|
صوت
الأرض:
استكشاف
الأنا الإيكولوجي
ثيودور
روجاك
الإيكولوجيا Ecology فرع علمي نشأ في أوائل القرن
العشرين، وموضوعه المنظومات الطبيعية
للأحياء. تبحث الإيكولوجيا في العلاقات
التبادلية بين الكائن الحي والبيئة environment المحيطة. لكن
المصطلح توسَّع كثيراً منذ أواسط
الثمانينات، وأصبحت دلالته تشمل الحركات
البيئية الجذرية التي ترى أن وقف التدهور
البيئي المتسارع لن يتم عبر الإجراءات
العلمية–التقنية وحسب، بل يستلزم تغييراً في
رؤية الإنسان للعالم. والمفكر
الأمريكي ثيودور روجاك منخرط في الجهود من
أجل بناء رؤية إيكولوجية للطبيعة والحياة،
تستدرك ما فات الثقافة الغربية الحديثة التي
باتت تسود العالم؛ وقد أصدر كتابين وعشرات
المقالات في هذا الإطار. وهو في المقالة التي
بين أيدينا يدعو إلى قيام علم نفس إيكولوجي،
ويقترح مبادئ له. معين
رومية
*** في العام 1901
ألقى تسغموند فرويد سلسلة شهيرة من المحاضرات
بعنوان علم النفس المرضي في الحياة اليومية،
كان غرضه منها تعريف الجمهور بعلم التحليل
النفسي الجديد الذي كان ما يزال في طور الغموض.
وقد باشر مهمته بطريقة ذكية، إذ استخدم
النكات والتوريات وزلات اللسان كي يبين أن
هذه الخبرات المألوفة تكشف عن الدوافع
الجنسية والعدوانية المقموعة في العقل
اللاواعي. واليوم
ربما كان على سلسلة شبيهة من المحاضرات أن
تمتح مادتها من التقارير عن ثقب الأوزون
والنفايات السامة وأثر البيت الزجاجي. فقد
صارت هذه المشكلات البيئية الشائعة موضوع علم
النفس المرضي لحياتنا اليومية نحن. إنها
تكشف عن الحالة التي لم يتسنَّ لفرويد أن يطلق
عليها اسماً. ففي الوقت الذي يستمر فيه الجنس
والعنف رابضين في أعماق العقل فإن الاضطراب
الناجم عما أدعوه "اللاوعي الإيكولوجي"
انبثق وظهر كاختلال أعمق. على هذا المستوى،
نحن نكتشف قمعاً يُثقِل على إحساسنا الفطري
بالوفاء نحو كوكب الأرض الذي ولد في كنفه
العقلُ وترعرع. وإذا كان الذُهان محاولةٌ
للعيش الزائف فإن ذُهاننا الراهن ناجمٌ عن
زيف الاعتقاد بأننا لسنا ملزَمين أخلاقياً
نحو بيتنا الكوكبي. منذ
أن نأى علم النفس بنفسه عن العلوم الطبية
تعلَّمنا درساً مرعباً فحواه أن الصحة
العقلية التي تجعلنا نتواشج في المجتمع ليست
بالضرورة الصحة العقلية التي تجعلنا نرتبط
برفق مع المخلوقات الأخرى التي نشترك وإياها
في كوكب الأرض. لكننا، إذا ما اتخذنا "وجهة
نظر" الطبيعة غير البشرية، فإن ما يجري على
أنه سلوك عاقل في شؤوننا الاجتماعية قد يبدو
جنوناً. ولكن بحسب ادِّعاء مبدأ الواقع
السائد فإن لا شيء يمكن أن يكون أكثر جنوناً
من الاعتقاد بأن للحيوان والنبات والجبال
والأنهار "وجهة نظر"! ونحن نرى أن الصحة
العقلية، شأنها في ذلك شأن الشرف والحشمة
والتعاطف، هي مقولة اجتماعية حصراً. إنها
خاصية من خواص العقل لا يصح أن تحكم عليها إلا
عقول أخرى. والعقول غير موجودة، على حدِّ ما
نظن، إلا في الرؤوس البشرية! هذه
مقالة في علم النفس الإيكولوجي Ecopsychology. وهي تتناول
البحث عن سلامة عقلية أكبر تبدأ حيث يقول
الكثيرون إن السلامة تنتهي: عند عتبة العالم
غير البشري. نشهد
هذه الأيام أن بادئة "إيكو" eco- تُلحَق بالعديد من الكلمات: "الفلسفة
الإيكولوجية"، "السياسة الإيكولوجية"،
"النسوية الإيكولوجية"، "الاستهلاك
الإيكولوجي"، وحتى "الإرهاب الإيكولوجي"!
والنتيجة ليست لطيفة دوماً، وإن تكن الإشارة
ذات مغزى كعلامة من علامات الساعة. فهذه
الراية الاصطلاحية الضئيلة باتت ترفرف على
لغتنا مثل إنذار بالعاصفة المقصود منه
الدلالة على اهتمامنا المتأخر بمصير كوكب
الأرض. وصِلتها المرتبكة بكلمات من مصادر
عديدة – السياسة، الاقتصاد، الفنون – تكشف
عن إدراكنا المتنامي لحجم جوانب حياتنا التي
سيتعين على اهتمامنا أن يحيط بها. يهدف
علم النفس الإيكولوجي إلى تجسير الهوة
التاريخية العتيقة بين النفساني
والإيكولوجي، بحيث يمكن النظر إلى حاجات
الشخص البشري وحاجات الكوكب الأرضي كمُتَّصل
واحد. وآمل أن أبيِّن، عبر معنى يحبك العلم
والطب النفسي والشعر والسياسة معاً، أن
التعبير عن الأولويات الإيكولوجية للكوكب
سوف يتم عبر أكثر جهادنا الروحي خصوصية. إن
صرخة الأرض وهي تستنجد من ثقل العقاب الذي
تلقيه على كاهلها المنظومةُ الصناعية التي
ابتدعناها هي أيضاً صرختنا نحن للوصول إلى
سوية ونوعية حياة تحرر كلاً منا وتفسح له
المجال لكي يكون الشخص التام الذي نعرف أننا
ولدنا لكي نكونه. في
سالف الزمن، كانت العلوم النفسية جميعاً
علوماً "إيكولوجية". وأولئك الذين
التمسوا إبراء النفس سلَّموا بأن الطبيعة
البشرية متجذِّرة عميقاً في العالم الذي
نتشارك وإياه مع الحيوان والنبات والجماد وكل
القوى غير المرئية للكوسموس. فكما أن كل طبابة
في الماضي كانت تُفهَم على أنها "كلانية"
holistic – شفاء للجسم والعقل
والنفس – بدون أن تكون في حاجة إلى التعريف
بها على هذا الأساس، كذلك كان كل علاج نفساني
يُفهَم ذات يوم عفوياً على أنه مرتبط
بالكوسموس. لكنها خاصية الطب النفسي في
المجتمع الغربي الحديث التي فصمت الحياة "الداخلية"
عن العالم "الخارجي" – كما لو أن ما هو
داخلنا ليس داخل العالم أيضاً، شيئاً
حقيقياً، يتبع منطقياً، ولا ينفصل عن دراستنا
للعالم الطبيعي. عُدْ،
مثلاً، إلى الرفيق الملازم لكل طبيب نفسي
حديث: الوجيز في التشخيص والإحصاء. إنه
يشتمل على قائمة مجتمعنا المعتمَدة لكل أنواع
العصاب المعترَف بها رسمياً، والمستعمَلة
لكل المقاصد الطبية والقانونية والتأمينية؛
فيه يجد المرء تسميات غرائبية من نحو "الاضطراب
الفصاماني الوجداني في شخصية نرجسية"، أو
"هجمة اضطراب النمو المتفشي الطفلية".
والتصنيفات في مجال الإدمان على العقاقير
نفيسة بصفة خاصة: "اضطراب الوجدان الإهلاسي"،
"الاضطراب الاستيهامي الإهلاسي"، "المهلِّس
الإهلاسي". إنما باستثناء "الكَلَف
الجنسي بالحيوان" لا يوجد مرض واحد من
أمراض النفس يربط الاختلال العقلي بالعالم
غير البشري الذي تتأسَّس عليه مسؤوليتُنا
البيئية. لقد
علَّم خيميائيو العالم القديم ما يلي: "كما
في الأعلى كذلك في الأدنى." تحتوي هذه
الكلمات القليلة على كوسمولوجيا كاملة. يرى
المنقول الخيميائي أن السماء من فوق والأرض
من تحت، بما فيها حمولتها من الأحياء، وحدة
كونية عظيمة، وتناغمٌ يتصادى في العقل الإلهي.
