الأصولية الدينية:

النزاع والحل

 

ألدو فيسالبرغي*

 

للمنازعات بين المجموعات أو الجماعات البشرية جذور شديدة الاختلاف، منها ما هو تاريخي، ومنها ما هو ناجم عن الأوضاع القائمة. إلا أنها لا تصل إلى المستويات المأساوية والدموية إلا عندما تتفاعل عدة عوامل متضافرة على إحداثها.

وفي جلِّ الأحايين يكون أحد العوامل هو التعصُّب الديني. والعوامل الأخرى البارزة هي المركزية الأقوامية ethnocentricity، والتحامل العنصري، والمطامع في الأرض ولاءً للأمة، والصراع الاجتماعي الطبقي، والاستقطاب الإيديولوجي. على أنه من النادر جداً أن نرى، في التاريخ كلِّه وفي العالم المعاصر، أمثلة على المنازعات البطاشة والضارية بين الجماعات الكبيرة من الناس لا يعمل فيها العامل الديني بقوة. والبوسنة والشرق الأوسط والجزائر وأفغانستان والباكستان والهند وأيرلندا الشمالية وشري لانكا هي من أوضح الأمثلة. وعلينا أن نلاحظ أن النزاع في شري لانكا هو بين التاميليين الهندوس والأكثرية البوذية، على الرغم من أن البوذيين يحجمون في العادة عن العنف.

وإذا كانت العبارات الآنفة صحيحة (كما أعتقد جازماً) علينا أن نسأل كيف كان بالإمكان أن يؤدي الدين مثل هذا الدور التدميري في التفاعلات الإنسانية. وفي العادة نجد أن الأديان تعظ بالسلام والتفاهم والأمل في مستقبل سعيد لكل الناس – وعادة لكل "المؤمنين الحقيقيين". فماذا عن "الآخرين"؟

لم يكن مفهوم "التسامح" في عصري التنوير والمذهب الإنساني Humanism يتضمن المساواة الحقيقية، بل مجرد النصح بمسامحة الناس الذين يعتنقون أدياناً مختلفة عن الديانة السائدة وعدم اضطهادهم. أما الذين لا يعتنقون أية ديانة (الملاحدة) فلم تجرِ العادة بـ"مسامحتهم" على الأغلب. ومع ذلك، كان هذا الأمر – ولا ريب – إنجازاً مهماً، ولكنه بعيد عن أن يمثل نظاماً عاماً للتفاهم. فمن شأن هذا النظام العام أن يتضمن الاعتراف بالعقائد الدينية المختلفة عن عقيدتنا، وحتى بالناس الذين لا يؤمنون بأية ديانة خاصة، بل بنظام عام أخلاقي فقط.

وفي بعض المجالات الثقافية، كالصين وبصورة خاصة في اليابان، تطور الجمع بين المعتقدات المتباينة إلى حد كبير. ففي اليابان، مثلاً، يستطيع المرء أن يكون شنتوياً Shintoist وبوذياً في آن واحد. ولكن حتى في اليابان، في ماضٍ قريب، ارتقت الشنتوية إلى منزلة ديانة الدولة وجرى قمع البوذية واضطهادها. ولدينا في العالم عدة أمثلة على الجمع بين المعتقدات، كالجمع في البرازيل بين المسيحية وعقائد تعدُّد الآلهة الأفريقية القديمة. ولكننا عموماً نجد أن فورات النزاع ترتبط بأديان التوحيد التي فيها، بوصفها الأديان الإبراهيمية religions of Abraham، أمور مشتركة كثيرة، وهي اليهودية والمسيحية والإسلام. وأشد أنواع العداء بغضاً هو حالياً عداء اليهودية للإسلام – وهما ديانتان تفرقهما بعض الاختلافات الأسطورية والطقسية، ولكنهما تمتلكان محوراً مشتركاً للمعتقدات واسعاً ووطيداً. ولا يمكن أن يفسًّر ذلك إلا بأن الناس يميلون إلى الارتباط الانفعالي بالأبعاد الطقسية للدين أكثر من الارتباط ببُناه العقلية.

الدين بوصفه الحاجة العفوية للإنسانية

لكي نفهم كل ذلك أعتقد أن علينا أن نتعمق في تحليل الأسُس الأنثروبولوجية للدين. فبغير ذلك يصعب أن نرى كيف يمكن للتربية أن تتغلب على البروز المحتمل، والمأساوي في الكثير من الأحيان، للمنازعات بين الولاءات الدينية المتباينة.

ترينا أدلة الباليونتولوجيا أن الدين، على ما يبدو، حاجة عفوية عند الإنسان – على الأقل عند الإنسان العاقل Homo sapiens. وليس من الصعب فهم هذا الشرح، حتى من وجهة نظر طبيعانية، في التطور البشري. والعامل المعوَّل عليه في بقاء الإنسان يكمن في قدرته على الاستباق التخيلي لعواقب سلوكه. والمميزات الرئيسية الأخرى التي تزيد من هذه القيمة هي القدرة على التعلم من خلال النشاطات الاستطلاعية اللاعبة، غير المفيدة مباشرة في الممارسة، بالإضافة إلى المواقف القوية المشايعة للمجتمع، والروابط العائلية الناجعة. لذلك فإن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي

1.    يقلق حيال مجهولية المستقبل،

2.    ويدرك أنه سيموت،

3.    ويتألم لوفاة أبويه وأقاربه،

4.    ويميل لأن يتصور عبر الخيال شيئاً عن استمرار الحياة بعد الموت، وكذلك

5.    يجد الراحة، وحتى الرضى، في التفاعل المعقَّد للشعائر (وتدخل ضمن الشعائر الولائم الجنائزية) والقَصَص والسِّيَر البطولية التي تصاحب المراسم المرتبطة بالوفاة.

على أن الحياة – وليس الموت وحده – هي كذلك دافع مهم إلى المعتقدات الدينية لأن

6.    الإنسان، بوصفه كائناً اجتماعياً، يُبدي شعوراً بالمسؤولية نحو الكائنات الأخرى ويحتاج إلى ضوابط من سلطة مثيلة للسلطة الأبوية.

والبشر، بوصفهم ينتمون إلى الإنسان صانع الأداة Homo faber،

7.    قد أنشؤوا تصورات تبدو ضرورية لهم عن علاقات العلة بالمعلول وعن العلة العليا للطبيعة الشخصية والكونية على السواء.

والأديان، حتى الأديان الأرواحية،[1] تقدم التلبية لكلِّ الحاجات المختلفة المرتبة أعلاه، أو جلَّها. وهي كثيراً ما تَعِدُ المؤمنين بتحقيق آمالهم وهزيمة أعدائهم. والنتيجة اللاحقة لهذه الخاصية الأخيرة – وهي بالتأكيد ليست أساسية في الدين – إنما تكمن في مماهاة الأعداء بـ"غير المؤمنين" (الكَفَرَة). وهكذا يصبح الدين عاملاً بارزاً في حب الحرب؛ وكثيراً ما كان سلوكاً لجماعة بشرية قوامه البطش والتدمير.

نحو "إيمان مشترك" للإنسانية؟

كيف يمكن للتربية أن تمنع هذا الانحراف في الأديان؟ وهل يمكن أن تقوم بذلك من دون أن تُنكِر أية قيمة دينية حقيقية؟ أعتقد أن ذلك ممكن، ومن ثم واجب على كل الناس المرتبطين بالنشاطات التربوية، وعلى رأسهم المعلمون والأساتذة. ولكنه ليس بمهمة سهلة. وأنا أشير إلى الحاجات الإنسانية الطبيعية السبع المجملة آنفاً على نحو بالغ الإيجاز. فلكي نجعل الطلاب يدركون هذه الحاجات تمام الإدراك علينا أن ننشئ مواد بحث مختلفة في إطار مقاربة متعددة المناهج multidisciplinary ومتداخلة بشكل واسع، لعلنا نستجلب الاهتمامات من خلال البحث والعمل الجماعي على حلِّ المشكلات.

وسيكون للتاريخ (ولا سيما تاريخ الأديان)، والجغرافيا، والمفهومات المدنية والسياسية، والتاريخ الطبيعي، ونظرية التطور، والأنثروبولوجيا، والفلسفة، وحتى علم الفلك والكوسمولوجيا، مكانها في هذا المسعى. إلا أن بعض الأسر والجماعات الدينية في المجتمع هي ضد هذه التعاليم. والأصوليون من ذوي المواقف المتشابهة موجودون بين اليهود والمسلمين، وكذلك بين المسيحيين. وحتى في المدارس الدينية، القرآنية والعبرية على السواء، كثيراً ما تسود الطائفية الضيقة. وأكثر الإرهابيين تعصباً يأتون من هذه المدارس.

وعلى أية حال، فإن الاتجاه الجديد لانحراف الأديان لا يمثل التيار السائد للحياة الدينية على نطاق العالم. فعلى العكس، ولا سيما في السنوات القليلة الأخيرة، رأينا سلسلة من المبادرات الرسمية، إلى هذا الحدِّ أو ذلك، متجهة نحو القبول المشترك، وحتى التعاون بين مختلف الأديان. وأحياناً لا يشمل هذا الأمر إلا الطوائف المسيحية؛ وأحياناً يشمل كل "الأديان الإبراهيمية"؛ وحديثاً أخذ يتضمن في واقع الأمر كل أديان العالم، ومنها البوذية. فقد نشر اللاهوتي هانس كونغ[2] كتاباً عنوانه نحو أخلاق عالمية: إعلان أولي حول القواعد الأخلاقية المشتركة التي وافق عليها في اتفاقية 1993 الممثلون غير الرسميين لزهاء مئة ديانة مختلفة. وفي تاريخ أحدث، في اتفاقيتي أسيزي وروما، وافق الممثلون الرسميون للأديان العالمية الرئيسية على مجموعة من القيم المشتركة. وفي كانون الأول 1995 التأم اجتماع عدة آلاف من المؤمنين وغير المؤمنين في كاتدرائية سان جيوفاني في لاتِرانو (أقدم كاتدرائية في روما) لمقابلة آرائهم على مسألة السلام العالمي.

وما دامت هذه العمليات من الحوار بين المعتقدات مستمرة في الظهور فسيكون للتربية الرسمية دورٌ متشعِّب ناجح في حلِّ المنازعات بين الأديان، وفي تأكيد حقها في التعدد، ضمن سياق لا يقتصر على التسامح، بل يشتمل كذلك على التفاهم والتقدير المتبادل. وسوف يعني هذا الأمر كذلك أن روح العلمنة والعلمانية لن تعود إلى النزاع مع الدين، وأن "الإيمان المشترك"، كما اقترحه جون ديووي،[3] الفيلسوف والمربي الأمريكي، وكما اقترحه بعد فترة قليلة الكاتب الإنجليزي ألدوس هكسلي، بتعبير لايبنتس، هو أن "الفلسفة التي تدوم أكثر من سنتين سوف تنتشر أكثر فأكثر"[4].

ولا ريب أنه من الصعوبة بمكان العمل على إنجاح "الإيمان المشترك" للبشرية – ومقدمته المنطقية كبيرة – ونشر هذا النمط من المعرفة عالية التخصص والمواقف المترتبة عليه للأذهان المنفتحة والإخاء الإنساني بين الناس. إنها مهمة عسيرة، ولكنها ليست يوتوبية. ويرتكز إيماني الشخصي على الإمكانية التي لدينا لإنجازها.

*** *** ***

ترجمة: محمود منقذ الهاشمي

* البروفيسور ألدو فيسالبرغي Aldo Visalberghi هو أستاذ التربية وعلم الاجتماع في جامعة سابيينزا في روما؛ وقد قام بالتدريس كذلك في جامعتي تورينو وميلانو منذ سنة 1942. وهو مؤلف عدة كتب ومقالات في فلسفة التربية؛ وكان أحد المدافعين عن التربية التجريبية في "المركز الأوروبي للتربية" الذي كان مديراً له سنوات كثيرة. كان منسِّق برنامج دكتوراه بين عدة جامعات، وهو الآن مدير هذا البرنامج. وهو رئيس تحرير مجلة المدرسة والمدنية، وهي من أهم المجلات التربوية في إيطاليا. وقد عمل في إيطاليا على إنجاح ترجمة أعمال جون ديووي ودراستها. (المترجم)

[1] الأرواحية Animism هي الاعتقاد بأن الأشياء المادية والبيئة الفيزيائية مفعمة بنوع من الروح. وقد قدَّم المصطلح العالم الأنثروبولوجي إ. ب. تايلور E.B. Tylor ليطلقه على ما رأى أنه أقدم مرحلة في تطور الدين. وهي شائعة بين الشعوب البدائية. أما النظريات الفلسفية القائلة بأن كل مادة تحتوي على عنصر نفساني فيلائمها أكثر مصطلح "العمومية النفسانية" Panpsychism. (م)

[2] هانس كونغ Hans Küng: لاهوتي من الروم الكاثوليك وُلد في سورسي بسويسرا سنة 1928. وهو منذ 1960 أستاذ "علم الدفاع العقلي عن المسيحية". في 1962 عيَّنه البابا مستشاراً لاهوتياً رسمياً. وفي 1963 صار أستاذ اللاهوت العقيدي والمسكوني ومديراً لمعهد البحث المسكوني. ومنذ 1980، بعد أن استقل عن الكلية، واصل عمله أستاذاً للاهوت المسكوني ومديراً لهذا المعهد. وقد أثارت بعض دراساته جدلاً طويلاً في كل أنحاء العالم. من هذه الدراسات "هل يوجد الله؟" و"الحياة الأبدية" و"الأديان العالمية والروح العالمية" – والأخيرة مقالة مهمة نشرت بالعربية ضمن كتاب الإسلام وعالمية حقوق الإنسان، بترجمة واختيار محمود منقذ الهاشمي، مركز الإنماء الحضاري، حلب، 1995. (م)

[3] جون ديووي John Dewey (18591952): فيلسوف ومربٍّ أميركي. ولد في بورلنغتون، ودَرَسَ في جامعتي فيرمونت وجونز هوبكنز، ودَرَّسَ في ميتشيغان (1884) وشيكاغو (1894)، وأصبح أستاذاً للفلسفة في جامعة كولومبيا سنة 1904، وكان مدافعاً بارزاً عن الذرائعية Pragmatism. وفلسفته في التربية، التي تشدِّد على تطور الشخص وفهم البيئة والتعلم من خلال التجربة، كانت مؤثرة إلى حدٍّ كبير. من كتبه الفلسفية البحث عن اليقين (1929)، ومن كتبه التربوية الطفل ومنهج التعليم (1902). (م)

[4] كان دايساكو إكيدا، رئيس منظمة سوكا غاكاي Sokka Gakkai العالمية، على ما ذكر في محاضرة له، عميق الإعجاب بفكرة ديووي.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود