english arabic

اللاعنف: بديل فعَّال

 

جوناثان كُتَّاب*

 

فرضت أحداث 11 أيلول واقعاً جديداً يتطلب من السلطة الفلسطينية التخلِّي عن مظاهر المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي، بل وحتى مكافحة هذه المظاهر. وفي الواقع أن السلطة الوطنية الفلسطينية أعلنت موافقتها على وقف إطلاق النار من طرف واحد، وصرَّح الرئيس عرفات بأن الفلسطينيين لن يطلقوا النار حتى إذا أُطلِقَت النارُ عليهم. إضافة إلى ذلك، أعلن عدم شرعية الأجنحة العسكرية التابعة للفصائل كافة، كما أنه يحاول تطبيق تلك السياسة في وجه الاستفزازات الشديدة الوضوح من جانب إسرائيل، بما في ذلك سياسات الاغتيال واقتحام المناطق الفلسطينية. فإذا كان "وقف إطلاق النار" لم يُكتَب له الصمود، ليس مردُّ ذلك إلى تقصير في الجهود التي تبذلها السلطة الوطنية الفلسطينية في هذا الاتجاه.

فهل هذا الأمر يعني نهاية المقاومة للاحتلال، والإذعان للمحاولات المتواصلة لإخضاع الفلسطينيين، أم أن هناك سبيلاً آخر أمام شعب مضطهَد لمواصلة نضاله؟ في نظر أولئك الذين لا يفكرون إلا من منطلق النضال المسلح فإنه بلا شك مأزق مثير للإحباط: إما الرضوخ للضغوط وقبول الاحتلال، وإما مواصلة المقاومة المسلحة، التي قد تكون لها نتائج عكسية وضارة بالقضية.

مع ذلك، فإنه ينبغي عدم النظر إلى أن هذا الأمر يمثل مأزقاً حقيقياً للشعب الفلسطيني. ففي رأيي أن الطريق الآن مفتوح على اتساعه للشروع في حملة واسعة من المقاومة اللاعنفية للاحتلال. ومن الواضح بأن دروس الماضي، بما فيها دروس الانتفاضة الثانية، تشير إلى هذا الاتجاه.

الفلسطينيون، بدايةً، لم يكونوا قط – ومن غير المرجَّح أن يكونوا – أنداداً للإسرائيليين من حيث وحشية العنف وقوة النار. ففي حين أظهرت هذه الانتفاضة أنهم قادرون على إلحاق الخسائر بالجانب الآخر، وجعل الكثير من المستوطنات النائية غير آمنة، إلا أنه لا أمل لهم في إمكانية إيقاع الهزيمة بالمحتل الإسرائيلي في مجابهة عسكرية مفتوحة، سواء وحدهم أو حتى بدعم من الجيوش العربية. بل على العكس من ذلك، فإن الحرب المفتوحة تسوِّغ لإسرائيل استخدام العُدَّة الكاملة لقوَّته العسكرية، كما أنها توحِّد الرأي العام الإسرائيلي خلف المستوطنين والجناح اليميني. وهي أيضاً تضع الفلسطينيين في مأزق لا مخرج منه، بما أنهم كلما أوقعوا المزيد من الإصابات بين الإسرائيليين ضَعُفَ احتمالُ ازدهار قضيَّتهم على الصعيد الدولي، وتالياً، قَلَّ الضغط على إسرائيل للتسليم بالمطالب العادلة للشعب الفلسطيني.

وعلى النقيض من ذلك، فإن الأساليب الفلسطينية غير المسلَّحة التي اتُّبِعَتْ إبان الانتفاضة الأولى قد حيَّدت تفوُّق الجيش الإسرائيلي تحييداً فعالاً وشطرت الرأي العام الإسرائيلي شطرين. وتلك الأساليب ولَّدت أيضاً ضغطاً دولياً فعلياً لصالح القضية الفلسطينية، وساهمت في قلب الصور النمطية البغيضة عن الفلسطينيين.

والأهم من ذلك أن استخدام الأساليب اللاعنفية أتاح لجميع قطاعات المجتمع الفلسطيني المشاركة في المقاومة بحيث لم تعد حكراً على ثلة من المسلَّحين، مما أطلق الطاقات الخلاقة للشعب في نضال رائع، موحِّد للصفوف، ورافِع للمعنويات، ومليء بالأمل والفرص. ومن غير شك، فقد وقعت إصابات عديدة والكثير من المعاناة، ولم ينتهِ الاحتلال؛ بيد أن الانتفاضة الحالية التي قدمت الكثير من الشهداء والكثير من المعاناة لم تُنْهِه هي الأخرى. ولكن الفرق هو في أن الكفاح اللاعنفي أبرز عدالة قضيتنا، التي تعتمد على المبادئ الأخلاقية، والتضامن الدولي، والشرعية الدولية، وليس على القوة الفظة والتفوُّق العسكري الكاسح. وعليه فإن الإصرار على حصر النضال في المجال العسكري هو خيار أحمق من وجهين: فهو، من ناحية، يجرِّدنا من أفضليَّاتنا الطبيعية، ومن ناحية أخرى، يُبقي النزاع في ميدان العنف العسكري، حيث يتمتع أعداؤنا بتفوُّق ساحق.

لماذا، إذن، لا تجنح القيادة الفلسطينية إلى النضال اللاعنفي؟ أعتقد أن لهذا عدة أسباب:

أولاً، في حين أننا، كشعب، غالباً ما استعملنا المقاومة والأساليب اللاعنفية، إلا أن لغة اللاعنف وفلسفته بقيا مجهولين إلى حدٍّ كبير في مجتمعاتنا وخطابنا السياسي. وعلى الرغم من أن معظم نضالنا ضد الاحتلال كان سياسياً، فقد تم استخدام أساليب لاعنفية من نحو الإضرابات، والمظاهرات، والمطالبة بحقوق الإنسان، واللاتعاون، والمقاطعات، والإصرار على الرموز الوطنية، والمقاومة غير المسلحة لمصادرة الأراضي. حتى رمي الحجارة، على كونه مؤذياً بالإمكان، وبالتالي عنيفاً، استُخدِمَ على الأغلب كشكل من أشكل التحدي ورفض الاحتلال، وليس كسلاح جدي. لاحِظْ، مثلاً، كيف استخدمه إدوارد سعيد في جنوب لبنان. ومع ذلك فإننا لم نسعَ قط إلى تعريف هذه الأساليب بدقة على أنها أساليب مقاومة لاعنفية.

على النقيض من ذلك، أعلينا من شأن لغة "البارودة"، وألَّهناها، وجعلناها تحتل منزلة المركز من ثقافتنا السياسية، رغم أن الأغلبية الساحقة من الشعب الفلسطيني لم تلمس سلاحاً قط. وكان من شأن وجود السلطة الوطنية الفلسطينية، بتجربتها في لبنان وبنيانها المحاكي لأي نظام عربي تقليدي، أن غالى في تعظيم هذا الاتجاه وأوحى بحماقة أن لدينا الآن في الواقع قوة عسكرية وخياراً عسكرياً.

إضافة إلى ذلك، فإن هناك سوء فهم لكيفية عمل اللاعنف. إن المقاومة اللاعنفية لا تضمن بأن الجانب الآخر سيمتنع عن اللجوء إلى العنف، أو أنه لن تكون هناك إصابات. إنها ببساطة توجِد أنموذجاً جديداً، وتستعمل "مصارعة يابانية معنوية" لإعاقة العدو وجعل قوته العسكرية المتفوقة تنقلب ضده عندما يعامِل بوحشية خصماً لا يستخدم العنف.

وبرأيي أن العقبة الرئيسية التي تحول دون الفلسطينيين وتبنِّي استراتيجية لاعنفية على نطاق واسع هو الخلط الشعبي بين اللاعنف، من ناحية، والسلبية والجبن والرضوخ للظلم، من ناحية ثانية. وفي الواقع أن اللاعنف يتطلب شجاعة أكبر، وانضباطاً وتدريباً وتضحية أكثر، ويمكن أن يكون أكثر نضالية واستفزازاً. لذا فإن السلطة الفلسطينية، بينما تستجيب للواقع الجديد بتعليقها مظاهر المقاومة المسلحة المشروعة أو مكافحتها، تُحسِن صنعاً إذا نظرت جدياً في خيار المقاومة اللاعنفية. وإذا لم تفعل، فعندئذٍ يمكن لابن الشارع الفلسطيني اعتبار النضال اللاعنفي البديل الوحيد القابل للنجاح، بحكم أن الرضوخ للاحتلال القائم ليس خياراً قطعاً.

*** *** ***


* جوناثان كتَّاب محامٍ فلسطيني مقره القدس.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود