|
سادهانا
فن
الرياضة الروحية
الرابي ديفيد كوبر تُلمِع
غالبية المنقولات الحِكَمية إلى أن الوعي
العادي هو في الواقع سبات روحي، وإلى أننا
نفوِّت على أنفسنا إدراكاً أعلى للواقع –
الأشياء كما هي حقاً. لقد قدَّم المعلِّمون
الروحيون على كرِّ التاريخ المدوَّن النصح من
أجل تنمية البصيرة – سادهانا – وَصْفات
من أجل إيقاظ الوعي الأعلى في كلٍّ منَّا. لكن
المواظبة على سادهانا ثابت تبدو لكثير من
الناس أمراً بعيد المنال. مع
أن لكل جيل ثلة من الأفراد الذين يحققون
مستويات رفيعة من التفتُّح الروحي علينا أن
نسأل أنفسنا لماذا بقيت الأغلبية الساحقة من
جمهور البشرية على كرِّ التاريخ غافية. ما هو
السر المخبوء في التعاليم الذي لم نفقهه بعد؟
ماذا نحن بعدُ بحاجة لأن نتعلَّم؟ من
البيِّن أن المعلومات بحدِّ ذاتها لا تكفي
لإنجاز مهمة الإيقاظ. فالتحسينات في
تكنولوجيا المعلومات إبَّان القرن المنصرم،
من نحو تيسير الوسائط الإلكترونية والمكتبات
الضخمة والاتصالات الآنيَّة، جعلتنا على
مقربة ضغطة زر من كل الاكتشافات الكبرى، من كل
الحقائق البيِّنات، ومن كل ذرة حكمة
تُنوقِلَت عبر العصور. حقاً لقد بوركنا (وقد
يقول بعضهم لُعِنَّا) بأن صار في متناولنا
المباشر من المعلومات أكثر مما كان متاحاً
لملوك وأباطرة وحكماء الماضي. إن العديد من
التعاليم الحِكَمِية العميقة باتت في الواقع
من الشيوع بحيث إنها تُفِّهَت من فرط ما
استُهلِكَت؛ على سبيل المثال: "الله محبة"،
"الحضور هنا الآن"، "الحقيقة هي في
الداخل"، الخ. ومع ذلك فإن القلة بيننا وحسب
صاحية – على الرغم أن بوسعنا في الحال أن
نكتشف في المكتبة المحلية مراجع لكل التعاليم
الحِكَمِية تقريباً بخصوص النعاس الروحي.
بذلك فإن معرفة الحقيقة، بحسب غالبية
المعلِّمين، لا تكفي، ولا يمكن تحقيق اليقظة
إلا من خلال الخبرة الشخصية المباشرة. ليس
بوسع أحد سوانا أن يوقظنا؛ بوسعنا فقط أن نوقظ
أنفسنا. طيب،
لقد سبق لنا أن سمعنا هذا. وبالفعل فإن الكثير
من الناس في هذا العصر لا يشعرون بالاستعداد
للاستيقاظ وبالتشوُّق إليه وحسب، بل
ويتكبدون مشقة التفتيش عن معلِّمين، يقرؤون
الكتب، يَحْضَرون المشاغل التدريبية وحلقات
البحث، يجربون تمارين مختلفة، يغيِّرون
حِمْيَتَهم، وعموماً يتسقََّّطون أي بريق
للإكسير الذي سوف يجلب لنا النور الصافي
للبصيرة الكاملة. بعضنا
يمارس يومياً رياضات تأمل، أو صلاة، أو أية
مناسك روحية أخرى. والعديد من الناس يجدون أن
الممارسة، بعد انقضاء الحماس المبدئي،
تتوانى شيئاً فشيئاً. وبعضنا الآخر يكتشفون
أنهم يستطيعون أن يجلسوا ممارسين التأمل
سنوات بدون أي حسٍّ بالتقدم: ما يزالون يخرجون
عن طورهم في ازدحام السير، ما تزال علاقاتهم
صعبة، والحياة ما تزال صراعاً. لا بل إن
رياضتهم تولِّد حتى إحساساً أعظم بعدم الرضى،
إذ يصيرون أوعى بتكرُّر نومهم وبمقدار عمقه
مُياوَمَة. ينجم
عن ذلك أن بعض القوم يجتنبون أو يعزفون عن
الرياضة الروحية برمَّتها، واجدينها مستغرقة
من الوقت، أو شاقَّة، أو مُحبِطة أكثر مما
ينبغي. بعضهم الآخر يظلون بين إقدام وإحجام،
يجرِّبون قليلاً من هذا وقليلاً من ذاك،
يمرون بفترات من الالتزام الشديد، لا يلبثون
بعدها أن يتوانوا، إنما بدون أن يشعروا أبداً
بالرضى حقاً عن مستوى رياضتهم. وبعضهم الثالث
يواظبون على برنامجهم اليومي مهما تقلَّبت
الظروف. لكن
ثمة عنصر حاسم يحدِّد الدرجة التي يستفيد
منها واحدهم من الرياضة، ألا وهي: ما دمنا
نبعِّض حياتنا إلى فترات للرياضة الروحية،
وإلى فترات لكل ما تبقى، فإننا نحكم على
أنفسنا بمواصلة التفكير المثنوي الذي،
بطبيعته، يُفسِد نفسه بنفسه. قد يبدأ التأمل
وينتهي بصوت جرس، لكن رياضتنا الروحية ينبغي
أن تتخطى الأجراس. بعبارة أبسط: الحياة نفسها
هي السادهانا الخاص بنا. كلَّما
فكَّرنا تفكيراً مثنوياً تغيَّر إطارنا
المرجعي تغيُّراً يتربص بنا. عندما أعتقد أني
منخرط في رياضة روحية فإني أقحِم صوتاً
خافتاً يقول: "الآن أقوم برياضتي." لا
هَمَّ إن قلت هذه الكلمات بعينها؛ إذ إن الأمر
حالة وعي أكثر منه شيئاً آخر. في هذا النموذج
المثنوي، ما إن أنتهي من رياضتي حتى أكفَّ عن
القيام بجهد للانتباه، وسرعان ما أعود إلى
حالتي الذهنية الاعتيادية، الرتيبة،
المشروطة بالكلِّية. إن
الناس الذين يدأبون على الممارسة يألفون أكثر
حالاتهم الذهنية ومن شأنهم أن يلحظوا أكثر من
غيرهم ماذا يحدث حقاً، حتى عندما يفرغون من
رياضتهم التأملية. وبالفعل، فإن الرياضة
المنتظمة، مع الوقت، تقود مراراً إلى كشوف
كبرى. بيد أنه مادام وهم المثنوية مستديماً،
حتى المريدون المخضرمون ينْحَوْن إلى التورط
في مأزق الشكل عديم المضمون. يعرفون كيف يبدون
جيدين في الرياضة، إنما لا يحدث إلا القليل.
لقد لحظ تشوغِـيام تْـرُنْـغْـبا ذات مرة:
"بما أن أمريكا تستميت في السعي إلى
الروحانية... نرى الدجالين في دور التلميذ، شيلا،
مثلما نراهم في دور الغورو."[1] بيد أننا حالما نفهم أن البصيرة الروحية إنما هي بالحريِّ نتاج أسلوب حياة، وليس رياضة مبعَّضة، فإن توقعاتنا تتعرض لتغيير درامي. ومقاربتنا للسادهانا تتَّخذ معنى جديداً، بحيث نتوصل إلى إدراك أن ازدحام السير والعلاقات وكل شيء آخر نصادفه في وعينا الآني هو فرصة للرياضة. عندما سُئل تْـرُنْـغْـبا رِنْـبوتْـشـِه عن المعلِّم الذي كان يتبعه أجاب: "المواقف هي صوت الغورو، حضور الغورو."[2] وعندما سُئل عمَّا كان يرشده على الدرب قال: "المرشد لا يتقدَّمك في السير بل يسايرك."[3] الغورو
واقع حاضر أبداً عندما
قرأتُ هذا قبل عشرين عاماً بدا لي مهماً، لكني
ما كنت لأتصور مقدار عمقه حتى اكتشفت بنفسي
لدى قيامي بخلوة ثلاثة أشهر صامتة أن كل حدث
نصادفه، كلَّ منبِّه يدخل حواسنا، كلَّ خاطر
يخطر في بالنا، هو رسالة من معلِّمنا الكامل.
الغورو المثالي واقع حاضر أبداً. لا حاجة بنا
إلى انتظار وصول أحدهم، ولا حاجة بنا إلى
السفر بحثاً عن معلِّم؛ فالمعلِّم الكامل هنا
في هذه اللحظة وأنت تقرأ هذه الكلمات. قفْ
للحظة وحسب. دَعِ البصيرة تطلَع مما يحدث. كيف
أنت جالس؟ حِسَّ بضغط الكرسي، أو الأريكة، أو
الأرض، وإذا كنت تقرأ على الخط، اشعرْ بملمس
الفأرة في يدك، لاحِظ ما يحدث في الذهن،
ارصُدْ رفيف الانفعالات، اختبِر كيف يقاوم
الذهن، يُذعِن، يضيِّق على نفسه. وفيما
البصيرة تنير ما يحدث من لحظة للحظة، تذكَّر
شيئاً واحداً: الغورو المثالي لا يتواصل
باللغة العادية أو برموز واضحة؛ إنه بالحريِّ
يستعمل المجاز والاستعارة والقياس – إنه
شاعر يستعمل لغة الأحداث والخواطر والمشاعر
والأفعال. فإذا كنت راغباً، خُذْ دقيقة من
وقتك وارصُدْ عن كثب شديد ما يحدث في ذهنك
وجسمك التوَّ، مفترضاً أن أستاذك يتواصل معك.
قد ترغب في إغماض عينيك إذا كان ذلك يساعد،
محاولاً ملاحظة كلِّ خاطر يطلَع. لقد
أنجزت لتوِّك المهمة المركزية لتعلُّم كيفية
تعزيز اليقظة الروحية. كل لحظة نلحظ فيها ما
يحدث في الجسم–الذهن، في بيئتنا المباشرة،
في استجاباتنا للمنبِّهات، أو في حالة وجودنا
بعامة، فإننا نكون في سيرورة اليقظة؛ وكل
لحظة تنعدم فيها ملاحظتُنا، نكون فيها نائمين. لعلَّك
اكتشفتَ أنه ليس من الصعب استدعاء البصيرة
إلى الواعية. فالبصيرة هي صديقتنا المسعِفة
المخلصة، الحاضرة أبداً عند الطلب. وأنت
تقرأ، دعِ البصيرة تصغي إلى الأصوات القصيَّة.
لاحظ أنك تواً ربما تسمع شيئاً لم تكن تدرك
أنك تسمعه قبل بضع ثوانٍ. بمستطاعك أن تسمع
هذا الصوت وأنت تواصل القراءة في الوقت نفسه. لاحظ
أيضاً الفرق بين الشعور باليقظة والاختبار
العادي للنعاس. عندما نشجع البصيرة على
الحضور، سواء كنَّا نلحظ جسمنا، خواطرنا،
انفعالاتنا، حالاتنا الذهنية، أو المنبِّهات
القارعة – وأنت تقرأ لا يسعك إلا أن تلحظ هذه
الأمور – هناك حسٌّ مشتدٌّ بالحيوية،
بالنبضان، بالاهتمام، وعند الكثير من الناس،
شعور جديد بالأمل، والتكامل، والكلِّية. هذه
هي خبرة اليقظة. ثمة
رياضات لا عدَّ لها في طيف واسع من المنقولات
الحِكَمِية. فما إن نتخطى العقيدة والقيود
الإيديولوجية حتى يتبيَّن لنا أن القصد من
هذه الرياضات كلِّها هو تعزيز اليقظة. بيد أن
سؤالاً ينطرح: إذا كانت بصيرتنا تأتي دوماً
عندما تُستدعَى وتهيِّئ المسرح على الفور من
أجل سيرورة اليقظة، فما القصد من هذه
الرياضات المختلفة كلِّها؟ لماذا لا يكتفي
المرء باتِّباع رياضة شخصية تستدعي البصيرة
على الدوام؟ بالفعل،
لِمَ لا؟ إن عدداً من المعلِّمين الكبار
يشيرون بهذا المنهج. لقد كان تعليم
كريشنامورتي الأصلي هو: "ماذا تنتظر؟" لا
تنتظر شيئاً، حذارِ من فخ المنظومات
والمعتقدات، كُنْ بصيراً وحسب. قال: عندما تكون هناك
حساسية تامة للذهن ككل، عندئذٍ سوف نتصرف على
نحو مختلف؛ تفكيرنا وشعورنا سوف يكونان من
بُعْدٍ مختلف بالكلية. إنما ليس ثمة منهج...
الرجاء أن تدركوا هذا، لأنكم عندما تدركونه
تتحررون من العبء الضخم لكل سلطة وبذلك
تتحررون من الماضي... ماذا على المرء أن يفعل؟
كل ما على المرء أن يفعل هو أن يبصر. أن يبصر
الزاوية، البيت الصغير الذي ابتناه المرء في
زاوية حقل شاسع، لا يقاس، وعاش فيه، مقاتلاً،
منازعاً، محسِّناً، أن يبصر ذلك... ما يهم
إذن ليس هو التعلُّم بل البصر والسمع... إذا
استطعت أن تبصر، ليس عليك أن تفعل غير ذلك،
لأن في ذلك الإبصار كل الانضباط، كل الفضيلة...
كل الجمال... عندئذٍ حيثما تكون فالسماء
لك؛ عندئذٍ يوضَع حدٌّ لكل سعي.[4] ذلكم
مثال على تعليم حِكَمي رفيع – لا يُدحَض،
مباشر، واضح، فيه حلٌّ يضمن السماء على الأرض
ونهاية بحثنا. وهو، إلى ذلك، لا تبدو ممارسته
من الصعوبة بمكان. ولكن، بكل أسف، كان
لكريشنامورتي عشرات آلاف الطلاب، ومع ذلك قال
مع دنوِّ نهاية عمره أنه ما من أحد منهم
فَهِمَ رسالته حقَّ فَهْمِها. لعل هذه
العبارة مبالغ فيها، وهناك ثلة من طلابه
اكتشفوا فعلاً بأنفسهم حقيقة نَقْلِه. غير أن
الغالبية الساحقة ممَّن جلسوا عند قدميه لم
يتمكَّنوا من إدراج هذا المستوى الجوهري من
البصيرة في حياتهم اليومية. محاولة
اليقظة ماذا
يحول بيننا وبين اليقظة، مع أننا نظن أننا
نحاول قصارى جهدنا، وحتى عندما يدلُّنا
معلِّمونا على الطريق؟ بعض المعلِّمين
سيقولون إن محاولة الاستيقاظ بحدِّ ذاتها
تحمل إخفاقها فيها. إن كتابات الحكيم الطاوي
خوانغ تسو منذ ألفي عام تقول: ليس بمقدوري أن أبتَّ
فيما إذا كان ما يعتبره العالم "سعادة"
هو سعادة أو ليس كذلك... رأيي هو أنك لن تجد
السعادة أبداً حتى تكفَّ عن التفتيش عنها.
سعادتي العظمى هي بالدقة عبارة عن عدم فعل أي
شيء محسوب من شأنه أن يمنحني السعادة: وهذا،
بنظر غالبية الناس، هو أسوأ مسلك ممكن. سوف
آخذ بعبارة أن "الفرح الكامل هو أن تكون بلا
فرح. والحمد الكامل هو أن تكون بلا حمد."[5] إن
فعل الجلوس عند قدمي الغورو ينطوي على الرغبة
في بلوغ الذات. وخوانغ تسو وكريشنامورتي
كلاهما سوف يقول بأن التفتيش عن الغورو خارج
النفس أمر سيبوء لا محالة بالفشل. ومع ذلك،
فإن العديد من المنقولات يعلِّم بأنه بدون
غورو/مرشد/معلِّم لا يستطيع المرء أن يحقق
تقدماً روحياً صحيحاً. إنها تتفق على أن علينا
أن نوقظ أنفسنا، إنما بدون يدٍ مسعفة – على
حدِّ قولهم – يبقى هذا متعذَّراً من حيث
الإمكان. لقد
استمر هذا الجدال آلاف السنين، ولعلَّه سوف
يستمر آلاف السنين الأخرى. بيد أن ثمة نقطة
واحدة مؤكدة: لا يبدو أن وجود المرشد أو عدم
وجوده هو العامل الحاسم في يقظة المرء؛
فالعديد من المعلِّمين الكبار تتلمذ على
معلِّم، والعديد منهم لم يتتلمذ. عندئذٍ
نبقى متروكين لوجهتي نظر متعارضتين: الاعتقاد
بأن اليقظة تتطلب منهجاً ورياضة، مقابل فكرة
أن اليقظة متعذرة عندما نتبع منهجاً أو
رياضة؛ وموقف أن اليقظة تتطلب معلِّماً/مُعِيناً
يرشدنا، مقابل الرأي القائل بأن اللجوء إلى
معلِّم/مُعِين يستدعي اتكالاً على سلطة ينطوي
على علَّة إخفاقه. يزودنا
هذان الموقفان المتناقضان من حيث الظاهر
بمثال ممتاز على الحضور المستمر للمعلِّم
المثالي. إذا قرأنا المقطع السابق في ضوء وعي
التفكير المثنوي – حالتنا الذهنية المعتادة
– نبقى بدون أي اتِّجاه أو نُصْح في تشوُّقنا
إلى التفتح الروحي. ويبدو أن التعاليم، في
الواقع، تقول لنا إننا، أياً كان منقَلَبُنا،
محكوم علينا بالفشل. فلننقل
بصيرتنا للحظة ولنصغِ إلى همس التعليم القائل
بعدم وجود مثنوية. إنها البصيرة التي يصفها
كِنْ وِلْبر بكونها المبدأ الرئيسي للـدْهَـرْمَـدهاتو
(العالم أو الحقل الكلِّي للواقع) الذي يدعى شِهْ
شِهْ وُو أيْ، الذي يُتَرجَم بـ"بين كل
الأشياء والأحداث في الكون ليس ثمة حدٌّ."[6] من
منظور "اللامثنوية"، قد يُحَلُّ التناقض
الظاهري بإيجاد عامل مشترك لم يكن ملحوظاً
حتى ئذٍ. عندئذٍ ما هو المنهج أو رياضة التفتح
الروحي الذي ليس بمنهج ولا هو برياضة؟ ما هو
المعلِّم/المُعِين الذي ليس معلِّماً/مُعِيناً؟
ذلكم هو الـكُوان الذي يعطيه لنا الغورو.
من الأفضل عدم الاشتغال عليه اشتغالاً
مباشراً، شأنه شأن كل تحديات الكُوان، بل
مقاربته مَمَاسياً؛ وبذلك قد ننكص للحظة. لكل
منقول نموذج للكائنات المستيقظة؛ وواحد من
أكثرها تحديداً هو درب الـبودهيسَـتّْـفا
البوذي. وكلمة بودهي تعني الصحو، أو حالة
اليقظة. والفهم النَّقْلي للبودهيسَـتّـْفا
هو "مَن بلغ الاستنارة وهو في طريقه إلى
البوذاوية لكنه يؤجِّل هدفه وفاءً لنذر
بمعونة كل الأحياء على بلوغ الخلاص."[7]
لكني أفضل تعريف تْـرُنْـغْـبا
رِنْـبوتْـشـِه: "مَن يتحلَّى بما يكفي من
الشجاعة للسير على درب الـبودهي... وهذا لا
يعني أن على الـبودهيسَـتّْـفاأن يكون قد
بلغ اليقظة التامة، إنما أنه راغب في السير
على درب الأيقاظ."[8] علينا
أن نتأنَّى في اللغة التي نستخدمها في وصف
سيرورة الاستيقاظ لأن ثمة فخاً ذهنياً حاذقاً
من شأنه أن يوقِعنا في شراكه الدبقة. والفخ هو
المداومة على فكرة وجود حالة نهائية من
الاستنارة الصافية واليقظة التامة، وأن هذان
مطلبان قابلان للنيل. بعبارة أخرى، خرافة
وسوء فهم أن الاستنارة شيء أو مكان – اسم –،
بينما هي في الحقيقة سيرورة – فعل. قد يتفق
لنا أن نستخدم أحياناً كلمة "يَقِظ"
للإشارة إلى حالة وجود بالنسبة إلى النعاس أو
الجهل، لكنها يجب ألا تُفهَم بوصفها نقطة
نهاية. بذلك عندما نناقش "درب الأيقاظ"
ينبغي أن يقع التشديد على "درب" – أي
السيرورة – لأننا نعدم أية فكرة عما يعنيه
كون المرء "يقظاً" وينبغي ألا نفترض أنه
نقطة أوج. وبالفعل، فإن جميع "الأيقاظ"
أنفسهم يشددون على رسالة عدم الديمومة، التي
تعْلِمنا بأن كون المرء يقظاً هو ظاهرة تتغير
على الدوام. إن
سيولة سيرورة الاستنارة مبيَّنة بقصة رواها
تْـرُنْـغْـبا رِنْـبوتْـشـِه عن ناسك –
معروف بأنه بودهيسَـتّْـفا – سمع بأن مولاه
قادم للزيارة، وهكذا سارع إلى تنظيف كوخه
الصغير حتى أزال عنه كل غبار. ثم في لحظة
تفكُّر أدرك أنه ينافق لأن هذه لم تكن طريقة
حياته المعتادة، لذا جمع حفنات من الرماد
ونثرها من حوله حتى صارت غرفته مزرية. عندما
وصل المولى انبهَر بالخاصية الطبيعية
للغرفة، ثم قهقه كلاهما عندما اعترف له
الناسك بما فعل.[9]
ويلحظ تْـرُنْـغْـبا رِنْـبوتْـشـِه: "إنه
لمما يثير الاهتمام أن الـبودهيسَـتّْـفا،
مع أنه قد نذر بألا يبلغ الاستنارة... فإنه
يحيا الحياة بتمامها وملئها، والنتيجة هي أنه
قبل أن يدرك أين هو، يكون قد بلغ الاستنارة. لكن
زهده في بلوغ الاستنارة يتواصل بقوة لا
يستهان بها، حتى بعد أن يكون قد بلغ البوذاوية."[10]
(الحرف المائل من تدخلي) المسألة
هي أن الاستنارة لا تنطبق قطعاً على تصوراتنا
عنها. إنها هي ما هي – تتغير على الدوام –
وعلى مفاهيمنا المتصوَّرة مسبقاً أن تُنحَّى
جانباً. علاوة على ذلك لسنا مضطرين إلى محاولة
دخول سيرورة الاستنارة؛ فهي تحدث دائماً.
فكم يقول رامانا مهاريشي: "إن درجة غياب
الخواطر [الأجنبية] هي مقياس تقدُّمك
باتِّجاه التحقُّق بالذات. لكن التحقق بالذات
بحدِّ ذاته لا يقبل التقدم، إذ هو هو أبداً.
فالذات تبقى في تحقُّق دائماً. العوائق هي
الخواطر. والتقدم يقاس بدرجة إزالة العوائق
لفهم أن الذات متحققة دائماً."[11] ست
فضائل على الدرب درب
الـبودهيسَـتّْـفا مصمَّم لتعزيز إزالة هذه
العوائق. فهو عبارة عن ست فضائل تدعى بَـرَميتا.
كلمة بَـرَمْ تعني "الضفة الأخرى" وإيتا
تعني "وَصَلَ". بذلك فإن الـبَـرَميتا
هي الطرق التي يتخطى بها المرء العوائق إلى
شاطئ الصحو المنير. وهذه الفضائل الست هي: دانا
(العطاء، بكل صوره)، سيلا (الأخلاق،
الانضباط)، كْشَـنتي (الصبر)، فِـرْيا
(الطاقة، الهِمَّة)، دْهِيانا (التأمل،
البصيرة)، وبْرَجْـنا (الحكمة العليا).[12] إن
فكرة دانا غالباً ما تلتبس بالإحسان. لكنها
تعني التخلي عن العسر الناجم عن التواحُد
القوي بـ"أنا/نفسي" الذي تنجم عنه
الأنانية. بذلك فإن دانا في الواقع هو التعبير
عن الكرم غير المشروط الذي يتطلب حالة ذهنية
من الغيرية. يصف
تعليم حصيدي رجلين يذرعان شارعاً. صادف
أحدهما متسولاً قذراً ذا مظهر متجهِّم قبيح،
فلم يشعر الرجل بأي شعور دافئ نحو المتسول؛ لا
بل إن خلق المتسول الكريه نفَّره. لكنه كان
لتوِّه قد قبض مبلغاً من المال وكان بحكم
الشريعة اليهودية ملزَماً بأن يؤدي مقدار
العشر من المال صدقة عنه. لذا فقد أعطى
المتسول العُشْر المطلوب. أما
الفرد الثاني فلم يكن ملزَماً بتأدية أية
صدقة، لكنه رأى شخصاً شقياً لامس قلبه، لذا
فقد أخرج درهمين نَقَدَه إياهما. والسؤال هو:
من منهما أدَّى صدقة (دانا) أعظم من صدقة
الآخر، الذي أعطى بحكم الشريعة اليهودية، أم
الذي أعطى بدافع مشاعره الشخصية؟ يعلم
الربانيون أن الذي أعطى بحكم الإلزام أدَّى
الصدقة الأسمى. لماذا؟ لأن الذي يعطي بدافع
مشاعره يظن أنه يفعل شيئاً لأحدهم، بينما
الذي يعطي بحكم الشريعة قد نحَّى نفسه بمقدار
خطوة وهو يفعل بوعي ذاتي أقل. ذلكم جوهر فضيلة
دانا. فعطاؤنا لا يمت بصلة إلى مرغوبنا
ومكروهنا؛ بل إن دانا بالحري يعني كرم الروح،
إعطاء كل ما بوسعنا – الوقت، المال،
الممتلكات – بدون تفكير مهجوس بالذات، وهذا
بحد ذاته درب أصلي من دروب اليقظة. تتصل
فضيلة سيلا (الأخلاق/الانضباط) بمبادئ
العدالة الكونية وبقوانين كَـرما. وهي
تتفرع عن الاعتراف بأن كل خاطر، شعور، أو عمل
يتردَّد صداه عبر الكون، وبذلك يكون لبصيرة
وَقْعِنا من لحظة للحظة عواقب جسيمة. وهذا يصح
بصفة خاصة على الخواطر والمشاعر أو الأعمال
المؤذية بالإمكان بخصوص أي شكل من أشكال
الحياة وأي عنصر من العناصر المكوِّنة للكوكب.
إن سيلا هذه لا تتعلق مباشرة بقوانين الأخلاق
من بناء منقولات مفردة، اللهم إلا أن تنطبق
على حقيقة شاملة. إنه الوعي الفوري للمسؤولية
الشخصية عن كل نَفَس. أما
كْشَـنْتي (الصبر) فهو الابن الطبيعي لإدراك
أن كل شيء في مدٍّ على الدوام، وبالتالي لا
يقبل التوقع. لا شيء يدوم، وبالتالي فإننا إن
حاولنا أن نستمسك بالأشياء المرغوبة أو نبعِد
عنا الأشياء المكروهة سرعان ما سوف يخيب
أملنا. لذا فإن هذا النوع من الصبر لا يتعلق
بالمعنى المعتاد الذي ينطوي على مفهوم
الاحتمال؛ إنه بالحري يعني بلوغ مستوى من
الحِلم لا يطاله اضطراب، عالمين أن "هذا
أيضاً سوف يَحُوْل". كْشَـنْتي هو الدرب
الذي يسمح لنا بأن نكون مرتاحين إلى حكمة عدم
الأمان. تتصل
فضيلة فِـريا (الطاقة/الهمَّة) بمفهوم ذهنية
المبتدئ المعروف جيداً، مستوى الانفتاح،
التفكُّر، والمداولة للفحص عن كل شيء يطرأ
علينا – وكل شيء يخطر لنا في بال – وكأن هذا
اللقاء هو أول لقاء، عالمين أن كل لحظة تأتي
بشيء جديد. فبوجود مستوى مشتدٍّ من الطاقة/الهمَّة
ليس من شيء مملٍّ. حتى في بعض أشكال التأمل،
عندما لا يقوم المرء بشيء غير رصد دفق أنفاسه،
فإن نوعية الاهتمام الشديد تجعل لكل نَفَس
فرادة ندفة الثلج. عندما تقارَب كل لحظة في
حياتنا بهذه السعة من الاهتمام فإن أصدافاً
خارجية من المظهر سرعان ما تسقط ونتمكَّن من
أن نسبر أعماق حتى أبسط الأحداث ومعانيها. دْهِـيانا
(التأمل/البصيرة) هي الفضيلة التي يساوي معظم
الغربيون بينها وبين سيرورة اليقظة،
مستبعدين غالباً البَـرَميتا الأخرى التي
نحن بصددها. بيد أن هنالك، بكل أسف، تصورات
خاطئة واسعة الشيوع عن التأمل، عن كيفية
بلوغه وعما يمكنه أن يفعل من أجلنا. إن صورة
اليوغاني الجالس متَّخذاً وضعية اللوتس
التامة هي أنموذج حتى بنظر المتأمِّلين من
ذوي الخبرة الذين يقرِّبون هذا المثال من شكل
من أشكال الجلوس – يدعون هذا تأملاً. لكن
دْهِـيانا لا تتطلب وضعية معينة، أو طريقة
خاصة في التنفس، لا بل وأي شيء يتعلق بما يتفق
للشخص أن يفعل. ومع أن دْهِـيانا تُتَرجَم
عادة بكلمة تأمل، فإن معناها الحرفي هو "البصيرة".
فدْهِـيانا، بنظر البودهيسَـتّْـفا، لا تعني
مطلقاً "حالة غشية، أو غبطة، أو استغراق. [البودهيسَـتّْـفا]
ببساطة متيقِّظ لمواقف الحياة كما هي. إنه
بصير بصفة خاصة باستمرارية التأمل بكرم
وبأخلاق وبصبر وبهمَّة."[13] إذن
فالمعنى الحقيقي لدْهِـيانا من منظور درب
البودهيسَـتّْـفا هو رياضة على المداومة. كل
شيء طحين للمطحنة، وفي هذه البصيرة المشتدَّة
تندرج كل البَـرَميتا. في حالة الوجود هذه،
تفيض الفضائل الخمس بعضها على بعض، منتهية –
كما هو وارد في الـسوترا – في محيط
بْرَجْنا (الحكمة العليا). هذه هي المعرفة
المميِّزة التي ترى كل شيء، مزوِّدة بالوقود
الذي هو المادة الخام المغذية للبَـرَميتا
جميعاً. إن
مفهوم الرياضة على المداومة عنصر رائس في
تعزيز اليقظة الروحية. المداومة تعني في
الجوهر أنه لا بداية ثمة ولا نهاية للرياضة.
إن كل مَن يتبع طريقة حياة دينية منقولة لابد
أن يعترف على الفور بعنصر المداومة. عندما
يكون الدين من نشاطاتِنا مركزُها، يتلوَّن كل
ما نفعل عندئذٍ بالتزامنا الديني. تنمية
المداومة على الرياضة بيد
أن العديد من الناس لا يجذبهم الدين
المنظَّم، لكن عندهم توق روحي عميق ويفتشون
عن طريقة لمواصلة درب اليقظة. والمسألة هي
كيفية تنمية رياضة مداومة في سياق أسلوب حياة
سويٍّ مملوء بالمشاغل. فكما لوحظ، يمكن لهذه
المشاغل أن تكون المادة الخام لعملنا الروحي؛
لكن الواقع عند غالبية الناس هو أن نموذج
حياتنا نفسه يديم السبات الروحي. إننا نشعر
بالغرق في مهماتنا اليومية، ومسؤولياتنا
الأسرية، ومتطلبات الصيانة الأساسية،
والانكباب على التدبير المالي. والجميع
تقريباً يشكون من عدم توفر الوقت الكافي.
فلننتبه، بالطبع، إلى أن كل هذه الشكاوى
تتفرع من ذهنية مثنوية، تفصل النشاطات
الدنيوية عن الرياضة الروحية. إن
حل هذا المشكل ليس مجرد برنامج من "عشر نقاط"
لتعزيز اليقظة الروحية. فالحل، في الواقع،
ليس شيئاً يمكننا أن نكتنهه بسهولة بسيرورة
فكرنا المنطقية، التجاربية؛ إذ إنه يقيم في
إقليم لازمني، لامكاني، يتحدى الوصف – الأمر
الذي يعيدنا مجدداً إلى كُـواننا: ما هو منهج
أو رياضة التفتح الروحي الذي ليس بمنهج أو
رياضة؛ ما هو المعلِّم/المُعِين الذي ليس
بمعلِّم/مُعِين؟ إن
التفكُّر في كُـواننا من منظور دهِـيانا،
التأمل/البصيرة الذي يحوي بَـرَمِيتا الكرم
والأخلاق والصبر والهمة الأربعة معاً، نجد أن
البَـرَميتا جميعاً، فردية أو مجتمعة، إنما
هي رياضات روحية تتخطى الرياضة؛ إنها أفعال
يكون فيها المعلِّم والتعليم واحداً. فالشخص
لا يُعلَّم أن يكون كريماً؛ فالكرم هو معلِّم
نفسه. كذا فيما يخص الأخلاق والصبر والهِمَّة.
قد نصادف تعاليم عن هذه الأمور، لكن لا شيء
يندرج فينا حقاً حتى نكتشف أن المعلِّم الحق
مختبئ في إنفاذ هذه الفضائل وتكرارها.
فالمعرفة الروحية ليست فكرية أبداً، بل هي
تتفتح عبر الخبرة المباشرة. إن
التزام الـبودهيسَـتّْـفا، أي الاستعداد
للسير على درب المستنيرين، هو خبرة مداومة
تتخطى مناهج الرياضة الشكلانية. وكل فعل
للـبودهيسَـتّْـفا ينبع من قلب الحكمة،
بْـرَجْنا، البَـرَميتا السادس، حيث تتلاقى
البَـرَميتا الخمسة الأخرى، وحيث – على حد
قول الصوفية المسلمين – المعلِّم والتعليم
والمتعلِّم واحد. ليس
في هذه السيرورة أسرار، وكما أشار
كريشنامورتي، ليس فيها مناهج. "ماذا تنتظر؟"
لا تتكلم على رياضة، لا تحلم بخلوة شهر على
الجبل، لا تتخيَّل يوماً سيكون لديك فيه
متَّسع من الوقت. افعل! الفعل هو الشرط اللازم
للـ"معرفة". ولا يمكن أن "نحصل عليها"
بمجرد التفكير. حالما
نستكشف في أنفسنا ما كان يمكن أن نفعل "لو
أن..."، نصل فوراً إلى الـ"نعم، ولكن...".
أنظر عن كثب إلى شيطان الـ"نعم، ولكن..."،
لأنه واحد من الذهنيات التي ندمن عليها كأشد
ما يكون الإدمان؛ إنه مخدِّر من شأنه أن
يبقينا نائمين سنوات إن لم نقل أعماراً. هناك
لعبة يمكننا أن نلعبها مع أنفسنا هي أن نتصور
– لا سمح الله – أننا عدنا لتوِّنا من عيادة
طبيب حاملين تشخيصاً يتوقع لنا عاماً واحداً
باقياً من عمرنا. الآن، تصوَّر كيف ستعيش عامك
الأخير – مع الحرص على توفُّر ما تحتاج إليه
لديك فيما لو تبيَّن لك أن التشخيص خاطئ. ولكن
على افتراض أن الطبيب على صواب، كيف تودُّ أن
تصرف هذا العام؟ كلما
عمَّقت نظري في هذه المسألة، حالما أتخطى
اهتماماتي المباشرة بأسرتي، وبعد أن أقحِم
هُواماتي، سرعان ما أصل إلى البَـرَميتا:
شعور بالكرم، وعي حادٌّ بأفعالي، حِسٌّ
متنامٍ بالحِلم، واهتمام جديد بكل ما يجري من
حولي. وبالفعل،
فإن العديد من الروايات المكتوبة عن مستويات
رفيعة من البصيرة هي من كتابة أناس يمرون
بأشواط مختلفة من مرض عضال. لقد كتب شخص مصاب
بالإيدز: "يصبح المرء أحنَّ وأبلغ تعبيراً
وهو يهتك حجاب الواقع العادي ويطلب الأشياء
الأعمق." ولقد اختبر أيضاً "مستوى
مختلفاً تماماً للواقع، لطافة أخف من الهواء...
تبدأ بإدراك أن كل شيء من حولك كامل."[14]
ولقد لوحظ أن "خبرة الروحانية المعمَّقة
تبدو وكأنها تكاد تكون شاملة جميع المصابين
بالإيدز."[15]
وفي الحقيقة، ليس المصابين بالإيدز وحدهم، بل
إن كل من يواجه الموت تقريباً يتعمَّق روحياً. لا
حاجة لنا إلى لعب لعبة الذهاب إلى عيادة
الطبيب. علينا فقط أن نسأل: ماذا ننتظر؟ إذا
كنا نحسب أن أحدهم سوف يأتينا بالجواب فسوف
ننتظر طويلاً. وإذا كنَّا نأمل في إلهام، فقد
يأتي، لكنه على الأغلب لن يثبت طويلاً. لذا
نعود أيضاً وأيضاً إلى الحاجة للخبرة
المباشرة المتواصلة، والطريقة الوحيدة
للحصول على هذه هي بإلقاء النفس في النهر
ومكابدة البلل. وكلما واظبنا على ذلك تعزَّز
"عرفاننا"؛ وهذه هي الدورة التي يمكننا
اتِّباعها من أجل السادهانا الخاص بنا. فكما
أن النعاس يفضي إلى المزيد من السبات، كذلك
اليقظة تنبِّه البصيرة. بذلك
فإن الجواب على سؤال "كيف نستيقظ؟" بسيط
بساطة عبارة "باشِر الآن!"، وصعب صعوبة
إعادة بناء طريقة وجودنا برمَّتها. تلك هي
علَّة أن غالبيَّتنا لا تستيقظ – إذ إنه لمن
التهديد بمكان التخلِّي عن هوية مَن نظن أننا
هو من أجل المقدار المجهول لمَن نظن أننا
نودُّ أن نكونه. ومع ذلك فمن الممكن إرشاد
أنفسنا بلطف ورحمة على درب سوف يهبنا ثمرة
اليقظة. لكل
منقول دربُه: الـبودهيسَـتّْـفا في البوذية،
الصِّدِّيق في اليهودية، القديس في
المسيحية، القطب في التصوف. وخطوتنا الأولى
في اليقظة هي إدراك أن هذه المقامات ليست
متاحة لأفراد خاصين وحسب، بل لنا جميعاً.
فبفتح أنفسنا للـبودهيسَـتّْـفا،
للصِّدِّيق، للقديس في الداخل، نتيح لأنفسنا
الفرصة لاكتشاف سبيل إلى اليقظة. وفي كل
المنقولات، يصبح هذا الدرب أسلوب حياة،
كافياً بحدِّ ذاته. فكل يوم سوف تعيننا هذه
البصيرة على المجاهدة من أجل المزيد من الكرم
المجاني، ولسوف تبقينا بصيرين أكثر بما يترتب
على أفعالنا (خاصة عندما تتعلق بآخرين)، ولسوف
تذكِّرنا أكثر تكراراً، عندما يستبدُّ بنا
الجزع أو السأم، بأن هذا مجرد طور عابر، ولسوف
تحرِّض فضول طفلنا الداخلي لرؤية الأشياء
بعين جديدة، ولسوف تذكِّرنا دوماً بأن الموت
يقف منَّا قاب قوسين أو أدنى. إن
أساس رياضتنا يقوم على هذه الرغبة لاستكشاف
صفاتنا الأرفع بذهن صافٍ وقلب مفتوح، بتواضع
وتسليم – بما يستبعد كل ادِّعاء أو عَجَب.
بذلك فإننا لن ننتظر أبداً الوقت الذي سوف
نستيقظ فيه، بل نقبل كل فرصة تقدمها لنا
الحياة – تواً الآن – للانخراط في الحياة بكل
ما نستطيع استنفاره من بصيرة. وهذه المقاربة
تامَّة بحدِّ ذاتها، تقود إلى بصيرة واعية
متنامية أبداً. وبذلك سوف نتفتح على الدوام،
مثل اللوتس الأسطورية التي ترتاح بتلاتها
الباطنة في القلب من كل ماهيَّة، متحلِّين
بالصفاء الشَّافِّ، الأصلي، العميق للصحو
الثابت، القزحي. ***
*** ***
[1]
Chogyam Trungpa, Cutting Through
Spiritual Materialism (Berkeley: Shambhala, 1973), p. 18. [2]
Ibid., p. 19. [3]
Ibid., p. 21. [4]
J. Krishnamurti, The Awakening of
Intelligence (New York: Harper & Row, 1973), pp. 191-95, excerpts. [5]
Thomas Merton, The Way of Chuang Tzu (New
York: New Directions, 1965), p. 101. [6]
Ken Wilber, No Boundary (Boston:
New Science Library, 1979), p. 39. [7]
Quoted by Thomas Merton, The Asian Journal of Thomas Merton (New York: New Directions, 1968),
p. 369. [8]
Chogyam Trungpa, p. 170. [9]
Ibid., p. 118. [10]
Ibid., p. 176. [11]
David Godman, ed., The Teachings of
Sri Ramana Maharshi (London/New York: Arkana, 1985),
p. 67. [12]
Christmas Humphreys, Buddhism (Harmondsworth, Middlesex, England: Penguin Books, 1951),
p. 161. [13]
Chogyam Trungpa, p. 177. [14]
Mark Matousek, “Savage Grace,” in Common Boundary, May/June 1993, quoting Dean Rolston, AIDS patient
and author. [15] Ibid.
|
|
|