|
العلم
والحكمة ومصير الإنسان
(1
من 2)
ندره
اليازجي
أستهلُّ
موضوعي هذا بتصور ما كان في بدء الدور الزمني
الذي نحياه، والمعروف في بعض الفلسفات
اللاهوتية بدور آدم. وآدم هو إنسان هذا الدور؛
هو الجنس البشري بألوانه وأشكاله وأنواعه؛ هو
الإنسان في كل زمان ومكان؛ هو الرجل آدم
والمرأة آدم. في ذلك البدء،
كان الإنسان نامياً في كماله، أو تاماً في ماهيَّته
وجوهره. كان حكيماً، يعي وجوده ويعرفه، يعي
نفسه ويعرفها. وكانت الغدة الصنوبرية نامية
تمام النمو، ومنفتحة لتكون الأداة التي تصل
الإنسان الأول بالملأ الأعلى، وذلك في سبيل
وعي ومعرفة القوانين الكونية. كانت الغدة
الصنوبرية المنفتحة، التي تدعى مجازاً بـ"العين
الثالثة"، المنظار الذي يشاهد من خلاله
أسرار العوالم وأسرار العالم الأرضي. ولقد
كشفت حكمة الإنسان الأول عن اتصال مباشر
بالوجود والكون، وعن كشف كامل عن الحقيقة
السامية. ولا نبالغ إذا قلنا إن الإنسان الأول
كان متحداً مع الكون، يعرف الحقيقة الكلِّية
صافيةً، ويتوافق مع المبادئ الكونية،
ويطبِّق قوانينها التي هي قوانينه ذاتها. في
البدء، لم يكن الإنسان "عالِماً"، بل
حكيم ينسجم مع عالمه، يفهمه، يتَّحد به،
ويأبى السيطرة عليه. في البدء، لم تكن
الثنائية – ثنائية الإنسان والكون، ثنائية
العقل والموضوع؛ في البدء، كانت الأحادية،
وكان العقل مستغرقاً في الوعي الكوني. هكذا نرى أن
الغدة الصنوبرية النامية، والمنفتحة على
هيئة وردة، كانت أداة صلة الإنسان بالكون.
وإذا تساءلنا عن معرفة الإنسان الأولى وحكمته
أدركنا أن حكمته ووعيه نتجا من عدم وجود حجاب،
هو العقل المتعيِّن بالدماغ، بينه وبين
الحقيقة الكونية كلها. وإذا شئنا الغوص في
الموضوع إلى أعماقه، علمنا أن "الرائين"
هم أناسٌ تفتَّحت غدَّتهم الصنوبرية عن طريق
الرياضة السرَّانية، فعرفوا أسرار الوجود
والكون. وإذا توخَّينا المزيد من المعرفة
قلنا إن الموهوبين من الناس، في شتى النطاقات
الفكرية والإنسانية، هم أناسٌ تفتَّحت
غدَّتهم الصنوبرية، أو هم أناسٌ تقوم غدَّتهم
الصنوبرية بوظيفتها خير قيام: إنهم أبناء
الكشف والاتصال. هنا نتساءل: ماذا
حدث للإنسان في البدء؟ هل حافظ إنسان البدء
هذا على المستوى الذي تسنَّمه في مجال الكشف
والحكمة والوعي، أم أنه تراجع عن حكمته،
فأدَّى هذا التراجع إلى ما تشير إليه بعض
الفلسفات اللاهوتية بـ"السقوط"؟ هل تميز
إنسان البدء بالعقل الذي نرمز إليه بالدماغ
تارة، وبالفكر أو القدرة المفكرة تارة أخرى؟ لم يتصف إنسان
البدء بالعقل. فالعقل يقف من الوجود موقف
الفكر من الموضوع. في العقل تكمن الثنائية؛
وفي الثنائية تكمن قسمة الكون والعالم إلى
قسمين متمثلين بالتناقضات الظاهرية: النور
والظلام، الخير والشر، اللذة والألم، الوعي
واللاوعي، المادة والروح، العقل والموضوع،
المرأة والرجل، الله والعالم، الأدنى
والأعلى، البرودة والحرارة، إلخ. وعلى غير
ذلك، كان الإنسان الأول متصلاً بالكون، ولم
يكن حجاب الثنائية الكامنة في العقل قائماً
بعدُ. نتساءل من جديد:
إذا كان تراجع الإنسان قد تم في البدء، في
فترة زمنية متأخرة، فهل هذا يعني أن التراجع
يرمز إلى انتقال أو تحول من الكشف والحكمة
والوعي إلى العقل الذي يشير إلى ثنائية الفكر
والموضوع، إلى ثنائية المراقِب والمراقَب،
إلى ازدواجية المجرِّب والمجرَّب، والعالِم
والمعلوم؟ وهل يعني هذا التراجع تحولاً طرأ
على الإنسان، جعله يبحث عن الحقيقة عن طريق
العقل المجرِّب الذي وضع العالم أمامه موضع
تجربة، وتنازل عن وحدة الفكر والموضوع – وحدة
العقل والطبيعة – الوحدة التي عرفتها
الحكمة؟ إن تراجع الإنسان
الأول أمر يشير إلى تراجع روح الحكمة
واستغراق العقل في العلم، وإلى تحوُّل عن
صوفيا أو ثيوصوفيا theosophia
– الحكمة أو
الحكمة الكلية – إلى فيلوصوفيا philosophia، محبة الحكمة.
