الأحلام سُبُلاً إلى المركَّبات أو منطلقات للتداعي الحرّ ليس إلا استعمالاً مبتوراً ومبتسَراً لغنى الحلم، وتغييباً، في الوقت نفسه، لواقع تجريبي أصيل هو أن الرموز التي تظهر في الأحلام أكثر تنوُّعاً وأغزر دلالة من الأعراض الجسمانية للعصاب. إذن يجب عدم التفتيش عن معنى الحلم بما هو يشكِّل كلاً تاماً عن طريق التداعي الحرّ لأن من شأنه أي التداعي أن يصرف الانتباه عنه. الحلم، كما يرى يونغ، محصول طبيعي ينبغي إعمال النظر فيه بما هو كذلك، أي على نحو ما يتم التأمُّل في زهرة بديعة أو في لؤلؤة نادرة. فمن الثابت، على سبيل المثال لا الحصر، أن العديد من الصور الأحلامية ترمز بوضوح إلى الوصال الجنسي، لكن المهم في الأمر ليس، كما رأى فرويد، الإمساك بالتلميح إلى الوصال، بل بالحري فهم الموقف النفساني الإجمالي الذي نجم عنه اختيار هذه الصورة أو تلك للرمز إلى الوصال دون سواها. فالرموز التي "يستعيرها" الحلم لرسم وضع ما ليست مجرد إشارات أو كنايات تختلقها وظيفة "رقيب" censorship تفيد ستر هيئات عن حالة الصحو، على حد ظن فرويد، بل هي صور تنطوي على علَّة وجودها وتمتلك ديناميَّة خاصة بها. والمغزى منها لابدّ أن يتجاوز كافة التفسيرات التي نضعها لها لأن من شأن الرمز على وجه الدقة أن يجعل الواعية على صلة بما هو "مجهول ولا يرقى إليه علم قط".

3. تأسيساً على ما تقدَّم، ذهب يونغ مذهباً مغايراً في تحليل الأحلام ورموزها يشتمل على: وصف دقيق للموقف الواعي الراهن (يمكن للرموز أيضاً أن تظهر في حالة الصحو على هيئة أطياف وانطباعات بصرية أو سمعية)، وصف للأحداث الماضية، تحديد للسياق الأحلامي والحيوي الإجمالي للمعاود، إضافة معلومات تُلتمَس لدى جهات أخرى غير المعاود عند الاقتضاء، وأخيراً، شَمْل للمتوازيات الميثولوجية المتعلقة بالثيمات البائدة التي تبرز في الحلم. هذه العملية الأخيرة، في مقابل التفسير الإرجاعي الفرويدي، تدعى التوسيع amplification. فالطبيعة الموضوعية ذات الاستقلالية autonomy للرمز ووجود خافية جماعية ييسِّران للحالم تخطِّي تداعياته الشخصية وفحص كل المدى الممكن للصورة المقترَحة على وعيه مستفيداً من المواد التاريخية المرتبطة بها. إن من شأن التوسيع إطلاق المضمون الأحلامي وإغنائه بكل الصور المشابهة الممكنة في سبيل فهم أفضل للحلم الفردي. ولامندوحة للمحلِّل عندئذٍ أن يأخذ بالحسبان كافة جوانب الحلم، على تنوِّعها الشديد، وأن يحصِّل معارف ميثولوجية ودينية وفلسفية واسعة. وبالفعل، فإن فهم الحلم بحد ذاته (بدلاً من الانصراف انطلاقاً منه إلى مركَّبات المريض والابتعاد بذلك عن الحلم مبنى ومعنى) يتطلب بذل مجهود جبار للتركيز على التداعيات أو الترابطات التي تعود إلى الحلم مباشرة معبِّرة عن أمر محدَّد ونوعي تماماً يحاول الحلم أن يبلَّغنا إياه.

هنا لابد لنا من الإلماع إلى الخيال الفعّال active imagination الذي يتمثل في تثبيت الانتباه على صورة غالباً ما تُستقى من حلم، وإعمال النظر في جوَلانها الحرّ. إن المخيلة الفعالة التي تنهض فيها الأنا بدور الشاهد الساهر هي على النقيض من الاحتلام أو الهاجس، من حيث إنها قد تأتي بأداة مثالية من أجل إيناع المواقف الأحلامية. فأجمل الصور قد تبقى غير ذات جدوى ما دامت الأنا لم تستوعِها بفعلٍ قد يكون، بحسب الحالة، داخلياً أو خارجياً؛ وعندئذٍ فقط يمكن الحديث عن تكامل أو تحقق نفسي.[19]

4. لا يطمئن يونغ إلى منهاج التداعي الحرّ في تفسير الأحلام لسبب بسيط هو تعذُّر تطبيقه على حالات الأحلام النموذجية البدئية التي تعود بما لا يدع مجالاً للشك إلى الخافية الجامعة. لقد ميَّز يونغ بين التخلُّقات fantasies والأحلام المعبِّرة عن التفتح الشخصي للمرء من جهة، وتلك التي لمس فيها خاصية شمولية أو قواسم مشتركة بين الأحقاب التاريخية والحضارات كافة. فإذا كان التداعي الحرّ يصلح منهاجاً للولوج إلى الخافية الفردية النسبية، وحدها الأحلام "العظيمة" تفتح الباب على مصراعيه للولوج إلى الخافية الجامعة. هذا المنظور ييسِّر من جانب آخر استنطاق الأحلام عن المزيد مما يختبئ بين ثناياها: كأنْ نهتدي بها، لا إلى المركَّبات، بل إلى البنيان النفسي للشخصية الكلِّية للفرد، أي أن تمهِّد لنا الطريق للقيام بالخطوة الأولى الحاسمة على درب التَفَرْدُن Individuation.[20]  

1: الأنا؛ 2: مجال الواعية؛ 3: مجال الخافية الشخصية؛ 4: مجال الخافية الجامعة

للحلم إذن، بحسب يونغ، قيمة عرفانية، إذا جاز التعبير، وليس على الإطلاق مجرَّد تعبير عن رغبة غير مشبَعة: إنه رسالة تعلِّمنا عن نفسنا الكلِّية أموراً أعمق بكثير من هذه الرغبات المكبوتة.

5. وأخيراً يأخذ يونغ على فرويد اعتبارَه الصور والتداعيات التي تشبه في أحلامنا أساطير الأولين مجرد مخلَّفات بائدة وهي وجهة نظر تميِّز كل من يعتبر الخافية ملحقة بالواعية أو تابعة لها، أو "حاوية قمامة" يرمى فيها كل ما ترغب الواعية عنه أو تستهجنه أو تستحي منه. إن فرويد، إذ يتصور هذه التداعيات على هذه الشاكلة، تغيب عنه الوظيفة الفعلية لهذه الصور، بما هي الجسور الواصلة بين فلك الواعية العقلاني من جهة، وبين عالم الغريزة والفطرة من جهة ثانية.[21]

من الممكن فهم الدور المجازي للحلم انطلاقاً من أن لكل كلمة معنى يختلف من شخص لآخر اختلافاً طفيفاً نسبياً (حتى عندما يتعلق الأمر بأشخاص ينتمون إلى بيئة ثقافية واحدة)؛ وهذه الاختلافات تنويعات فكرية أو وجدانية تحت وصيدية subliminal غير مستوعاة عموماً، لكنها تتخذ في الأحلام أهمية عظيمة. إن من شأن جذور خواطرنا الواعية هذه أن تعلِّل لماذا يمكن لأغراض عادية محددة (حُجرة موصدة بالمفتاح، قطار فائت، سيارة خارج عن سيطرة سائقها، لغم بحري، إلخ.) أن تكتسب لدينا مغزى هو من القوة بحيث يجعلنا نستيقظ أحياناً من نومنا مذعورين. إن الإنسان الحديث يعيش في عالم موضوعي أمْعَنَ في تجريده من كل ما يطلق عليه علم النفس اليونغي، أخذاً عن ليفيبرول، تسمية المشاركة الصوفية participation mystique أو حتى التواحد النفسي identification psychique. بيد أن هذه الهالة من التداعيات غير الواعية التي تضفي على الحياة النفسية للإنسان "البدائي" ذلك المظهر "الطيفي"، السرَّاني، الخارق، لابد لها من معاودة الظهور في أحلامنا، من حيث إن هذه الأحلام رسل لاغنى لنا عنها لتبليغ المعلومات الحيوية من القسم الغريزي، الفطري، من الذهن البشري إلى قسمه العقلاني، الواعي.

الأحلام إذن، بما هي حضور الخافية في الوعي (بمعنى غير بعيد عن التصوُّر الإغريقي عن وسيطة الوحي pythia في هيكل ذلفس)، هي الوسيلة التي تُكامِل بها الخافيةُ الواعيةَ أو تعوِّضها وتُوازنُها. ومما يؤسف له أن المدرسة الفرويدية أهملت هذه الوظيفة المعاوضة والعرفانية للأحلام (الأحلام التي يظهر فيها الظل على سبيل المثال).

 

2. الخافية الجماعية والتَفَرْدُن

حتى نصل إلى مقاربة البسيكي في كلِّيتها ونحقق تكاملنا الداخلي يتعيَّن علينا أن نتبع طريق تفتُّح الشخصية كما ييسِّره التحليل أو غيره من مناهج الاستبطان. ويتم بلوغ الشخصية الكلِّية (هدف المنهاج العلاجي) عندما تتمايز كافة أشفاع الأضداد، أي عندما يتّحد مجالا كلِّية البسيكي (الواعية والخافية) برباط حيّ. إذ تتعذر مقاربة الشخصية اللهم إلا بما هي تحقيق تام لكلِّية كياننا. هذا التحقيق لا يتم بمجرد الإرادة والتفكير الواعيين، بل بجعل غير الموعيّ مَوْعِياً. وهذا بدوره لا يحصل إلا من خلال تحليل رموز الأحلام، أو بالحري تأويلها، بإدراج مضامين الخافية في الحياة الذهنية الواعية.

هكذا يلج الإنسان تدريجياً، عبر الطريق الواحدالكثير للصورة المتخيلة، الأفلاك التي تقوده إلى مركز كيانه الداخلي. وأول ما يقع عليه من أفلاك هو فلك القناع persona (باللاتينية: "قناع الممثل"). والقناع هو جزء من الأنيَّة مُنْدارٌ نحو العالم الخارجي. وهو، باعتباره من مظاهر السلوك النفساني الذي هو عبارة عن الموقف العام للفرد بإزاء محيطه، إنما هو "تسوية بين الفرد والمجتمع من جهة ما يبدو عليه الفرد"؛ أو قل هو "مركَّب وظيفي مكون لأسباب تكيِّف أو راحة، لكنه يفترق عن الفردية. وهذا المركب الوظيفي لا يخص إلا العلاقات مع الأغراض". (يونغ، الأنماط النفسانية)

الشخص السويّ من الوجهة النفسية يأخذ بعين الاعتبار ثلاثة عوامل في آنٍ واحد: أ. الأنيَّة المثالية (الصورة التي يراها الفرد مرغوبة)؛ ب. الصورة العامة التي يشكلها المحيط عن أذواق الفرد ومُثُله؛ ج. الطوارىء النفسية والنفسانية التي يمكن أن تحدّ من تحقيق المثل المفترضة أو تعرقل هذا التحقيق.[22]

مصطلح القناع يشير إذن إلى المشخِّص الاجتماعي الذي، وإن كان يتصف بفوائد وخواص الثوب التي لا يُستغنى عنها، فإنه غالباً ما يعرِّضنا لستر طبيعتنا الفردية. فالقناع قد يكون عامل حماية (وتكيُّف) للفرد مثلما قد يكون خطراً عليه: حجب طبيعته الحقيقية، خطر تواحده مع قناعه (بأن يظن أنه قناعه وأن قناعه هو)، الخطر الذي ينطوي عليه في الوقت نفسه الافتتان بالقناع (كأهمية المهنة المبالغ فيها لدى بعضهم) أو خطر تحجُّر القناع إلى حد وخيم.

تعبِّر الخافية الفردية عن نفسها من بعدُ بمشخِّص الظل الذي يرمز إلى "وجهنا الآخر"، "صِنْونا"، "شقيقنا المظلم" الذي من جنسنا نفسه والذي، على كونه غير مرئي، لا يفارقنا أبداً ويشكِّل جزءاً لا يتجزأ من كلِّيتنا. وهو صورة أحلامية غالباً ما تتميز بخاصيَّة سوداء؛ ففي الأحلام غالباً ما يترافق اللقاء مع الظل، أو خلعه[23] على بعض معارفنا، مع استيعاء نمط الوظيفة النفسية السائدة ونمط موقف الفاعل. إنه "الطرف المقابل" لأنيَّتنا الواعية: "كلنا متبوع بظل، وكلما قلّ اندماج هذا الظل في الحياة الواعية للفرد كان أشدّ سواداً وقتامة." (يونغ، علم النفس والدين)

