|
جهاد
لويس ماسينيون
بين شارل
دو فوكو وغاندي
الأب
باولو دالوليو
إنه
لمن المعروف أن لويس ماسينيون وجد في الفترة
الأخيرة من حياته عند غاندي تعبيراً كاملاً
ومكمِّلاً لآرائه فيما يخص التزامه الإنجيلي
تجاه الإسلام، وذلك ضمن نظرة شاملة تخصُّ
مسيرة البشرية كلِّها. كما نعرف أنه كان لشارل
دو فوكو دورٌ هام في حياة والتزام لويس
ماسينيون الروحي والاجتماعي, حيث كان دو
فوكو، مع الحلاج، بين الشفعاء الذين نالوا من
الله أن ينجو ماسينيون من الموت في بغداد عام
1908 ويعود إلى الإيمان بالله ومسيحه. وقد رغب
ماسينيون بعد ذلك رغبة شديدة في أن يكرِّس
حياته للمسيح ولخدمة الإنجيل مع هذا الناسك
في صحراء الجزائر. نعرف
أيضاً أن التمييز الروحي والظروف قادت
ماسينيون إلى الزواج والالتزام الكامل
بالتدريس الجامعي, لكنْ تبقى الرابطة قوية
جداً بين لويس ماسينيون وشارل دو فوكو في
السنين السابقة للحرب العالمية الأولى. ويبدو
لي أن العناصر التي توحِّد بين فكريهما
ومشاعرهما هي الرغبة الشديدة في أن يعيشا
حبَّ المسيح لكل الناس، ولا سيما لأبعد
الناس، وللمسلمين بالأخص. وتبقى هذه الرغبة
في البداية تبشيرية كلاسية على الصعيد
اللاهوتي، وإن كانت جديدة في الأساليب
والآفاق، بسبب تأمل فوكو في سرِّ حياة المسيح
في الناصرة, حيث تمثَّلت دعوتُه في تجديد هذا
البعد المنسيَّ من الرسالة المسيحية – أي
رسالة العائلة المقدسة في الناصرة – في سبيل
خلاص الناس أجمعين. لقد
شكَّلت هذه الدعوة (نفسانياً أكثر منها
لاهوتياً) انقلاباً في قائمة الأولويات في
التبشير المسيحي. ولكن فوكو – هكذا نقول –
كان ابن عصره؛ فالتزم بالواقع فكرياً
وسياسياً في إطار التيار الاستعماري
الفرنسي، حيث كان يرى فيه فرصةً وواجباً في
سبيل تربية الشعوب وإدخالها في الحضارة، مع
تبشيرها بالدين الكاثوليكي لتحويلها عن
اعتقاداتها الباطلة. فحقق ذلك أثناء وجوده في
الجزائر، وكان صوتاً وشهادة فريدة وجديدة
ومختلفة عن النمط العام – دون أن ننكر
النيَّات الطيبة لدى معظم المرسَلين حينذاك. لقد
كان فوكو رجلاً عسكرياً في الأساس؛ لذلك يبقى
تفكيره، إلى حد ما، عسكرياً، حتى يوم وفاته.
وهذا واضح تماماً في موقفه أثناء الحرب،
وبشكل خاص في رسائله الموجَّهة إلى ماسينيون.
فهو، في رسالة مشهورة كتبها إلى ماسينيون
بتاريخ 1/12/1916، يمدحه ويوافق على قراره في أن
يتطوع لخط النار. وفوكو نفسه يرغب في أن يموت؛
إذ إنه يعتبر الاستشهاد أثمن ما يستطيع أن
يطلبه من الرب؛ ولهذا السبب عينه يتمنَّاه
أيضاً لصديقه ماسينيون. إنه
يعتبر الحرب فرصةً لإعطاء النفس حباً لله
وللقريب. وهو في ذلك لا يسعى إلى الشرف، ولا
حتى إلى شرف الاستشهاد، بل يبحث عن الخطر
والألم والتضحية التامة, وذلك ببساطة وتواضع،
ويعتبر ذلك واجباً في سبيل عروس النفس. ويطلب
فوكو من ماسينيون أن يقدِّم حياته لله
بالاتحاد مع ذبيحة ربنا يسوع بين يدي العذراء
مريم. وفي اليوم نفسه يموت فوكو على يد
المجاهدين المسلمين. عندما
استعلم ماسينيون عن وفاة فوكو وهو بالجبهة
بتاريخ 27/1/1917 اعتبر أن صديقه قد وجد الصراط،
وأدرك الغاية، وأنه قد مات ضيفاً ورهينةً في
سبيل الطوارق المسلمين. وقد شبَّه ماسينيون
فوكو فيما بعد بالحلاج؛ إذ يُفترَض أنه،
بقبوله السلاحَ في المنسكة، جعل دمه حلالاً
للمجاهدين المسلمين حتى يُستشهَد على
أيديهم، دون أن يحمِّلهم جريرة قتله. والحلاج
أيضاً، بأقواله وتصرفاته، كان قد خالف حرفَ
الشريعة وأعطى المسوِّغ الشرعي لقتله، حباً
بالأمة وفي سبيل إصلاحها. ولسوف يقرُّ
ماسينيون فيما بعد أنه قد تطوَّع للجبهة
تكفيراً عن عدم ذهابه مع فوكو إلى الصحراء. إنما
يبدو لي أنه بموت فوكو يبدأ فصل جديد من
تطوُّر ماسينيون الروحي والفكري؛ إذ كان قد
بدأ يشك برسالة الاستعمار، ولا سيما أنه شهد
كيف أن فرنسا وبريطانيا لم تفيا بوعودهما
للعرب بالاستقلال. وكان من دور ماسينيون
وجهده, بتأمُّله في حياة فوكو ومماته, أن
يدافع عن طهرانيَّة صديقه في تقدمته نفسَه،
لكي لا يصير الشهيد رمزاً للفكر الكاثوليكي
الاستعماري. فاعتبر نفسه، بحق، وريث روحانية
فوكو الأصيلة والمتأصِّلة في الناصرة. هناك
توازٍ وترابط بين تعمُّق ماسينيون في
المفاهيم الإسلامية الروحية الأساسية وبين
حياته الروحية المسيحية، من خلال دراسته
وتأمُّله في التصوف، وبشكل خاص من خلال هذا
الترابط الروحي المدهش بين نفسه ونفس الحلاج.
بذلك أصبح ماسينيون، رويداً رويداً، يعيش
مسيحيَّته انطلاقاً من المفاهيم الإسلامية
والتعابير العربية. فمن الواضح، مثلاً، أن
"الجهاد الأكبر" (جهاد النفس) هو، بنظره،
المصطلح الإسلامي العربي للزهد والمجاهدة في
سبيل القداسة والتتلمذ على المسيح يسوع. كما
أن دراسته عن مفهوم "الفتوَّة" في
الإسلام توازي مفهوم "النذر" عند
الصليبيين في سبيل استرداد القدس؛
والمُطوِّعة، أي سكان الرباط، هم كالفرسان
الصليبيين سواء بسواء؛ والمتصوف المسلم،
الملتزم بالجهاد الأكبر، يرادف الراهب الذي
يعيش النذور الإنجيلية. كما أن هناك توازياً
بين الحج الإسلامي إلى مكة المكرمة وبين الحج
المسيحي إلى القدس، وبين مفهوم الإحرام هنا
وهناك. فالمرجع والأصل هو إبراهيم الخليل
بعلاقته بإسماعيل ومكة، من جهة، واسحق
والقدس، من جهة أخرى. وإبراهيم هو أيضاً
النموذج الأولي للمهاجِر – وكل من يخرج من
ذاته في سبيل اللقاء مع الله يُعتبَر مهاجراً. هذا
ومن الواضح أن ماسينيون لا يدرس فقط التصوف
الإسلامي بدراسته للحلاج، بل يدرس سبيل لقائه
مع الله كابن للكنيسة. فإذا كان ماسينيون، من
جهة، يرى في الحلاج – بـ"وحدة الشهود" –
ذروة الهجرة الروحية والاتحاد بالله في إتمام
جهاد يؤدي إلى تقدمة الذات ضحية وذبيحة، كما
في الحج عند جبل عرفات لدى ذبح الأضاحي
التماساً للغفران, فإنه، من جهة أخرى،
وبالمفاهيم نفسها، يتأمل في اتحاده بالله في
المسيح من جراء فعل الإيمان على غرار الـ"نَعَم"
التي نطقت بها مريم. وإذا
كان ماسينيون, من ناحية الإسلام, ينتقد
الغنوصية الإسلامية في تصوف ما بعد الحلاج،
وبشكل خاص تصوف ابن عربي (إذ كانت تلائم
الانغلاق الروحي النرجسي على الذات فيما
عُرِف بـ"وحدة الوجود")، فهو، من ناحية
أخرى، يتأمل في الحضارة الأوروبية التي
انقطعت عن العلاقة مع الله بسبب الإلحاد على
أنواعه، وحرَّفت عقيدة التجسد، حيث صار
الإنسان يعبد نفسه، وعَدِم الانفتاح للقاء مع
الله ولاستقبال الضيف والغريب. فشفاعة
إبراهيم لسدوم وسكانها تشمل، بهذا المعنى،
الحضارة الحديثة النازعة إلى المادية مع
الحضارة الإسلامية المنغلقة في انحراف روحي.
هذه الفكرة هي رابط روحي يربط بين أفكار
ماسينيون، منذ وقت اهتدائه إلى وقت جهاده
اللاعنفي في أواخر حياته. فهو يفهم ذلك
انطلاقاً من خبرته الأليمة، وتصبح خبرته
وسيلة لتفسير التيارات الروحية، في الشرق كما
في الغرب. وإذا
عدنا إلى الجهاد، فمن البديهي أن الجهاد
المسلَّح الإسلامي، وإن كان حلالاً مثلاً في
سبيل التحرر من الاستعمار, فهو يؤدي إلى صراع
وتوتر مع العالم المسيحي الذي يعيش أنواعاً
أخرى من الجهاد المسلَّح باسم المصالح
والحضارة الغربية، وإن لم يعد ذلك باسم
الإيمان المسيحي. ولكن
الموضوع على الصعيد الروحي يختلف. فإذا كان
المؤمن يتقرب إلى الله بجهاد النفس، فلا فرق
بين جهاد المسلم وجهاد المسيحي؛ إذ إن غاية
الجهاد واحدة هي هي. فعندما درس ماسينيون
مفهوم الرهبانية في الإسلام وبرهن أن حديث
"لا رهبانية في الإسلام" حديث متأخر
موضوع وغير صحيح، بيَّن أن المفهوم القرآني
للرهبانية مفهوم إيجابي. "ثم قفَّينا على
آثارهم برسلنا وقفَّينا بعيسى بن مريم
وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين
اتَّبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما
كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما
راعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا..." (سورة
الحديد 27) وتبقى
الرهبانية فعلاً نوعاً من أنواع الجهاد
المقدس. والبرهان على ذلك هو الحديث المتأخر
الذي يقول إن الرهبانية في الإسلام هي الجهاد
في سبيل الله. وقد لاحظ ماسينيون أن هناك
ترادفاً بين عفة الراهب في المسيحية وبين
الامتناع عن العلاقة الجنسية أثناء الحج في
الإسلام. فممارسة الخلوة في الإسلام تتطلب
العفة؛ وهذا ما نلاحظه عند الحلاج حيث عاش
العفة التامة فترات طويلة من حياته. وعلى كل
حال، فإن عفة القلب شرط اللقاء بالله إذا كانت
أسرارنا بكراً. وإننا نجد ماسينيون يتأمَّل
في ذهاب الحلاج لخدمة رسالة الإسلام إلى ما
وراء حدود دار الإسلام وقلاع المرابطين، حيث
عاش جهاده مرتين بالذهاب إلى الهند، وأيضاً
مرتين في جهاده بالحج. فالاستشهاد
جهاداً في سبيل الله يرادف تماماً أضحية الحج,
حيث إن الصلاة وقت الحرب ركعتان، وصلاة وقفة
عرفات ركعتان، كما أن صلاة العاشق "ركعتان
لا يصحُّ وضوؤهما إلا بالدم"، على حد ما قال
الحلاج على الصليب. وبعرفات تتحقق المساواة
بين الرجل والمرأة، كما أن الجهاد الأكبر
واحد للاثنين. والحج أيضاً هو جهاد النساء,
اللواتي يمارسن الجهاد أيضاً بخدمة الفقراء
وحماية اليتامى والضيوف والغرباء. فمن الواضح
تماماً أن الحلاج، بتقدمة نفسه، يريد أن يؤدي
الحج والجهاد معاً. فهوذا أثناء الجلد يصرخ
بعد 400 جلدة: "فُتِحَت القسطنطينية!"، ثم
يتوضَّأ بدم ذراعيه قبل الصلب. وعرق الأبطال
هو الدم (كما في بستان الزيتون، إنجيل لوقا 22:
44). والشهيد لا يحتاج للغسل بعد موته؛ إذ هو
طاهر قد تطهَّر بدمه. والحلاج شهيد في الجهاد،
قتله الله. ويرى ماسينيون بوضوح الترادف بين
موت المسيح على الصليب وبين موت الحلاج مع
الأبدال في سبيل إصلاح الأمة وغفرانها. فكما
أن لموت المسيح بعداً نشورياً، كذلك لموت
الحلاج هذا البعد عينه. فالأبدال، بتقدمة
أنفسهم، يؤجِّلون قيام الساعة من خلال
شفاعتهم الإبراهيمية. فشخصية
الحلاج, لا بل نظرة ماسينيون لشخصية الحلاج,
هي التي تعطينا مفاتيح فهم تطوُّر ماسينيون
الروحي. ولابدَّ من ذكر عبارة الحلاج "أنا
الحق" لفهم الرابط, في تأمل ماسينيون, بين
التصوف الإسلامي وبين تبنِّيه آراء غاندي
فيما يخص الجهاد في سبيل الحق Satyagraha
واللاعنف Ahimsa.
والحلاج هو الصوفي الذي أراد أن يعطي لحياته
الروحية وشهادته أبعاداً اجتماعية تخصُّ
الجماهير والدولة, ولا تخص فقط نخبة من
المختارين, حيث يفضح "حلاجُ المحبة" الله
بكشف أحواله الروحية, ويشكِّل خطراً على
المجتمع الشرعي. وكذلك غاندي كان بجهاده
يشكِّل خطراً على المجتمع الاستعماري
والهندوسي الطبقي؛ وقد استشهد على يد من رفض
دعوته إلى الحياة المشتركة والاحترام
المتبادل بين سكان الهند الهندوس والمسلمين
وغيرهم... وقد
لاحظ ماسينيون مراراً أن في بنغلادش من يذكر
الحلاج ويكرِّم حضور الله فيه ويسميه ساتيا
بير Satya Pir،
أي "معلِّم الحق" أو "شيخ الحق". فلا
نستغرب أن سكان تلك المنطقة أصبحوا فيما بعد
من أتباع غاندي وكانوا ممَّن رفضوا تقسيم
الهند. وقد
قال ماسينيون إنه وجد في غاندي أجوبةًً
لتساؤلاته حول دور النخبة الروحية في المجتمع
وحول إمكانية خرق دائرة انغلاقهم، حيث رأى في
موقفه الموقفَ القادر على رفع الجماهير إلى
مستوى النضج الروحي الواعي؛ فلم يستخدم
الجماهير في سبيل قضية ما، بل خدمهم، إذ
وعَّاهم إلى دعوتهم العظيمة في سبيل الحق. وهناك
تناغم بين الجهاد الشخصي والجهاد الاجتماعي،
وتوافق بين أساليب الجهاد بكل أبعاده. فالنذر Vrata
هو أصل الجهاد؛ وجوهر النذر هو الله الحق.
فالنذر، كما قال ماسينيون مراراً, يلوِّن نفس
الإنسان بلونها الأنثوي, ونموذجه الأولي موقف
العذراء مريم في محراب زكريا. ويرى
ماسينيون في غاندي من يربط ويوحِّد توحيداً
عملياً بين خبرة الهند الروحية والإنجيل الذي
تعرَّف غاندي إليه من خلال تولستوي. وبهذا
يصبح الزهد فعل رحمة، كما عند باخوميوس
وباسيليوس. إن موقف النذير هو موقف من يستعد
للموت في سبيل الحق. لذلك يقول غاندي إن من
يخاف الموت لا يستطيع أن يجاهد هذا الجهاد.
ويعتبر ماسينيون أن هناك عنصراً إسلامياً في
موقف غاندي في أواخر حياته، إذ انفتح لله
العليِّ، ومن خلال الصوم والحج تحضَّر للذبح
الطاهر الأخير. لقد
أصبحت الممارسة الهندوسية للعفة (براهماتشاريا
Brahmacharya)
قبل الزواج عند غاندي نذراً يوافق تماماً
الجهاد اللاعنفي في سبيل الحق؛ إذ يضع حياة
الإنسان أمام أفقها الأعلى. وماسينيون يقدِّر
غاندي ويوافقه في نذره العفة حتى داخل الزواج.
وينسجم هذا تماماً مع خط تأمُّله في شفاعة
إبراهيم من أجل سدوم. فموقف ماسينيون مبنيٌّ
على تأمُّله في ضياعه الأخلاقي قبل اهتدائه،
وعلى تفكيره بالانحراف الأخلاقي والروحي عند
بعض تيارات الإسلام، وكذلك على موقفه
المتألِّم أمام الانحراف الأخلاقي لدى
المجتمع الغربي الحديث. فأصبح من جراء ذلك
رئيس جماعة أصدقاء غاندي في باريس، يزور
السجناء السياسيين ويدافع عن المضطهدين
ويتحمل السخرية والضرب في جهاده من أجل
السلام وتحرير الجزائر، ويدافع عن حقوق العرب
في القدس، ويوسِّع قلبه لكل القضايا
الإنسانية، ويصوم ويحجُّ في سبيل القضايا
الحاسمة في جيله. ونجده يعيش كهنوته الكنسي
بطريقة إبراهيمية ويقرِّب نفسه أضحية مع
المسيح شهادةً للحق. وإني
بتأثر وتعزية, أنا أيضاً, رجعتُ إلى دلهي بعد
زيارة ماسينيون لها مع صديقي الهندي ثاني
اثنين خان، حيث زرنا بيرلا هاوس Birla House،
مكان استشهاد المهاتما، وذكرنا معاً, كما ذكر
ماسينيون مرات عديدة, أيام غاندي الأخيرة
برفضه المتألِّم لانشقاق الهند وتهجير
الملايين من المسلمين والهندوس. وقد كان
صرَّح بأنه يريد أن يهاجر إلى الباكستان
ليعيش فيها ضمن الأقلية، مفضلاً ذلك على أن
يكون ضمن أكثرية لم تستطع أن تتفق ولم تُرِدْ
أن تضحي من أجل وحدة الهند. فأصبح أيضاً يدافع
عن أقلية المسلمين في دلهي، ويزور معهم سيراً
على الأقدام أماكنهم المقدسة، ثم يموت على يد
من يرفض هذا الانفتاح، وعلى لسانه لفظ
الجلالة بالسنسكريتية ("هاي رام")،
محققاً نذره، وصائراً بذلك, كما قال عنه
ماسينيون, "رجل آلام". ومع
موقفه الغانديِّ، أصبح ماسينيون رجلاً
يوسِّع تضامنه مع البشر حتى أقاصي الأرض،
يشهد على ذلك ما كتبه عن زياراته التقيَّة إلى
بعض الأماكن المقدسة حتى في اليابان. وبذلك
توسَّعت آفاق "البدليَّة" (الجماعة
المسيحية المكرَّسة للشفاعة من أجل الإسلام)
مع توسُّع آفاق ماسينيون، وإن بقيت مؤصَّلة
في نذره مع ماري كحيل في دمياط. ونحن نعلم أن
الثالث في البدلية كان راهباً يسوعياً هو
الأب دو بونفيل. فالحديث
عن الجهاد الإسلامي, مهما كان واقعياً وفقاً
للظروف المتوترة الحالية, لا يستطيع أن
يتجاهل موقف ماسينيون الروحي أمام العالم
الإسلامي وفيه. كان
ماسينيون يقول إن مَنْ يعتبر غاندي مخترعاً
لمنهج للكفاح الاجتماعي والإنساني هو مخطئ؛
فإنه ليس بمنهج، بل هو موقف روحي صوفي قبل أن
يأتي إلى ساحة السياسة. فإن أردنا أن نفهم
موقف ماسينيون الصوفي، علينا أن نرجع إلى
فوكو. فعلى الرغم من التناقضات العائدة إلى
ظروفه التاريخية, يبقى هو من يمثل في كنيسة
القرن المنصرم موقف من أراد أن يرجع إلى قلب
إنجيل المسيح, إلى منبع موقف المسيح, إلى صمت
وتواضع الناصرة. لقد
استطاع ماسينيون أن يربط بين موقف صديقه
ومرشده، الأخ شارل دو فوكو، وبين خبرة غاندي
الروحية والسياسية عبر شهادة الحلاج, حيث يرى
فيه من حاول أن يعطي للبعد الروحي وللخبرة
الروحية دوراً واضحاً ظاهراً في حياة الأمة
الإسلامية. كما يرى ماسينيون، بجهاده
وبمشروعه السياسي, لا بل وبنظريَّته عن
التاريخ, أن هناك من يدفع الحركة ويؤدي الثمن
ويكفِّر عن الخطيئة في سبيل بناء وحدة
البشرية الروحية نظراً إلى يوم الدين, يوم
الحشر, الذي فيه يترادف الحساب تماماً مع
الميثاق. ويَعدُّ
ماسينيون بين هؤلاء الأبدال فوكو مع الحلاج
وغاندي. ونحن، بدورنا، نضيفه إليهم. لقد
أسس غاندي جماعات Ashram
من الملتزمين بالجهاد اللاعنفي، المكرَّسين
بالعفة وبالزهد وحياة التضامن واحترام
الطبيعة. وقد كان ماسينيون يعرف المجموعات
الغاندية التي أسَّسها لانتزا دِلْ فاستو Lanza
del Vasto في فرنسا. وبفهم
عميق للتطور الأنثروبولوجي عبر القرن
المنصرم, كان ماسينيون منتبهاً جداً للبعد
الروحي والسياسي للعلاقة بين الرجل والمرأة.
ولذلك فهو يربط، رمزياً، بين الجماعات
الغاندية والأديرة المسيحية التأمُّلية,
ويركز على ضرورة الحفاظ على أماكن روحية ذات
بعد فني وتاريخي بجوار المدن الإسلامية، حيث
يشبِّهها بصوامع الأديرة الشرقية في البرية.
وهذه الأماكن المقدسة أنثوية ومريمية
وإفسُسية وفاطمية. وقد شاهد ماسينيون في حياة
مريم ويوحنا التلميذ في إفسُس أنموذج الموقف
الذي تجد به البشرية خلاصها والكنيسة كمالها.
وهو يتمنى تأسيس مجموعات مشتركة من متأمِّلين
ومتأمِّلات يقفون في ما بين الحدود الفاصلة
جيوشَ جهاد على جبهة الكفاح الروحي, حيث
يحفظهم من كل شر حضورُ الله المقدس السرَّاني
المتطلب الشافي, مجسِّدين نذرهم في سبيل الحق
بأفعال رحمة، أوُّلها ضيافة الغريب. وهم شهود
لطعنة الرمح في جنب المسيح مع العذراء ويوحنا
والمجدلية. وطعنة
الرمح هذه، على حدِّ قول ماسينيون، هي
الإسلام، والرمح هو الجهاد... *** *** *** BIBLIOGRAPHIE
Louis Massignon, Les trois
prières d’Abraham, Tours, 1935. _____________ , Essai sur
les origines du lexique technique de la mystique musulmane, Paris, 1954. _____________ , Annuaire du
monde musulman (Préface), Paris, 1955. _____________ , Opera
Minora, Beyrouth, 1963, in particular: -
Vol. I. « Le mirage byzantin dans le miroir bagdadien d’il y a mille ans »,
1950. -
Vol. I. « La futuwwa
ou ‘pacte d’honneur artisanal’ entre travailleurs musulmans au Moyen-Âge »,
1952. -
Vol. I. « La
notion du vœu
et la dévotion musulmane à Fatima », 1956. -
Vol. I. « L’oratoire
de Marie à l’Aqça
vu sous le voile de deuil de Fatima », 1956 -
Vol. III. « Les
trois prières d’Abraham », 1949. -
Vol. III. « Le
pèlerinage », 1949. -
Vol. III. « Gandhian Outlook and Techniques », 1953. -
Vol. III. « L’exemplarité singulière de la vie
de Gandhi », 1955. -
Vol. III. « Un vœu et
un destin : Marie-Antoinette », 1955. -
Vol. III. « La signification spirituelle du dernier
pèlerinage de Gandhi », 1956. -
Vol. III. « Le Vœu et le destin », 1957. -
Vol. III. « Méditation d’un passant sur sa visite aux bois sacrés d’Isé »
(English text), 1959. -
Vol. III. « Foucauld
au désert devant le Dieu d’Abraham, Agar et Ismaël »,
1960. -
Vol. III. « L’honneur
des camarades de travail et la parole de vérité », 1961. -
Vol. III. « Allocution
à l’occasion du 13e Anniversaire de la mort de Gandhi », 1961. _____________ , La passion
de Hallâj, Martyr mystique de l’Islam. Paris, 1975. _____________ , Parole donnée,
Paris, 1983. _____________ , L’Hospitalité
sacrée, Paris, 1987. _____________ , Examen du
« Présent de l’homme lettré » par Abdallah Ibn Al-Tarjoman.
Rome, 1922. AA. VV., Louis Massignon,
mystique en dialogue, in Question de, Paris, 1992, in particular: -
« Entre la violence et
la mystique », Yvonne Chauffin -
« Le signe marial »,
entretien avec Louis Massignon -
« Sa spiritualité »,
Roger Arnaldez ‘Abdu-r-Rahmān
Badawī, Shahsiyāt qaliqa fi-l-Islām,
al-Qāhira, 1995. Giulio
basetti Sani, Louis Massignon (1883-1962), Firenze, 1985. Paolo
Dall’Oglio, Speranza nell’Islām,
Interpretazione della prospettiva escatologica di Corano XVIII, Genova, 1991. Cahier Dar Essalam, Mémorial
Louis Massignon, Le Caire, 1963. Camille Drevet, Massignon
et Gandhi : La contagion de la Vérité. Paris, 1967. Jacques Keryell, Jardin
donné. Paris-Fribourg, 1993. Herbert Mason, Massignon : Chronique
d’une amitié. Paris, 1990. Giuseppe Rizzardi, Louis
Massignon: Antologia di testi teologici, Pavia, 1994. Pierre Rocalve, Louis
Massignon et l’Islam. Damas, 1993. Jean-François Six, Itinéraire
spirituel de Charles de Foucauld. Paris, 1958. ______________ , L’aventure
de l’Amour de Dieu. Paris, 1993. *** الصلاة الأخيرة
أو
"صلاة السجن"
الحسين
بن منصور الحلاج
هذا
الدعاء هو الصلاة التي تلاها الحلاج في سجنه
عشية تعذيبه في 25 آذار 922 (23 ذو القعدة 309)
واعتبره المستشرق الحلاجي لويس ماسينيون
يشرح أفضل شرح عقيدة التقديس لدى الحلاج؛
ويمكن استخلاص الكثير من مبادئ الحلاج من
خلاله أو من خلال ما تبقى منه. وهو شبه مجهول،
إن لم يكن مجهولاً؛ وقد أورده ماسينيون، في
صيغ أربع، في تحقيقه كتاب الطواسين الذي
صدر عام 1913 في باريس عن مكتبة بول غوتنر
باللغتين العربية والفرنسية (بترجمته). وأورد
ماسينيون في تحقيقه الترجمة الفارسية للدعاء
(وكان قد قام بها البقلي في كتاب الشطحات). وهذا
الدعاء كان قد مُثِّل في رواية أوقات الحلاج
الأخيرة بحسب "خادمه" ابرهيم بن فاتك
الذي سُجِن معه. وابرهيم هذا من المتصوفة
المعروفين. ولعل الروايات المختلفة للصلاة
تثبت أهميتها. وإن
كان ينبغي نشر الصيغ الأربع لهذه الصلاة،
علاوة على الترجمة الفارسية التي قام بها
البقلي، فإننا هنا نقدم صيغتين لها كما
نشرهما ماسينيون بأخطائهما وهناتهما
ونقصانهما تبعاً للروايات القديمة. ويجب،
أصلاً، قراءة الصيغ كلها معاً للمقابلة فيما
بينها. وقد حملت الحروف الآتية: أ - ب - ج – د. عبده وازن ***
صيغة
أولى[1]
1.
نحن
شواهدك نلوذ بسَنا عزَّتك لتبدي ما شئت من
شأنك ومشيئتك، 2.
أنت الذي في
السماء إله وفي الأرض إله، 3.
يا مدهِّر الدهور
ومصوِّر الصور، يا من ذلَّت له الجواهر،
وسجدت له الأعراض، وانعقدت بأمره الأجسام،
وتصوَّرت عنده الأحكام، 4.
يا من تجلَّى لما
تشاء [كما تشاء] كيف شاء مثل التجلِّي في
المشيئة لأحسن الصورة [وفي نسخة: "مثل تجليك
في مشيئتك كأحسن الصورة"]، 5.
والصورة هي الروح
الناطقة التي أفردته بالعلم والبيان
والقدرة، 6.
ثم أَوعزت إلى
شاهدك في ذاتك الهوى اليسير، 7.
لما أردت بدايتي
وأظهرتني عند عقيب كراتي ودعوت إلى ذاتي
بذاتي، 8.
وأبديت حقائق
علومي ومعجزاتي، 9.
صاعداً في معارجي
إلى عروش أزلياتي، عند القول من بريَّاتي، 10.
إني أُحتضَر
وأُقتَل وأُصلَب وأُحرَق وأُحمَل على
السافيات الذاريات، 11.
وإن لذرة من
ينبوع مظانِّ هيكل متجلِّياتي لأعظم من
الراسيات. *** صيغة
ثانية[2]
1.
نحن
بشواهدك نلوذ، وبسَنا عزتك نستضيء، لتبدي ما
ثبت من شأنك، 2.
وأنت الذي في
السماء عرشك، وأنت الذي في السماء إله وفي
الأرض إله، 3.
[...] 4.
تجلَّى كما تشاء
مثل تجلِّيك في مشيئتك كأحسن صورة ولا صورة، 5.
والصورة فيها
الروح الناطقة بالعلم والبيان والقدرة
والبرهان، 6.
[...] 7.
كيف أنت إذا مثلت
بذاتي عند عيانك ذاتي، 8.
وأظهرت معراج
علومي بعجزي، 9.
[...] 10.
إني أُخِذتُ
وحُبِست وأُحضِرت وصُلِبت وأُحرِقت واحتملتْ
الزياداتُ أجزآي، 11.
وإن ما بقي في
معناي متخلياً أعظم من زوال الراسيات. *** *** *** [1]
تنقيح حمد بن الحلاج بحسب رواية
ابن باكويه في بداية حال الحلاج ونهايته. [2]
تنقيح ابن الحداد المصري بحسب
مخطوط برلين الرقم 3492.
|
|
|