|
تنوُّع
الثقافات
ووحدة
العقل الإنساني
ندره
اليازجي
دخلتُ
إلى أعماق كياني باحثاً عن حقيقة فكري وأصالة
رأيي, فوجدت تنوعاً من الآراء والأفكار ووحدة
إنسانية شاملة. عندئذٍ, أدركت أن عقلي تأليف
لثقافات عديدة متنوعة. ففي كياني... تلتقي
وجهات النظر الكثيرة, الشرقية والغربية, التي
وحَّدتها مع نفسي, وجعلت منها حديقة تتكامل
فيها أنواع الزهور, وتتألق بجمال التنوع. ومع
ذلك, تركت زاوية خالية أملؤها بما أضم إلى
حديقة عقلي من الزهور الجديدة التي ستنبثق
إلى الوجود, أو تلك الورود والرياحين التي لم
أتعرف إلى سرِّها سابقاً. ولقد أدركت حقيقة
أمري، إذ رأيت ببصيرتي أن ما تشتمل عليه حديقة
عقلي من أزاهير وورود لا تصير إلى وحدة، ولا
تتكامل في انسجام، ما لم أكن قادراً على إقامة
تأليف بينها تتناغم في نطاقه تنوعات الروعة
التي تنضوي تحت كنف الجمال الواحد وبهاء
اللقاء. في
كياني... تلتقي ثقافات العالم لتشكِّل مركزاً
تتكامل فيه الوقائع الظاهرية العديدة
المتضمنة في هذه الثقافات, والحقيقة الواحدة
التي نشاهدها كلَّما توغلنا إلى أعماق الحكمة
أو السرَّانية التي تتوطد عليها القاعدة
الأساسية للوجود الإنساني... في
كياني... تتحد فروع المعرفة كلُّها, وتتصل دون
أن تنفصل. ويشير هذا الاتصال إلى توحيد
الثقافات, بأنواع المعرفة العالمية, في تآلف
يبلغ ذروته في وعي كوني شامل. في
كياني... تتآلف الثقافات المتنوعة, وفي نفسي
تتناغم مفاهيم وقيم هذه الثقافات, فأحياها في
داخلي. وبالإضافة إلى ما زرعته، في باطني
وسرَّانية جوهري, من ثقافتي العربية, الرائعة
والخاصة, بسطتُ فكري إلى الثقافات الأخرى،
أستغرق في مضامينها, وأمتص رحيق رونقها, وأنهل
من ينابيعها الصافية. فلقد ولجت محراب الحكمة
اليونانية المتمثلة في تعاليم أسرار دلفي,
وفي مدارس الفلسفة اليونانية التي أنارت سبل
التفكير الإنساني ورسمت صورة الحقيقة
بأشكالها العديدة؛ ودخلت بيت الحكمة الذي
بناه الفكر الصيني ومثاليته الأخلاقية, فوجدت
التطبيق العملي لمفهوم الفضيلة؛ وطفت أرجاء
المدارس الهندوسية ساعياً إلى بلوغ الحقيقة
المختبئة في تعاليمها؛ وانتقلت إلى الآداب
اليابانية المتمثلة في حكمة الزِنْ، استشف
الرقة البالغة, والنظام الدقيق، والرهافة
اللطيفة الكامنة فيها؛ وتعمقت في دراسة
الحكمة المنطوية في سرَّانية الهرم المصري
وأهرام الإنكا والأزتك أبحث عن الحقيقة
الكونية؛ وارتحلت إلى الفكر الأوروبي,
والأمريكي, والآسيوي، والأفريقي, بأنواعه,
باحثاً عن السرِّ الذي طالما سعيت إلى الكشف
عن جوهره. تداعيت
بذاكرتي إلى شرقنا القديم أبحث عن خفايا ما
انطوت عليه حكمته, فوجدت في غنوصه, أي في
عرفانه, وفي باطنيَّته, أي في سرَّانية عمقه,
قمة ما توصل إليه العقل الإنساني؛ وصمَّمت
على معرفة أصول الرواقية والأبيقورية اللتين
تفاعلتا, كمدرستين متعارضتين, في هذا الشرق
المضيء, بمقدار ما تفاعلتا في بلدان حوض البحر
المتوسط؛ ووقفت أصغي صامتاً إلى جهابذة
التشريع في المدارس التي تأسست في هذا الشرق
العربي. شدتني
الأساطير إلى رمزيتها الظاهرية وسرَّانيتها
الباطنية, فنهلت من معين الأسطورة اليونانية,
والهندوسية, واليابانية, والمصرية,
والكنعانية, والأفريقية, والأمريكية الوسطى
والجنوبية، المتمثلة بأساطير الأزتك والإنكا
والهنود الحمر, والأوروبية الشمالية، الخ.
وعندما تعمقت في دراسة سرَّانيتها, تبيَّن لي
أنها قامت مقام التجربة الروحية عند الأقدمين.
وذهلت أن أجد, في كل أسطورة, العمق
والسرَّانية اللذين وجدتهما في صميم
الأساطير الأخرى. ومن أساطير الشعوب التي
نتَّهمها – ظلماً وبهتاناً – بالبدائية أو
بالتخلف, كالأفريقية مثلاً, تعلَّمت دقائق
الأمور, وتلقَّنت فلسفة الحياة في رمزيَّتها
القائمة. أدركت أن التعمق في الفهم يجمع شتات
هذه الرموز ويضمُّها إلى حقيقة إنسانية واحدة
تشير إلى تنوع التعبير ووحدة الغاية. أدركت,
وأنا أبلغ هذا المستوى من الاطلاع والدراسة
والبحث, أنني أمثِّل ثقافة عالمية تتألق
ثقافتي العربية الخاصة في وسطها؛ وشعرت أن
الثقافات الأخرى تحيا معي وتستغرق كياني, كما
أحسست أن الكتَّاب والمفكرين والفلاسفة
والعلماء الأخلاقيين يكوِّنون وجودي من خلال
أفكارهم التي تشعُّ في داخلي: فإذا ما سُئلت
عن فيثاغوراس, تحدَّث هذا العالم الحكيم في
أعماقي وأجاب عما سُئلت؛ وإذا ما سُئلت عن
لاوتسو, تحرك هذا في كياني, وتلألأت فضيلته
التي شرحها لبني قومه؛ وإذا ما سُئلت عن بوذا,
استنار في قلبي وأضاء في نفسي؛ وإذا ما سُئلت
عن كريستوس, عاينت التجلِّي القدسي المشخَّص؛
وإذا ما دعتني فلسفة المعتزلة والتصوُّف
الإسلامي لبَّيْت النداء واحترمت عظمة
الوجود الإنساني المتحقق في حقيقة حلولية
كلِّية الانبثاث واعتبرتُ سلطة العقل؛ وإذا
ما سُئلت عن سيبنوزا, وابن رشد, وزينون,
وديكارت, ووليم جيمس, وسنغور, وشكسبير,
وتولستوي, ودوستويفسكي, وهمنغواي, وأبي
العلاء, والفارابي, وجلال الدين الرومي,
والحلاج, والسهروردي, وكارل ماركس, وآدم سميث,
وبتهوفن, وليوناردو دافنشي, ورابعة العدوية,
والحكيمة تيريزا، الخ، تحرك كل واحد منهم في
كياني وتحدَّث. وعندما يتحدث واحد من أولئك
العظماء أتحدث معه ويتَّحد كياني مع كيانه.
وكثيراً ما تساءلت: من يتحدث في كياني؟ وما هو
هذا التعبير المنطلق من أعماقي؟ أهو أنا أم هو
غيري؟ هل أنا كثرة أم وحدة؟ كثير أم واحد؟ وهل
أنا منقسم في ذاتي أم متَّحد فيها؟ وهل أتناقض
مع من ألَّفتُهم في كياني، أم أنسجم معهم
وأتناغم مع آرائهم ومواقفهم؟ ألا يعني هذا
أنني أمثِّل ثقافة عالمية متنوعة, تحيا في
داخلي وتُمِدُّني بطاقة الحياة وقوة
الشخصية؟ وهل يتميز وجودي بالقيمة وأنا أخلو
من وجودِ وتلاقي الثقافات العالمية في كياني؟
وهل تتشكل معرفتي أو مبادئي بدونها؟ علمت
أن شخصيتي مركز لقاء لجميع التيارات الفكرية
والعلمية والأدبية والفنية والاجتماعية التي
تتجه من مراكز إشعاعها لتجتمع في بؤرة هي "كياني".
وعلمت أني حصيلة لقاء فروع المعرفة المتَّحدة
في شخصي. وعلمت أيضاً أن جسمي وعقلي يؤلِّفان
مكاناً ترتكز فيه جميع القوى الحضارية التي
تتضافر لتكوِّن مني طاقة إشعاعية كبرى. تُعَدُّ
هذه المقدمة الوجيزة مدخلاً رئيسياً إلى
القضية التي أطرحها على بساط البحث. ولا تكتمل
هذه المقدمة إن هي تجرَّدت من التساؤلات
التالية: ما قيمة التنوعات الثقافية إن كانت
تعاني من التمزق والانقسام في داخلي؟ ما خير
أو جدوى هذه التنوعات الثقافية إن هي حافظت
على انفصالها دون اتصالها؟ وهل يمكنني أن
أكون عالمي النزعة الثقافية, فأوحِّد فروع
المعرفة في داخلي, إن كنت عاجزاً عن إقامة صلة
بينها, أو تأليف يجعلها تتكامل, تتَّحد أو
تنسجم, لتُنشِئ مني شخصية متوازنة, مُحِبَّة
وواعية؟ يبدو
لي أن القيمة التي نعزوها إلى وحدة العقل
الإنساني, المتنوع في فروع معرفته وثقافته,
تكمن في الاتِّصالية التي نُحْدِثها بين
التنوعات العديدة, وفي التأليف الذي نُنشِئه
بينها, وفي التكامل الذي نُبدِع منه توازناً
أو تناغماً في داخلنا. ويبدو لي أن اندحار
وحدة العقل الإنساني ينتج عن عدم القدرة على
التوفيق بين التنوع الثقافي القائم – الأمر
الذي يؤدي إلى الصراع والنزاع, الذي يؤدي،
بدوره, إلى صِدام الحضارات وتناحرها وإلى
الاحتضار الفكري. تتركز
الغاية التي أسعى إلى تحقيقها في التساؤلات
التالية: كيف نستشف الوحدة الفكرية الإنسانية
عبر تنوع ثقافي واسع؟ كيف نُحدِث اتِّصالية
بين فروع المعرفة الإنسانية والفكرية؟ كيف
يصبح التنوع واحداً؟ كيف يكون القانون العلمي
واحداً في أقطار العالم كلها؟ وكيف تجمع هذه
القاعدة العلمية مبادئ العقل الإنساني في
نطاق واحد ونسق واحد، في الوقت الذي تبدو
القاعدة الثقافية المتنوعة منقسمة على ذاتها,
تُحدِث التفرقة بين الشعوب والتناحر
والاختلاف؟ كيف يكون القانون العلمي
موحَّداً بالعقل, وتكون الثقافة موزَّعة
ومشتَّتة بالنفس والشعور؟ وهل إن العقل يجمع
ويوحِّد, والنفس تجزِّئ وتفرِّق؟ يجدر
بي, قبل الإجابة عن هذه التساؤلات الموضحة, أن
أحاول سبر العمق المتضمن في كلمة "ثقافة". ترتبط
كلمة "ثقافة" culture,
في هذا السياق, ارتباطاً مادياً ومعنوياً
بكلمة "حضارة" civilization.
وكلمة حضارة, في هذا المجال, كلمة تتمايز من
حيث مضمونها عن كلمة مدنية. وإذا سعينا إلى
معرفة الاختلاف بين الكلمتين قلنا: الحضارة
تقدم وازدهار نفسي ورقي فكري وإنساني, بينما
المدنية تقدم تقني ومادي. وفي سبيل توضيح
التمييز القائم بين الكلمتين نقدم المثال
التالي: كان فيثاغوراس متحضِّراً ولم يكن
متمدِّناً. فعلى الرغم من أن فيثاغوراس لم
يسافر في القطار الكهربائي الحديث ولم يستقل
الطائرة في تنقلاته، كان شخصاً حضارياً. وإن
كنت، أنا الذي يحيا في بداية القرن الواحد
والعشرين, أمتاز بما تقدِّمه التقنية الحديثة
من وسائل وأدوات, إلا أني لا أضع نفسي في
المستوى الحضاري الذي تسنَّم فيه فيثاغوراس
درجة عليا. فقد يكون فيثاغوراس أكثر تحضُّراً
مني, على كوني أكثر مدنية منه. أما إذا توافقت
الحضارة والمدنية في انسجام وتناغم, دلَّ
الأمر على رقيِّ الكائن البشري؛ هذا, لأن
المدنية, والحالة هذه, تتقدم في وفاق مع قيم
الحضارة. والحق أن طغيان المدنية ونزوعها
إلى الإفلات من رقابة أو إرشاد الحضارة
وتوجيهها حالة تشير إلى اندحار الثقافة
الإنسانية وسيطرة العقل التقني الذي يتناقض
مع العقل العام المشترك المعبِّر عن وحدة
الثقافة الإنسانية. عندما
نتأمل ماضي البشرية وحاضرها نعاين ثقافات
عديدة تُعَدُّ روافد تصبُّ في نهر الثقافة
الإنسانية الواحدة. والحق أن الأمم, قديمها
وحديثها, زوَّدت, وما زالت تزوِّد, هذه
الثقافة الإنسانية الواحدة بما قدَّمته أو
تقدِّمه من حضارة وثقافة ومعرفة وعلم. وبهذا
الصدد تمثِّل الثقافات العديدة باقة من
الزهور أو الورود المتنوعة التي يتألق جمالها
في تنوعها. هنا
نتساءل: كيف يمكننا أن نفسر وجود ثقافات عديدة
وعقل إنساني واحد؟ عندما
أتعمَّق في دراسة الحضارة، أجد أن الروح
الإنسانية, من خلال تنوعاتها الثقافية,
تعبِّر عن حقيقتها الواحدة في التنوع.
فالمثال – وهو المشعل المضيء – يستعمل كلَّ
حضارة أداةً للتعبير عن ذاتها من خلال وعي
التاريخ الإنساني لذاته ووجوده. لذا تمثل كل
حضارة أو ثقافة مشعلاً ينير السبيل الذي
تطرقه تلك الحضارة أو الثقافة وهي تسعى إلى
تحقيق "المثال" المتضمن في صلب وجودها. وليس
هذا "المثال" إلا وحدة الإنسانية
المتمثلة في التيارات العديدة للروح في
التاريخ. عندما
تبلغ الحضارة أو الثقافة أقصى نهاياتها, أي
نضجها, أو عندما تبلغ ذروتها, ينتقل مشعلها, أو
المشعل الذي تستضيء به وتضيء من خلاله, إلى
حضارة أخرى, وذلك لكي يظل "المثال" أو "الروح"
سائرة أو منبثَّة في تاريخ العالم. وعندما
ينتقل المشعل من أمة إلى أمة, من حضارة إلى
حضارة, من ثقافة إلى ثقافة, تستنير الحضارة
الجديدة بما حمله ذلك المشعل من نور يتألق في
ثقافة وازدهار علمي وفكري واجتماعي وإنساني
وروحي. وهكذا تُعَدُّ الحضارات أو الثقافات
أدوات تحمل مشعل الفكر الإنساني عبر المراحل
التي يتطور من خلالها "المثال" إلى تعبير
أشمل للإنسانية يدل على اتصال العقول البشرية
الفردية ووحدة الفكر الإنساني. لئن
كان ما أذكره حقيقة كونية تشير إلى ما يحمله
كلُّ رافد من روافد "نهر الإنسانية" الذي
يحمل تراث الإنسانية بكامله, ليصب في محيط
الوعي الكوني Cosmic
Consciousness, هذا لا يدرأ
عنها – ويا للأسف – الاصطدام بعقبة كبرى تحول
دون انتقال المشعل الحضاري, ودون تأدية
المهمة الموكولة للثقافات المتنوعة لكي تحقق
وحدة الفكر الإنساني. وتتجسد هذه العقبة
الكبرى في إصرار الأمة على الاحتفاظ بحضارتها
أو ثقافتها لذاتها, والحيلولة دون انتقالها
إلى أمة أخرى. وهذا يعني أن الأمة "الأنانية"
التي تتجاهل سيرورة "المثال" أو "الروح"
في التاريخ تحاول أن تحتفظ بالمشعل الحضاري،
متناسية مسؤوليتها أو دورها العالمي في تأدية
ما يترتب عليها من واجب إزاء الإنسانية جمعاء.
والحق أن احتفاظ أمة من الأمم بمشعل الثقافة
الإنسانية يعيق تقدم الإنسان وتطوره إلى
مستويات أعلى من الوعي. ولا نبالغ إذا ما قلنا
إن الخطيئة الكبرى التي تقترفها أمة من الأمم
– أمة ائتُمِنَت على مشعل الحضارة – تكمن في
محاولة احتجاز هذا المشعل لذاتها اعتقاداً
منها بأن امتيازها على الأمم الأخرى يكمن في
مثل هذا الاحتجاز, وخوفاً منها أن يكون انتشار
الحضارة, المتمثل بانتقال المشعل الحضاري,
أمراً يقوِّض تقدُّمها، أو يحطُّ من قدرها،
أو ينأى بها عن مركز الحضارة. ويؤسفني
أن أقول: إن مثل هذه المحاولة قضية تشير إلى
موت الحضارة أو اندحار الإنسان. فالحضارة
تموت, أو تذبل, أو تتقهقر, أو تقف عقبة في سبيل
التطور الصاعد, أو تتضاءل عندما تحتجز أمة من
الأمم مشعل الحضارة لذاتها. وعندئذٍ, تسيطر
البربرية, وتعاني الإنسانية من فصام الشخصية
واختلال التوازن الحضاري والنفسي والفكري
والروحي في كيان الوجود الإنساني. في
ضوء ما تقدَّم أتساءل: كيف أميِّز الإنسان
الحضاري أو الأمة الحضارية؟ الأمة
التي تحمل مشعل حضارتها وتضيئه بشعلة الوحدة
الإنسانية، دون أن تُخضِعَه لذاتها وتجعله
مزية خاصة بها, أمة حضارية؛ الأمة التي تعتبر
ذاتها رافداً لنهر الحضارة الإنسانية أمة
تتميز بالثقافة الإنسانية؛ الأمة التي تدرك
الدور الذي تقوم به في نطاق "المثال" أمة
حضارية؛ الأمة التي تعلم أنها ناقلة أو حاملة
لفكرة إنسانية واحدة, وتدرك أن عظمتها تكمن في
تحقيق دورها الحضاري ونقله, كتراث عام, إلى
أمة أخرى أو أمم أخرى أمَّةٌ حضارية. الأمة
التي تدرك أن الاحتفاظ بالمشعل الحضاري
لذاتها تصرُّف يؤدي إلى انطفاء المشعل وسيادة
الظلام أمة حضارية؛ الأمة التي لا تخاف أن
تكون رافداً, ناقلاً, أو أداة لمثال إنساني
أعظم وأشمل منها أمة حضارية؛ الأمة التي تجمع
في مشعلها إضاءات المشاعل السابقة, وتضيف
ألقاً جديداً إلى هذا المشعل, أمة حضارية –
أمة تسعى إلى تحقيق ثقافتها الفردية من خلال
مشاعل أو روافد الثقافة الإنسانية الواحدة
التي تتلألأ بالمشاعل المضيئة وتحمل إرثاً
إنسانياً واحداً. وإن ما ينطبق على الأمة
ينطبق على الفرد؛ ذلك أن الفرد يستقي من مناهل
ومصادر وأصول ثقافة أمته التي تحمل مشعل
الحضارة أو الحضارات الإنسانية الغابرة. يجدر
بي, وقد بلغت هذا الحد من البحث, أن أطرح
السؤال التالي: كيف أعلم أن ما تمتاز به حضارة
حقيقية تشير إلى ثقافة إنسانية وعالمية؟ تقتضي
الإجابة عن هذا السؤال البحث في ما ندعوه التبلور
الكاذب والتبلور الصحيح. وبهذا الصدد
يمكنني أن أقول: إن التبلور الصحيح مؤشر أن
الحضارة لا تتصف بالمرحلية, بل تتميز
بالكلاسية والديناميَّة والاستمرارية
والتساوق مع الفكر العالمي. فالكلاسية classicism
تشير إلى أن الثقافة القائمة في الحضارة
حقيقة لا ريب فيها, حقيقة متطورة ونامية
وديناميَّة. فقد اتسمت بالحقيقة والشمول في
الماضي, ولا تزال تحتفظ بشمولها وحقيقتها في
الحاضر؛ وهذا لأنها تحدَّثت بشمولية الإنسان
والكون, وما زالت تتحدث بشموليَّتهما. وإذ
يطَّلع الفرد على مضامينها يجد أنها تحمل
قضية وجوده وتعبِّر عن كينونته قديماً
وحديثاً. ومثل هذه الشمولية تكلِّمني بلغة
الشعور الإنساني عامة، وتحدِّثني بلسان
الكيان النفسي والفكري الواحد الذي يتحسَّسه
كل امرئ على وجه البسيطة. إنها حقيقة قديمة–جديدة.
وهكذا تستمر هذه الثقافة الإنسانية الشمولية
وتتساوق مع الشعور الواعي لحقيقة الإنسان،
بأشكاله وأنواعه واختلاف بلدانه. وعلى غير
ذلك, يشير التبلور الكاذب إلى ظاهرة زائفة.
ففي هذه الظاهرة الزائفة تبدو خصائص الحضارة
أو الثقافة "عالمية", لكنها تتجرَّد من
الجوهر الإنساني الواحد الذي تدور حوله جميع
الفلسفات والفنون والآداب والعلوم الحقيقية. في
سبيل توضيح ما عبَّرتُ عنه بالتبلور الكاذب
والتبلور الصحيح, أسوق المثال التالي: الشاعر
أو الأديب أو الفيلسوف أو الحكيم أو عالم
الاجتماع الذي يتحدث بشعور كل إنسان ويطرح
القضايا الإنسانية الشاملة إنسان قادر على
التحدث عن كل فكر والتعبير عن كل شعور. وعندما
يقرؤه امرؤ يتمايز عنه بلغته ونمط معيشته يجد
فيه قريباً أو كياناً يتحدث بشعوره وقضية
وجوده. وعلى الرغم من أنه طرح قضية إنسانية في
الماضي التاريخي, أو تكلَّم بلغة أخرى, فإنه
بَسَطَ قضية شاملة تتصل بصميم الإنسان.
ويمكنني أن أضفي على هذا المفكر صفة الكلاسية
والاستمرارية والتساوق مع الفكر الإنساني
عامة. وعلى غير ذلك, أجد المرء الذي يتحدث بلغة
"أناه"، معبِّراً عن رغباته وانفعالاته
الخاصة وأموره التي تنزع إلى توكيد الذات في
شتى المجالات, إنساناً يعبِّر عن مرحلة لا
تتناغم مع ما هو كوني وإنساني. ويُعَدُّ هذا
المرء الذي جعل من المرحلية شأنه الخاص, أو
تلك الثقافة التي جعلت من مرحليَّتها مركز
الوجود, تعبيراً عن حضارة مرحلية, هي تبلور
كاذب, سيلقى نهايته قريباً، وذلك لأنه لم
يشكِّل رافداً يُغذِّي نهر أو تيار العقل
الإنساني بمياه العذوبة الصافية. هكذا أقول: يكون
التبلور كاذباً إن كان يعبِّر عن فردية
إنسانية, ويكون صحيحاً إن كان يعبِّر عن
شمولية إنسانية. وأضيف قائلاً: المفكر
الشمولي هو الحكيم الذي يعبِّر عن مشاعر
الناس, ويتكلَّم بلسانهم في كل الأزمنة
والأمكنة؛ والكاتب المرحلي هو الذي يعبِّر عن
انفعال آني تعوزه الديمومة والاستمرارية.
وتتميز الفكرة الشمولية بالعمودية المتساوقة
مع الأفقية. فهي "عمودية"، بمعنى أنها
تتحدث عن الإنسان – كل إنسان – وتعالج قضية
وجوده. أما الأفقية اللامتساوقة مع العمودية
فإنها, على الرغم من امتدادها الظاهري, لا
تلامس سوى سطح الشعور الإنساني, ولا تتعمق إلى
داخل الكيان. لذا نرى أن الحركات التاريخية
الممتدة إلى آفاق وأمصار عديدة تعود إلى
قوقعتها وانطوائها على ذاتها لأنها عرفت
الأفقية دون العمودية. وتمتاز عمودية الحضارة
والثقافة بانتشارها الأفقي البطيء بحيث إنها
تتجاوز الحدود القائمة بين الأمم وتتغلَّب
على العوائق المصطنعة بين الناس. هكذا,
انبثَّت الفلسفات والأفكار الشمولية
والإنسانية. ولا تحتاج هذه الفلسفات أو
الأفكار أو المبادئ إلى حروب تندلع وإلى
انتصارات تُحرَز وتبلغ أقصاها في القهر
والغلبة والعنف. فمثل هذا الانتشار الأفقي
الناتج عن الغلبة والاجتياح حريٌّ بأن يتراجع
إلى النقطة التي انطلق منها، ويتلاشى في
تبلوره الزائف. إن
انتقال الثقافة حدث يتحقق عن طريق استغراق
الكائنات البشرية في مضمونها الإنساني.
فالثقافة تنبثُّ في انتشارها الأفقي
والعمودي, وتتخلل أفق الفكر الإنساني، تماماً
كما ينبثُّ أريج الزهور والورود والرياحين,
وكما يتشتت الضوء إلى ألوانه في مستويات
أجوائه. والعقل, متى كان عميقاً ومتأصلاً في
القاعدة الإنسانية, ينبثُّ أفقياً في عوالم
الحضارة, وذلك لأن "المثال" أو "الروح"
التي تعمل في الوجود توسِّع ذاتها وتمدُّ
عموديَّتها لتكون شاملة على نحو أفقي. أستطيع
أن أشبِّه العقل الواحد والتنوع الثقافي
بدائرة تصدر عنها أو تصبُّ فيها إشعاعات
عديدة. وتمثل هذه الإشعاعات التنوعات العديدة
للعقل الإنساني، إذ تتَّجه إلى مركز موحِّد,
هو نقطة لقاء, تتحد فيه وتعبِّر عن حقيقة
واحدة. ولما كانت هذه الإشعاعات تمثِّل أنواع
الثقافة، من علم وفن وأدب وفلسفة وحكمة, فإنها
تتَّجه إلى المصدر الذي انبثقت منه, وهو النفس
الإنسانية الشاملة والعقل الإنساني الواحد –
هذا لأن كلَِّ ما ينبثق من مصدر يتَّجه إلى
نطاقه الخارجي ليتفاعل مع العالم الخارجي
ويعود إلى المصدر من جديد. فإذا كانت الحياة
واحدة, والعقل واحداً, والحكمة واحدة, والعلم
واحداً, والروح واحدة, فإنها تتشتت عبر
إشعاعاتها العديدة لتعود إلى الاتحاد في
دائرة الحقيقة الواحدة. أستطيع
أن أشبِّه العقل الواحد والتنوع الثقافي
والفكري بالضوء الذي يتشتت إلى قوس قزح. والحق
أن ألوان قوس القزح تمثل الضوء الذي تبدَّد أو
تذرَّى إلى تنوعاته. وإذا ما استطعتَ أن تعيد
هذه الألوان السبعة عبر الموشور الذي يتشتَّت
الضوء من خلاله إلى تنوعاته, وجدتَ بأنها تعود
إلى ما كانت عليه من اتحاد – تعود إلى الضوء
الذي جمع ألوانه في وحدة لا تنفصم. يمكنني
أن أقول: إن كل حضارة أو ثقافة تمثل مركزاً أو
مكاناً تنطلق منه مكوِّناته وسماته
ومقوِّماته, وتتَّجه إلى دائرة هي ملتقى هذه
السمات والمعالم, تماماً كما تتَّجه ألوان
قوس قزح رجوعاً إلى الموشور لتلتقي في النور
النقي الصافي الذي يوحِّد الألوان في حقيقة
واحدة لا لون فيها. وتمثِّل كل حضارة أو ثقافة
شعاعاً أو لوناً ينطلق من موضعه ليتَّحد مع
الإشعاعات الأخرى المنطلقة من مراكز أخرى في
وحدة عقلية وحضارية شاملة. أخيراً,
أستطيع أن أشبِّه العقل الواحد والتنوع
الثقافي والحضاري بالمحيط الذي تتبخر مياهه
لتسقط أمطاراً تشكِّل الأنهار العديدة,
الصغيرة والكبيرة. وعندما تتشكل الأنهار تحمل
أسماء, وتُعرَف بأحجام مقاديرها وحدودها.
ولسوف تفقد أسماءها ومقاديرها وحدودها في
اللحظة التي تصب في المحيط. إنها انطلقت من
المحيط, وشكَّلت وجوداً خاصاً بها, وحملت
تراثها عائدة إلى المحيط... المحيط الواحد
والأنهار الكثيرة. أتساءل:
كيف تتآلف الإشعاعات الحضارية والثقافية في
دائرة واحدة, تتماثل تآلفَ ألوان الضوء في نور
واحد صاف؟ عندما
أتأمل واقع العالم الذي يتطابق وجودنا مع
وجوده أكتشف حقيقتين: الحقيقة الأولى, هي أن الثنائية
الخارجية تشكِّل السمة الظاهرية للوجود على
مستوى كوكب الأرض, وأن الوحدة الباطنية
لهذه الثنائية تشكِّل الجوهر الأساسي
والأصلي لهذا الوجود. فما من ثنائية أراها
أو أحس بها إلا وتنطوي على حقيقة واحدة. فما
الظلام والنور, والرجل والمرأة, والروح
والمادة, والعقل والموضوع, والخير والشر,
والبرودة والحرارة، الخ, سوى ثنائيات ظاهرية.
وهكذا يمكنني أن أقول: لا ظلام في النور, ولا
مادة في الروح, ولا موضوع في العقل, ولا شرَّ
في الخير, ولا جهل في المعرفة، الخ، وذلك لأن
المبدأ الأساسي للوجود هو الروح, والنور,
والعقل, والمعرفة، الخ. إن تفسير هذه الثنائية
– والحق يقال – يتم في صياغة معادلة طبيعية
تشير إلى أن واقع وجودنا على كوكب الأرض يقتضي
الثنائية الظاهرية والوحدة الباطنية
الجوهرية, وذلك لكي يتحقق هذا الوجود على هذا
المستوى. الحقيقة
الثانية هي الحقيقة التي أعتمدها أساساً
لحديثنا. إنها تشير إلى التعددية أو التنوع
الخارجي الظاهري, وإلى الوحدة الباطنية أو
الداخلية. عندما أوجِّه نظري إلى عالم الخارج
أجد التعددية والكثرة والتنوع؛ أما عندما
أوجه بصيرتي إلى عالم الداخل أجد الوحدة أو
التكامل. ففي عالم الخارج تتنوَّع الكائنات
والأشياء والمعالم والسمات والأشكال والصور؛
وفي عالم الداخل تتوحد هذه الصفات والمزايا
في العقل, وتشكِّل عالماً واحداً يسوده
التآلف والانسجام والتناغم. فالصوت الذي
يأتيني من عالم الخارج وأسمعه, يصبح صورة
عقلية أو شعوراً؛ والشكل الذي أراه في عالم
الخارج يصبح صورة عقلية أو شعوراً؛ واللمس أو
الإحساس العام أو الذوق الخ الذي يصل إليَّ من
عالم الخارج يتحول إلى صورة عقلية أو شعور...
لقد أصبح عالم الخارج المتنوع صورة عقلية أو
شعوراً في داخلي على نحو روح. وهكذا يتحد عالم
الخارج في عالم الداخل, وتعود الكثرة
المتنوعة إلى وحدتها الأصلية في الإنسان. في
سبيل توضيح وجهة النظر هذه أشير إلى رمزين
أدخلتْني إلى محراب سرَّانيَّتهما حكمةُ
الشرق. فقد تحدثت أسطورة الوجود البدئي عن برج
بابل, كما تحدثت أسطورة بدئية أخرى, واردة في
الحكمة الهندوسية, عن رقص شيفا. وعندما أتعمق
في فهم المضمون المتأصِّل في هذين الرمزين
أبلغ النتيجة التالية: الكثرة المتعددة في
الوحدة والوحدة المتنوعة من خلال الكثرة،
الكثير في الواحد والواحد من خلال الكثير.
وعندما أستشف في هاتين الأسطورتين الغايةَ
الأصلية من وضعهما في صورة الرمز أقول: لم
تُشِر رمزية برج بابل إلى التشتت والضياع, كما
ألمعتْ بعض الاتجاهات الفكرية واللاهوتية
التي اعتمدت عقيدة التجزئة والتقسيم
والتفسير الحرفي؛ إنما، على العكس من ذلك,
يشير برج بابل إلى الوحدة... الوحدة التي تصدر
عنها أنواع الموجودات, واللغات, والصور,
والأشكال، والمفاهيم، الخ. فالبرج يمثل
الوحدة التي تلحم الأنواع والتعدُّدية التي
تنبثق منها. ففي باطن كل تنوع وحدة, وفي باطن
التعدُّدية وحدة. إذن فبرج بابل يشير إلى
الوحدة المتكثِّرة, أو إلى الكثير المتنوع
الذي يستدعي إعادة تأليفه في وحدة متكاملة لا
تتصدَّع, ولا تؤدي إلى التشتُّت. وما أراه في
برج بابل أراه أيضاً في رقص شيفا... الكائن
الواحد الذي يرقص أو يهتز... وعن رقصه أو
اهتزازه تصدر تنوعات الأشياء... تدور معه...
تهتز معه في حلبة الوحدة... وتشارك معه في
دراما الوجود... هي التعدُّدية والكثرة
الظاهرية القائمة, والوحدة الباطنية الجامعة...
الوحدة من خلال الكثرة والكثرة في الوحدة. يشير
المغزى المتضمن في المثالين المطروحين إلى ما
يلي: -
أولاً، يتميز واقع وجودنا
على كوكب الأرض بالتنوع الظاهري والوحدة
الجوهرية. -
ثانياً، يتميز واقع
الحضارات والثقافات إلى تنوع ظاهري وعقل واحد. يمكنني
أن أستنتج من هاتين المقولتين المقولة الهامة
التالية: لا
عزلة في العالم... الثنائيات والتعدُّدية
مظاهر للواحدية... جميعها تتحرك في حلبة
الواحد... الحضارات والثقافات مظاهر أو معالم
متنوعة لحقيقة واحدة... لعقل واحد... لإنسانية
واحدة... الوحدة تتألَّق في ضياء الكثرة...
الكثرة تزهو في ألوان الوحدة... الأصل يمتد إلى
الفروع من أجل تجلِّي الشكل المنطوي في
الصورة الأصلية, والفروع تعبِّر عن الأصل
المختبئ في حقيقة الوجود. أتساءل
الآن: كيف أبرهن على وجود التنوع في الوحدة,
والوحدة من خلال الكثرة؟ وكيف أؤكد حقيقة أن
الثقافات، بألوانها كلِّها, تعبيرات عن ثقافة
إنسانية واحدة؟ كيف تكون معالم الفكر
المتنوعة ترجمة لفكر إنساني واحد؟ أولاً،
العقل العام المشترك تشير
الدراسات المعمَّقة إلى أن مفهوم العقل قضية
تُطرَح على المستوى الذي يمكِّننا أن نعاين
مقوِّماته ومكوِّناته. وإذا كنت أعجز عن فهم
حقيقة العقل إلا بعد تبيان حقيقة الذكاء,
والانتباه, والاهتمام, والخيال, والتصوُّر,
والتذكُّر, والشعور، الخ, فإنني أقرُّ بأن
العقل كيان يتراءى لنا من خلال هذه المعالم أو
الإشعاعات العديدة. وبما أن الفكر يتماثل مع
الشعور فإنني أتمكن من القول: إن العقل شعور
عالمي على مستوى الإنسان والطبيعة. يمكنني
أن أتحدَّث عن وجود عقل عام هو شعور عام, هو
إحساس كلِّي مشترك, أو عقل مشترك. والحق أن
جميع البشر يشتركون في هذا العقل العام أو
الإحساس الكلِّي: جميع البشر يشعرون؛ جميع
الناس يحسُّون؛ جميع الناس يهتمون؛ جميع
الناس ينتبهون؛ جميع الناس يتخيلون؛ جميع
الناس يتصوَّرون؛ جميع الناس يتميزون
بالذكاء؛ جميع الناس يتذكرون؛ جميع الناس
يتداعون؛ جميع الناس يعقِلون. يشير
هذا الاعتراف النظري بالعقل العام المشترك
إلى إسهام البشرية قاطبة بمعطيات واحدة.
ويشير هذا الاعتراف الواقعي بالعقل العام
المشترك، بالتالي، إلى أنواع التفكير
الحاصلة عنه. وإذا
كانت حقيقة الواقع تؤكد وجود قاسم مشترك بين
عقول أبناء البشر, أدعوه بـ"العقل العام
المشترك", فإن هذه الحقيقة ذاتها تؤكد
تنوعات التعبير الفكري والشعوري لهذا العقل
المشترك. هنا
أتساءل: كيف أستطيع أن أستيقن من وحدة الفكر
الإنساني من خلال العقل العام المشترك؟ ذكرت
أن العقل العام المشترك يتجلَّى في مظهرين: 1.
مظهرٌ نظريٌّ يشير إلى أن
هذا العقل يمثل القاعدة العامة المشتركة بين
الناس. 2.
مظهرٌ واقعي يشير إلى فردية
العقل الخاص. ولا شك أن العقل الخاص يتكوَّن
من المعطيات الخاصة بكل ثقافة, أو حضارة, أو
مجتمع. أتساءل:
هل ينشأ تناقض بين العقل الخاص والعقل العام؟ ثمة
تناقض ظاهري, غير حقيقي, بين نوعي العقل؛ وثمة
تكامل بينهما. ويظهر التناقض الظاهري في
إشراطات العقل الخاص عن طريق مكوِّناته
ومقوِّماته الخاصة. فإذا خضع العقل الخاص
لإشراطات ثقافته الخاصة, وتقيَّد بالحواجز
المصطنعة التي تنشئها العقول الخاصة بعضها
بين بعض, وقع تناقض, قد يكون عميقاً, بينه وبين
العقل العام المشترك. وعلى
غير ذلك, ثمة قاعدة واحدة مشتركة بين العقول,
تتراءى في الشعور, والإحساس, والخيال,
والتصور، الخ, التي تشكِّل الأساس الذي يقوم
عليه العقل العام. لذا يمكننا القول: إن العقل
الفردي, أكان عقل فرد واحد أو عقول مجموعة من
الناس, وإن كان محتجَزاً أو كانت محتجَزة ضمن
قوقعة التجمُّع الزائف أو التبلور الكاذب,
يمتلك نصف قطر خاص به ونصف قطر آخر يمده إلى
العقول الأخرى. إن
امتداد العقل الفردي, بأنواع مزاياه الجمالية
والفكرية والشعورية, إلى نطاق العقول الفردية
الأخرى أمر يشير إلى لقاء العقول الفردية في
دائرة العقل العام المشترك. ولا يتحقق هذا
اللقاء إلا بخلاص العقل الفردي من إشراطاته
وعوائقه الذاتية الخاصة وبامتداده إلى
العقول الأخرى. إن مثل هذا الإنجاز – والحق
يقال – يتم بوعي كوني يُمِدُّ الفرد أو
الجماعة بالقدرة على تأمل مزايا العقول
الأخرى التي تجمعها قاعدة إنسانية وفكرية
واحدة ندعوها العقل العام المشترك. ثانياً،
وحدة القياس الإنساني عندما
يتأمل الإنسان الواعي التمايزات القائمة بين
المجتمعات البشرية, يعمل جاهداً لاكتشاف
القاعدة المشتركة بينها التي تدل على عدم
وجود تمايز حقيقي في جوهرها. ومع ذلك, يتساءل
الإنسان الواعي عن الطريقة التي تساعده على
رؤية الوحدة المشتركة بين أنواع التمايزات
البشرية. ولا شك أن العقل الخاص الفردي،
المتمايز بذاتيَّته، يقيم عوائق بين
الثقافات والحضارات وحواجز تحول دون إحداث
هذه القاعدة الإنسانية الشاملة, مردِّداً مع
روديارد كِبْلِنْغ: "الشرق شرق والغرب غرب،
ولن يلتقيا." وعلى الرغم من الصعوبات التي
ينشئها العقل الفردي الذي يمايز ذاته عن
العقول الفردية الأخرى فإن العقل العام أو
العقل الواعي يبحث جاهداً عن القاسم المشترك
بين جميع الأنظمة الاجتماعية, ويسعى إلى
معاينة اللحمة التي توحِّد الفعاليات
البشرية بأجمعها. ينطلق
العقل المفكِّر الواعي, أو العقل العام
المشترك, في سعيه الدؤوب لمشاهدة الحقيقة
الواحدة التي تجمع عقول بني البشر في صورة
كلِّية عامة. ولمَّا كان سعيه هذا دليلاً على
إرادة حرة تتَّجه إلى التقصِّي والبحث فإنه
يبدأ بدراسة الأنظمة الاجتماعية الخاصة بكل
مجتمع. وفي هذا السعي الحثيث يتفهم المزايا
الخاصة بكل مجتمع: قوانينه المتنوعة,
وتشريعاته الكثيرة, وتقاليده, وطقوسه,
وعاداته, ونظامه الاقتصادي، الخ. وبعد أن
ينتهي هذا العقل المفكر الواعي من دراسة جميع
الأنظمة الاجتماعية، يخلص إلى نتيجة حاسمة
تتمثل في عجزه عن إقامة وحدة قياس عامة
يستخلصها من هذه الأنظمة – هذا لأن مثل هذا
السعي سيؤدي به إلى فوضى التقييم وتشتت العقل. لمَّا
كان العقل المفكِّر الواعي يرفض الاستسلام
لإشراطات وجوده المجتمعي المحتجَز في الأنا
التجمُّعية, فإنه يعيد التأمل في دراسته ليصل
إلى قانون واحد جامع, أو قاعدة مشتركة,
تتوطَّد عليها وحدة العقل الإنساني. إن هذا
العقل المفكِّر الواعي يبحث عن وحدة قياس. وفي
لحظة من لحظات الاستغراق في حقيقة وجوده يدرك
أن السعي إلى وحدة القياس لا يتحقق في دراسة
الأنظمة الاجتماعية المختلفة التي تؤدي إلى
تناقض حقيقي أو ظاهري, بل يتحقق في دراسة
الإنسان ذاته الذي يعتبر المقياس الأساسي لكل
شيء, والمعيار الجوهري للوحدة الإنسانية.
وعندئذٍ, يعمد العقل المفكر الواعي إلى تشريح
الجسم الإنساني وتأمل عظمة الدماغ. يشير
تشريح الدماغ الإنساني والجسم الإنساني إلى
وحدة القياس البشري وإلى وجود معيار واحد
لجميع البشر هو وحدة العقل ووحدة النفس. ومتى
بلغ العقل المفكِّر الواعي هذا الحد أدركَ أن
القياس الواحد أو الوحدة التي يسعى إليها
موجودة فيه. وعندئذٍ, يقف من البنى الاجتماعية
الأخرى موقف التفهُّم والوعي، ويدرك أن جميع
البنى الإنسانية محاولات فردية تسعى إلى
تحقيق لقاء على المستوى الإنساني الكلِّي،
ويعي أن تنوع هذه البنى لا يشير إلى التناقض,
وذلك لأن كل بنية تسعى إلى التحقيق الذاتي
لوجودها من خلال جملتها وبيئتها. وفي خضم هذه
اللحظة التأمُّلية, يفهم العقل المفكِّر
الواعي أن جميع الأشياء تعبيرات وتمثيلات
لمعيار إنساني واحد يقف منه موقف المُحِب،
ويشاهد روعته في ضوء القياس الواحد، ويدرك
وحدة القياس وتعدُّد أنواع التعبير. ثالثاً،
العقل الانتقائي لا
يُعَدُّ العقل الفردي المتمايز بذاتيَّته
الخاصة والمشروط بمقوِّمات أناه عقلاً
انتقائياً. وعلى غير ذلك, يُعَدُّ العقل
المفكِّر الواعي – العقل العام – عقلاً
انتقائياً. يتميز
العقل الانتقائي بأنه عقل توحيدي أو تكاملي,
ويتصف بوحدة القياس والتقييم والمعايرة. إنه
يوحِّد أو يؤلِّف التيارات الفكرية العديدة
في ذاته. ولمَّا كان العقل الانتقائي غير
مشروط بتمايزه الخاص فإنه يستطيع أن يشاهد
الجمال الواحد في أنواعه وتعدُّديته,
والحقيقة الواحدة في وقائعها الكثيرة,
والإنسان الواحد في أنواعه, والإنسانية
الواحدة في تنوعات المجتمعات البشرية. إن
العقل الانتقائي – والحق يقال – لا يجد خلاص
العالم في ثقافة واحدة خاصة, أو حضارة واحدة,
أو عقيدة واحدة خاصة. يُشَبَّه
العقل الانتقائي بحديقة واسعة تُزرَع فيها
زهور وورود العالم كلِّها. وفي نطاق هذه
الحديقة تجتمع تنوعات الأزاهير والورود.
وتُبقِي هذه الحديقة على وجود فسحة قابلة
لاحتواء نوع جديد من الزهور يُضاف إلى
التنوعات المتوافرة. وتشير هذه الحديقة
الشاملة إلى أن جمال التنوع أكثر روعة وبهاء
من جمال التفرُّد. ويمكننا أن نستشف جمال
التنوع في تلك الألوان العديدة والأشكال
المتنوعة التي تمتلئ بها حديقة حياتنا وفكرنا
وإنسانيتنا. تمثِّل
هذه الحديقة، التي تحفل بأزاهير العالم
المجتمعة من أقطار عديدة وأقاليم كثيرة,
العقل الانتقائي خير تمثيل. ويعتمد العقل
الانتقائي في جوهره على أساسين: أولهما, أن
الحقيقة الإنسانية أو الكلِّية ليست حِكراً
على مبدأ واحد, أو عقيدة واحدة، أو حضارة
واحدة, أو أمة واحدة؛ وثانيهما, أن الفكر
المؤلَّف من أنواع الأفكار المنتقاة,
والمكوَّن من مجموعة تجلِّيات فكرية, يتلألأ
بجمال رائع أخَّاذ وبهاء خلاب. يدرك
العقل الانتقائي أن جميع الأشجار التي تحفل
بالمبادئ والثقافات تحمل غصناً أو غصنين أو
أكثر من شجرة الحقيقة الإنسانية والكونية.
ويعمد العقل الانتقائي إلى اختيار ذلك الغصن
الذي ينسجم مع الحقيقة الكونية والإنسانية
وإلى ضَمِّه إلى شجرة الحقيقة الإنسانية
الكبرى المتمثِّلة في وحدة الكيان الإنساني.
وعلى الرغم من أن العقل الإنساني الواعي –
وهو شجرة كونية وإنسانية شاملة – يضمُّ إليه
جميع الفروع الكونية والإنسانية التي
انتقاها من الأشجار الأخرى, لكنه يحتفظ, على
شجرته الخاصة, بغصن قائد يشير إلى خصوصية
تنوعه ويحافظ على كيانه, الأمر الذي يعني
التقاء الخاص مع العام, والمحافظة على الخاص
ضمن العام. يتأمل
العقل الانتقائي في مبادئ العالم كلِّها,
بتياراتها الفكرية العديدة, فيختار منها –
بعد وعي عميق – ذلك المبدأ أو الفكرة التي
تنسجم مع جوهره الكلِّي وقاعدته الشمولية,
ويؤلِّف مما يجمعه باقة فكرية متنوعة تزهو
بجمالها وروعتها. وهكذا يُطِلُّ العقل
الانتقائي على جميع التيارات الفكرية, يدرسها
بوعي عميق منفتح, وينتقي, ويؤلِف، ويوحِّد،
محتفظاً، مع ذلك، بكيانه المبدئي وبوجوده
الثقافي الذي لا يتناقض مع الوجودات الثقافية
الأخرى. وعندئذٍ, يجتمع العالم كلُّه فيه,
فيحبُّه ويطوِّره إلى مستويات أعلى من الوعي،
ولا يتناقض معه، ويلتقي مع كل ما هو شامل وعام
في الحضارات أو الثقافات الأخرى دون تناحر, أو
صِدام, أو تناقض, أو عدوان. رابعاً،
العقل المنفتح يمكنني
أن أتحدث, على نحو رمزي, عن وجود نوعين للحضارة:
نوع يشير إلى الانفتاح, ونوع آخر يشير إلى
الانغلاق: ثمة حضارة منفتحة وحضارة منغلقة.
ويمكنني أن أختصر كلامي قائلاً: إن الحضارة
المنفتحة حضارة تأخذ وتعطي, تقتبس وتؤلِّف,
وتمنح الحضارات الأخرى ما بلغته من حكمة وعلم
ومعرفة... هي حضارة تتفاعل مع الثقافات الأخرى,
وتعلم أن موهبتها منوطة بما تقدِّمه لخير
الإنسانية, وأن مشعلها سينتقل إلى شعوب أخرى
تستضيء بنوره, وأنها تمثل مرحلة من مراحل
التعبير العام للـ"مثال" الذي يتخلَّل
التاريخ الأرضي. أما الحضارة المغلقة – هذا
إن كنت أستطيع أن أسمي الانغلاق "حضارة"
– فهي حضارة منكفئة على ذاتها, تحاول أن
تتمايز عن غيرها، معلنة رفضها لقانون التواكل
العام, والاعتماد المتبادل interdependence,
والتفاعل الصميم، الذي ينشأ بين مجموعة
الفعاليَّات البشرية على المستوى الكوني. يُعَدُّ
العقل المنفتح عقلاً انتقائياً يتميز
بالتحمُّل tolerance.
ونقصد بكلمة "تحمُّل" ذلك الموقف العقلي
الواعي إزاء التيارات الفكرية والثقافية
الأخرى. إذن فالعقل المتحمِّل هو ذلك العقل
الذي يتميز بصفة البحث عن الحقيقة في كل شيء.
والحق إن هذا البحث عن الحقيقة المختبئة في
جوهر الأشياء والمبادئ يُكسِبُه صفة
الانتقاء التي تُمِدُّه، بدورها، بالقدرة
على رؤية حقيقته في الحقائق الأخرى, أو في بعض
مضامينها... إنه عقل غير مشروط بفرديته
الذاتية التي تحتجزه في قوقعة الأنا... إنه
عقل شمولي... عقل مُحِبّ. وكما
ذكرت سابقاً, يشير الواقع البشري إلى تناغم ما
هو خاص مع ما هو عام. فإن كنا نمتلك عقولاً
فردية فلكي نحافظ على الكيان الفردي. وإن كان
واقع العالم يشير إلى وجود عقل عام, أو كلِّي,
أو شامل, فلكي ينسجم العقل الفردي مع العقل
العام. وعندئذٍ, يحدث تعايش بين مفاهيمنا
الفردية ومفاهيمنا الشمولية. وإن أفضَل مثال
ينطبق على هذه القضية المطروحة أستقيه من
الجسم الإنساني. فالجسم الإنساني يمثل كياناً
واحداً تتفاعل فيه أعضاء كثيرة، ويشكل كل عضو
فيه بؤرة خاصة تعمل لذاتها كما تعمل للأعضاء
الأخرى, وبالتالي للجسم كلِّه. فبقدر ما يعمل
العضو لذاته يعمل لكلِّية الكيان الجسماني.
ونحن نعلم أن تعايش الأعضاء ناتج عن تفاعل
الأعضاء بعضها مع بعض ضمن وحدة تحييها في
تناسق ووئام. هكذا
يتعايش العقل المنفتح, فردياً كان أم
اجتماعياً, مع العقول الأخرى التي تُعتبَر
مشاعل تضيء طريق البشرية. وعندما يتأمل هذا
العقل المنفتح مواطن الجمال في المبادئ
الأخرى أو أنواع التعبيرات الفكرية,
والجمالية, والفنية, والعلمية، الخ, يجد أنها
تشير إلى الحقيقة وذلك لأنها إشعاعات أو
سُبُل تؤدي, في النهاية, إلى دائرة الحياة
الجامعة والشاملة. خامساً،
الأصول الواحدة أ.
الأصول الأسطورية الواحدة عندما
أعود إلى الفترة التاريخية السابقة للفلسفة
أجد الفكر يعبِّر عن ذاته في حكمة صيغت على
نحو أسطوري. ويجدر بي, وأنا أتوغل إلى أعماق
العقل الإنساني السابق للتصنيف الفلسفي الذي
اعتمد الثنائية – ثنائية الفكر والموضوع –
أو النهج الفكري الذي نعرفه اليوم, أن أتعرَّف
إلى الأصول الواحدة للعقل الإنساني. وبهذا
الصدد ألتزم ببحث الرمزية التي صيغت بها
الحكمة الأسطورية فأقول: الرمز إشارة إلى
السر, والأسطورة حكمة الأقدمين. توخياً
للمزيد من الوضوح والتبسيط سأعمد إلى شرح
المضمون الكامن في مفاهيم الرمز والسرِّ
والحكمة والأسطورة. ولما كان الرمز يشير إلى
السرِّ فإني أقول بأن حكمة الأقدمين – أي
ديانتهم – تمثلت في أسرار عبَّرت عن الحكمة
البدئية للوجود الإنساني. ولما كان السرُّ
يعني العمق فإن الرمز يشير إلى الحكمة
القائمة في الصياغات الأسطورية. وبهذا الصدد
يمكنني أن أقول: إن العقل الإنساني لم يعانِ
من التشتت والضياع والثنائية والتعدُّدية في
تلك الفترة السابقة, الأمر الذي يجعلني أعلن
أن برج بابل – باب إيل – كان رمزاً للوحدة
السرَّانية, وأن رقص شيفا مثَّل للوحدة
الجامعة للكثرة. وهكذا يمكنني أن أبيِّن أن
الأسطورة هي حكمة مطروحة على صورة أو هيئة
الرمز... والرمز تعبير عن سرِّانية واحدة غير
مجزَّأة أو مشتَّتة. تقودني
هذه العبارة الأخيرة إلى الاعتراف بأن أصول
المعتقدات البشرية, أو الحكمة الإنسانية
المعبَّر عنها بالرمز, كانت واحدة في أساسها,
تمثل جذع شجرة التفكير الإنساني. لذلك أجد
أصلاً واحداً أو أصولاً واحدة للفكر الأسطوري.
إن تعمقي في دراسة الأسطورة – والحق يقال –
يريني القاعدة الأساسية الواحدة والأصل
الأوحد. على هذا الأساس, يجدر بي أن أدرس
الأسطورة بصيغة المفرد وأتجنَّب دراستها
بصيغة الجمع. وبالفعل, لم تكن هنالك, في
المرحلة السابقة للفلسفة, إلا أسطورة واحدة
تم التعبير عنها بلغة الرمز. إذن, هنالك
أسطورة كونية واحدة, أو حكمة شاملة واحدة,
صيغت برموز عديدة متنوعة, غير متناقضة. بذلك
أستطيع أن أقول: إن تعمقي في دراسة الأساطير
بصيغة الجمع يقودني إلى معرفة الأصل الواحد
أو الأصول الواحدة للسرَّانية القائمة في
الرمزية الأسطورية. وعندما أتأمل ما جاء في
أساطير الإنكا والأزتك, وأساطير القبائل
النوردية (الاسكندنافية الشمالية), وأساطير
اليونان, وأساطير الشرق الأوسط, وأساطير
أفريقيا وآسيا وأمريكا، الخ, أجد أنها تشترك
بسرَّانية واحدة معبَّر عنها برموز متنوعة.
ولما كان السرُّ، كما أشرنا، يعني العمق, فقد
دلَّني هذا العمق، أو هذا التبصُّر التأمُّلي
في التأويل والتقصِّي، إلى تماثل الروايات,
والأحاديث, والأحداث, والوقائع, والأساليب
والخلفيات. وعندئذٍ, أدركت أن الفكر الإنساني
لم يكن قد تعرَّض بعدُ للتشتت وللضياع, ولم
يكن برج بابل – باب إيل – أو رقص شيفا تعبيراً
عن بلبلة وتشويش, بل تعبير عن الحكمة. ويؤسفني
أن أقول إن الكتَّاب والمفكرين الذين يتحدثون
أو يكتبون عن الأساطير – إلا أقلَّهم –
يخطئون في تفسيرها لأنهم يلامسون رمزيَّتها
ولا يتعمَّقون إلى سرَّانيَّتها. وإن ملامسة
الرمزية تشير إلى السطحية وتنفي التوغل إلى
العمق–السرِّ – الأمر الذي يسيء إلى الحكمة
الكامنة في الأسطورة. فالحكمة الكائنة في
الأسطورة, والمعبَّر عنها بالرمز, تتطلب من
الدارِس تعمقاً في سرَّانية الحكمة. يجدر
بي, وأنا أشدِّد على التماثل القائم في
الأساطير وأؤكد على الوحدة اللاحمة للرموز
المعبِّرة المتنوعة، أن أكتفي بتقديم مثلين,
والإلماع إلى مثل ثالث: المثل الأول يشير إلى
التكامل القائم بين كتاب الموتى المصري وكتاب
الموتى التيبتي؛ والمثل الثاني يشير إلى
الحكمة المتضمنة في رمزية الطوفان التي أجدها
في الأساطير القديمة بأجمعها. لقد تحدثت كل
الميثولوجيات عن الطوفان؛ وهذا لأن التعمق في
دراسة هذه الحكمة–الأسطورة يشير إلى الأدوار
التي يجتازها كوكب الأرض من خلال ديمومته.
والحق إن نظرية الأدوار حقيقة راسخة في واقع
كوكبنا. وإذا كانت الأدوار تشير إلى خليقة
جديدة, تشير، بدورها, إلى نهاية دور وانبثاق
دور جديد, علمنا أن عقيدة البعث المتأصِّلة في
غالبية الأساطير تعود إلى أصل واحد, وأن نظرية
الخلق الملازمة للفكر الأسطوري تعود إلى
مفهوم عالمي واحد. هكذا أعترف بوجود حكمة
كونية أو عالمية واحدة – أسطورة واحدة –
برموز متنوعة وأساليب عديدة. ب.
الأصول اللغوية الواحدة كما
أن للأساطير أصولاً واحدة كذلك للُّغات أصولٌ
واحدة. وكما أن الأساطير أغصان وفروع تتصل
بشجرة الحكمة البدئية الواحدة كذلك تشكِّل
اللغات, على الرغم من تباينها, شجرة واحدة, هي
أصل واحد, وفروعاً وأغصاناً عديدة. ولئن كانت
الصعوبة تكمن في معرفة الأصل الواحد – ذلك
لأن العودة إلى أصل الشيء أمر غاية في الدقة
والبحث والتقصِّي, الأمر الذي يجعل الأصل أو
الأصول الأولية تغيب عن ساحة رؤيتنا – إلا
أني أستطيع أن أستشف هذا الأصل الواحد على
مستويين: أولاً،
مستوى اللغات المتقاربة ضمن نطاق جغرافي معين:
اللغة الهيروغليفية, والمصرية القديمة،
واليونانية القديمة؛ اللغة السريانية
القديمة والعربية واليونانية... اللغة–الأصل
التي سادت في إقليم واسع الأطراف, وتنوَّعت
إلى لهجات هي لغات مشتقة من لغة واحدة. ثانياً،
مستوى اللغات المتباعدة. وإنه لا يمكنني –
والحق يقال – أن أجد العلاقة أو القرابة بين
هذه اللغات إلا من خلال العمق القائم في
الأساطير. لذا كانت الأساطير دليلنا إلى وجود
لغة بدئية واحدة تتقارب كلماتها, هي تصور عقلي
بدئي تنوَّع فيما بعد إلى لغات تتوافق مع
المقومات التي تجهِّزنا بها طبيعة كل إقليم
أو منطقة. في
هذه الصورة الأولية أشاهد العلاقة الوطيدة
القائمة بين الأسطورة واللغة, وأجد الأصول
التعبيرية المتنوعة للفكر الإنساني ووحدة
الحكمة أو السرِّ المعبَّر عنهما بالرموز.
وفي عصرنا الحالي ينكبُّ العديد من علماء
الفيلولوجيا – فقه اللغة أو فلسفتها –, في
أقطار العالم كلِّها، على دراسة أصول اللغة
التي يبحثون فيها, ويتقصُّون أصول الكلمات
التي دخلتها وأصبحت في صلب تفكيرها. ولقد توصل
أولئك الباحثون إلى أمرين: 1.
الأصول المتعددة للُّغة
الواحدة. 2.
الكلمات المقتبسة من اللغات
الأخرى التي أصبحت قائمة في صميم اللغة
المدروسة. عندما
يتعمق الدارسون في الأصول الفكرية والفقهية
والفلسفية والاشتقاقية لِلُغة معينة يجدون
أنها ترتبط بالأصول الفكرية للُّغات المتصلة
بها أو اللغات البعيدة التي لا تشترك معها في
جذع واحد. والحق إن مثل هذا الارتباط يقع في
نطاق فلسفة اللغة, الفيلولوجيا philology,
أكثر مما يقع في نطاق الاشتقاق اللغوي,
الإتيمولوجيا etymology.
وهكذا يمكنني أن أقول إن علم اللغات يشير إلى
وجود شجرة بدئية واحدة للُّغة تذرَّت منها
فروع هي لغات وثيقة الارتباط بالشجرة الأم, أو
لهجات قريبة. على هذا الأساس, يمكنني أن أخلص
إلى نتيجة هي: القرابة الفكرية والقرابة
اللغوية وثيقتا الارتباط بحيث إن الأصول
الفكرية تكاد تكون واحدة في العالم أجمع.* سادساً،
العالم نسيج واحد متداخل خيوط الحياكة ثمة
تماثل حقيقي بين الإنسان وكوكب الأرض. فكما أن
الإنسان يتميَّز بجسم يجمع في نطاق وحدته
أعضاء كثيرة متنوعة, كذلك يتميَّز كوكب الأرض
بجسم يجمع في نطاق وحدته الأمم والشعوب
المتنوعة. وكما أن كل عضو في الجسم الإنساني
يتصف بموهبة معينة أو يُسهِم بوظيفة معينة,
كذلك يتصف كل عضو في الجسم الأرضي بموهبة
معينة. فالأمم, باختلاف أنواعها وأقاليمها,
يتميَّز بعضها عن بعض بما وهبته الطبيعة لها
من مقوِّمات العيش التي تعتبرها الأمة
الموهوبة بها وسيلة الاتصال مع الأمم الأخرى.
على هذا الأساس, تتوافر الموارد المتنوعة في
الأقاليم العديدة على المستوى الاقتصادي,
والمستوى الثقافي, والفكري, والفني, والعلمي،
والإنساني. وتتنوَّع هذه الموارد أو المواهب
ليقوم تبادل ودِّي, متساوٍ ومتوازن، بين جميع
الأمم والشعوب. وهكذا تزوِّد كلُّ أمة الأمم
الأخرى بمواهبها الخاصة, وتتصل بها من خلال
هذا الامتداد الطبيعي, والاقتصادي, والفني,
والثقافي، الخ. يمكنني
أن أستنتج وجود صلة بين الشعوب تُرَدُّ إلى ما
تقدِّمه كلُّ أمة من أجل إحياء الحضارة
الإنسانية الشاملة. والحق إن استدارة كوكب
الأرض حكمة فرضتها الطبيعة من أجل تلاقي
الشعوب. من
جهة أخرى, أجد أن الأمم والبلدان تسير باتجاه
المزيد من التلاقي والاتصال. وعلى الرغم من
وجود التيارات الانعزالية التي تسعى إلى
إحداث شرخ في اللحمة البشرية المستغرقة في
محبة الإنسان للإنسان, والأوطان للأوطان, فإن
الأمم تندفع بفعل طاقة داخلية، موحِّدة، إلى
المزيد من التلاقي والاتصال – هذا لأن طبيعة
الوجود الأرضي تفرض هذا اللقاء أو التوحيد أو
التكامل. وفي الوقت الحاضر يبذل حكماء وعلماء
كبار قصارى جهدهم للكشف عن حقيقة هذا التلاقي
والاتصال على صعيد الطبيعة, أي العلم, وعلى
صعيد علوم الاجتماع والاقتصاد والسياسة
والنفس. فهم ينادون بوحدة العقل الإنساني,
ووحدة الوجود الإنساني, ويعارضون الميول
والنزعات التي تقوِّض صرح هذا الوحدة. إن
إشعاع الثقافات قضية كونية تطرح الغايات
العظمى للوجود الإنساني. *** *** *** *
يقول
سزارغول ما مفاده أن البحوث اللغوية دلَّت
على أن علم اللغة ينقسم إلى ثلاثة أقسام: -
المبادئ الكونية التي
تشكِّل أساس كل اللغات الخاصة (اللسانيات
العامة). -
بنية اللغات الخاصة في فترة
زمنية معينة (اللسانيات الخاصة). -
عملية التبدُّل أو التغيُّر
الطارئة التي تترك أثرها في اللغات خلال
الزمن (اللسانيات التاريخية أو
اللامتزامنة). |
|
|