لقد أثبت العلم الحديث، بعد عدة قرون، ذلك
التعليم بطرق عديدة. فنحن أيضاً ندرك الآن
الوحدة في العالم، ونعلم أن قوام الكون
ومنطقه متسقان في كل مكان. فالأوليات الذرية
والمكوِّنات الكيميائية والقوانين والمبادئ
نفسها تمتد من الجوهر الخلوي لدمنا وعظمنا
حتى أبعد المجرَّات. ولقد تعلَّمنا أن كوكبنا
والحياة بأسرها على سطحه مصنوعة من العناصر
التي تصنَّعت في القلب الناري للنجوم الأولى.
وكما اعتقد الخيميائيون فإن الجوهر الأخسَّ
للعالم يمكن أن يتصيَّر إلى عناصر نفيسة؛ إذ
يمكن للهيدروجين الشائع أن يتحول إلى ذهب إذا
ما طُبِخَ في نواة نجمية في درجات حرارة تتعدى
بكثير كل ما كان يمكن لأفرانهم البدائية أن
تبلغه ولفترات أطول بدهور مما كان يمكن أن
يتخيلوه. فإذا
كان الخيميائيون على حق فنحن نفترض أن ذلك
عائد إلى نوع من الحدس. ونرى، تبعاً
لمقاييسنا، أن سطحية نفاذ دراساتهم إلى
المادة ما كانت لتسمح بإتاحة معرفة فيزيائية
دقيقة. لكن ربما كان ثمة شيء آخر في عقلهم،
وأعني معرفة ليست عن الوقائع بل عن المعنى
الكامن خلفها. إذ إن "الأعلى" كان
الماكروكوسموس [العالم الأكبر]، عالم الأفلاك
السماوية والأجناد الملائكية، والسيدة
الطبيعة الشاسعة شَساعة كوكب الأرض؛ و"الأدنى"
كان الميكروكوسموس [العالم الأصغر]، النفس
البشرية. وبينهما – العقل السماوي والكيان
الداخلي للإنسان – كان ثمة رابط حيوي. كان
الماكروكوسموس يكلِّم الميكروكوسموس؛
والميكروكوسموس يعكس الماكروكوسموس؛
والاثنان في حوار حيٍّ دائم. كان فهم الكون
ضرباً من الإصغاء، أي امتلاك آذان تسمع
موسيقى الأفلاك وتسمع صوت الأرض. وكانت
الحكمة تعني التواشج بين عناصر الوجود. في
هذه الصفحات سنتولَّى الربط بين مجالي
الوجود، الكبير والصغير، الأعلى والأدنى،
الخارجي والداخلي. بالنسبة لنا أصبح "الماكروكوسموس"
ميدان العلوم الدقيقة، المشروع العقلي
الجمعي الأكبر للعصور الحديثة، ولم يعد مسعى
واحداً، بل مجالات دراسة عديدة: الفيزياء،
الفلك، الكيمياء، البيولوجيا، ينقسم كلٌّ
منها الآن إلى مناهج اختصاصية عديدة. أما "الميكروكوسموس"،
باعتباره فلك العقل والنفس والعاطفة، فقد
أصبح موضع عناية البسيكولوجيا، أي دراسة
التجربة الإنسانية كما يمكن التقاطها في
الاعترافات على أريكة الطبيب النفسي أو ربما
من الإلهامات الاستبطانية للروائيين أو
الشعراء. وإبان ما ينوف على مئتي عام كان
الانفصال التام بين العالمين، حتى في مصطلحات
الكلام العادي، هو المسعى المميِّز للفكر
العقلاني وللعلم الراسخ: المادة في جهة؛
والعقل في جهة أخرى. الخارج هناك هو
الموضوعي؛ والداخل هنا هو الذاتي. الأول
هو الميدان المأمون لليقين الرياضي؛ والثاني
هو الحقل الضبابي للعواطف والأحلام
والهلوسات المتقلبة. الأفكار ليست أشياء؛
والأشياء ليست أفكاراً. بفضل
ذلك الفصل التام أحرزنا معرفة وفيرة حول بنية
الطبيعة وعملها من خلال العلم؛ وتبصرات مدهشة
في قلب الإنسان من خلال علماء النفس
والفنانين. لكن فصل الداخل عن الخارج، الأعلى
عن الأسفل، لا يمكن أن يكون سوى وسيلة مؤقتة،
طريقة للاستمرار في تجميع الحقائق. فالعلم في
النهاية خالق للاستمراريات، رغماً عنه
أحياناً. التخصص يضيِّق، لكن النظرية (وهي
المغامرة العظيمة) تبلغ؛ وهي تتوق إلى
الكلانية، وإن يكُ ذلك بحذر. توحِّد
الاكتشافات العلمية المتلاحقة المجالات
المتنوعة للاستقصاء أكثر فأكثر. ولدى العلماء
اليوم آمال عظيمة في الوصول إلى نظرية
التوحيد الكبيرة: "نظرية كل شيء"! وبعضهم
يعمل لتضمين الثقافي والبسيكولوجي والديني
في هذا المشروع. وجهدهم مخلص، وإن يكن متدرجاً
رتيباً. وما يتنزل على الصوفيين في التماعات
الإلهام قد يعود إلينا ببطء وبمشقة عبر نقاط
تلاقي المناهج العلمية. يسعى
التأليف الجديد الذي أقترحه في خطين: الأول
كوسمولوجي والثاني إيكولوجي. وأريد أن ألفت
الانتباه إلى أن المفاهيم العلمية التي أفحص
عنها كإسهامات في هذا التركيب – وأقصد المبدأ
الأنثروبي*
ونظرية غايا**
[الأرض–الأم] – قد فقست حديثاً وهي
موضوعات لسجال راهن. إنها تتاخم "علماً
برياً"، أفكاره ما تزال في مرحلة التكون،
وهو عرضة لصياغات عجيبة. قد يشعر بعضهم أن
استخدامي لهذه المفاهيم يأتي قبل أوانه، على
اعتبار أن ريشها ما يزال زغباً. لكن كلا
الفكرتين انبثق باعتبارهما ذروة تيار طويل
الأمد في العلم الحديث يستنهض الصياغة
الفلسفية. ويعبِّر هذا التيار عن إدراكنا
العميق للمنظومات التراتبية في الطبيعة. تشتق
نظرية غايا والمبدأ الأنثروبي من التبصرات في
البنيان شديد التعقيد للكون على أكثر مستويات
التعميم طموحاً. وبالقدر الذي قد تكون عليه
هذه الدراسات في التعقيد المنظَّم من الصرامة
من حيث حِرَفيَّتها فإنها تدفع العلم نحو
تخوم الميتافيزياء – الميدان الذي نفهم
لماذا يخشى الكثير من العلماء الخوض فيه. لكن
عاجلاً أو آجلاً سيكون علينا أن نواجه
المضامين الكبرى للتعقيد المتطور للكون؛ وقد
تكون المنظومات العميقة للطبيعة، التي تُشتق
منها في المآل نفسُنا وثقافتُنا والعلمُ
نفسه، هي اللغة الجديدة التي تجد فيها الأرض
صوتها من جديد. إنني
على وعي بأن هناك متزمتين علميين يعترضون على
رؤية ملكيتهم الفكرية يعبث بها الهواة، حتى
المحترمون منهم. لكن الأفكار العلمية العظمى
نادراً ما سُمِح لها بالاحتفاظ بحالتها البكر
فترة طويلة. فعلم الفلك الغاليلي وقوانين
نيوتن في الحركة والتطور الدارويني سرعان ما
جرى تكييفها مع الثقافة الأشمل – وأكثر منها
العلم الذهني الفرويدي اللاحق. وبينما لا
يُطلَب العلم المحض من أجل مغزى أخلاقي أو
اجتماعي فإن هدفي هنا بصراحة تامة هو ردم
الشقة بين الشخصي والكوكبي بطريقة تقترح
أيضاً بدائل سياسية. ذلك
المشروع قد فات أوانه. وأظن أن المؤرخين في
المستقبل سينظرون بشيء من الدهشة إلى النصف
الثاني من القرن العشرين، متسائلين لماذا كان
مفكِّرو تلك الفترة، ممَّن سجلوا الأهمية
الكاملة للثورة الكوسمولوجية التي حدثت في
حياتهم، بهذه القلة. لن أبالغ إذا قلت إننا في
غضون الجيل الأخير عَبَرْنا إلى كون ما بعد
حداثي يختلف اختلافاً ذا مغزى عن كون
كوبرنيكوس وكبلر ونيوتن (أو حتى أينشتاين
وهبّل وشيبلي) بمقدار بما تختلف هذه الأكوان
عن كون بطليموس الذي سبقها. والكثير من تفاصيل
هذا الانتقال قد يكون مألوفاً بما يكفي، ويشد
انتباه الصحافة الشعبية وأفلام التلفزيون
الوثائقية الظرفية، مثل اكتشاف كيانات فلكية
جديدة غامضة من قبيل الكوازارات، والنجوم
النابضة، والثقوب السوداء، وقياس الإشعاع
الخلفي قصير الموجات، ونظرية الانفطار
الأعظم Big Bang. لكن تفسير الأمور
التقنية شيء، والتعبير عن الأهمية الحيوية
للاكتشافات العلمية العظمى شيء آخر. إن
ما تفتقر إليه الكوسمولوجيا الجديدة حتى الآن
هو الإجماع القوي الذي أسبغه الفلاسفة
والفنانون ذات مرة على النظرة النيوتنية
للعالم والذي ظل متماسكاً ما ظل العلم
مرتكزاً على السلطة الإلهية ومُقِراً بأهمية
العقل البشري. لم يكن ثمة ما هو أكثر عبثية
خلال بضعة مئات السنين السابقة من جهدنا
لتأسيس القيم وتعريف السلامة العقلية في سياق
ثقافي لا يعترف بالمقدس وينظر إلى الحياة
باعتبارها شذوذاً هامشياً في الكون. لقد
توارتْ من المشهد الكوسمولوجيا التي قدَّمت
لنا هذه الصورة عن الشرط البشري، والعصر
يتطلع إلى حوار جديد بين الفكر العلمي
والمطلب الإنساني. وإني أقدم ما يلي بداية
لمثل هذا الحوار: مبادئ من أجل علم نفس
إيكولوجي 1.
اللاوعي الإيكولوجي هو
نواة العقل. يعتبر علم النفس الإيكولوجي أن
قمع هذا اللاوعي الإيكولوجي هو الجذر الأعمق
للجنون الجمعي التواطئي في المجتمع الصناعي؛
والانفتاح على هذا اللاوعي هو السبيل إلى
السلامة العقلية. 2.
يمثل فحوى اللاوعي
الإيكولوجي السجلَّ الحي للتطور الكوني،
الذي يمكن تتبُّع أثره خلفاً، وصولاً إلى
الشروط الأولى النائية لحدث الخلق الذي ندعوه
الانفطار الأعظم. تخبرنا الدراسات المعاصرة
حول التعقيد المنظَّم للطبيعة أن الحياة
والعقل انبثقا من هذا التاريخ التطوري
باعتبارهما ذروة المنظومات الطبيعية التي
نشأت في سياق التفتح المتعاقب للمنظومات
الفيزيائية والبيولوجية والعقلية والثقافية
التي ندعوها الكون. يعتمد علم النفس
الإيكولوجي على مكتشفات الكوسمولوجيا
الجديدة ويكافح لجعلها في متناول خبراتنا
الواقعية. 3.
تماماً كما يهدف العلاج
النفسي إلى تحرير المضامين المقموعة للاوعي
فإن هدف علم النفس الإيكولوجي يتمثل في إيقاظ
الإحساس الفطري للتبادلية البيئية الذي يقبع
في اللاوعي الإيكولوجي. تلتمس طرق العلاج
النفسي الأخرى شفاء الاغتراب بين الشخص
والشخص، وبين الشخص والعائلة، وبين الشخص
والمجتمع، بينما يلتمس علم النفس الإيكولوجي
شفاء الاغتراب الأساسي بين الإنسان والبيئة
الطبيعية. 4.
يعتبر علم النفس
الإيكولوجي، شأنه شأن طرق العلاج الأخرى، أن
المرحلة الحاسمة في نمو الشخصية هي حياة
الطفل. يتجدد اللاوعي الإيكولوجي، كما لو أنه
موهبة، من الإحساس السحري بالعالم عند الطفل.
فإذا حافظتْ تنشئةُ الشباب وتربيتُهم على هذه
الخبرة العفوية وعمَّقتْها انعدمت الحاجة
العلاجية إلى علم النفس الإيكولوجي. 5.
لكن بما أن أثر تنشئة
الطفل في ثقافتنا هي على العكس من ذلك تماماً
– أي أنها تقمع الأحيائية animism الفطرية لدى
الطفل – فإن مهمة علم النفس الإيكولوجي هي
تحديداً استرجاع خاصية الخبرة هذه عند "الراشدين"
وظيفياً. ولكي يفعل ذلك فهو يتَّجه إلى عدة
مصادر، من بينها فنون الشفاء المنقولة للشعوب
البدائية، والصوفية الطبيعية كما عبَّر عنها
الدين والفن، وخبرات الحياة البرية، وتجربة
وتبصرات حركة الإيكولوجيا العميقة.***
وهو بذلك يسعى إلى تكييف هذه الوسائل مع إيجاد
الأنا الإيكولوجي ecological
ego . 6.
يتَّجه الأنا الإيكولوجي
في نضجه نحو إحساس بالمسؤولية الأخلاقية تجاه
كوكب الأرض، أي بما يعادل خبرة المسؤولية
الأخلاقية تجاه غيرنا من الناس اتقاداً. وهو
يلتمس حَبْك هذه المسؤولية في نسيج العلاقات
الاجتماعية والقرارات السياسية. 7.
من بين المشاريع العلاجية
الأهم التي يتبناها علم النفس الإيكولوجي
إعادةُ تقييم بعض السمات المميزة للـ"ذكورة"
التي تتخلَّل بُنانا السياسية للسلطة والتي
تقودنا إلى السيطرة على الطبيعة كما لو أنها
عدو غريب أو ميدان لا حقوق له. وبهذا الصدد،
يمتح علم النفس الإيكولوجي بشكل غزير من بعض (وليس
كل) تبصرات النسوية الإيكولوجية والروحانية
النسوية. 8.
كل ما يسهم في الأشكال
الاجتماعية والتعزيز الشخصي على نطاق صغير من
شأنه أن يغذي الأنا الإيكولوجي؛ وكل ما يصارع
من أجل السيطرة على نطاق كبير وقمع الشخصية من
شأنه أن يُضعِف الأنا الإيكولوجي. لذا يشكك
علم النفس الإيكولوجي تشكيكاً عميقاً في
السلامة الجوهرية لثقافتنا الصناعية–المدينية،
أكان في تنظيمه الاجتماعي رأسمالياً أم
اشتراكياً. وهو يشير بـ"تضييق النطاق،
تخفيف السرعة، تفريع السلطة، تبنِّي
الديمقراطية". 9.
يقول علم النفس
الإيكولوجي بأن هناك تفاعلاً تكافلياً بين
سلامة الكوكب الأرضي وسلامة الشخص البشري.
وقد تعمدتُ اختيار مصطلح "تكافل" synergy بسبب دلالته
اللاهوتية النقلية؛ وأقصد أن البشري والإلهي
مرتبطان تعاونياً في البحث عن الخلاص؛ أو
بتعبير آخر من المصطلحات المعاصرة
للإيكولوجيا: حاجات الكوكب هي حاجات الشخص،
وحقوق الشخص هي حقوق الكوكب. ***
*** *** ترجمة:
معين رومية *
ينص المبدأ
الأنثروبي Anthropic
Principle
على أن وجود حياة إنسانية عاقلة
يضع قيوداً محددة على النظريات الفيزيائية
والفلسفية، بحيث إن التطور الكوني كان منذ
البدء ينطوي على غاية إيجاد الإنسان. اقترح
هذا المبدأ عالم الفيزياء روبرت. هـ. دِكْ Robert
H. Dick في العام 1961. (المترجم) **
تنص فرضية غايا Gaia hypothesis
على أن الأرض ككل، بما فيها من نطاق حيوي
وغلاف جوي ومحيطات مائية وتربة والتفاعلات
بين أحيائها وجماداتها، يمكن اعتبارها
ككائن حي أو متعضِّية تعمل لكي يُحفَظ
التوازن بواسطة ميكانيزمات التلقيم الراجع
feedback.
اقترح النظرية عالم الكيمياء الحيوية جيمس
لفلوك James
E. Lovelock. وقد عمل بنصيحة
الروائي وليام غولدنغ ودعاها باسم إلهة
الأرض الإغريقية Gaia
(أو Gaea, Ge)،
وطوَّر نظريته المتعلقة بها في كتابيه:Gaia
(1979)
وعصور غايا Ages of Gaia
(1988). اقترح لفلوك وآخرون أفكاراً
إضافية، من بينها الاعتقاد بأن الأرض تعمل
لغرض محدد من قبيل ترقية الحياة العضوية أو
القيم الروحية. (المترجم) ***
راجع معابر، الإصدار التاسع، باب "إيكولوجيا
عميقة". (المترجم) |
|
|