والظل بعامة شأن بدائي، غير متكيِّف، شقيّ، لكنه ليس بالضرورة "شريراً": إنه يمثِّل كل ما نُحِّي عن الوعي باعتباره متنافراً مع الأنا، وقوامه عيوبنا، ونقائصنا، وبعض خصالنا المنبوذة بمقتضى الأحكام المسبقة الاعتباطية، المشدودة بدورها إلى مشكلة القناع (الذي يمكن حينئذٍ أن يحول دون البسيكي والتفتح السوي)، بالإضافة إلى منتجات الوظيفة النفسانية الأقل تمايزاً. واللقاء مع الظل على هيئة حوار بينه وبين الأنا، إبان حلم على سبيل المثال، لحظة مُكرِبة جداً: فالأنا تتعرض لخطر الغرق في النوازع المكبوتة التي تقرّ بنسبتها إليها والتي تتضادد ونوازعَها الواعية.[24]

على أن للظل معنى أوسع بكثير، ويمكن الإشارة به إلى الخافية في جملتها، من حيث إن كل ما لم يلج بعد عالم نور الوعي يظهر للعيان مفعماً بالظلمة ومنذراً بالشر والخطر. ويطلق يونغ على الغوص في عالم الظل تعبير "الموت الإرادي" الذي استقاه من أبوليوس في معرض كلامه على أسرار إيزيس.[25] ولكن فيما يتعدى هذا "الباب الضيِّق"، بحسب التعبير الإنجيلي، يفضي الطريق الداخلي إلى "اتساع بلاحدود، ولاتعيُّن مذهل".

الفصل الثاني


[1] الغرال Graal أو الغرال الأقدس (كلمة تعني "طبق"؛ من البروفنسالية grazal؛ بالإسبانية grial، وربما من cratalis المشتقة من krater اليونانية ،"إناء الشرب")، في معتقدات العصر الوسيط، إناء استعمله يسوع المسيح في العشاء الأخير مع تلاميذه، وتلقّى فيه يوسف الراميّ الدم والماء الخارجين من جنبه المطعون بحربة قائد المئة الروماني. وفي القرنين الثاني والثالث عشر، يذكر عدد لايستهان به من روايات الفروسية مفازات "التفتيش" Quest عن الغرال الأقدس. ولقد كان كريستيان دُه تروا Chrétien de Troyes أول من نَظَم حوالى عام 1182 ملحمة برسفال أو حكاية الغرال Perseval ou le conte du Graal بأبياتها التسعة آلاف؛ وإن إحدى الروايات الألمانية بقلم فولفرام فون إشنباخ Wolfram von Eschenbach (بداية القرن الثالث عشر) هي التي استلهمها فاغنر في أوبراه بَرسفال Parsifal. يرمز الغرال إلى القلب، مستقر الوحي وعضو الرؤيا الباطنة.

[2] سيمرغ كلمة فارسية ناتجة عن إدغام الصوفي فريد الدين العطار، في منظومته منطق الطير، لكلمتي سي و مرغ اللتين تعنيان "ثلاثون طائراً"؛ تشير إلى "ملك الطيور" الأسطوري المقيم خلف جبل قاف "القريب منا، ونحن منه جدّ بعيدين"، الذي "تكتنفه مئات الألوف من الحجب، بعضها من نور، وبعضها من ظلمة، وليس لفرد في كلا العالمين مقدرة حتى يحيط بشيء من كنهه" الذي اتفق الطير على سلوك الطريق إليه واجتازوا في سبيل ذلك المهالك حتى لم يصل منهم إلا ثلاثون طائراً تطهرت من أدرانها واستحقت المثول في حضرته؛ وعندئذٍ "رأوا أن السيمرغ هو الثلاثون طائراً بالتمام، فكلما نظروا صوب السيمرغ، كان هو نفسه الثلاثين طائراً في ذلك المكان [] فإذا نظروا إلى كلا الطرفين، كان كل منهما السيمرغ بلا زيادة ولا نقصان." سيتبيَّن للقارئ من خلال هذه الدراسة أن البحث عن الغرال وسلوك الطريق صوب السيمرغ كلاهما تعبير أسطوري عن سيرورة التَفَرْدُن اليونغية التي تنتهي بالتحقُّق بـالـذات.

[3] باليونانية أوذيسيوس؛ بطل إغريقي، ملك إيثاكي الأسطوري، ابن لايرتس، زوج بينيلوبي، والد تيليماخوس، وواحد من الشخوص الأساسية في الملحمتين الهوميريتين الكبريين. ظهر في الإلياذة بوصفه محارباً ماهراً وماكراً (هو صاحب حيلة "حصان طروادة"). عودته إلى موطنه هي موضوع الأوذيسة. للاطلاع على تحليل ثيمة البطل في ملحمة الأوذيسة، أنظر هانيبال السعد، "هل عوليس بطل رغم كل شيء؟"، مجلة معابر، العدد 1.

[4] بطل أسطوري جرماني (أغنيات نيبلونغن).

[5] قصة هذين الزوجين الشيخين تخط مسار الحياة البسيطة التي تتخللها الأبدية: الأزمنة تتقادم، الظروف تتغير، لكن النفوس "المطمئنة" لا تعرف الجزع أو الريبة لأنها بمنأى عن التغيُّر. من هنا يرفض الزوجان عرض فاوست عندما يعرض عليهما مزرعة غنية بدلاً من كوخهما الفقير؛ حتى مفستوفيليس نفسه لم يتمكن من إركاعهما عندما أرسله فاوست لطردهما عنوة، إذ فضَّلا الموت معاً في كوخهما الذي التهمته النيران.

[6] أنظر بهذا الصدد: ندره اليازجي، "معالم الشخصية المتكاملة"، في تأملات في الحياة النفسية، الأعمال الكاملة مج 2، دار الغربال، دمشق 1998، ص 15-29.

[7] طبيب وعالم نفس فرنسي (1859-1947)، مؤسس علم النفس السريري؛ لجأ إلى مفهوم "التوتر" لتعليل السلوك الباثولوجي؛ من مؤلفاته الأعصبة والأفكار الثابتة (1898) ومن الجزع إلى الوجد (1927-28).

[8] طبيب نفسي سويسري (1857-1939)، ذاع صيته بفضل اشتغاله المنهجي بالأمراض العقلية بعامة وبالفصام بخاصة.

[9] طريقة ذلك أن يقرأ المعالج قائمة بكلمات حاثّة على المعاود أن يجيب عليها في الحال بأول كلمات تخطر في باله (كلمات محثوثة)؛ وأي تأخر في إعطاء إجابته، أو أي تداعٍ غير مألوف، أو أية علامات انفعال أو نسيان تداعٍ مذكور، قد يشير إلى أن الكلمة الحاثة تستدعي، أو قل تلامس، في العقل الباطن للمعاود نطاقاً مركَّبياً. وبوسع المعالج أن يوسِّع التداعيات؛ فعندما يطوِّق نطاقاً مركَّبياً يستطيع، بأن يقدِّم لمعاوده تداعيات في محلِّها، أن يستدرجه إلى تفريغ انفعالي أقوى ميسِّراً بذلك استيعاءً أجلى للمضمون النفسي المكبوت: ذلكم منهاج التوسيع على صعيد التداعيات.

[10] إن يونغ، على عكس ما يُظن، هو الذي وضع مصطلح "مركَّب" complex (بصيغة "مركب انفعالي الشحنة" أصلاً) ليشير به إلى "الموضوعات الوجدانية المكبوتة التي من شأنها أن تحرِّض اضطرابات دائمة في حياتنا النفسية، أو حتى أعراض عصاب". إنها شظايا شخصية منفصلة،"النقاط الحساسة من البسيكي التي تستجيب للتحريض كأسرع ما تكون الاستجابة"، والتي تتمتع بحياة مستقلة في الفلك المظلم من النفس، حيث يمكنها في كل حين أن تعرقل النشاطات الواعية أو تيسِّرها .

[11] من مآخذ يونغ على فرويد، بالإضافة إلى عدم اعترافه بغير الخافية الفردية، حتميَّته الصارمة، من حيث إن يونغ عاين أن البسيكي تتفلّت "من اعتبارات سببية تبقي في الظل كل ما ليس غائية فيها". وهذه الغائية كثيراً ما انتقدها فرويد والفرويديون الذين يتهكَّمون على "صوفية" يونغ والأخلاق الضمنية المستخلَصة من مسعاه العلاجي، التوجيهي أكثر مما ينبغي في نظرهم، والآيل إلى نصائح تتسم بقوة باعتبارات أخلاقية. وإن النماذج البدئية، السابق وجودها على كل خبرة فردية، تطوِّع نمو الحياة النفسية، بينما لا يتوقف هذا النمو في الفكر الفرويدي إلا على تلاعب الجمحات في القصة الفردية. وإن وجهة النظر الوراثية لنمو الليبيدو أقل أساسية عند يونغ منها عند فرويد. فيونغ، إذ درس النزاعات العصابية، عوَّل كثيراً على مظهرها الآني الحالي، بينما يردُّها فرويد حصراً إلى حادث رضيّ في فترة الطفولة المبكرة. أما مآخذ يونغ على فهم فرويد للأحلام وتحليله لها فسنتناوله بشيء من التفصيل لاحقاً.

[12] يختلف توجيه الاستشفاء بين المدرستين اليونغية والفرويدية اختلافاً عميقاً. فيونغ حدد الفن العلاجي بقواعد أقل من فرويد بكثير؛ وهو يعتبره ثانوياً بالقياس إلى شخصية المعالج. المعالج اليونغي توجيهي أكثر بكثير، وشخصيته العميقة تدخل في حالة طنين مع شخصية المتعالج، بينما على المعالج الفرويدي أن يلجم ردود فعله الوجدانية نحو معاوده (التحويل المضاد). وعلى الرغم من مماراة الفرويديين على القيمة العلاجية لمنهاج يونغ، فإن تأثير أفكاره في مجالات متنوعة لايستهان به، ولاسيما في الإنثولوجيا حيث ثبت نجوع مفهوم النموذج البدئي أداة لتحليل الكوسموغونيات والتراثات الشعبية وتوزيع الأدوار الاجتماعية.

[13] يقصد يونغ بالنفس "مركَّباً من الوظائف معيَّناً ومحدَّداً" يجب ألا يلتبس قط بالبسيكي. فالنفس إنما هي ضرب من "الشخصية الداخلية"، تُعتبر "فاعلاً"، تقيم أنيَّة الفرد معها علاقة مماثلة للعلاقة مع الغرض الخارجي. ولقد كتب يونغ في ذلك: "الشخصية الداخلية هي طريقة السلوك حيال السيرورات النفسية الداخلية؛ إنها الموقف الباطن []. وهذا الموقف الباطن ندعوه النفس []. وبحسب التجربة تكون [النفس] مجهَّزة غالباً بالخصائص التي تشترك فيها البشرية قاطبة ويفتقر إليها الموقف الواعي." وأيضاً: "الفاعل بما هو غرض باطن هو الخافية." (الأنماط النفسانية) هذا ويجب الحذر من اللبس الذي قد ينجم عن الاستعمال الدارج (بالمعنى الواسع تارةً وبالمعنى الضيق طوراً) لكلمات من نحو "نفس"، "روح"، "عقل"، وهو لبس يعرقل الفهم النفساني الدقيق إلى حد لا يستهان به. يجب إذن أن نميِّز بدقة بين "النفس" (بالمعنى اليونغي) وبين "العقل"، ملكة الواعية المخصصة للإدراك وللتفكير المنطقي، بما هو الجانب العقلي أو العقلاني من الفرد، والمظهر الذي أمعن الإنسان الحديث في تنميته على حساب ملكاته الأخرى؛ وبين "الروح"، بما هي ملكة تنتمي إلى مجال الواعية فيما هي ترتبط بطبيعتها بالخافية، ومنها تنبجس النتاجات الروحية والأخلاقية والجمالية للإنسان. وهي تشتمل على "العقل" و"النفس" في آن معاً وتؤلف فيما بينهما. وهذه الملكة الفريدة التي هي نقيضة طبيعتنا البيولوجية تبقي توتُّر الأضداد على أشدِّه بما هو أساس حياتنا النفسية. فلنحرص إذن على التمييز بين النفس والعقل والروح (بوصفها منظومات جزئية) وبين البسيكي (الكلِّية التي تضمّ في آن واحد الجانبين الواعي والخافي للفرد).

[14] تضم البسيكي في كنفها الأنيَّة والقناع والنفس والقرين (أو القرينة)، وتجد وحدتها وتكاملها النهائي الأقصى في الذات das Selbst، كما سنرى.

[15] طرح يونغ التفردن غاية للمعالجة النفسية؛ ولقد قصد بـ"التَفَرْدُن"، كما سيتّضح لنا لاحقاً، سيرورة تحول نفساني يتخلى فيها المرء بالتدريج عن الصورة النمطية للمجتمع التقليدي التي أطلق عليها اسم القناع persona حتى يكتشف ذاته الحقيقية الفريدة المختبئة وراء هذه الصورة. بذلك لا تشير سيرورة التفردن إلى علم النفس المختص بالوضع العلاجي النفسي الراهن وحسب، بل وإلى سيرورة التفتح الحياتية بعامة.

[16] اختار يونغ مصطلح "علم النفس التحليلي" Analytical Psychology ليشير به إلى "عقيدته"، دفعاً لأي التباس بينها وبين "التحليل النفسي" Psychanalysis الفرويدي. ولقد كان يونغ يستعمل أيضاً تعبير "علم النفس المركَّب" كلما قصد بالدرجة الأولى المبادئ أو الجوانب النظرية من العقيدة، وليس المداخلة العملية للتحليل؛ وهذا المصطلح الثاني يشدِّد على اهتمام يونغ بالوقائع النفسية "المركَّبة"، في مقابل علم نفس الواعية "البسيط" أو التحليل الفرويدي الذي يردّ كل شيء إلى الجمحات، ويختزل الحياة النفسية برمَّتها إلى دافع واحد. لكن يونغ تخلى في السنوات الأخيرة من حياته عن هذا التعبير لصالح "علم النفس التحليلي". أما "علم نفس الأعماق" Depth Psychology فهو تعبير أدخله بعض مريدي يونغ للإشارة إلى أن المنهاج اليونغي يستهدف سبراً موصولاً لأعماق النفس الخافية، بجزئيها الشخصي والجمعي. لقد فرض هذا الفارق في الاصطلاح نفسه من جراء وجود خندق عميق يفصل النظرية الفرويدية عن نظرية يونغ، وهو خندق يُترجَم بتصوُّرين مختلفين تماماً عن الخافية، وعن وظيفة الأحلام، وعن منهجية التحليل عند كل من الرجلين، عن الجنس، وعن القيمة المعوَّل عليها لأهمية التوافق بين شخصيتي المحلِّل والمحلَّل هذا بالطبع بدون أن نأخذ بعين الاعتبار بأن يونغ هو الذي أدخل فكرة الضرورة للمحلِّل أن يكون هو نفسه قد خضع لتحليل، وهي فكرة أخذها عنه الفرويديون.

[17] ينزع فرويد أمام الحلم، مثلما ينزع أمام مختلف المعطيات الرمزية (الأفعال الخائبة، القصص، إلخ.)، إلى التمييز بين زمرتين كبريين لدى أسلافه: الأطفال والبدائيين والشعراء من جهة؛ والاختصاصيين ولاسيما الأطباء منهم من جهة أخرى. وهو يعرّف بنفسه بوصفه منتمياً إلى الزمرة الأولى، إنما بوسائل أخرى ولأسباب مغايرة. يقول: "إما أن يكون الحلم، كم يزعم الأطباء غير المحلِّلين، إشارة إلى أن الحالم نام نوماً سيئاً [] ولو كان الأمر على هذا النحو لحَسُن بنا ألا ننشغل فترة أطول بالنتاج الزهيد من الوجهة النفسية لاضطراب ليلي." بيد أن هذا الحل في نظره مرفوض لأنه، مثله في ذلك كمثل كل من يعتقد بالحتمية في النفس، "افترضَـ[]، بل صادرَ[] على أن هذا الحلم المستغلق لابد أن يكون أيضاً فعلاً نفسياً مفعَماً بالقيمة وبالمعنى وأن بوسع[ـه] أن [ي]ستعمله في التحليل شأن أي بوح آخر."

(S. Freud, Nouvelle conférence sur la psychanalyse, Gallimard, Paris, 1971)

على أن استخدام فرويد للأحلام ليس عبارة عن قراءة مباشرة لرموز الحلم، بل هو بالحري نتاج عمل صارم متأنٍّ من فك هذه الرموز بما ييسِّر تفسير الحلم بالعثور على الكامن المستتر تحت المعتلِن، ومن بعدُ، بإعادة تدبُّر هذه الرموز في تشكيل جديد باقتفاء السياق الذي تم من خلاله العبور من الأول إلى الثاني (أي من الكامن إلى المعتلِن). وهذا السياق يحيل إلى الجزء من الخافية الخاص بالحلم وبقصته. زبدة القول إن الحلم بنظر فرويد "بوح بعبارات في غير محلِّها"، كما يقول وإن يكن تعبيراً عن الخصوصية التي يتصف بها الحالم.

[18] في أثناء الفترة التي تعاون فيها يونغ وفرويد رأى يونغ حلماً ألفى نفسه فيه "في مسكنه في شقة مريحة في الطابق الأول من بيت، في حجرة استقبال مؤثَّثة على طراز القرن الثامن عشر. ثم نزل إلى الطابق السفلي حيث وقع على حجرات مظلمة، ثم على قبو قديم الجدران، ثم على ديماس أشبه بمدفن يعود إلى ما قبل التاريخ فيه بقايا عظام." لم يجرؤ يونغ على مصارحة فرويد بوجود الجماجم لأن فرويد كان يظن بأن يونغ كان يتمنى موت الأب، ممثَّلاً بفرويد، "أبو" التحليل النفسي، ففسَّر الحلم على هذا الأساس، مضلِّلاً التحليل بالتلميح إلى أنه كان راغباً في موت شخص من أقاربه. أما يونغ فقد فسَّر من جانبه هذا الحلم بكونه صورة عن تطوّره النفسي والروحي: فهو، على نشأته في وسط بورجوازي، فَقَدَ إيمانه المسيحي التقليدي (مرموزاً إليه بالطابق الأسفل المظلم) واهتم بالباليونطولوجيا.

[19] إن ما نريد أن نصل إليه عبر ما تقدَّم هو النقطة التالية الهامة للغاية: عدم المواحدة بين البسيكي والوعي من جهة، وضرورة بلوغ "التكامل الداخلي" أو "الكلِّية النفسية" كما يدعوها يونغ بما هو الغاية المثلى للمنهاج العلاجي اليونغي، وذلك بتوسيع حقل الوعي بأن يستدمَج فيه كل ما يُكتشف في الخافية على هيئة "نظائر"، كما سنرى.

[20] من ذلك أنه إذا حلم المعاود بامرأة ثملة شعثاء الشعر غير زوجه، ينبغي، بدلاً من تعقُّب التداعيات حتى المركَّب (الذي يمكن بلوغه بطرق أخرى)، تحسُّس رموزية الحلم التي تومئ إلى قرينة ذلك الرجل الجانب المؤنث من شخصيته التي هي أبعد ما تكون عن الحُسن. إن هذا الحلم يعاوض ويوازن واعية معوجَّة، إذ يقول لها: "لستِ ذلك الرجل النبيل الذي تظنِّينك إيَّاه لأنكِ في الواقع تتصرفين كامرأة خليعة!"

[21] ولابد، بهذا الصدد، من اعتماد مقارنة يونغ بين الإنسان المتمدِّن والإنسان "البدائي" لكي نفهم نزوع الإنسان إلى إبداع الرموز واكتناه دور الأحلام في الحياة النفسية بعامة. بيد أن مثل هذه المقارنة لا يتسع لها بحثنا هذا.

[22] الإنسان الذائب في الجماعة ("إنسان القطيع") يأخذ بالحسبان العامل الثاني حصراً، بينما الإنسان "الغريب الأطوار" يأخذ بالحسبان العامل الأول حصراً.

[23] "الخلع" أو الإسقاط projection و"اللبس" أو الاستسقاط introjection من الظواهر التي يسعى المنهاج اليونغي إلى فهمها فهماً عميقاً. وبالفعل اكتشف يونغ أن الظل غالباً ما يتم الإفصاح عنه على هيئة "خلع". وبدقة أكبر، ما دمنا لم نستوعِ الظل الذي فينا، لابد لنا من خلعه على شخص من محيطنا. الإسقاط إذن عبارة عن تحويل سيرورة ذاتية إلى موضوع خارجي، وهو غير إرادي بالكلِّية: "إننا لا نفتعل الخلع، إنه يطرأ علينا." (يونغ، علم النفس والكيمياء) والظاهرة المعاكسة تحدث أيضاً بالقدر نفسه من عدم التعمُّد والاجتلاب: إنها "اللبس" الذي هو عبارة عن تمثُّل الغرض في الفاعل، الموضوع في الذات (حالة الشعراء الرومنسيين، على سبيل المثال، الذين يحسبون أنهم يرفضون العالم الخارجي، لكنهم يعودون فيتمثَّلونه لدى تكوين عالمهم الداخلي).

[24] راجع ثيمة الصنو والظل في الأدب، كما يبرز مثلاً في حكايات أندرسن للأطفال (فرخ البط القبيح) وبعض أعمال كافكا (المحاكمة، حيث يزدوج مشخِّص السيّاف)، وحتى في صورة دوريان غراي لأوسكار وايلد.

[25] أبوليوس كاتب لاتيني (125-180)، واضع كتاب الحمار الذهبي. جاء كذلك في اصطلاحات الصوفية للكاشاني، بتحقيق عبد الخالق محمود، أن الموت "قمع هوى النفس [] فإذا ماتت النفس عن هواها بقمعه، انصرف القلب بالطبع والمحبة الأصلية إلى عالمه، عالم القدس والنور والحياة الذاتية التي لا تقبل الموت أصلاً. وإلى هذا الموت أشار أفلاطون بقوله: "مُتْ بالإرادة تَحْيَ بالطبيعة"." (دار المعارف، القاهرة 1984، ص 105)

 

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود