|
العلم
والحكمة ومصير الإنسان
(2
من 2)
ندره
اليازجي
التطور
لا يمكننا أن نتحدث
عن التطور قبل تعريف أو تعيين ما ينطوي عليه
من معنى: -
التطور
هو انفتاح الطاقة المنطوية على هيئة مادة أو
كتلة؛ هو ظهور القوى المستترة، اللامرئية، في
تضاعيف المادة. -
التطور هو الكشف
الدائم عن السرِّ الكامن في باطن المادة. -
المادة هي انغلاق
الطاقة والحياة. -
الحياة والطاقة
مقولتان تشيران إلى حقيقة واحدة. -
المادة
حية، من حيث إنها حياة وحركة. يمكننا الآن أن نقول:
إن التطور، كما عرَّف به تيار دو شاردان، هو
مسيرة الحياة، من وجودها الأقل تعقيداً إلى
وجودها الأعقد. وفي هذا التطور تفصح الحياة
المنطوية على هيئة مادة عن حقيقتها، كما يفصح
الوعي المنطوي على هيئة لاوعي عن ذاته. يشير هذا التعريف
الأولي لمفهوم التطور إلى أن الحياة، وقد
تشكَّلت في أول متعضِّية، سارت إلى الأمام
باتجاه الإنسان. نستطيع الآن أن نقسم
التطور إلى قسمين: التطور قبل الإنسان،
والتطور بعد الإنسان. يشير التطور قبل
الإنسان إلى إمكانية تقسيمه إلى قسمين: أ.
الحياة
اللاعضوية: وتدعى، مجازاً، ما قبل الحياة. ب.
الحياة
العضوية. لا نجد في الحياة
اللاعضوية تمايزات وأشكالاً. كانت الحياة،
قبل التشكُّل العضوي، لامتمايزة؛ كانت
منسجمة في ذاتها؛ كانت دقائق متناهية في
الصغر لا تعرف التمايز أو التنافر؛ وكانت هذه
الحياة تحمل في عمقها بذور الأشكال المقبلة
والخصائص التي تتصف بها. على هذا الأساس،
يمكننا القول: إن الحياة اللاعضوية حملت
خصائص العقل والنفس، وخصائص التمايزات
اللاحقة. عندما تمايزت هذه
الحياة، وُجِدَت الفروع الحية: وُجِدَ الفرع
الإنساني، والفرع الحيواني، والفرع النباتي.
لقد تمايز كل فرع، أو كل غصن من أغصان شجرة
الحياة، دون أن يكون الواحد منها قد صدر عن
الآخر. وسار التطور في تقدمه
إلى الأمام هادفاً إلى الإنسان. وهكذا، يكون
التطور، قبل الإنسان، مسيرةَ الحياة قبل
تمايزها إلى الحياة بعد تمايزها، إلى الإنسان
الذي تركزت فيه الحياة، بخصائصها كلِّها،
وطاقتها وكتلتها. وفي هذا الصدد، يؤسفني
القول إن الباحثين في التطور قد أغفلوا حقيقة
التطور بعد الإنسان؛ ولم يعالج هذا الموضوع
إلا قلة من العلماء والفلاسفة، أخص منهم
بالذكر العلامة تيار دو شاردان. يشير التطور قبل
الإنسان إلى انعتاق دائم وتحرر مثابر
للطاقة المنطوية في المادة. والتطور، وفقاً
لهذا التعريف، يشير إلى حرية تتجاوز حتمية
ظاهرية لبلوغ غاية نهائية تتمثل في الإنسان.
والتطور، بعد الإنسان، يشير إلى التحرر من
انغلاق شديد للطاقة والمادة والحياة في كتلة
الإنسان. ويكون هذا التطور عقلياً،
وأخلاقياً، وروحياً. من ذلك نستنتج أن الصفة
المميزة للتطور، قبل الإنسان وبعده، تتركز في
مفهوم الحرية. يستند موضوعنا إلى
الأسئلة التالية: كيف يتحرر الإنسان؟ وماذا
يعني تحرُّر الإنسان؟ وممَّ يتحرر الإنسان؟
وإلامَ يهدف الإنسان من تحرُّره؟ وما هي
الغاية التي يحققها؟ يتحرر الإنسان بوعيه
وحكمته. وتتجسد غاية الإنسان في "رَوْحَنَة"
مادَّته. لما كانت المادة قبل
الإنسان تتحرر تدريجياً، ببطء كبير، من
غلافاتها السابقة، بفعل وعي ضمني ملازم،
لتحقِّق كياناً تتركز فيه خصائص المادة
الحية، العاقلة كلها، فإن المادة بعد
الإنسان، المركزة غاية التركيز في الجسد،
تتحرر تدريجياً بفعل وعي ضمني ملازم لتعود
إلى ما كانت عليه قبل الكثافة المادية. من هنا يمكننا أن
