|
العائلات
المسيحية الدمشقية
(تابع)
سمير
عنحوري
قرأت
منذ أسابيع، باهتمام كبير، كتاب أعيان
المدن والقومية العربية، سياسة دمشق1860-1920
للسيد فيليب خوري الذي ترجمه عن الإنكليزية
السيد عفيف الرزاز وصَدَرَ عن مؤسسة الأبحاث
العربية.[1] لقد جاءت في هذا الكتاب مواضيع
هامة حول تاريخ أعيان ووجهاء دمشق، خلال
النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع
القرن العشرين، والدور الهام الذي لعبه هؤلاء
الأعيان، وخاصة المسلمون منهم، في إطار
السياسة المحلية للحكم العثماني، ثم خلال
الفترة الوجيزة التي تَلَتْها، وهي الحكم
العربي الفيصلي في سورية. لقد تطرق المؤلف في بحثه هذا
بشكل أكثر من موجز (ص 80-81 فقط في الترجمة
العربية) لموقع الأقلِّيات الدينية في هذا
العهد والدور الذي لعبه أعيان تلك الأقليات
في الإدارة المحلية لمدينة دمشق، ولو بشكل
محدود، نظراً للتركيبة الاجتماعية والدينية
والسياسية السائدة في ذلك العصر. وسأعود إلى
ذكر هذا الكتاب في آخر المقال. إن الإصلاحات، أو ما يسمى
بالتنظيمات التي قام بها السلطان العثماني
عام 1839، لتحسين حال الرعايا في الإمبراطورية،
ومن أهمها وضع جميع هؤلاء على قدم المساواة في
عرف القانون بصرف النظر عن عقائدهم أو
قوميَّاتهم, أوجدت واقعاً سياسياً
واجتماعياً جديداً يختلف جذرياً عن الأوضاع
التقليدية التي كانت سائدة حتى ذلك التاريخ
التي يعترف بها الشعب قاطبة، على اختلاف
قومياته وأديانه ومعتقداته. لم يتم هذا التطور السياسي
والاجتماعي دون عوائق وصراعات عنيفة، بلغت
ذروتها في حوادث عام 1860 التي ذهب ضحيتها آلاف
المسيحيين في دمشق وفي لبنان، وكان سببها
الأساسي رفض الأكثرية المسلمة لهذا الواقع
الجديد الذي ساوى بينهم وبين الأقلِّيات
الدينية الأخرى تجاه القانون والذي جعل بعض
أفراد هذه الأقلِّيات تزدهر وتثري من الأعمال
التجارية ويحظى بعضها الآخر بالجاه وبالسلطة
بسبب تمثيلهم المتزايد في الإدارة المحلية
وحصولهم على مقاعد في مجلس اللواء والمجلس
البلدي، إضافة إلى تعيين آخرين قضاة في
المحكمة التجارية ومحكمة الاستئناف ومحكمة
الأمور المستعجلة وتمثيلهم في مجالس التعليم
وضرائب الممتلكات وفي غرفتي التجارة
والزراعة. وهنا يمكن الاستنتاج بأن هذا
التطور الأساسي للأقلية المسيحية وما تبعه من
أحداث، وخاصة المأساوية منها عام 1860، كان
بمثابة صدمة عنيفة هزت المجتمع الدمشقي في
كافة نواحيه الاقتصادية والسياسية
والثقافية، بما يستحق المزيد من التركيز
والانتباه إلى ما خلَّفته هذه الصدمة من
نتائج هامة خلال أكثر من نصف قرن تلاها. أ. صدمة اقتصادية: سببت حوادث 1860 في دمشق خسارة
هائلة في الأرواح؛ إذ راح ضحيتها أكثر من
أربعة آلاف نسمة. أما بالنسبة للممتلكات، فقد
نُهِبَ وأُحرِقَ الحيُّ المسيحي بأكمله
تقريباً. وهناك صورتان فوتوغرافيتان نادرتان
التقطهما في العام 1862 المصور البريطاني
فرنسيس بدفورد[2]
تُظهِران مدى الخراب والدمار اللذين لحقا
بهذا الحي والذي بقي ظاهراً بوضوح حتى ذلك
التاريخ، أي بعد سنتين من وقوع الكارثة. وقد
قدَّر القنصل الفرنسي في دمشق آنذاك، السيد
أوتراي، حجم الخسائر المادية بحوالى مائة
وخمسين مليون غرشاً.[3] أما
صناعتا الغزل والنسيج اللتان كانتا مزدهرتين
في ذلك الوقت، وكان يعمل فيهما في دمشق ما
يقرب من 20000 شخص، فقد أصيبتا بالكساد؛ إذ كان
المسيحيون حصراً هم الذين يديرون كلتا
الصناعتين.[4] ومن جهة أخرى، فإن حوادث 1860
سبَّبت أيضاً حركة هجرة مكثفة لعدد كبير من
المسيحيين إلى بيروت والإسكندرية والقاهرة.
وكان هؤلاء المسيحيون، الذين ينتمي أكثرهم
إلى ما يسمى المسيحيين الشرقيين الملكيين، قد
التجؤوا إلى بلدان عربية تقطنها أيضاً
أقلِّيات مسيحية يغلب عليها المعتقد القبطي
في مصر والأرثوذكسي في بيروت. لقد كان أكثر هؤلاء المهاجرين
يمثلون يداً عاملة ثمينة في أعمال وصناعات
وحرف مختلفة يختص بها المسيحيون حصراً في
دمشق، كأعمال البناء ونحت الحجر والنجارة
والصياغة والخياطة إلخ. أما من حيث التعداد السكاني
لمسيحيي دمشق فقد هبط بشكل ملحوظ نتيجة أحداث
عام 1860 والهجرة التي تلتها إلى مصر ولبنان،
ولم يقارب من جديد أو يتجاوز التعداد السكاني
لعام 1842 إلا بعد مضي نصف قرن:
تعداد مسيحيي
دمشق على مختلف طوائفهم ومذاهبهم حسب
الإحصائيات العثمانية (انظر كتاب زهير غزال،
ص 45) ب. صدمة سياسية: لقد سمحت "التنظيمات"
العثمانية الصادرة عام 1839 لبعض الفئات
المسيحية المميزة أن تشارك مشاركة فعالة في
أكثر المجالات الإدارية والاقتصادية
والثقافية. ولكن حوادث 1860، إضافة لما سببته من
خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، كما جاء
ذكر ذلك سابقاً، فقد أفسحت المجال للتدخل
الأوروبي في الشؤون الداخلية للبلاد ولوضع
يده على مرافق اقتصادية هامة، مما فتح المجال
واسعاً، مع الأسف، إلى تدخل متزايد في الشؤون
السياسية فيما بعد، ظهرت نتائجُه بشكل واضح
وحاسم في مصير المنطقة بأكملها في بدايات
القرن العشرين. ج. صدمة ثقافية: كانت إحدى نتائج "التنظيمات"
السماح للأقلية المسيحية بإنشاء مدارس خاصة
للتعليم ونشر الثقافة العربية والأجنبية. وقد
ظهرت نتيجة لذلك طبقة مثقفة تتميز بمعرفتها
الممتازة للغة العربية الفصحى. كما أن تعلم
اللغات الأجنبية في معظم هذه المدارس سمح
لاحقاً بترجمة الكثير من المؤلفات الأدبية
الكلاسية من الفرنسية والإنكليزية إلى اللغة
العربية. وهنا أذكر أسماء بعض من هؤلاء
المثقفين الدمشقيين المسيحيين؛ ومنهم من كان
كاتباً أو شاعراً أو مؤرخاً أو أديباً أو
صحفياً أو مترجماً أو ضليعاً في اللاهوت:[5]
سليم بك العنحوري، الياس بك القدسي، سليم
الياس كساب، حبيب الزيات، نعمان القساطلي،
الدكتور ميخائيل مشاقة، فارس الخوري، الأب
يوسف حداد، الأب يوسف المخلة، الأرشمندريت
جبرائيل جبارة، الأب أنطون بولاد،
الأرشمندريت ألكسيوس كاتب، المطران
غريغوريوس بطرس هبرا، يوسف العيسى (مجلة ألف
باء)، سليم إبراهيم الترك (نشرة العلم)،
الياس خليل ترتر (نشرة النجاح)، ماري عبده
العجمي (نشرة العروس). وكان آخرون ممَّن هاجروا إلى
مصر وفرنسا والولايات المتحدة وأميركا
اللاتينية قد نشروا في أوطانهم الجديدة، وذلك
بالتعاون مع زملائهم المسيحيين هناك من أصل
لبناني أو سوري، عدداً من المجلات والنشرات
باللغة العربية. وبالعودة إلى كتاب السيد فيليب
خوري، حيث ذكر في هوامشه التابعة لفصل "موقع
الأقلِّيات" عدداً لا يستهان به من النخب
المسيحية التي كانت موجودة في دمشق في النصف
الثاني من القرن التاسع عشر، فإني لا أجد
بأساً من إيراد ذكرهم مجدداً هنا للذكرى
والمعرفة، وهم: في العام 1871 كان إسبر عجمي
وجبران نجري عضوين في المجلس الإداري للولاية.
وكان حنا شلهوب وأنطون سليم عضوين في مجلس
اللواء. وكان جرجي شلهوب قاضياً في محكمة
الاستئناف. وكان روفائيل شامية عضواً في
محكمة الأمور المستعجلة. وكان عبد الله شاكوش
وروفائيل عكراوي قاضيين في المحكمة التجارية. وفي العام 1884 كان خليل بك قدسي
عضواً في لجنة الأشغال العامة وعضواً في غرفة
الزراعة. وكان ابن عمه موسى عضواً في مكتب
ضرائب الأملاك. وكان إبراهيم عبسي وإسبر سبع
قاضيين في محكمة الاستئناف. وكان سليم شاوي
قاضياً في المحكمة التجارية. وفي العام 1892 كان مجلس إدارة
الولاية يضم سليم أيوب وجبران إسبر. وكان في
محكمة الاستئناف أربعة قضاة مسيحيون هم:
ميخائيل صيدح، سليم شاوي، نعمان أبو شعر
وجرجي شلهوب. كما ضمت محكمة الأمور المستعجلة
ملحم أبو حمد وروفائيل شامية. وفي العام 1884 كان سليم مشاقة
يعمل ترجماناً في السفارة البريطانية. وفي
الوقت نفسه كان ابن عمين له، هما عبد الله
وخليل قدسي، يعملان ترجمانين في سفارتي
هولندا وبلجيكا على التوالي. وفي العام 1890 كان ناصيف مشاقة،
ابن عم سليم، قنصلاً أمريكياً في دمشق. وكان
بشارة أصفر، أغنى رجل أعمال ومقرض للمال بين
كاثوليكيي دمشق، ترجماناً في السفارة
الألمانية. وكان يوسف سبع يعمل ترجماناً في
القنصلية الروسية. وكان خليل غناجة، وهو تاجر
مقرض للمال كاثوليكي ثري آخر، أحد تراجمة
القنصلية الفرنسية. كما أن عائلتي القدسي ودمشقية
جمعتا بين المنصب الإداري ورأس المال التجاري
في شراء عقارات واسعة. وكانت النتيجة أن انضمت
هاتان العائلتان في نهاية القرن التاسع عشر
إلى نادي العائلات الكبيرة المسلمة لكبار الملاك في دمشق. انتهى. وأضيف هنا اسم ميخائيل فضل الله
سيوفي، وهو أول مدير للبنك العثماني الذي
أنشأ في دمشق في أواخر القرن التاسع عشر. وهنا نجد أن هذه الطبقة المميزة
من الناس أخرجت الأقلية المسيحية من دورها
المتواضع التقليدي في المجتمع الدمشقي
لترفعها إلى دور أكثر فاعلية في كافة
المجالات، مستفيدة في ذلك من الظروف السياسية
العامة السائدة في ذلك الوقت في الإمبراطورية
العثمانية. إن القرن العشرين يمثل نقطة
تحول هامة في مجال التطور الاجتماعي
والاقتصادي للمسيحيين في سورية؛ إذ كان لا
بدَّ لأفراد النخبة المسيحية الدمشقية من
المشاركة من تأسيس دعائم الدولة العربية
الفتية في سورية وحشد جميع الطاقات الحية
لتلبية نداء الوطن، وذلك على كافة المستويات. ويجدر الذكر هنا بأن المسيحيين
ساهموا أيضاً في ذلك العصر، وذلك للمرة
الأولى في الحياة السياسية. فقد تم تعيين
بعضهم في مناصب وزارية أو كسفراء يمثلون
وطنهم بجدارة في العواصم الأجنبية. كما حظي
أيضاً السيد فارس الخوري، الشاعر والحقوقي
والسياسي المعروف محلياً ودولياً، بشرف
رئاسة مجلس النواب في دمشق، وهو أحد كبار
الرجال الدمشقيين الذين واكبوا الدولة
السورية الحديثة بنجاح منذ نشأتها وطوال نصف
قرن من الزمن. *** *** ***
[1]
Philip Khoury, Urban
Notables and Arab Nationalism, The Politics of Damascus: 1860-1890,
Cambridge Univ. Press, 1983. [2]
بدر الحاج، دمشق،
صور من الماضي: 1840-1918، نشرFolios Limited, London (الطبعة العربية عام 2001، صفحة 36). [3]
Zuhair Ghazal, L’économie politique de Damas durant le 19ème
siècle, I.F.E.A.D., Damas, 1993, p. 165. [4]
نعمان
القساطلي، الروضة الغناء في دمشق الفيحاء،
دار الرائد العربي، بيروت، ص 91-92، 121-123. [5]
الأب لويس
شيخو، طريق الآداب العربية: 1800- 1925، دار
المشرق، بيروت. |
|
|