إذن فالحكمة هي صوفيا، ثيوصوفيا، الوعي،
المعرفة المباشرة، الكشف، وحدة الموضوع
والفكر، الاتصالية دون الانفصالية؛ ومحبة
الحكمة، فيلو–صوفيا philo-sophia، هي العقل
الباحث عن سرِّ الوجود، الباحث عن جوهره،
العقل الذي يقدِّم ذاته على الموضوع، هي
الانفصال دون الاتصال، هي الثنائية التي أدت
إلى ازدواجية الفكر الإنساني وفصام الشخصية
الإنسانية، هي العلم في صورته الفكرية. تلكم هي حقيقة
الواقع: تراجُعٌ أول من الوحدة إلى الثنائية.
وفي هذه الثنائية صار الإنسان فيلسوفاً،
محباً للحكمة، وعالِماً محباً للتجربة، ولم
يعد الإنسان والحكمة حقيقة واحدة. تخلَّى
الإنسان عن حكمته – صوفياه، وعن اتحاده مع
الكل، ليصير جزءاً أو فرداً معزولاً، يحب
الحكمة ويبحث عن جذور حقيقته في الثنائية
التي أوْجَدَها، الماثلة في الانفصال عن
الوعي الكوني. نتساءل مرة أخرى:
هل طرأ تراجُع جديد على الإنسان العاقل–العالِم
تلا التراجع الذي طرأ على الإنسان الحكيم؟ هل
طرأ تراجع عن ثنائية العقل إلى نطاق آخر قاده
إلى مزيد من القلق والضياع والتشتت في عالم
التناقضات الظاهرية؟ أجل، لقد حدث
تراجُع ثانٍ، تمثل في الانتقال من الثنائية
إلى التعددية. ولقد تجسدت التعددية الفكرية
في البحث عن معرفة أصول الأشياء ومبادئها. وفي
هذا التراجع، تعلق الإنسان بالتقاليد
والأعراف، ومارس الطقوس، واعتنق العقائد
والمذاهب. ولا شكَّ أن ضياع الإنسان أصبح أشد
وأقسى في التعددية منه في الثنائية. وعندئذ،
بدأت الفيلوصوفيا (= الفلسفة) دراسة ظواهر
الوجود ومعالمه العديدة، مما أدى إلى تشتت
الفكر، وتعدد المعرفة، وزيادة الصراع الفكري
والاجتماعي. ولقد رُمِز إلى هذه المرحلة من
تقهقر التطور بعد الإنسان الأول الحكيم في
شرقنا القديم المضيء ببرج بابل (= "باب إيل")
– برج الوحدة، رمز التعددية المتوحدة،
والتعدد في الوحدة، كما رُمِز إليها في الشرق
الأقصى برقصة شيفا، رمز الكثرة في الواحد،
والوحدة من خلال الكثرة. ولئن كانت
الميثولوجيا تشير إلى أن برج بابل هو برج إيل
لكن الحقيقة هي أن التعددية، المتمثلة بـ"بلبلة"
الفكر، أدت إلى تشتت الإنسان في نطاقات الفكر
كلها: التعددية الطبيعية المتمثلة في تنوع
الأشكال وتكوينات العناصر؛ التعددية الفكرية
والاجتماعية المتمثلة بتنوع القيم والمفاهيم
والمبادئ والعقائد؛ التعددية اللاهوتية
المتمثلة بتنوع المذاهب والطقوس... وهكذا تمزق
الإنسان. يمكننا الآن أن
ننشئ جدلية إنسانية هابطة في البدء: أ.
الحكمة
– صوفيا – تراجعت، فأصبحت فيلوصوفيا، محبة
الحكمة؛ الروح تراجعت فأصبحت عقلاً؛
الأحادية الماثلة في الروح–صوفيا تراجعت إلى
الثنائية–العقل. ب.
الفلسفة–العقل
تراجعت فأصبحت تعددية فكرية على مستوى
الطبيعة، وتعددية فكرية على مستوى المجتمع،
وتعددية لاهوتية على مستوى الوجود. ت.
