|
وقفة
عند كتاب
هل
اليهودية التلمودية دين؟
للدكتور سامي عصَّاصةأكرم
أنطاكي
الحق
أقول إنني غالباً ما أسعى لتجنب مثل هذه
الكتابات. لكن الموضوع هذه المرة فرض نفسه
بنفسه، عبر صديق أحب وأحترم وأستاذ أُجِلّ،
كان أن تعرَّفت من خلالهما إلى مؤلِّف هذا
الكتاب الذي أهداني النسخة الإنكليزية
المترجَمة من مؤلَّفه، الذي كان صديقي قد
أعارني النسخة العربية منه. وكان أول ما فعلتُ
بعد قراءة النسختين أن سجلت بعض الملاحظات: 1.
يعرِّف الكتاب نفسه منذ البداية بأنه قراءة
في كتاب إسرائيل شاحاك الديانة اليهودية
وتاريخ اليهود: وطأة ثلاث آلاف عام. وأتذكر
كتاب شاحاك... أتذكر أني كنت حين قرأته معجباً
به وموافقاً على معظم ما جاء فيه، ولم أزل...
أما هنا، فقد شعرت منذ البداية بغصة، شعرت
بشيء ما أثارني وجعلني أتحفَّظ... وأفكر
أن شاحاك كان يتحدث متعمقاً عن إرثه الديني،
فيحلِّله بمنتهى الجرأة التي غالباً ما تصيب
– وإن كانت تخطىء أحياناً من حيث الغلوُّ في
عقلانيَّتها... أفكر أن شاحاك كان يتحدث عن دينه
هو – وهذا من حقِّه. وهذا ما أثار في حينه
إعجابي، إلى جانب عمق تحليلاته وجرأتها. ولكن... ما
أثار ويثير دائماً تحفُّظي حين أقرأ لغالبية
الذين تحدثوا ويتحدثون اليوم بإسهاب عن هذه
المواضيع في بلادنا (ومنهم كاتبنا)، أنهم
يتحدثون، مستندين إلى آخرين (شاحاك مثلاً)، عن
ديانات هؤلاء الآخرين (هنا اليهودية التي هي
دين شاحاك ليس حصراً)، فيقولون ما يقولون،
ويستنتجون ما يستنتجون. وهذا من وجهة نظري
يُضعِف من مصداقيَّتهم. لماذا؟ لأن
أول تساؤل يطرح نفسه، بقسوة لا ترحم، هو الآتي:
لم لا تبدأ فتتناول دينك و/أو معتقدك الذي هو
دين آبائك وأجدادك بنفس العمق والموضوعية
والجرأة التي تناول بها شاحاك دينه
ومعتقد آبائه وأجداده؟ أم أن
دينك و/أو معتقدك لا يناقَش أيها الصديق؟ منذ
القرن الثامن عشر و"العالم المسيحي"
يناقِش ويحلِّل دينَه ومفاهيمَه، متحدِّياً
ممنوعات كنيسة تلك الأيام وحرماناتها. فكان
فولتير (الذي يستشهد به كاتبنا)، وكان ديدرو،
وكان الموسوعيون. ومنذ القرن التاسع عشر أشبع
الكثير من العلماء والمفكرين اليهود ديانتهم
تعقيباً وتحليلاً، فكان ماركس، وكان فرويد،
وأخيراً، كان شاحاك الذي يستشهد به كاتبنا.
ولكن، هنا حيث نحن، توجد مستويات وعي
ومستويات واقع مختلفة. وهذا الذي علينا أن
نفهمه هو ما لا يجيز لنا التعرض لتلك المواضيع
إلا بمنتهى الحذر... 2.
"هل يمكن لهذا العهد القديم أن يكون من
عند الله؟"... أنا
أفهم بـ"العهد القديم"، كما تسميه
المسيحية، أنه "التوراة"، كما تسميه
اليهودية والإسلام. وهذا
العهد القديم، على ما هو عليه، هو أحد
الكتب المقدسة الأساسية لجميع الطوائف
المسيحية التي تعتمده مرجِعاً لها إلى جانب
"العهد الجديد"، الذي هو الأناجيل
الأربعة لمتى ومرقس ولوقا ويوحنا، بالإضافة
لأعمال الرسل والرسائل (التي معظمها لبولس
الرسول)، وأخيراً رؤيا يوحنا. وهذا "العهد
القديم" أو "التوراة"، المماثل
تقريباً من حيث حرفيَّتُه ونصوصه للكتاب الذي
تعتمده المسيحية، هو الكتاب المقدس الرئيسي
لأتباع موسى، على اختلاف نِحَلِهم؛ وهو (على
الأقل من حيث التسمية)، إن لم أكن مخطئاً،
عينه تلك "التوراة" المقدسة التي يتحدث
عنها، بكل إجلال، القرآن الكريم، الكتاب
المقدس للمسلمين، على اختلاف مذاهبهم. فهل
يمكن لهذا "العهد القديم" أن يكون من عند
الله؟ بالنسبة
للمسيحية فإن جميع كتبها "المقدسة" هي
كتابات بشرية. كذلك الأمر بالنسبة لليهودية.
أما عامة المسلمين فهم يعتبرون "التوراة"
المتداولة (وكذلك الأناجيل المسيحية
المتداولة) كتب "محرَّفة" عن تلك التوراة
وعن ذلك الإنجيل اللذين يتحدث عنهما القرآن
الكريم بكل إجلال. والقرآن
الكريم، حسب أتباعه، كتاب منزل من عند الله.
والقرآن الكريم يدعو أصحاب تلك الديانات التي
تعتمد العهد القديم، على ما هو عليه، بـ"أهل
الكتاب" وأصحاب "العروة الوثقى".
فهل يمكن لهذا الكتاب الذي يقرُّ أصحابه و
يؤكدون، كما يؤكد جميع العلماء، أنه من صنع
بني البشر أن يكون من عند الله؟! ويخطر
ببالي أن أجيب بنعم، لأن الإنسان نفسه – هذا
"المنَّاع الخير المعتدُّ الأثيم"، كما
يصفه القرآن – هو تحديداً الصنعة الأولى لتلك
الألوهة... وهذا
الكتاب (على ما هو عليه)، منذ بُدِئ بجمعه
في القرن الخامس قبل الميلاد وحتى اليوم، قد
أشبعه أبناؤه وغيرهم دراسةً وتحليلاً، وخاصة
الكنيسة التي كانت ولم تزل تعتمده كما هو
"كتاباً مقدساً" لها، كما تعتمده
اليهودية! وهذا
الكتاب يحتوي – نعم – على جميع تلك "النصوص
الغريبة" التي اكتشفها كاتبنا اليوم،
وكانت تُقِرُّ بها ولم تزل، كما هي،
المسيحية، على اختلاف فئاتها – تلك المسيحية
التي كانت ولم تزل تعتمده من كتبها المقدسة
الأساسية، وكذلك اليهودية. أفلم
يخطر ببالك يا صديقي الكاتب أن تتساءل عن
السبب؟ ربما
لأن هؤلاء قد أدركوا منذ ذلك الحين ما لم
يدركه بعضهم حتى يومنا: أن هذا الكتاب الذي
أضحى مقدساً، والذي هو من صنع البشر، والذي
هو، كسواه من الكتب المقدسة، من حيث
تزاوج نصوصه الغريبة عن مفاهيمنا اليوم مع
نصوص أخرى في منتهى الروعة من حيث
جماليَّتُها وروحانيتها... أن هذا الكتاب، كسواه،
ليس فقط من صنع البشر، إنما هو تجسيد لتحقُّق
تلك الألوهة التي يعبدون في تلك الإنسانية
"المنَّاعة الخير المعتدَّة الأثيمة"
التي إليها ينتمون. وأتساءل:
هل يحقُّ لي، إن كنت لم أدرك هذه المفارقة، أن
أسفِّه، من خلال منطقي ومفاهيمي اليوم، الكتب
المقدسة للآخرين؟ وأجيب،
بكلِّ تسامح، أنْ ربما كان يحقُّ لي ذلك لو
كنت ابن واقع آخر ومستوى وعي آخر. أما هنا، على
هذه الأرض، حيث "التين والزيتون"، وفي
"هذا البلد الأمين"... أما هنا، حيث
يُفترَض أن تتعايش، على ما هي عليه،
دياناتنا السامية الثلاث، فلا يحق لي هذا يا
صديقي... لا يحقُّ لي هذا، إنما... من
واجبي اليوم، كما فعلتَ في بعض فقرات كتابك،
أن أسفِّه منطق أولئك الغلاة من العنصريين
والأصوليين، سواء كانوا من اليهودية أو من
المسيحية أو من سواهما – ولكن، دون خلط الدين
بالسياسة... 3.
يحقُّ لك، لا بل من واجبك، أن تسفِّه وتنتقد
مواقفهم ومفاهيمهم الخاطئة، تماماً كما فعل،
بكل محبة (في كتابيه رد على التوراة و رد
على اليهودية واليهودية–المسيحية)،
أستاذنا ومعلِّمنا ندره اليازجي الذي تستشهد
به في النسخة الإنكليزية من كتابك، متذكِّراً
دائماً أن الأستاذ ندره فعل هذا من قلب دينه،
كمسيحيٍّ حقٍّ له رأيه وموقفه من "الأناجيل"
ومن مؤسسته المسيحية، وأيضاً من أولئك الذين
يدَّعون الانتماء إلى "التوراة" التي
تعتمدها كل من المسيحية واليهودية. يحقُّ
لك، لا بل من واجبك ذلك، كالأستاذ ندره
اليازجي سواء بسواء، شريطة أن تتذكر دائماً
روحانيَّة أستاذنا الكبير – هذا الذي أتذكر
كيف كنت، أيام جهالتي، معارضاً له، وأتذكر
كيف تعلَّمت، من بعدُ، من خلال كتاباته وعلى
يده، العمقَ السرَّاني للأديان جميعاً. فعلى
يده أصبحت اليوم أميِّز، مثلاً لا حصراً، ذلك
الفرق العظيم بين "الإسرائيلية" وبين
"اليهودية". فالأولى كانت ولم تزل
مفهوماً مقدساً؛ أما الثانية فقد ضلَّت
الطريق؛ الأولى، على ندرة أتباعها اليوم،
كانت ولم تزل ديناً كونياً؛ أما الثانية، فقد
مسخت المفاهيم المقدسة وجعلت من نفسها مجرد
ديانة قومية. لقد
ضلت الطريق، وخاصة اليوم، فأطلقت اسم "إسرائيل"،
الذي يقدِّسه القرآن الكريم وتقدِّسه
المسيحية، على دولة لا علاقة لها بأي دين. (راجع
بهذا الخصوص مقالتي في الإصدار الثالث من معابر
"موسى
وأبناء الإله الأصغر".) لقد
ضلَّت الطريق، فصلبت المسيح في حينه، وما
زالت تصلبه إلى يومنا هذا... كما ضللنا الطريق
جميعاً، فصلبناه جميعاً على مرِّ العصور، وما
زلنا نصلبه إلى اليوم، من خلال تعصباتنا
وأحقادنا. 4.
هل اليهودية التلمودية دين؟ أعتقد
أنه ما كان لهذا التساؤل أن يطرحه أناس منَّا
خاصة، وعلى أرضنا تحديداً، على مرِّ العصور،
لو لم تكن هناك اليوم "قضيتنا الفلسطينية".
فاليهودية، بفهمها التلمودي التقليدي، قد
تعايشت على أرضنا لقرون طويلة، قبل خروج
المسلمين واليهود من الأندلس في القرن الرابع
عشر. ولنتذكر جميعاً أن موسى بن ميمون (الذي
يستنكره كاتبُنا) كان طبيب صلاح الدين
الأيوبي! وأعتقد
أيضاً أنه إذا كان الدين – Religio
باللاتينية – هو مجموع العقائد والممارسات
التي تعكس علاقة الإنسان بالقدرة الإلهية،
فإن اليهودية التلمودية، وإن كانت لي وجهة
نظري الخاصة بها، هي دين يا صديقي. يبقى أن ما
يعظِّم شأن أي دين أو يحطُّ من صورته هو
ممارسات أبنائه.
" فالدين معاملة "، أليس
كذلك؟!.. ***
*** ***
|
|
|