نقول إن المادة نتيجة تطور هابط من الأعلى إلى
الأدنى: تطور يشير إلى تكثُّف الطاقة الكونية
لتصير مادة. ويمكننا أن نقول أيضاً: إن المادة
ستعمد، بفعل طاقة واعية، إلى أن تعود إلى ما
كانت عليه سابقاً قبل تطورها الهابط من
انفتاح إلى انغلاق، عن طريق تطور صاعد، يبلغ
وسطه في الإنسان، ويبلغ أقصاه في "رَوْحَنَة"
المادة، في عودة بالمادة إلى ما كانت عليه قبل
تطورها الهابط. والإنسان، وفق هذه
المقولة، هو أداة التطور الأخلاقي، والعقلي،
والروحي؛ هو الكائن الذي يحمل المادة إلى
غايتها القصوى في ملء زمان ومكان؛ وهو الذي
يبلغ بالألف إلى الياء. والآن نسأل: كيف تتم
هذه العملية؟ إذا كان التطور قبل
الإنسان قد تم نتيجة لتكامل العناصر وائتلاف
المكوِّنات، وسار ببطء كبير، استخلصنا فكرة
هامة هي أن الوعي والحرية يفعلان في الوجود
لتحقيق الغايات العظمى. وإذا كان التطور بعد
الإنسان يهدف إلى تحقيق الياء الكامنة في
الألف، استخلصنا أن الوعي والحرية يعملان
لبلوغ الأنْسَنَة القصوى التي هي انعتاق من
غلافات المادة كلها... الأمر الذي يعني رَوْحَنَة
المادة. وعندما نقيم علاقة
بين مصير الإنسان ومفهوم التطور ندرك أن
مصيره ومصير البشرية مرتبطان بتطوره إلى
مستويات أعلى من الأخلاق، والروح، والحرية،
والوعي، والمحبة، وذلك لكي "تَتَرَوْحَن"
المادة. وعندئذٍ، يكون الإنسان قائد مسيرة
التطور. فإذا كان كل دور يبدأ بالحكمة والوعي
والكمال فلأن التطور واعٍ وحكيم، يحمل في
باطنه خصائص القوى الفاعلة والهادفة. وإذا
كان على كلِّ دور أن ينتهي بالحكمة والوعي،
فلا بدَّ أن يحقق الإنسان وعيه وحكمته؛ ولا شك
أن مصيره قائم في هذا التحقيق. وإذا كان
الإنسان يؤمن بغائية التطور، ويدرك بلوغَ
الحياة نهايتها القصوى في الحرية والوعي
والكمال، فلا بدَّ له أن يدرك أيضاً أن تلك
الخصائص الواعية، التي كانت ألف الحياة، تفعل
فيه ليحقق ياءها. وبالفعل، ندرك حقائق الحياة
في قوانينها الأصلية. فكما قال تيار دو شاردان:
"إن كمال الأشياء قائم في بداياتها." عندما يفهم الإنسان
التطور، في هبوطه وصعوده، ويدرك حقيقة بدء كل
دور ونهايته، ويعي الحكمة القائمة في
البداية، يعلم أن مصيره منوط بهذا الفهم،
وهذا الإدراك، وهذه الحكمة. وإذا شئنا أن نوضح
هذا الفهم الثلاثي–الأحادي للفهم والإدراك
والحكمة قلنا: إن التطور الهابط والتطور
الصاعد يؤكدان اتِّصالية الكون وينفيان
الانفصالية. والحق أن اتِّصالية الكون تعني
أن ما يهبط سوف يصعد، وما يمسي كثيفاً سيعود
إلى لطافته. وإذا كان التطور الهابط يعني
اللطافة المتحولة إلى كثافة فإن الاتصالية
قائمة بينهما. وإذا كانت اللطافة أصلاً وكانت
الكثافة ظهوراً، أو تجلِّياً، أو كشفاً،
أدركنا أن الكثافة ستعود إلى لطافتها. ولا شك
أن الخطيئة الكبرى المقترَفة تكمن في
الاعتقاد بانفصال كوننا أو حياتنا عن الكون
كله – تلك هي مركزية الأرض –؛ ومثل هذا
الاعتقاد يبعدنا عن مسيرة التطور الكوني الذي
تتصل خيوطُ شبكته لتشكل نسيجاً واحداً هو
الكل. فما أحقِّقه على الأرض أحققه كذلك في كل
نقطة من نقاط الكون الشاسع المتصل؛ والحق هو
أن مصيري يعتمد على هذا التحقيق. فكما أنني
أرفض مركزية الأرض، كذلك أرفض مركزية الإنسان
على الصعيد الكوني. الحرية
والحتمية
إذا كانت الحرية هي
الغاية العظمى التي يسعى إلى تحقيقها جميع
الناس، أو هي القوة الباطنية المتجهة إلى
تحقيق وجوب الحياة، فإن العقل يقر بوجودها.
فما هي الحرية؟ وممَّ يسعى الإنسان أن يتحرر؟
وهل ثمة قيود وعوائق متمثلة في حتمية أو
قدرية؟ وإذا كان الإنسان يؤمن بوجود حتمية أو
قدرية يخضع لها فحريٌّ به أن ينكر وجود
الحرية، فيظن أن كل شيء، في عالمنا هذا،
مسيَّر بقدرة خارجية، متعالية ومفارقة، هي
محرِّك خارجي، تنشأ عنه حركة وجودنا – الأمر
الذي يشير إلى الانفصالية. لا بدَّ هنا من أن
أشير أولاً إلى أن الحرية والحتمية لا
تُطرَحان على نحو يجعل منهما مقولتين
اجتماعيتين، وذلك لأنهما تخضعان، في وضعهما
الاجتماعي والاقتصادي، لنسبية وتقييم
متعددين. وعندئذٍ، يختلف مفهومهما من مكان
إلى مكان ومن زمان إلى زمان، وبالتالي،
يتجردان من الجوهر. وعلى غير ذلك، أطرح مفهوم
الحرية والحتمية، بصفتهما مقولتين من مقولات
الوعي والحكمة، على مستوى الإنسان ومستوى
الطبيعة. أولاً:
التطور فعل يشير إلى انعتاق تدريجي للطاقة
المنطوية على ذاتها؛ هو ديناميَّة تتجاوز
الميكانيكية. وإذا أخضعنا مفهوم التطور
للثنائية علمنا أن الانعتاق التدريجي هو
تحرُّر من القيود التي تكبِّل الطاقة،
تحرُّرٌ من عبودية تتجسد في الكتلة والمادة.
وفي هذه الحالة، يطرح مفهوم الثنائية ذاته
على بساط البحث: حرية هي انعتاق دائم، هي طاقة
فاعلة ومتحركة، هي إرادة إيجابية أو اندفاع
إيجابي؛ وعبودية أو قدرية هي كثافة وعطالة،
هي مادة ساكنة، ترفض الحركة وتقاومها، لأنها
إرادة سالبة أو مقاومة سالبة. وفي سبيل تفسير
هذه المعضلة التي برزت فيها الثنائية نقول: إن
العبودية، أي القدرية، غير موجودة إلا
ظاهرياً – هي عبودية أو قدرية ظاهرية – وذلك
لأن الحرية هي القوة الفاعلة. وفي حال تحرر
الطاقة من عبوديتها، أي من قدريَّتها، من
مادتها، من شكلها، من انغلاقها، من
حتميَّتها، لا تظل هذه العبودية أو القدرية
قائمة أو موجودة. وهكذا يتأكد لنا أن المادة،
أو الكثافة، أو العبودية–القدرية، أو
الحتمية، غير موجودة؛ وإن هي وُجِدَت فوجودها
ظاهري وحسب. وعلى هذا الأساس، نُقِرُّ بحتمية
ظاهرية وقدرٍ ظاهر، هو تبطُّن الطاقة،
ونُقِرُّ بحرية هي انفتاح للطاقة. فالحرية هي
انفتاح إلى مستويات أعلى وأسمى في سُلَّم
التطور. والتطور هو مسيرة الحياة من انغلاقها
في حتمية ظاهرية إلى انفتاح في حرية متعاظمة. ثانياً:
التطور فعل متكامل، يشير إلى تآلف العناصر
لتتشكَّل في كيانات ووجودات أرقى تحقق المزيد
من الوعي وهو في حركة تطوره. فالتطور لا يشير،
من قريب أو من بعيد، إلى الصراع والنزاع؛ وذلك
لأن الدقائق الأولى المنسجمة واللامتمايزة،
المتضمنة في حالة ما قبل العضوي، اجتمعت
وتآلفت بفعل قوة موحِّدة، لتتمايز إلى أشكال
وأنواع بفعل طاقتها الداخلية الحرة نتيجة
لتكامل شدِّ بعضها إلى بعض بفعل وعي ضمني.
فالدقائق الأولى اللامتمايزة عرفت التكامل
وهي تنتقل إلى حالة التمايز، ولم تعرف الصراع.
أما إذا كان الصراع الظاهري بين الأشكال
والكائنات قائماً فلأنها لا تعي، أو لا تحاول
أن تعي، القانونَ الكونيَّ الكامن فيها
والغاية التي يجب عليها تحقيقُها لتبلغ ما
انطوى فيها، منذ البدء، ليكون الألف في الياء
والياء في الألف. وإذا كان بعض العلماء قد
أدركوا التطور على أنه صراع لا يبقى فيه إلا
القوي فلأن الحياة أو الطاقة المنسجمة
اللامتمايزة أصبحت متمايزة، متعددة الأشكال
ومتنافرة في ظاهرها. وفي هذه التعددية،
تذرَّت الوحدة الضمنية القائمة في الحياة
والطاقة والمادة. ولا شك أن اعتبار هذه
التعددية هو الذي أدى إلى تمثل مفهوم الصراع.
ولكن فعل الحياة يشير إلى لاتمايز أصلي، إلى
وحدة أصلية، تتمايز وتتنوع لتدرك ذاتها،
لتعود إلى حالة لاتمايزها ووحدتها الأولى.
فما كان في بدء الحياة، وما تنوع من هذا
البدء، سيعود إلى وحدته ولاتمايزه. ولاشك أن
التنوع أو التمايز لا يعود إلى أصله البدئي
إلا عن طريق تكامل وتآلف تحقِّقهما الحكمة. ثالثاً:
الحياة فعل ديناميٌّ، يشير إلى انسجام ضمني
ملازم لطبيعة الأشكال والأنواع – الحياة
وحدة متماسكة تنضوي الأشكال والأنواع في
داخلها. والأشكال، في ظاهرها، ميكانيكية
ومضلِّلة: هي ميكانيكية تظهر على السطح على
نحو حركة نقل وانتقال وتحوُّل. لكننا كلما
توغلنا إلى باطن المادة وجدنا الديناميَّة،
والميل إلى الوحدة، والتفاعل المتبادل،
والاتكال الودي بين الأشياء، واللحمة
الواحدة التي تجذب جميع الأشياء والأشكال
بعضها إلى بعض بفعل وحدة ماهيَّتها وتنوعاتها
– الأمر الذي يجعل من العالم جسماً واحداً
بأعضاء كثيرة ونَفْسٍ واحدة تنبض بالحياة. الديناميَّة تعني
الاتِّصالية؛ والميكانيكية تعني التجزيئية.
والاتِّصالية تشير إلى ارتباط الكون في وحدة
ضمنية متماسكة، وفي أنواع ظاهرية عديدة.
والفعل الواحد الذي ينشط في الكل ويتخلَّله
ويحييه يتماثل داخلياً ولا يتماثل خارجياً؛
فهناك خارج للأشياء، وهناك باطن لها.
والباطن، كما يقول تيار دو شاردان، هو الطاقة
التي تمرُّ من جوهر إلى جوهر، من كتلة إلى
كتلة، ومن شكل إلى شكل؛ والخارج هو الظاهر
الذي يعمل من خلاله الباطن. وفي مفهوم
الديناميَّة، يتراءى لنا الكون جسماً واحداً
له نفس واحدة تنبض بالحياة الواحدة والطاقة
الواحدة، وتمر عبر الأعضاء الكثيرة التي
تتآلف في اتحاد وتتكامل في وظائفها. ويتراءى
لنا الكون، في منظور الديناميَّة، شبكة متصلة
خيوط النسيج. وهكذا، تشير الديناميَّة إلى
اتِّصالية كونية، يؤثر ما يحدث في جزيء أو في
مكان على ما تبقَّى من الكون، حتى في المجرات
البعيدة. وتتفاعل الأجزاء، أو تتكامل، وتتكل
على بعضها بعضاً، وتكون علَّة بعضها بعضاً.
وينعدم مفهوم الجزيء المنفصل عندما نعلم أنه
تصغير الكل. وإذا كان الجزء هو الكل المصغَّر
كان متصلاً مع الكل. تكشف الديناميَّة عن
ذاتها في تحول دائم... ليست هي سكوناً أو صلابة...
هي الحركة الكونية الدائبة... والتحول هو مرور
الطاقة من شكل إلى شكل... هي الواحد الذي
يتراءى في الكثرة الظاهرة في آلاف آلاف
الأشكال؛ وهي الكثرة التي ترقص في حلبة
الوحدة. وفي سبيل تركيز أكبر، نشدد على مصطلح
"مرور الطاقة" لنعلم أن الطاقة والحياة
واحدة... الكون واحد، متصل، ديناميٌّ، متفاعل،
متكامل، متواكل، تسري فيه حياة واحدة، وعي
واحد، وتبنيه حقيقة واحدة. إن تفهُّمنا الدقيق
لمفهوم الحرية، على المستويين الكوني
والطبيعي، يجعلنا نعترف بحتمية ظاهرية وحرية
باطنية حقيقية. فالأشياء لا تفعل إلا بحرية
داخلية. ولقد بدأ العلم يدرك هذه الحقيقة
عندما بدأ يفهم أبعاد الديناميَّة
والاتِّصالية والتكامل. وعندما ننتقل إلى
مفهوم الحرية على المستوى الإنساني نعلم أنها
لا تختلف في شيء عن مفهومها على المستويين
الطبيعي والكوني، وذلك لأن الإنسان والكون
واحد وليس هما اثنين. ومع ذلك، نشدد على فعل
الحرية في النطاق الإنساني، المرتبط بالوعي
المدرِك، كما نفهمه على مستوى العقل. وفي هذه
الحالة، أكرِّر ما أتيت على ذكره، وهو أنني
أستبعد الحرية في مفهومها النسبي على المستوى
الاقتصادي والاجتماعي والقانوني، وألج محراب
الحرية على المستوى النفسي، فأقول بأنها حرية
الاختيار التي تتضمن الوعي القادر على
الاختيار دون إقحام الرغبات والانفعالات
والإشراطات. وأضيف إلى هذه الحياة النفسية،
التي هي بدء الحرية، الحريةَ الواعية التي
تشير إلى أن الطاقة الإنسانية لا تتحدد
بالمكان الجسماني، بل تتجاوزه إلى آفاق الكون.
لذا، فما يفكر فيه الإنسان، وما يتصوره، لا
يختلف عنه، بل يتطابق معه. فأنا، إذن، واحد مع
الكون لأن تصوري له هو ما هو في الكون، ما هو
ماثل فيه، ما هو حقيقي، وما هو جوهري. أما وقد بلغنا هذه
النقطة من حديثنا فإننا نتساءل: هل هنالك
حتمية ظاهرية تهيمن على حياة الإنسان، تشابه
الحتمية الظاهرية بالنسبة للطبيعة؟ تُختَزَل إجابتنا
بكلمة: نعم. فهنالك حتمية ظاهرية على مستوى
الإنسان. ولا شك أن ولادتي في بلد دون آخر، من
أسرة دون أخرى، بجسم مختلف في شكله عن أجسام
الآخرين، وحصولي على تربية معينة دون أخرى،
أو توجيه معيَّن دون آخر، وانتمائي بالولادة
إلى عقيدة دون أخرى، إلخ، أمور تجعلني أتخيل
الحتمية البشرية وأفرضها. ومع ذلك، نُغفِل
مواقفنا التي تعبِّر عن ذاتها ضمنياً في
العبارة التالية التي يرددها كل شخص تقريباً:
أريد أن أتخلص من وضعي، وأحقق أبعاداً أخرى أو
مستويات أخرى؛ أريد أن أتحرر من قيودي، من
تقاليدي، من أعرافي، من جهلي، مما أنا فيه،
إلخ. وكما يبدو، فإن هذه الأوضاع كلَّها قابلة
للتحويل بفعل طاقة داخلية تفعل فينا لبلوغ
غايات عظمى. ولكن القضية تظل مستعصية على
الإنسان الذي "يرغب" أن يظل سجين ذاته،
يعاني من ظلام أناه، فيعترف بالحتمية. ولا شك
أن المبدأ الأول للانعتاق من هذه الحتميات
الظاهرية يتمثل في معرفة الإنسان أنه غاية في
ذاته. فخضوع الإنسان الذي يضع ذاته ضمن قوقعة
الأنا حريٌّ بأن يجعل منه كائناً يسوِّغ
الحتمية. وعلى صعيد آخر نقول:
إن الحتمية الظاهرية قائمة في نطاق وجودنا
على الوجه التالي: يُعَدُّ "حتمية" ذلك
الوضع الذي نجد أنفسنا وقد وُلِدنا فيه؛
ويُعَدُّ "حرية" ذلك الفعل الداخلي الذي
يدفعنا إلى الانعتاق. وما حتميَّتنا إلا ما
أتينا به من ماضي حياتنا، وما حملناه من
أعمالنا السابقة، مما قدَّرناه على أنفسنا؛
وما حريتنا إلا ما يوجِب علينا الانعتاق مما
قدَّرناه على أنفسنا على نحو حتمية في حياتنا
أو حيواتنا السالفة. فالقدر أو الحتمية غير
موجودين إلا على أساس أننا نحمل في أنفسنا ما
زرعناه في الماضي من بذور، هي أعمال وأفكار
وتصرفات، هي الماضي الذي يُلزِمُنا على
الخلاص منه بفعل حرية في الحاضر تحوِّل
قدرتَنا التي تركناها ساكنة في الماضي، دون
فعل، إلى طاقة حركة تشدنا إلى تحقيق
أنْسَنَتِنا وكياننا. وفقاً لهذا المبدأ،
تكون الحرية سعياً إلى الكمال بفعل الوعي؛
ولا يتم هذا الكمال إلا بالانعتاق التدريجي
من قيود الأنا التي ندعوها الحتمية أو
القدرية التي سببناها لأنفسنا. فالقدر أو
الحتمية لم تُفرَض علينا من خارجنا، بل هي
ذاتنا التي لم تعمل على تحرير ذاتها، فقيَّدت
ذاتها في الأنا، وقدَّرت على نفسها أنْ تعيش
وفق نمط معين دون غيره، وحتَّمت أن تتخلص من
لاوعيها. فالحتمية، في جوهرها، إرادة فاعلة،
تظهر على نحو سالب، لتتحقق في حرية فاعلة. لا يستقيم وجودنا،
ولا يتميز هذا الوجود بالمعنى والقيمة، ما لم
ندرك أننا أحرار. ولن يعمل الإنسان على تحسين
وضعه الحياتي والمعيشي وتطويره – بالعلم
أولاً – ما لم يشاهد هذه الحرية تفعل في الكون
كلِّه، وما لم يتخلَّ عن مفهوم الحتمية التي
تجعل حياته جحيماً لا يطاق واستسلاماً
وخضوعاً لا يليق بكيانه. ثمة إشراطات طبيعية
ورثها الإنسان من الطبيعة، وإشراطات وراثية
سببها الإنسان لنفسه في حيواته السابقة،
وإشراطات حالية أضيفت إلى الإنسان في ولادته
وأُلحِقَت به في التربية التي أُنشئ عليها،
تدعى حتمية، يجب عليه الانعتاق منها ليحيا في
الوعي الكوني. فلسفة
الأمل
أستهل بحثي لفلسفة
الأمل بقولي: إن عمق الكلمة مرهون بالمعنى
الذي نضمِّنه فيها، والسرُّ الكامن في الكلمة
يتمثل في العمق الذي نلجه. إذن فالسر هو
العمق الذي يزداد عمقاً كلما توغلنا إلى
مضامينه. وإذا كانت السرَّانية تحتمل مفهوم
العمق فإن كلمة "الأمل" تحمل مضمون عمقها
أيضاً. على هذا الأساس، يمكننا أن نميز، في
سبيل الوضوح، كلمة "الأمل" عن كلمة "التفاؤل". التفاؤل مفهوم مشحون
بالتشاؤم. وإذا كان التفاؤل يحمل في تضاعيفه
التشاؤم فلأنه حدٌّ للرغبة وتعبير عن
الانفعال. فإذا قام تفاؤلي في حصولي على شيء،
مهما يكن، كان تشاؤمي نتيجة فَقْد ذلك الشيء
أو عدم الحصول عليه. فمن التفاؤل ينشأ
التشاؤم، ومن التشاؤم ينشأ التفاؤل؛ كلاهما
تعبير انفعالي، ينتقل أحدهما إلى الآخر. وتعد
هذه الرابطة صحيحة إن كنا نتجنب التلاعب
بالألفاظ. وبالفعل، لا يمكننا أن نضمِّن
التفاؤل معنى أكثر مما وجدنا من صلة بينه وبين
التشاؤم. لذا، لا يُعَدُّ التفاؤل أو التشاؤم
حكمة أو وعياً. تُبنى فلسفة الأمل
على النظرة الحكيمة إلى العالم وإلى الكون،
وعلى الموقف السرَّاني العميق من الحياة.
وتتجلَّى أيضاً في فهمنا للمغزى المتضمن في
الوجود بعامة، وفي وجودنا بخاصة، وفي العمل
الدائم والدؤوب لتحقيق السر، أي العمق،
الملازم لوجودنا. إذن، فالأمل هو حكمة
الحياة، هو تنشيط الطاقة، هو القوة المحركة
لتحقيق مستويات أعلى للحياة على مستوى كوكبنا
الذي، وإنْ كان حداً أدنى للوجود، يشير إلى
تحقيق الحدِّ الأعلى. فلسفة الأمل، إذن،
ليست نظرة سطحية، عادية، إلى الحياة. وفي سبيل فهم وافٍ
لفلسفة الأمل، نوضح المفاهيم التالية: أولاً:
تشكل الصعوبة المبدأ السائد على الكرة
الأرضية، عالمنا الأرضي. ويبلغ عالمنا أدنى
درجة في سُلَّم العوالم لأنه العالم السفلي. ويقضي
وجودنا في هذا العالم أن نحقق أسمى المبادئ في
أدنى العوالم. إن وجود الصعوبة ينفي
وجود المصيبة؛ إذ ليست المصيبة غير صعوبة لم
نتغلب عليها. لذا لا تقوم المصيبة في صلب
الوجود الأرضي لأنها نتيجة وليست سبباً. ولا
يمكننا الإقرار بوجود مصائب متعددة وفردية
لأن جمعها يعني وجود مصيبة واحدة هي وجودنا؛
وهذا أمر لا تقرُّه الحقيقة. يعني اعترافنا
بالصعوبة كمبدأ يهيمن على وجودنا أن العقل
الإنساني لا يتطوَّر إلا في الصعوبة. فلولا
الصعوبة لما كان الإنسان بحاجة إلى القوة
الواعية والمفكرة، وذلك لأن الإنسان مهيأ أو
مزود بطاقة واعية، ومفكرة وعاقلة توازي
الصعوبة وتتجاوزها، في آن واحد، إلى عقل
فوقي، عقل مستنير. ولا شك أن الصعوبة تنسحب
على قيمة وجودنا ومغزاه. وبالفعل، نردد مع
الحكماء أن الضرورة تقضي بتحقيق الوعي الكوني
في أدنى العوالم وأصعبها وجوداً. إذن فالأمر
يتطلب فعلاً واعياً يجعلنا نتجاوز درجات
الصعوبة التي قد تبلغ أقصاها في المرحلة
النهائية التي نسميها الموت. وعلى هذا
الأساس، لا تقف الحكمة من العالم الأرضي موقف
الرفض – العقل يرفض – بل موقف المحبة
والانسجام. ولا تُعارِض الحكمة الصعوبات
الخارجية، كالعواصف والبراكين والزلازل
والأعاصير إلخ، لأنها المدخل إلى إدراك
القوانين الكامنة فيها والقائمة في جوهر
الوجود. ولا تتناقض الحكمة مع صعوبات الإنسان
الداخلية لأنها سبيل إلى كشف عمق الكيان
وطريق إلى الكمال. ثانياً:
تتجاوز الطاقة الفاعلة في الإنسان والعالم
ذاتها إلى مستويات أعلى من الوجود والكينونة
في تنشيط ديناميٍّ دائم لا يهدأ. فلكي يتسامى
الإنسان في وجوده الأرضي عليه أن يسعى إلى تحويل
وجوده إلى وجوب. فالـوجود، كما هو معطى،
واقع يتطلب جهداً بشرياً هو وجوب. وهكذا،
يعمل الإنسان جاهداً لتنشيط واقعه والواقع
الطبيعي وتحقيقهما في وجوب، ولتحويلهما إلى
ما يجب أن يكونا. وتتراءى حقيقة هذا التنشيط
في ذلك السعي المثابر لتحسين الأوضاع البشرية
على المستويات كلها. فالإنسان لا يقبل وجوده
على نحو معطيات واقعية، بل يشاهد صورة وجوده
في رؤيا مثالية قصوى للكون والحياة. ففي أعماق
الإنسان نداء للأعالي وتوق إلى اللامحدود. ثالثاً:
تتراءى حقيقة العالم في محبة الإنسان له. ولئن
وقف العقل من الوجود الأرضي موقف الرفض لكن
كيانه يحن إلى وجوده، ويحب الطبيعة، ويتناغم
معها في وحدة لا تنفصم، أو في تكامل لا تناقض
فيه. إذن فمحبة الإنسان للعالم تسهِّل عليه
تحقيق مبادئه السرَّانية العميقة، فيشاهد
فيه صعوبته المنعكسة في الذرة والخلية
والمجرة، ويدرك أن قانونه وقانون الكون واحد،
وأن تحقيق وجوده يعني تحقيق وجود الكون. في
هذه المحبة ينفتح الوعي الفردي ليصبح وعياً
كونياً يغمر العالم بضيائه، وينقذه من تشتته
وضياعه. وعندئذٍ يهدأ الخوف من الموت، ويبطل
اعتبار العالم مصيبة، ويستشف الإنسان
الاتِّصالية الكونية، ويدرك أن تحقيق الأسمى
قائم في تحقيق الأدنى – والأدنى، في هذا
السياق، لا يشير إلى الانحطاط، بل إلى الكل
الكثيف الذي يفصح عن ذاته في سلسلة من
الانعتاقات والحريات حتى يبلغ الحقيقة
السامية. ففي محبة الأدنى تكمن محبة الأعلى. رابعاً:
في هذه المحبة، وفي هذا الوعي الكوني، وفي
الانسجام بين الفردي والكوني، يدرك الإنسان
قيمة الحياة. وفي هذا المستوى يصبح قادراً على
التمييز بين الحياة والمعيشة. ولا شك أن
الإنسان لا يحيا من جراء ما يتناول من طعام
فحسب، بل بكل ما يحيط به من واقع وحقيقة. وإن
حصر وجود الإنسان بالمعيشة وحدها موت له.
فالحياة هي الوعي الذي يحقق طاقات الوجود
العقلية والروحية كلها، ويجعل من المعيشة
وسيلة لاستمرار هذا الوعي. وإن كنا نسأل
أنفسنا: هل نحن نحيا أم نعيش؟ لوجدنا أننا
ننساق في تيار المعيشة الذي يجعل من العالم
جحيماً من الكراهية والاستغلال والأنانية
والجهل والصراع إلخ. أما الحياة فهي الفاعلية
التي ترفع الإنسان إلى أعلى المستويات: هي
العلم–الحكمة، والمعرفة، والوعي والمحبة...
وهذه المعالم تضع نهاية للبؤس المتفاقم،
وتشيد مملكة الحقيقة... وفي هذه المملكة يبطل
سؤال: ما هو مصير الإنسان والعالم؟ خامساً:
نقصد بالعقل طاقة فكرية باطنية تنبثق إلى
الواقع أو ترسل ذاتها إلى الخارج بصورها
العديدة: الإحساس، والشعور، والعاطفة،
والانتباه، والتركيز، والاهتمام، والتذكر،
والتبصُّر، إلخ. ويُعَدُّ الدماغ الأداة
التي، من خلالها، ترسل الطاقة الداخلية ذاتها
إلى عالم الخارج؛ إذن فالدماغ أداة ظهور
العقل. والعقل طاقة داخلية لا تنتهي من حيث
إنه تعبير عن الروح أو كشف لها، طاقة تتجه إلى
العالم الخارجي، عن طريق الدماغ، ليعود
بالطبيعة والعالم الخارجي إلى عالم الداخل،
العالم الخارجي المتجزِّئ في ظاهره الذي يعود
إلى وحدته في عالم الباطن. وفي هذه الصورة
نشاهد العقل محدوداً بتعيينات الدماغ
وأقسامه الظاهرية، ولامحدوداً لكونه سيلاناً
داخلياً لا ينقطع. والروح تعبر عن ذاتها عن
طريق العقل؛ فهو ظاهرتها. ويعبر العقل عن ذاته
عن طريق الدماغ. لذا نرى العقل لامحدوداً
بالروح، ومحدوداً بالدماغ؛ نراه موحداً
بالروح، ومجزأ بالدماغ. والعقل ذاته ليس
كياناً أو جوهراً لأنه امتداد لطاقة داخلية
أكثر عمقاً. ولما كان الدماغ قابلاً للتعيين
والتحديد فإن العقل يتحدد به مبدئياً؛ ولكن
جوهر العقل، لكونه مظهراً لطاقة داخلية، لا
يتعيَّن ولا يتحدد. نشاهد في هذا الإطار
المرسوم للعقل صورتين: أولاهما، العقل
المشدود إلى الدماغ والمتعيِّن بتعييناته؛
وثانيتهما العقل–الطاقة والقدرة اللامتعينة.
ويمكننا تسمية العقل–الطاقة بالـعقل
الفوقي. وهكذا تتراءى لنا حقيقة العقل:
هنالك العقل، وهنالك العقل الفوقي. وفي سبيل
توضيح الفكرة المطروحة نقول: إن رفع مستوى
العقل يتحقق في مثول العقل الفوقي؛ وأعني أن
الإنسان الذي يسعى إلى تحقيق أنْسَنَته
وكماله يرفع عقله إلى مستوى العقل الفوقي.
ويتم هذا الرفع والتسامي بطريقتين: 1.
تنشيط
الطاقة الداخلية بتدريبات خاصة
تهدف إلى عقلنة الدماغ، وزيادة حساسيته
ومرونته، بحيث يسمح لتيار العقل الفوقي
باجتيازه والعمل فيه وتخلُّله بضيائه؛ وفي
هذه العملية يَتَرَوْحَن الدماغ. 2.