نعبِّر عن هذا التراجع كما يلي: الحكمة الفلسفة التناقض
الظاهري المتنوع. كان العقل، في كل
تراجع، يزداد حيرة واضطراباً. كان العقل
حاضراً منذ البدء؛ إنما كان مستغرقاً في
الوعي الكوني على مستوى الحكمة والروح،
ومستغرقاً في الطبيعة على مستوى الفلسفة،
ومستغرقاً في التشتت على مستوى التعدد. يقابل الهبوط أو
التراجع صعود وتقدم وعودة إلى الأصول. ولما
كان العقل الإنساني يتميز بالديناميَّة،
بالإضافة إلى الميكانيكية، فقد بدأ يستوضح
أسباب تراجعه إلى الحد الذي بلغه في
التعدديات الظاهرية والتناقضات العَرَضية.
وأخذ يبحث عن الوحدة الشاملة المختبئة التي
تكتنف جميع الظاهرات الموجودة أو الكامنة في
صدر الكل. وانطلق العقل، عند هذا المستوى من
تطوره، في حركة عودة تمثلت، بادئ ذي بدء، في
التنكر للتعددية الفكرية والاجتماعية
واللاهوتية. وبدأ العقل يرفض، من جديد،
تراجعه الأخير، لكنه لم يعد إلى الفلسفة التي
هي، في هذه الصورة، علم بالوجود الفكري على
نحو محض، بل عاد إلى الفلسفة–العلم يستوضح
حقيقة الأمر. والعلم، في هذا الوضع، هو معرفة
الوجود على نحو واقعي وتجريبي. والعقل، في
نطاق الثنائية، يخطئ ويصيب، يقترف الشر ويفعل
الخير، وذلك بما يتفق مع قيمه، ومفاهيمه،
ودرجة وعيه. وفي التعددية، الفكرية
والثيولوجية والطبيعية، يضيع العقل في متاهة labyrinth
الحياة والعالم، إنما يحاول أن يتصور الوحدة
التي تجمع شتات الأجزاء والعناصر في حقيقة
واحدة أو جوهر واحد، ليكون صديقاً للطبيعة
ومحباً للعالم والكون، ويلتقي معهما في وحدة
لا تنفصم أو في تكامل وتوافق. وَجَدَ العلم،
وهو يعاني من التشتت في التعدد، صعوبات كبرى
أدَّت، بادئ الأمر، إلى تعميق جذور تناقضاته.
وبالفعل، ازداد تشتت العقل الإنساني في
الفروع العديدة التي اتَّبعها العلم وهو في
سبيل بحثه عن الحقيقة. ولا شك أن هذا التشتت
يعود بأصله، إلى رفض العقل للشعائر العديدة
التي احتجزته ضمن شروط وقيود، وعملت على
إظهار ضآلة دوره في الفهم والإدراك. ثار
العقل، وبالغ في ردة فعله، خلال عصر التنوير،
على المعطيات الطقسية والتقاليد التي
أشْرَطَتْه، وبحث عن الحقيقة أو الواقع
المنطوي في الوجود. لما كان العقل
ردة فعل على الشعائر والمذاهب والعقائد
المتعددة التي تتعمق في حقيقة الحكمة ذاتها
فقد رفض مقولات كثيرة اتصفت بطابع المثالية
أو الروحانية اللامتوافقة مع الطقسية. فهو لم
يميز بين الروحانية والإشراط الطقسي؛ إذ إنه
وضعهما تحت مقولة واحدة لا تعترف المثالية
المادية بها. بدأ تطور العقل،
في المجال العلمي، يفصح عن ذاته تدريجياً. وفي
تعمُّقه في دراسة المادة، والتوغل إلى
مضامينها، وجد عالَماً تحتياً دعاه عالم
القسيمات الأولية، أو العالم ما دون الذري؛
وهو نطاق يفصح عن وجود نطاق أعمق أشار، بدوره،
إلى وجود حقيقة شاملة، غير مرئية، غير موصوفة
دعاها اصطلاحاً بـ"الحركة الكلِّية" holomovement، أو الدفق أو
السيلان الدائم الذي يمد عالم الطبيعة وعالم
الظواهر بالطاقة والحياة والحركة. وبالفعل،
استطاع العقل أن يتبين حقيقة المادة، فأدرك
أنها نور في جوهرها، وطاقة وحياة وحركة في
واقعها. وإن ما حدث في
إطار العلم الوضعي يماثل ما حدث في إطار
العلوم الاجتماعية والنفسية. وعلى مثال العلم
الذي اتجه إلى معرفة الحقيقة الكامنة في
المادة، سعى علم نفس الأعماق Depth
Psychology وعلم
النفس التأليفي Psychosynthesis
إلى معرفة الجوهر الكامن في الإنسان، ليجد
وحدة جوهر الإنسان والطبيعة. وبدأ العقل
يتساءل: ما الفرق بين المادة والروح، بين
العلم والحكمة؟ أدرك العقل أن
الفرق بينهما فارق بين اللطافة والكثافة، بين
الطاقة والكتلة، بين الحياة والشكل. فالروح
مادة لطيفة، والمادة روح كثيفة، والكتلة طاقة
أو حياة منطوية على ذاتها. وهكذا ضاقت الفروق
بين الحكمة والعلم في عصرنا هذا، وأصبح العلم
يتجه إلى تحقيق التكامل بعد التناقض،
والتلاقي بعد التشتت، والاتصالية بعد
الانفصالية، والديناميَّة بعد الميكانيكية،
والوحدة الكونية ضمن حقيقة واحدة بعد التجزئة.
وباختصار، بدأ العلم رحلة عودته إلى الحكمة.
وعلى هذا الأساس، أشارت نهايات القرن العشرين
إلى تطور متنامٍ لمعرفة الحقيقة الواحدة
المختبئة في قلب المادة والطاقة والحياة،
وإدراك وحدة الإنسان والطبيعة والكون. يمكننا الآن أن
نلخص التأليف الحاصل في جدلية التراجع
والهبوط وفي عملية التقدم والصعود. أولاً: أ.
الحكمة تراجعت إلى الفلسفة: صوفيا تراجعت
إلى فيلوصوفيا؛ الوحدة تراجعت إلى الثنائية،
إلى العقل. ب.
الفلسفة
تراجعت إلى العقائد والمذاهب والطقوس:
فيلوصوفيا تراجعت إلى التعددية. ت.
العلم،
وهو فلسفة الواقع، تقدَّم على التعددية. ث.
العلم،
ممثَّلاً بالعقل، بدأ يستشف الوحدة القائمة
في التعدد؛ العلم بدأ رحلة عودته إلى الحكمة. ج.
عودة العلم إلى الحكمة تشير إلى نهاية
الدور الذي يحياه إنساننا المعاصر. ثانياً:
الفلسفة، وهي تراجع عن الحكمة، هي العلم
الأول الذي استهلَّه الإنسان في بدء عملية
التراجع خلال مرحلة الثنائية. كانت الفلسفة
هي الثورة العلمية الأولى المتجهة بكلِّيتها
إلى الوجود، في سبيل حل لغزه، وتفهُّم حقيقته.
كان آدم–الإنسان، يوم تراجَع إلى العقل،
العالِمَ الأول والفيلسوف الأول. ثالثاً:
العلم – وهو المحاولة المثابرة لتجاوز
التعددية المتمثلة في الطبيعة والمجتمع
والفكر – فلسفةٌ واقعية، تحاول أن تتلمس
الطريق بمعطيات الإدراك، والإحساس، والتجربة. رابعاً:
العلم، في نهاية عهده، أو في نهاية الدور
الحالي، عودة إلى الحكمة: معرفة حقيقة جوهر
المادة والوجود، وتحقيق الألف–البداية في
الياء–النهاية، هو انغلاق الدور. خامساً:
الحكمة وعي مباشر، عبر كشف مباشر، لوحدة
الكيان الإنساني ووحدة الوجود الكوني؛ هي
معرفة الكائن البشري لاتِّصاليَّته مع كل شيء.
والعلم، في جوهره، حكمة تطرح ذاتها على بساط
التجربة، ووعي ومعرفة بهذه الحقيقة؛ وهو، في
ظاهره، نقيض هذه الحكمة. والعلم، بعد تلمس
الطريق والغوص في أعماق المادة، يشير إلى أنه
حكمة مطروحة على مستوى الاختبار والتجربة.
وبعد أن يسبر هذا العلم العالم من خلال
التجربة، لفترة زمنية طويلة، يدرك أنه الحكمة
ذاتها، المحققة في التاريخ على نحو عقل. سادساً:
تراجُع الحكمة إلى العقل يتجسد في تراجُع
الإنسان عن الروحانية. على هذا الأساس، لا
يتدرج التطور في جدليَّته الهابطة صعوداً، بل
يمثل تقهقراً يتمثل، بدوره، في وعي الحقيقة
بالتلمس والتجربة. ويتدرج التطور في جدليَّته
الصاعدة سمواً حتى يبلغ ذروته في الحكمة،
فينغلق الدور على ذاته، إذ يبلغ نهايته. سابعاً:
الروح تتجه إلى الحقيقة، أو هي تدرك الحقيقة
إدراكاً مباشراً. إذاً هي أحادية الاتجاه؛
بينما العقل يدرك الحقيقة عن طريق الثنائية،
عن طريق التجربة. لذا يخطئ العقل ويصيب نسبياً.
على هذا الأساس، تكون النسبية من نصيب العقل،
والإطلاقية من نصيب الروح. ثامناً:
الفلسفة، وهي تراجع الحكمة، هي تقنية العقل
الذي يجابه الوجود والكون. والعلم، وهو رد فعل
على التعددية، هو تقنية التجربة. تاسعاً:
هلاك الجنس البشري منوط بزيادة التقنية التي
تعمل على سطح المادة دون التوغل إلى جوهرها.
وخلاص الجنس البشري مرتبط بتوحيد الحكمة
والعلم. عاشراً:
هلاك الجنس البشري منوط بزيادة التقنية
وخضوعها للسلطات التي تستغلها لمصلحتها –
تلك السلطات التي تقف من الحكمة موقف العداء. خلاصة أولى
نبدأ بطرح السؤال
التالي: ما دور العقل في هذا الهلاك أو في هذا
الخلاص؟ وكيف تكون وحدة العلم والحكمة خلاصاً
للجنس البشري؟ الحكمة معرفة
مباشرة، لا تعتمد أداة، ولا تُبنى على تقنية.
فمن أجل معرفة المادة، لا تعتمد الحكمة،
ممثلة بالحكماء، أداةً أو عقلاً أو تقنية.
إنها تشاهد عمل المادة في الرؤيا الباطنية
العميقة، أي في التجربة الروحية الداخلية،
المعروفة بالاستغراق. وفي هذه المشاهدة،
تتعرف إلى أصل المادة وإلى أصل الكون على هيئة
فيلم تتصل حلقاته بعضها ببعض. إنها تدرك كيف
وُجِدَت الحياة وكيف وُجِدَت المادة، وتشاهد
هذه الحقائق في رؤياها الداخلية. وتعمد
الحكمة إلى تدوين هذه الحقائق كلها لكي
تنقلها إلى النخبة الموهوبة التي تستلم منها
ما دوَّنته في كتب الحكمة السرَّانية. وتشاهد
الحكمة المادة في أثناء تطورها وبعد تشكلها
في الأنواع. ولا تحتاج الحكمة، أو المعرفة
الروحية الموصوفة بالغنوص gnosis أو بالعرفان،
إلى واسطة أو أدوات أو تقنية. فهي لا تحتاج إلى
تلسكوب أو ميكروسكوب لأنها ترى كل الحقائق
التي ينطوي عليها الوجود في جوهرها وفي
ظاهراتها. إذن فعلمها هو معرفتها بحقيقتها
وحقيقة الوجود. وعندئذٍ، لا تستغل الحكمة
الطاقة المادية لأن الطاقة المادية كلها
قائمة فيها. فهي لا تستخدم الطائرة للانتقال
لأنها قادرة على أن تكون في كل مكان؛ ولا
تستخدم الميكروسكوب لرؤية الجراثيم لأنها
قادرة على رؤية هذه الجراثيم وهي تقوم
بوظيفتها. يمكننا الآن أن
نسأل: أين تكمن المشكلة؟ تكمن المشكلة في
الثنائية: ثنائية العقل والمادة – تلك
الثنائية الغائبة عن عالم الحكمة والروح.
إذن، فالثنائية التي كرَّسها أرسطو وديكارت
وغيرهما أدت إلى فصل العقل عن الوجود، عن
المادة وعن الكون... تلكم هي تعاسة العقل
وشقاؤه! عندئذ، أقام العقل جسوراً بينه وبين
العالم الأرضي والكون الواسع؛ وتمثلت تلك
الجسور بالأدوات والآلات والأجهزة التي
استخدمها ليرى، ليجرب، ليستنتج... ودُعِيَت
هذه الأجهزة "تقنية". تفاقم الخطر بوجود
التقنية عامة والتقنية المطوَّرة خاصة، فبلغ
العالم حافة الانهيار والنهاية... ثمة حقيقة يدركها
علماء، يزداد عددهم يوماً بعد يوم، هي أن
الأداة المستخدمة، أي التقنية، ليست أداة صلة
فحسب. ففي الماضي، أي في بدء التجربة العلمية
حتى الربع الأول من القرن العشرين، اعتقد
العلماء أن تفكير العقل يختلف عن النتائج
التي يحصل عليها من خلال دراسته للمادة، أي
للموضوع. فلا علاقة للعقل مع المادة أو
الموضوع، والأشياء تسلك سبيلها بمعزل عن
العقل، أو بمعزل عن تأثر العقل بها. والأداة
المستعملة لا تتدخل في الأمر من قريب أو من
بعيد: إنها واسطة للبحث وللدراسة ليس إلا.
ولكن الحقيقة بدت على نقيض ما ظنه علماء
القرون الثلاثة الأخيرة. فقد تبيَّن أن ثمة
علاقة قائمة بين الإنسان وأداة اختباره
وتجربته، من ناحية، وبين الموضوع المختبَر،
من ناحية ثانية؛ وأعني أن العلاقة قائمة بين
المراقِب وأداة المراقبة والموضوع المراقَب.
فما هو معلوم موجود في العالِم؛ ولا يعرف
الإنسان إلا ما هو فيه. وإن كانت معرفة
الإنسان حصيلة معرفته أو وعيه أو علمه بما
يحيط به من أشياء وموضوعات فإن العلم القائم
في الأشياء هو العلم القائم في الإنسان. نتساءل هنا من
جديد: أين تكمن الخطورة؟ تكمن الخطورة في
مرحلة حدوث التجربة، إذ يكون العقل منفصلاً
عن موضوعه. إن انفصال العقل عن موضوعه،
وتعاليه عليه، واختلافه عنه، يشير إلى سوء
العاقبة. وفي هذه الحالة، يقف العقل من المادة
موقف العداء. وإذا سيطر العقل على المادة،
وانفعل بإزائها، واستغلَّها، تمثلت النتيجة
في كارثة تقع للبشرية. فالثنائية، إذن، تجعل
العقل عدواً للمادة، وذلك إن كان العقل يمايز
ذاته عن المادة. وفي التجربة، يرسل العقل
عداءه هذا، انفصاله هذا، انفعاله واستغلاله
هذا، وسيطرته هذه إلى المادة، فيفجرَّها
ويحول دون توافقها مع جوهر الإنسان. لا يتحقق هذا
التوافق إلا في الحكمة التي تبني جسور المحبة
مع المادة وتشاهد ما تقوم به من عمل فتدركه.
ففي الحكمة ينشأ الانسجام بين الإنسان
والمادة، بين العقل والموضوع، ويبطل العداء
بينهما. وفي الفلسفة والعلم يحدث انقسام بين
العقل والموضوع، يتجلَّى على هيئة عداء وفصام.
فإذا قامت التجربة في الوضع الذي يكون العقل
منفصلاً فيه عن المادة، كانت النتيجة كارثة
تتمثل، في أدناها، بانفجار المادة. (انشطار
الذرة ناتج عن فعل عقلي عدائي لا غير، هو عقل
تقني.) وبالإضافة إلى ما ذكرنا نقول: إن العقل
يثير المادة ضد المادة، والجزء ضد الجزء، من
خلال التقنية القاسية والأداة المستخدمة.
وهكذا، يحرِّض العقل العداء بين الذرات
والجزيئات التي تدمر بعضها بعضاً أو تحرض
بعضها بعضاً، الأمر الذي يؤدي إلى وقوع
الكارثة. يتجه نداؤنا،
ونحن نرسم هذه الصورة، إلى علماء الفيزياء
الإنسانيين ليعيدوا الانسجام المفقود بين
العلم والحكمة. والحق يقال، إن أولئك العلماء
يعتقدون أن أي تفجير للمادة، أو أي انحراف في
مسارها الطبيعي، أو أي تدمير للمادة من قبل
المادة، أو أي تدخل للمادة في المادة، أو
تداخل للعقل التقني العدائي مع المادة، ناتج
عن تدخل العقل المنفعل. فكلما زادت التقنية
القاسية تفاقمت الكارثة. لذا تكمن الفاجعة في
العقل المتطور بتقنيته، الذي يزداد عداؤه
بزيادة انفعاله. هكذا نفهم أن
مصير العالم يتوقف على توافق الحكمة والعلم.
لذا تشير سيطرة العقل التقني إلى كارثة كبرى،
كما يشير انفصاله عن المادة والروح معاً إلى
تعاظم هذه الكارثة. ولما كان هذا الانفصال أو
العداء يزداد بزيادة التقنية المنحرفة فإن
الكارثة تتفاقم بزيادة هذه التقنية. ألم تكن كارثة
أطلنطس (التي يحدِّثنا عنها أفلاطون وكتب
الحكمة السرَّانية) عاقبة تقنية متطورة،
استغلَّها المستفيدون المستغِلون شر
استغلال؟! الأدوار
تقتضي دراسة
الأدوار طرح قضية كوسموغونية (تتعلق بأصل
العالم ونشأته) تتعيَّن في سؤالنا: هل لعالمنا
بداية ونهاية؟ وهل هو منتهٍ أم لامنتهٍ؟*
هل هو عالم نألفه في صداقة وودٍّ، أم هو عالم
نجد فيه العداء؟ تجيب الدراسات
السرَّانية المعمقة عن سؤالنا بما يلي: يعرف
كوكبنا البداية والنهاية ضمن أزلية لا تنتهي.
فإذا كان تجمع الطاقة الكونية يشير، كما قال
كل من كوزيرف وهويلر، إلى بدء الزمان
والمكان، يكون كوكبنا قد عرف البداية عند
اللحظة التي تجمعت فيها طاقة كونية، وسيعرف
النهاية عند اللحظة التي سيعود ذلك التجمع
للطاقة، الذي نسميه المادة، إلى ما كان عليه
من طاقة وخلاء. وعندئذٍ، لا يُدرَك الزمان ولا
يُدرَك المكان بحسب معاييرنا الأرضية. تجمعت الطاقة
فكان السديم، الكلمة الأولى Logos، وكان الزمان
والمكان. وفي هذا السديم–الكلمة وُجِدَ كلُّ
ما سيتجلَّى في حياتنا الأرضية، وكل ما
سينبثق إلى الظهور في كواكب أخرى، من شكل وفكر
ووعي وإبداع. من الكلمة–السديم نشأ كل شيء
وتشكل. وكانت المادة الأرضية آخر مرحلة من
مراحل تجمُّع الطاقة. وهكذا تكون المادة طاقة
تكاثفت. تشرح الدراسات
السرَّانية المعمقة وبعض الدراسات العلمية
الحديثة المرحلة الوجودية التي يستغرقها
كوكب بين تجمع الطاقة ليصير زماناً ومكاناً،
وبين عودة ذلك التجمع إلى كيانه الأول في
الطاقة اللازمانية–اللامكانية. ولا شك أن
بداية تجمع الطاقة الكونية ضمن رتبة اهتزاز
معينة، يُرمَز إليها بـ"ألِف" الوجود Α، وأن
نهاية تجمع الطاقة يُرمَز إليها بـ"ياء"
الوجود Ω.
وفي نهاية تجمع الطاقة، يعود الكل إلى ما كان
عليه قبل التجمع، ليتشكل من جديد في عَوْدٍ
أبدي... هكذا يبدأ الزمان والمكان وينتهيان
ضمن الأزلية. إذا بلغنا هذا
المستوى من البحث فلكي نطرح السؤال التالي: ما
هي ديمومة بداية وجود كوكب، أو نظام شمسي، أو
مجرَّة، ونهايتها؟ ولما كان الأمر مرتبطاً
بكوكبنا فإننا نتساءل: ما هي ديمومة بداية
وجود كوكبنا؟ وما هي نهاية ديمومته؟ يتمثل جوابنا في
التوضيح التالي: يتطور كوكبنا بين بدايته
ونهايته ضمن أزلية كونية في أدوار سبعة
تنقسم، بدورها، إلى أدوار سبعة تحتية تُعرَف
بالنظام السباعي. على هذا الأساس، يكون مجموع
أدوار الكواكب، منذ بدايته حتى نهايته، خمسين
دوراً، وأعني نهاية الأدوار التسعة
والأربعين الناتجة عن ضرب سبعة في سبعة. أما
زمان دوام كل دور فيقاس بعدة آلاف من آلاف
السنين. هكذا تبدأ الأدوار وتنتهي ضمن
الأزلية. جدير بالأهمية أن
نقول: إن كل دور ينغلق على ذاته في نهايته. أما
تصوُّر نهاية الدور الجزئي، أي التحتي، فيتم
بمعرفة أن نهاية كل دور إنما تتجسد بفاجعة أو
كارثة. ولقد أشارت كتب الحكمة القديمة، في
أصقاع العالم كله، إلى هذه النهاية–الفاجعة
بطوفان ينهي دوراً تحتياً سابقاً، فينتهي
القديم، ويأتي بدور تحتي جديد، فيبدأ الجديد.
وتشير بداية الدور الجديد إلى تجدد العتيق في
انبثاق جديد... وهو الخليقة الجديدة على
المستوى الكوني. جدير بالذكر أن الأدوار، في
نهايتها وبدايتها، متصلة وليست منفصلة،
تتابع اتصالها في عَوْد أبدي. ولقد كانت قارة
أطلنطس مثالاً واضحاً لنهاية الدور وانغلاقه. في سبيل وضوح
أمثل نقول: إن كل دور يبدأ بالحكمة، ليتراجع
إلى العقل–الثنائية، فالتعددية، فالعلم،
ليعود في النهاية إلى الحكمة، وذلك لكي يتحقق
في الياء ما كان كامناً أصلاً في الألف. وفي
دورته هذه، أو في تطوره الدائري هذا، ينغلق
الدور على ذاته، وتكون نهايته ماثلة في فاجعة
كونية، أو كوكبية، أو في تقنية بلغت حد
الخطورة. ولا شك أن
التقنية العظمى التي بلغتها قارة أطلنطس
ساقتها إلى نهايتها. لذا تمثلت نهاية قارة
أطلنطس بفاجعة بشرية، سبَّبها الإنسان
العلمي الذي اعتمد العقل التقني، كما سببها
الإنسان الأناني الذي استغل التقنية
المتطورة. كان علمُ سكان أطلنطس، المتطور
بتقنيَّته، سببَ ضياع ودمار؛ فقد أدى تنازل
سكان أطلنطس عن حكمتهم، وتعلقهم بتقنيتهم
العلمية المتزايدة، إلى الكارثة... فهل أن
دورنا سيؤول إلى ما آل إليه دور قارة أطلنطس –
المزيد من التقنية والمزيد من الدمار؟ وهل أن
هذا الدور سينتهي بفاجعة يُحدِثها الإنسان
الذي رغب في العلم كثيراً، وصقل عقله تقنياً،
وانغمس في انفعالات الأنا؟ تتمثل نهاية
الأدوار السبعة، التي تدوم عشرات مليارات
السنين، في اكتمال الوجود على الكوكب، وفي
عودة كل شيء، كل ما هو مادي، إلى ما كان عليه
قبل أن يتمدَّى – يصبح مادياً – ليتشكل من
جديد، في كوكب جديد وحياة جديدة. وفي كمال
الأدوار السبعة، أي في نهاية الأدوار، يتحقق
ملء الزمان، ويكتمل كل شيء، في دورات
متعاقبة، كما يكتمل الإنسان في دورات، أو
وجودات، أو حيوات عديدة، بحيث تعود المادة
إلى الطاقة... إلى الروح. هكذا نفهم بداية
الأكوان ونهايتها، بداية نجم كبير، أو نظام
شمسي، أو كوكب، ونهايته؛ كل شيء يعود إلى ما
كان عليه في الطاقة الكونية والوعي الكوني
قبل تمدِّيه، أي تكثُّفه إلى مادة... وهكذا
تكون النهاية ضمن أزلية–أبدية يستنفد فيها
كل شيء ممكناته، بما فيها مادَّته. وإذا تساءلنا عن
علة أو علل نهاية دور على الكرة الأرضية بهذه
الصورة التي نشاهد فيها رسوم الفاجعة
والكارثة، كونية كانت أم طبيعية أم بشرية،
فإننا نلوذ بالصمت لسببين:
هكذا نسأل: هل
قُدِّر على عالمنا – وهو أدنى العوالم – أن
يخضع لقانون قاسٍ، محكوم بقَدَرٍ صارم، أم أن
نقص فاعلية الإنسان هي القضية؟ والحق يقال: إن
الإنسان يخضع لهذا القَدَر المحتوم إن هو
أغفل الحكمة المتضمنة في وجوده. وما لم ينسجم
الإنسان مع الحكمة فلا بدَّ أن يخضع للتعددية
الناتجة عن عدم تحقيق مغزى وجوده ودوره في
الإبداع. في الحكمة وحدها يسمو الإنسان ويرقى
إلى مستويات وجوده العليا بفعل حرية هي
انعتاق دائم من سلسلة الحتميات الظاهرية. *** *
في نظامنا الشمسي تتتابع سلاسل
تطورية كوكبية سبعة، تتميز الواحدة منها عن
الأخرى. فقد ذكر كتاب العقيدة السرية
الذي وضعته هيلينا بلافاتسكي ما يلي: "من
نور واحد انبثقت سبعة أنوار، ومن كل نور من
هذه الأنوار السبعة، انبثقت سبعة أنوار
مضروبة في سبعة." وينعكس هذا الانبثاق
على السلاسل السبع المتتالية التي تعود
للدورات السبع، كل على حدة. فلكل دور فترات
نشاط في غضون مـَنـْفـَنـْتارا، ويصبح
كل واحد منها حقلاً لتطور الحياة. وأثناء كل
فترة من فترات النشاط، تتطور سبعة ذريات
إنسانية أصلية، بالإضافة إلى ست ممالك أخرى
غير إنسانية. وتشتمل هذه الممالك السبع على
أشكال تعود لكل مراحل التطور، وتجتاز هذه
المراحل المتطورة من دور إلى دور عندما
تنتهي فترة النشاط التي سبقتها. وتتبع هذه
الأشكال مجراها فتدور وتدور، تبدأ وتنتهي،
حتى تصل إلى نهاية الدورات السبع أو الـمـَنـْفـَنـْتارا.
ويكون هذا التطور عملية تقدمية مذهلة
تتتابع فيها مـَنـْفـَنـْتارا بعد مـَنـْفـَنـْتارا،
وذلك إلى أن يتم الوصول إلى نهاية تجسدات أو
عودات السلسلة الكوكبية الشاملة. وقد مضى
على عالمنا هذا مـَنـْفـَنـْتاران
اثنان أو دوران لا يعرف الناس سوى القليل
عنهما. أما الـمـَنـْفـَنـْتارا
الثالث أو الدور الثالث فالمعروف عنه أقل.
|
|
|