تنشيط
الدماغ بتدريبات خاصة
تسمح بزيادة حساسيته وإدراكه الحسي المتطور،
أو النامي، أو الزائد. وفي هذه العملية يشبَّه
الدماغ بالكمان الذي يصبح أداة تعبير عن
ألحان أسمى وأرقى كلما زادت حساسية الأوتار
ومرونتها. وإن رقة النغم وسموِّه يتصلان برقة
الوتر وحساسيته وبعظمة اللحن المسكوب فيه. إن تطور الوجود
الأرضي عملية تعتمد على ظهور العقل الفوقي
لبلوغ أنْسَنَة قصوى. ولا شك أن ظهور العقل
الفوقي عملية تطورية كبرى تحقق الحرية على
حساب الحتمية، والاتِّصالية الوجودية
والكونية على حساب الانفصالية، واللامحدودية
على حساب المحدودية، والديناميَّة على حساب
الميكانيكية، والكيان على حساب الفردية. وفي
هذا النطاق الفوقعقلي لا نعود نرى لامعقولية
الوجود. فاللامعقولية تعبير عن العقل المشدود
إلى الدماغ والخاضع لتلقائية الأحاسيس
واندفاعية الانفعال. وعلى هذا الأساس، يرفض
العقل الوجود الأرضي بقدر ما يتمسَّك به،
لأنه يشاهد فيه لامعقوليَّته ذاتها التي هي
انجذاب العقل إلى عالمه السفلي وانفعاله
بالتأثيرات الحسية القادمة إليه من عالم
الخارج دون إلحاقها بالطاقة الداخلية
الواعية. فلكي يكون العقل عقلاً فوقياً عليه
أن يتجه إلى الأعلى كما تتجه الشعلة إلى
الأعلى. أما العقل الفوقي فهو عملية ترفع
الوجود الخارجي، بعد إلحاقه بعالم الداخل،
إلى الوجود الكلِّي، ليصير إلى وحدة لا
انفصام فيها، وإلى تأليف عالم الطبيعة مع
عالم الحقيقة السامية الكلِّية والشاملة.
فكما هو في الخارج كذلك في الداخل؛ وكما هو في
الأعلى كذلك في الأدنى. تلكم هي مبادئ فلسفة
الأمل. خلاصة
كيف أتصور العالم؟
كيف أقبله وأعترف به؟ كيف أجعله مسكناً
للراحة والطمأنينة والغبطة؟ كيف أهيِّئه
ليصبح ملكوتاً أرضياً؟ كيف أتفاعل معه ليكون
مصيره ومصيري واحداً؟ كيف أسمو به
ليَتَرَوْحَن؟ كيف أكون الأداة المحوِّلة
والفاعلة لإعادة المادة إلى طاقتها وجوهرها؟ إني أتصور العالم
موضعاً للتجربة والاختبار. وأرى هذا العالم
متصلاً مع العوالم الأخرى وممتداً إلى
اللانهاية في سلسلة وجودية كبرى غير منفصلة.
وإن اتصالي بالعوالم الأخرى يتم عبر الأرض
ويتحقق بمقدار ما أطبق من مبادئ كونية في هذا
العالم المرئي للتجربة والاختبار، في عالمي
الأرضي. ولا شك أن كثافة هذا العالم الأرضي لا
تحُول دون اتصاله بلطافة العوالم الأخرى؛ فهو
الفيض الأخير أو الانبثاق النهائي في سلسلة
الصدورات. وقد اتصف هذا الفيض الأخير
بالكثافة التي ندعوها المادة مقابل الروح،
والظلمة مقابل النور، والجزء مقابل الكل.
والحق يقال: إن عالمنا، كما أشارت البحوث
الأخيرة في فيزياء الصغائر، شعاع ونور، وطاقة
كثيفة، هي روح ظليلة. ويُعَدُّ هذا العالم
الموضعَ الذي أحقق فيه اختباري لرؤية الحقيقة
أو تصوري لها: النور في الظلام، والروح في
المادة، والوحدة في الكثرة، والاتِّصالية في
الانفصالية، والديناميَّة في الميكانيكية،
والخير في انعدامه أو سلبه، والحقيقة السامية
في صورتها المنعكسة في الوجود، والحياة
اللاموصوفة في الحياة الموصوفة... أعترف بهذا العالم
لأني أحبه، وأتفاعل معه لأسمو به، لأن كياني
وكيانه واحد. وبقدر ما أحنُّ وأتوق إلى
الأبدية والحقيقة السامية والشاملة أتوق إلى
هذا العالم. وفي وحدة الكيان هذه تنعكس
الثنائية في بهاء التكامل، وتتألق التعددية
في بهاء الوحدة. وأنا أتأمل هذا
العالم أجد خلاصه وفهمه في خلاص نفسي وفهمها،
وأعمل على تلقيح العلم بالحكمة. وعندئذٍ لا
يسيطر الإنسان على العالم ولا يفجِّره بعقله
المشدود إلى الدماغ، بل يفهمه ويعيه، ويدرك
أنه وإياه نسيج واحد من التفاعل الدينامي. عندما أدرك هذه
الحقيقة أعلم أن العالم الأرضي مكان يستحق
الحياة، ويمتلئ بالمعنى والوعي، ويتألق
بالمحبة. فكما أن المنظار أداة مراقبة
الكواكب والنجوم النائية، كذلك العالم
الأرضي يمثل حقل تجربة كونية واختبار للوعي
الكوني. *** *** ***
|
|
|