|
صعود
التفكير المنظوماتي
فريتيوف
كابرا
تمهيد:
النقلة الأنموذجية
كان
الاهتمام الأساسي في حياتي كفيزيائي منصباً
على التغيُّر المثير في المفاهيم والأفكار
الذي حصل في الفيزياء خلال العقود الثلاثة
الأولى من القرن العشرين والذي ما زال يتوسع
في نظرياتنا الحالية حول المادة. جلبت
المفاهيم الجديدة في الفيزياء معها تغييراً
عميقاً في نظرتنا إلى العالم, من الرؤية
الآلية إلى العالم التي صاغها ديكارت ونيوتن,
إلى رؤية كلانية holistic،
إيكولوجية. لم
يكن سهلاً على الفيزيائيين في بداية القرن
العشرين قبول الرؤية الجديدة للواقع بأي حالٍ
من الأحوال. إن اسكتشاف العالم الذري وما دون
الذري جعلهم في تماس مع واقع غريب وغير
متوقَّع. وفي كفاحهم لكي يقبضوا على هذا
الواقع الجديد, صار العلماء على وعي أليم بأن
مفاهيمهم الأساسية ولغتهم وطريقتهم في
التفكير كلَّها لم تكن ملائمة لوصف الظواهر
الذرية. لم
تكن معضلاتهم فكرية صرفاً, بل وصلت إلى نوع من
أزمة وجدانية، لا بل وجودية حادة. لقد
استغرقهم التغلب على هذه الأزمة وقتاً طويلاً,
لكنهم في النهاية أحرزوا تبصرات عميقة حول
طبيعة المادة وعلاقتها بالعقل البشري. لقد
ناقش علماء الفيزياء والفلاسفة على نطاق
واسع، ولمدة تزيد على خمسين عاماً, التغيرات
المثيرة في التفكير التي حصلت في بدايات
القرن العشرين. وهذه قادت توماس كُون إلى
مفهوم الـ"أنموذج" العلمي [نموذج إرشادي]scientific
paradigm
، المعرَّف به كـ"كوكبة
متماسكة من المكتسبات – المفاهيم والقيم
والتقنيات الخ – يتشارك فيها مجتمع علمي
ويستخدمه لتعريف المشكلات والحلول المشروعة".
وبحسب كُون, تحدث التغيرات الأنموذجية وفق
انقطاعات ثورية غير متصلة تدعى "نقلات
أنموذجية" paradigm shifts. واليوم,
بعد أكثر من ربع قرن على تحليل كُون, نتعرف إلى
النقلة الأنموذجية في الفيزياء على أنها جزء
لا يتجزأ من تحول ثقافي أوسع بكثير. إن الأزمة
الفكرية التي حصلت في الفيزياء الكوانتية في
العشرينيات منعكسة حالياً في أزمة ثقافية
مشابهة، ولكن على نطاق أشمل. تبعاً لذلك فإن
ما نراه من نقلات أنموذجية لا يقتصر على العلم,
بل يشمل الميدان الاجتماعي الأوسع. ولكي أحلل
ذلك التحول الثقافي قمت بتعميم تعريف كُون
للأنموذج العلمي إلى نموذج اجتماعي social paradigm
– أعرِّف به كـ"كوكبة متماسكة
من المفاهيم والقيم والإدراكات والممارسات
يتشارك فيه مجتمع ما وتشكل رؤية خاصة للواقع
تكون أساساً للطريقة التي تنظِّم الجماعة بها
نفسها". لقد
ساد الأنموذج الذي يتقهقر حالياً ثقافتنا عدة
مئات من السنين, شكَّل خلالها مجتمعنا الغربي
الحديث وأثَّر تأثيراً بالغاً على بقية
العالم. يتكون هذا الأنموذج من عدد من الأفكار
والقيم الراسخة, من بينها: رؤية العالم
كمنظومة آلية مركَّبة من لبنات بناء أولية,
ورؤية الجسم الإنساني كآلة, ورؤية الحياة في
المجتمع كصراع تنافسي من أجل البقاء,
والاعتقاد بالتقدم المادي غير المحدود وبأن
الوصول إليه يتم عن طريق النمو الاقتصادي
والتكنولوجي المتسارع, وأخيراً وليس آخراً,
الاعتقاد بأن المجتمع الذي تخضع فيه الأنثى
للذَّكر في كل مكان يستجيب لقانون أساسي في
الطبيعة. كل هذه الافتراضات تحدَّته الأحداث
المعاصرة تحدِّياً مصيرياً, وتحدث الآن
بالفعل إعادة نظر جذرية له. الإيكولوجيا
العميقة
يمكن
أن ندعو الأنموذج الجديد بالنظرة الكلانية
التي ترى العالم ككل متكامل وليس كمجموع
مفكَّك من الأجزاء. وقد ندعوه أيضاً نظرة
إيكولوجية شريطة أن نستعمل مصطلح "إيكولوجي"
بمعنى أوسع وأعمق مما هو شائع. إن الوعي
الإيكولوجي العميق يقرُّ التواكل الأساسي
بين الظواهر كافة، كما وحقيقة أننا جميعاً،
كأفراد وكمجتمعات, حلقات مندمجة في (وفي
النهاية متَّكلة على) السيرورات الدورية
للطبيعة. يختلف
المصطلحان "كلاني" و"إيكولوجي"
قليلاً في معنييهما, ويبدو أن مصطلح "كلاني"
أقل ملائمة بعض الشيء لوصف الأنموذج الجديد.
فالنظرة الكلانية إلى دراجة، على سبيل المثال,
تعني أن نرى الدراجة كجملة وظيفية وأن نفهم
التواكل بين أجزائها تبعاً لذلك. أما النظرة
الإيكولوجية إلى الدراجة فتتضمن ما سبق,
وتضيف إليه إدراكاً لكيفية انخراط الدراجة في
بيئتها الاجتماعية والطبيعية: من أين جيء
بالمواد الخام التي دخلت في تركيبها وكيف
تمَّ تصنيعها, ثم كيف يؤثر استخدامها على
البيئة الطبيعية وعلى الجماعة التي تستخدمها,
وهكذا دواليك... حتى إن هذا التمييز ما بين "كلاني"
و"إيكولوجي" يبدو أكثر أهمية عندما
نتحدث عن المنظومات الحية التي تكون
ارتباطاتها بالبيئة أكثر حيوية لها. إن
المعنى الذي أستعمل فيه مصطلح "إيكولوجي"
يرتبط بمدرسة فلسفية معينة, لا بل بحركة
عالمية معروفة بـ" الإيكولوجيا العميقة"
deep
ecology,
ما فتئ صيتُها في اتساع. تأسَّست هذه المدرسة
الفلسفية على يد الفيلسوف النروجي آرني نيس
في أوائل السبعينيات عندما ميَّز بين
الإيكولوجيا "السطحية" shallow
والإيكولوجيا "العميقة" deep.
وقد قُبِل هذا التفريق على نطاق واسع على أنه
أداة مفيدة جداً للإشارة إلى الانقسام
الرئيسي ضمن الفكر البيئي المعاصر. الإيكولوجيا
السطحية متمركزة حول الإنسان anthropocentric,
ترى البشر فوق أو خارج الطبيعة، مصدراً لجميع
القيم، وتعزو فقط قيمة أداتية أو "استعمالية"
للطبيعة. أما الإيكولوجيا العميقة فهي لا
تعزل البشر – أو أي شيء آخر – عن البيئة
الطبيعية. إنها ترى العالم ليس كمجموعة من
الموضوعات المنعزلة, بل كشبكة network
من الظواهر ذات ترابط وتواكل أساسي. تقر
الإيكولوجيا العميقة القيمة الجوهرية
للكائنات الحية كافة وترى البشر كمجرد واحد
من الخيوط الخاصة في شبكة الحياة the web of life.* والوعي
الإيكولوجي العميق، في المآل، وعي روحي أو
ديني. عندما يُدرَك مفهوم الروح الإنسانية
ككيفية وعي يتزوَّد بها الفرد بشعور
بالانتماء إلى، وبالترابط مع، الكوسموس ككل،
يصبح من الجليِّ أن الوعي الإيكولوجي هو وعي
روحي في ماهيَّته الأعمق. فلا غرو، إذن، أن
تكون الرؤية الجديدة الصاعدة للواقع،
المتأسِّسة على الوعي الإيكولوجي، منسجمة مع
ما يُعرَف بالحكمة الخالدة perennial
philosophy للمنقولات الروحي،
سواء تكلمنا على روحانية الصوفية المسيحيين،
أو روحانية البوذيين، أو فلسفة وكوسمولوجيا
المنقولات الثقافات الأمريكية الأصلية. ثمة
طريقة أخرى خصَّ بها آرني نيس الإيكولوجيا
العميقة. "إن ماهية الإيكولوجيا العميقة،
على حدِّ قوله، هو طرح أسئلة أعمق." وهذا
أيضاً هو ماهية النقلة الأنموذجية. إننا
بحاجة إلى الاستعداد للتشكيك في كل مظهر
بعينه من مظاهر الأنموذج القديم. وفي المآل لن
نحتاج إلى التخلِّي عن كل شيء, لكننا قبل أن
نعرف ذلك, نحتاج إلى الإرادة للتشكيك في كل
شيء. لذلك تطرح الإيكولوجيا العميقة أسئلة
عميقة حول الأسس عينها لنظرتنا إلى العالم
وأسلوب حياتنا الحديثين، القائمين على العلم
والتصنيع والموجَّهين نحو النمو. وهي تشكِّك
في هذا الأنموذج برمَّته انطلاقاً من منظور
إيكولوجي: من منظور علاقتنا مع بعضنا بعضاً,
مع أجيال المستقبل، ومع شبكة الحياة الضامة
لنا. من
الأجزاء إلى الكل
تواصَل
خلال القرن العشرين الانتقال من الأنموذج
الآلي mechanistic
paradigm إلى الأنموذج
الإيكولوجي ecological
paradigm بأشكال وسرعات
متباينة في الميادين العلمية المتنوعة. ولم
يكن الانتقال خطياً. فقد تضمن ثورات علمية
وارتدادات وتأرجحات نوَّاسية. ربما كان
النوَّاس الشواشي بمعنى نظرية الشواش chaos
theory – نواسانات تكاد
تكرر نفسها، لكن ليس تماماً، فتبدو عشوائية،
لكنها مع ذلك تشكل نموذجاً معقداً رفيع
التنظيم – ربما كان الاستعارة المعاصرة
الأكثر ملائمة. حصل
التوتر الأساسي بين الأجزاء والكل. ولقد
دُعِي التأكيد على الأجزاء آلياً أو
اختزالياً أو ذرذرياً atomistic؛
أما التأكيد على الكل فدُعِي كلانياً holistic
أو عضوانياً organismic
أو إيكولوجياً. عُرِف المنظور الكلاني في علم
القرن العشرين بأنه "منظوماتي" systemic
وطريقة التفكير التي يتضمنها بأنها "التفكير
المنظوماتي"systems
thinking
. في هذا البحث سأحاول
المرادفة ما بين "إيكولوجي" و"منظوماتي",
حيث إن هذا الأخير هو المصطلح الأكثر تقنية
وعلمية وحسب. انبثقت
الخصائص الرئيسية للتفكير المنظوماتي في وقت
واحد في فروع علمية متعددة خلال النصف الأول
من القرن العشرين, خصوصاً في عقد العشرينيات.
وقد مهَّد الطريقَ لهذا التفكير علماءُ
البيولوجيا الذين أكدوا على النظر إلى
المتعضيات من حيث هي كلِّيات متكاملة. وقد
أغنى هذه النظرة لاحقاً علمُ نفس الغشتالت Gestalt
وعلم الإيكولوجيا الجديد وكان لها أقوى الأثر
في الفيزياء الكوانتية. وبما أن الفكرة
المركزية للأنموذج الجديد تتعلق بطبيعة
الحياة, سنبدأ أولاً من البيولوجيا. الجوهر
والشكل
تكرر
التوتر ما بين المذهبين الآلي والكلِّي خلال
تاريخ البيولوجيا. وكان ذلك نتيجة محتومة
للثنائية القديمة ما بين الجوهر (المادة,
البنية, الكمية) والشكل (النموذج, النظام,
الكيفية). والشكل form
البيولوجي هو أكثر من الهيئة shape،
أكثر من تشكيل من المكوِّنات في كلّ. فهناك
دفق متواصل من المادة عبر المنظومة الحية،
بينما يبقى شكلها ثابتاً. هناك نمو، وهناك
تطور. من هنا فإن فهم الشكل البيولوجي مرتبط
ارتباطاً لا فكاك منه بفهم السيرورات
الاستقلابية والنموية. عند
فجر العلم والفلسفة الغربيين, ميَّز
الفيثاغوريون "العدد" أو النموذج عن
الجوهر أو المادة, ونظروا إليه على أنه ما
يحدُّ المادة ويعطيها هيئتها. وقد عبَّر عن
هذا الأمر غريغوري باتسون قائلاً: أخذت
الحجَّة الهيئة التالية: "هل نسأل ممَّ صنع
التراب والنار والماء الخ؟" أم نسأل "ما
هو نموذجها؟" أخذ الفيثاغوريون
بتقصِّي النموذج بدلاً من تقصِّي المادة. ميِّز
أرسطو أيضاً – أول بيولوجي في التقليد الغربي
– ما بين المادة والصورة [الشكل] لكنه
في الوقت نفسه ربط الاثنين معاً في عملية
التكوُّن. اعتقد أرسطو – على خلاف أفلاطون –
أن الصورة ليس لها وجود منفصل، بل هي محايِثة immanent
للمادة, وليس للمادة أيضاً أن توجد بشكل منفصل
عن الصورة. تشتمل المادة – بحسب أرسطو – على
الطبيعة الجوهرية للأشياء كافة، لكن فقط
كإمكانية, وبواسطة الصورة يصبح هذا الجوهر
واقعاً وحقيقة. يدعو أرسطو سيرورة التحقق
الذاتي للماهية في الظواهر الفعلية entelechy
("الإكمال الذاتي"). إنها سيرورة انبساط
ودفع باتجاه التحقق الذاتي الكامل. المادة
والصورة هما وجها هذه السيرورة، المنفصلان
عبر التفكير المجرد فقط. ابتكر
أرسطو منظومة صورية للمنطق وجملة من المفاهيم
الموحِّدة طبَّقها على الفروع المعرفية
الرئيسية في زمنه – البيولوجيا والفيزياء
والميتافيزياء والأخلاق والسياسة. وقد سادت
فلسفته وعلمه على الفكر الغربي ألفي عام بعد
موته, تكاد سلطته تكون خلالها غير قابلة
للنقاش شأنها شأن سلطة الكنيسة. الآلية
الديكارتية
في
القرنين السادس عشر والسابع عشر تبدلت النظرة
إلى العالم التي سادت في القرون الوسطى والتي
قامت على الفلسفة الأرسطية واللاهوت المسيحي
تبدلاً جذرياً. فبدلاً من مفهوم الكون العضوي
الروحاني الحي حلَّ مفهوم العالم كآلة وأصبح
هو الاستعارة المسيطرة على الحقبة الحديثة.
نجم هذا التبدل الجذري عن الاكتشافات الجديدة
آنذاك في حقول الفيزياء والفلك والرياضيات
التي عُرِفَت بالثورة العلمية واقترنت
بأسماء كوبرنيكوس وغاليليو وديكارت وبيكون
ونيوتن. استبعد
غاليليو فكرة الكيفية quality
من العلم، قاصراً إياه على دراسة الظواهر
التي يمكن قياسها
وتكميمها. ظل هذا استراتيجية ناجحة أخذ بها
العلم الحديث, لكن هاجس التكميم والقياس
اقتضى دفع ثمن باهظ أيضاً. فكما عبَّر عن ذلك
طبيب الأمراض العقلية ر. د. لاين مشدِّداً: يقدِّم
لنا برنامج غاليليو عالماً ميتاً: غارت فيه
الرؤية والصوت والذوق واللمس والشم، ومعها
غارت منذئذٍ الحساسية الأخلاقية والجمالية
والقيم والكيفية والنفس والوعي والروح. لم
يغير شيءٌ عالمَنا خلال الأربعمائة عام
الماضية كما غيَّر برنامج غاليليو الجريء.
كان علينا أن ندمِّر العالم نظرياً قبل أن
نتمكن من تدميره عملياً. أوجد
رونيه ديكارت منهج الفكر التحليلي الذي هو
عبارة عن تفكيك الظواهر المعقدة إلى قطع بغية
فهم سلوك الكل من خصائص أجزائه. وأقام ديكارت
نظرته إلى الطبيعة على الفصل الأساسي ما بين
عالمين مستقلين منفصلين – عالم العقل وعالم
المادة. لقد رأى في الكون المادي, بما فيه
المتعضيات الحية, آلة يمكن فهمها من حيث
المبدأ فهماً تاماً بتحليلها إلى أجزائها
الأصغر. جرى
استكمال الإطار المفهومي الذي ابتكره
غاليليو وديكارت – أي العالم كآلة مضبوطة
محكومة بقوانين رياضية دقيقة – استكمالاً
احتفالياً على يد اسحق نيوتن الذي كان تأليفه
العظيم – الميكانيكا النيوتونية – تتويجاً
لإنجازات العلم في القرن السابع عشر. وفي
البيولوجيا كان النجاح الأعظم لنموذج الآلة
الديكارتي تطبيق وليم هارفي له في البيولوجيا
على الدورة الدموية. وقد حاول علماء
الفسيولوجيا, مستلهمين نجاح هارفي, تطبيق
منهج الآلة لوصف وظائف بدنية أخرى, مثل الهضم
والاستقلاب. لكن هذه المحاولات باءت بإخفاق
ذريع لأن الظواهر التي حاول الفسيولوجيون
تفسيرها تشتمل على عمليات كيميائية كانت
مجهولة في ذلك الوقت ولم يكن ممكناً وصفها
بمصطلحات آلية. تغير الوضع تغيراً ملحوظاً
عندما برهن لافوازييه، "أبو الكيمياء
الحديثة"، أن التنفس شكل خاص من الأكسدة،
وبذلك أكَّد صلة السيرورات الكيميائية بعمل
المتعضيات الحية. هُجِِرَت
– في ضوء علم الكيمياء الجديد – النماذج
الآلية التبسيطية عن المتعضيات الحية عموماً,
لكن جوهر المثال الديكارتي بقي حياً. واستمر
النظر إلى الحيوانات على أنها آلات، وإن تكن
أعقد بكثير من الساعات الميكانيكية، لأنها
تتضمن عمليات كيميائية معقدة. جرى – تبعاً
لذلك – التعبير عن الآلية الديكارتية بعقيدة
مفادها أنه يمكن في التحليل الأخير اختزال [إرجاع]
قوانين البيولوجيا إلى قوانين الفيزياء
والكيمياء. في الوقت ذاته، وجدت الفسيولوجيا
الجامدة في آليَّتها تعبيرها الأكثر نضجاً
وقوة في المقالة السجالية التي كتبها جوليان
دو لامِتري بعنوان الإنسان كآلة
والتي بقيت مشهورة حتى ما بعد القرن الثامن
عشر بكثير وولَّدت الكثير من المناظرات
والجدالات وصل بعضها إلى القرن العشرين حتى. الحركة
الرومنسية
جاءت
المعارضة القوية الأولى للأنموذج الآلي
الديكارتي من قبل الحركة الرومانسية في الفن
والأدب والفلسفة في أواخر القرن الثامن عشر
والقرن التاسع عشر. كان وليم بليك – الرسام
والشاعر الصوفي الكبير الذي مارس تأثيراً
قوياً على الرومانسية الإنكليزية – ناقداً
كبيراً لنيوتن، وقد لخص نقده في هذين السطرين
الشهيرين: عسى أن يحفظنا
اللهمن الرؤية الأحادية
ومن نوم نيوتن. عاد
الشعراء والفلاسفة الرومانسيون الألمان إلى
التقليد الأرسطي بالتركيز مجدداً على طبيعة
الشكل العضوي. كان غوته، الشخصية المركزية في
هذه الحركة، من أوائل من استخدموا مصطلح "مورفولوجيا"morphology
من
أجل دراسة الشكل البيولوجي من وجهة نظر
ديناميَّة تطورية. وقد أُعجِب غوته بـ"النظام
المحرِّك" bewegliche Ordnung
للطبيعة وتصور الشكل بوصفه نموذج العلاقات
ضمن كلٍّ منظم – هذا التصور الذي يتبوأ صدارة
التفكير المنظوماتي المعاصر. كتب غوته: "كل
مخلوق ليس إلا درجة نغم مُنَمْذَجَة Schattierung
في كلٍّ واحد عظيم التناغم." اهتم الفنانون
الرومانسيون بشكل رئيسي بالفهم الكيفي
للنماذجpatterns
ولذلك
أكدوا على تفسير الخصائص الأساسية للحياة عن
طريق الصور البصرية. شعر غوته، بخاصة، بأن
الإدراك البصري هو المدخل لفهم الشكل الحيوي. لعب
فهم الشكل الحيوي أيضاً دوراً هاماً في فلسفة
إمانويل كانط, الذي مراراً ما يُعَدُّ أعظم
فلاسفة الحقبة الحديثة. فصل كانط المثالي ما
بين عالم الظواهر وعالم "الأشياء في ذاتها".
واعتقد أن العلم يمكنه أن يقدم تفسيرات آلية
فقط, لكنه أكد أنه في الميادين التي لا تكون
فيها مثل هذه التفسيرات ملائمة تحتاج المعرفة
العلمية أن تُستكمَل بأن تأخذ بالحسبان
الطبيعة كوجود غائي. وأهم هذه المجالات –
وفقاً لكانط – هو فهم الحياة. ناقش
كانط في كتابه نقد ملكة الحكم طبيعة
المتعضيات الحية وحاجج بأن هذه المتعضيات –
على عكس الآلات – هي كلِّيات متناسلة ذاتية
التعضِّي. ويرى كانط أنه في الآلة توجد
الأجزاء فقط من أجل بعضها بعضاً، بمعنى
أنها تسند بعضها البعض ضمن كلٍّ وظيفي. أما في
المتعضية فتوجد الأجزاء أيضاً بواسطة
بعضها بعضاً, بمعنى أن كلاً منها يُنتِج الآخر.
كتب كانط: "ينبغي أن نفكر في كل جزء على أنه
عضو يُنتِج الأجزاء الأخرى (بحيث إن كلاً منها
يُنتِج الآخر على التبادل)... وبسبب ذلك تكون [المتعضية]
في الوقت ذاته كائناً منظَّماً وذاتي
الانتظام." أصبح كانط من خلال هذا التصريح
أول من استخدم مصطلح "الانتظام [التعضِّي]
الذاتي" self-organization
لكي يعرِّف بطبيعة
المتعضيات الحية, بل أول من استخدمه بطريقة
مشابهة بشكل لافت لبعض تصوراتنا المعاصرة. قادت
النظرة الرومانسية للطبيعة على أنها "كل
واحد عظيم التناغم"، كما قال غوته, بعض
علماء تلك الفترة لتوسيع بحثهم عن الكلِّية
لكي يشمل كوكب الأرض ككل ولرؤيته ككلٍّ
متكامل واحد, كائناً حياً كبيراً. لهذه النظرة
إلى الأرض ككائن حيٍّ أصول بعيدة بالطبع.
فالصور الأسطورية عن الأرض الأم هي من بين
أقدم النظرات في التاريخ الديني للإنسان.
وإلهة الأرض غايا Gaia
قُدِّسَت بوصفها المعبود الأسمى في اليونان
القديمة ما قبل الهيلينية. وقبلئذٍ، من العصر
النيوليثي نزولاً حتى العصور البرونزية،
عبدت مجتمعات "أوروبا القديمة" آلهة
أنثوية عديدة بوصفها تجسُّدات للأرض الأم. استمرت
فكرة الأرض ككائن روحاني حي وازدهرت في
القرون الوسطى وعصر النهضة، إلى أن حلَّت
مكان النظرة القروسطية برمَّتها صورة ديكارت
للعالم كآلة. لذلك عندما عاد العلماء في القرن
الثامن عشر للنظر إلى الأرض ككائن حي فإنهم
كانوا بذلك يُحيون تقليداً قديماً هجع مدة
قصيرة نسبياً وحسب. وفي
وقت أقرب إلينا، صيغت فكرة الكوكب الحي بلغة
علمية حديثة ودُعِيت فرضية غايا، علماً بأن
النظرات التي بسطها علماء القرن الثامن عشر
في الأرض الحية تتضمن مفاتيح أساسية
لنظريَّتنا المعاصرة. رأى عالم الجيولوجيا
الاسكتلندي جيمس هَتُّنْ أن السيرورات
الجيولوجية والبيولوجية مترابطة وثيق
الترابط, وشبَّه مياه الأرض بالجهاز الدوراني
في الحيوان. وقد تبنَّى هذه الفكرة ومضى بها
أبعد من ذلك عالمُ الطبيعة والمستكشف
الألماني ألكساندر فون هُمبولت، الذي كان
واحداً من أكابر المفكرين في القرن الثامن
عشر. فقد قادته "عادته في النظر إلى الكرة
الأرضية ككلٍّ عظيم" إلى أن يرى في المناخ
قوة ضامَّة شاملة للكرة الأرضية، ثم إلى أن
يعترف بالتطور المشترك بين المتعضيات الحية
والمناخ والقشرة الأرضية, الأمر الذي يكاد
يحيط بفرضية غايا المعاصرة. كان
تأثير الحركة الرومانسية في أواخر القرن
الثامن عشر وبدايات التاسع عشر من القوة بحيث
إن مشكلة الشكل البيولوجي تصدرت اهتمامات
علماء البيولوجيا، بينما تراجعت مسائل
التكوين المادي إلى المقام الثاني. كان هذا
صحيحاً خصوصاً في المدارس الفرنسية العظيمة
للتشريح المقارن، أو "المورفولوجيا"،
التي كان رائدها جورج كوفييه الذي ابتكر
نظاماً لتصنيف الحيوانات اعتماداً على تماثل
الروابط البنيوية. المذهب
الآلي في القرن التاسع عشر
إبان
القرن التاسع عشر عاد النوَّاس إلى المذهب
الآلي وذلك عندما قاد إتقان صناعة المجهر
حديثاً إلى العديد من الفتوح الملحوظة في
البيولوجيا. لقد اشتهر القرن التاسع عشر
بتأسيس الفكر التطوري, لكنه شهد أيضاً صياغة
نظرية الخلية وبدايات علم الجنين الحديث
وصعود الميكروبيولوجيا واكتشاف قوانين
الوراثة. رسخت هذه الاكتشافات الجديدة
البيولوجيا ترسيخاً محكماً في الفيزياء
والكيمياء, وجدَّد العلماء جهودهم للبحث عن
تفسيرات فيزيائية–كيميائية للحياة. عندما
صاغ رودولف فيرشوف نظرية الخلية في شكلها
الحديث انتقل تسديد علماء البيولوجيا من
المتعضيات إلى الخلايا, وأصبحت الوظائف
البيولوجية تُرى الآن كنتائج لتفاعلات ما بين
لبنات البناء الخلوية بدلاً من أن تعكس تنظيم
المتعضية ككل. خضع
البحث في الميكروبيولوجيا – الحقل الجديد
الذي كشف الثراء والتعقيد غير المتوقعين
اللذين تتصف به المتعضيات الحية المجهرية –
لهيمنة عبقرية لويس باستور الذي قدَّم
تبصُّرات نافذة وصياغات واضحة تركت وَقْعاً
دائماً في الكيمياء والبيولوجيا والطب.
استطاع باستور أن يبرهن على دور البكتريا في
سيرورات كيميائية محددة، وبذلك أرسى قواعد
علم جديد هو الكيمياء الحيوية، وأثبت أن هناك
ترابطاً محدداً بين "الجراثيم" (المتعضيات
الضئيلة) والمرض. قادت
اكتشافات باستور إلى "نظرية جرثومية في
المرض" تبسيطية التي تُرى البكتريا وفقاً
لها بوصفها العامل الوحيد المُمْرِض. وقد
كسفت هذه النظرة الاختزالية نظرية بديلة كان
كلود برنار، مؤسِّس الطب التجريبي الحديث،
يدرِّسها قبل بضع سنوات. شدَّد برنار على
العلاقة الوثيقة والحميمة التي تقوم بين
المتعضية وبيئتها, وكان أول من أشار إلى أن
لكل متعضية بيئة داخلية أيضاً تحيا فيها
أعضاؤها وأنسجتها. وقد لحظ برنار أن هذه
البيئة الداخلية تبقى ثابتة جوهرياً في
المتعضية السليمة، حتى عندما تتقلب البيئة
الخارجية تقلباً محسوساً. أذَّن مفهوم برنار
عن ثبات البيئة الداخلية بظهور المفهوم الهام
عن الثبات على الحال homeostasis
الذي توسَّع فيه وولتر كانون فيما في
العشرينيات. نما
علم الكيمياء الحيوية الجديد بثبات وأسَّس
للاعتقاد الراسخ في أوساط علماء البيولوجيا
بأن خصائص ووظائف المتعضيات الحية جميعاً سوف
يتم تفسيرها لاحقاً بلغة القوانين
الفيزيائية والكيميائية. وقد عبَّر عن هذا
الاعتقاد بوضوح كبير جاك لوب في كتابه المفهوم
الآلوي للحياة الذي كان تأثيره هائلاً على
التفكير البيولوجي في زمانه. المذهب
الحيوي
رسَّخت
انتصارات البيولوجيا في القرن التاسع عشر في
مجالات نظرية الخلية وعلم الجنين
والميكروبيولوجيا المفهومَ الآلي للحياة
بحيث صار عقيدة صلبة في أوساط علماء
البيولوجيا. ومع ذلك فقد حمل هؤلاء بذور موجة
المعارضة التالية, أي المدرسة التي عُرِفت
باسم البيولوجيا العضوية أو "العضوانية"
organicism.
وبينما أحدثت بيولوجيا الخلية تقدماً هائلاً
في فهم بنى ووظائف الكثير من تحتواحدات subunits
الخلية, إلا أنها بقيت على جهل واسع بالنشاطات
المنسِّقة التي تُكامِل هذه العمليات مع عمل
الخلية ككل. ظهرت
محدودية النموذج الاختزالي بصورة أكثر
درامية حتى في المعضلات المتعلقة بتطور
الخلية وتمايزها. ففي المراحل الأولى المبكرة
من تطور المتعضيات العليا تزايد عدد خلاياها
من واحد إلى اثنين, فثلاثة, فأربعة،
وهلمَّجرا، متضاعفاً مع كل خطوة. وبما أن
المعلومات الوراثية متطابقة في الخلايا كافة,
كيف أمكن لهذه الخلايا أن تتخصص بطرق مختلفة
فتصير خلايا عضلية، وخلايا دموية، وخلايا
عظمية، وخلايا عصبية، وهكذا دواليك؟ هذه
المعضلة الأساسية في التطور، التي تظهر
بتنويعات عديدة في البيولوجيا, تقف بوضوح في
وجه النظرة الآلية للحياة. مرَّ
العديد من علماء البيولوجيا البارزين – قبل
ولادة المدرسة العضوانية – بطور أخذوا فيه
بالمذهب الحيوي, واتَّخذت المناظرة ما بين
المذهب الآلي والمذهب الكلاني طوال سنين
عديدة شكل سجال ما بين المذهب الآلي والمذهب
الحيوي. إن فهماً واضحاً لفكرة المذهب الحيوي
يبدو مفيداً جداً بما أنها تقف على تعارض
حادٍّ مع الرؤية المنظوماتية للحياة التي
انبثقت عن البيولوجيا العضوية في القرن
العشرين. يعارض
كل من المذهب الحيوي والمذهب العضوي اختزال (إرجاع)
البيولوجيا إلى الفيزياء والكيمياء. وترى كلا
المدرستين أنه بالرغم من إمكانية تطبيق
قوانين الكيمياء والفيزياء على المتعضيات,
إلا أنها غير وافية لفهم تام لظاهرة الحياة.
لا يمكن فهم سلوك المتعضية الحية على أنها
كلٌّ متكامل من دراسة أجزائه وحسب. فكما عبَّر
عن ذلك المنظِّرون المنظوماتيون بعد عدة عقود
من السنين: الكل أكثر من مجموع أجزائه. يختلف
البيولوجيون الحيويون والعضوانيون اختلافاً
حاداً في إجابتهم عن السؤال التالي: بأي معنى
بالدقة يكون الكل أكثر من مجموع أجزائه؟ يؤكد
أنصار المذهب الحيوي أن ثمة كينونة غير مادية
– قوة أو مجال – يجب إضافته إلى قوانين
الفيزياء والكيمياء من أجل فهم الحياة, بينما
يرى أنصار البيولوجيا العضوانية أن المقوِّم
الإضافي هو فهم "التعضي" [=التنظيم] أو
"علاقات التعضي". يؤكِّد
علماء البيولوجيا العضوانية أن فهم الحياة لا
يتطلب وجود كينونة غير مادية منفصلة, مستندين
في هذا الرأي إلى أن علاقات التعضي هي نماذج
من العلاقات المحايثة للبنية الفيزيائية
للمتعضية. سنرى لاحقاً أن مفهوم التعضي قد
هُذِّب ليصير مفهوم "التعضي الذاتي" [التنظيم
الذاتي] في النظريات المعاصرة عن المنظومات
الحية وأن فهم نموذج التعضي الذاتي هو
المفتاح لفهم طبيعة ماهية الحياة. وفي
حين تحدَّى علماء البيولوجيا العضوانية
المقايسة الديكارتية مع الآلة بمحاولتهم فهم
الشكل البيولوجي بلغة معنى أوسع للتعضي, فإن
أتباع المذهب الحيوي لم يتخطوا الأنموذج
الديكارتي حقاً, وكانت لغتهم محدودة بالصور
والاستعارات ذاتها، فأضافوا فقط كينونة غير
مادية عدُّوها مصمِّم أو قائد السيرورات
العضوية التي تعجز التفسيرات الميكانيكية عن
تعليلها. بذلك قاد الشرخ الديكارتي ما بين
العقل والجسم إلى المذهب الآلي والمذهب
الحيوي كليهما. وعندما نبذ أتباع ديكارت
الذهن من البيولوجيا وتصوروا الجسم آلة فقد
ظهر "الشبح في الآلة" – على حدِّ تعبير
آرثر كوستلر – من جديد في النظريات الحيوية. استهل
هانس دريش, أحد علماء الجنين الألمان, معارضة
البيولوجيا الآلية عند منعطف القرن العشرين,
بتجاربه الرائدة على بيوض قنفذ البحر, التي
قادته لصياغة النظرية الأولى للمذهب الحيوي.
فعندما خرَّب دريش إحدى خليَّتي مضغة في
مرحلتها المبكرة جداً تطورت الخلية الباقية
إلى متعضية مكتملة صغيرة وليس إلى نصف قنفذ.
على نحو مماثل، نَمَتْ متعضيات تامة أصغر بعد
تخريب خليتين أو ثلاث في مُضَغ مربَّعة
الخلايا. أدرك دريش أن بيوض قنفذ البحر قامت
بما لا تستطيع أن تقوم به آلة أبداً: لقد أعادت
توليد الكلِّ من بعض أجزائه. بدا
دريش في محاولته تفسير ظاهرة التعضي الذاتي
وكأنه يبحث بحثاً محموماً عن النموذج المفقود
للتعضي. لكنه بدلاً من التحول إلى مفهوم
النموذج pattern,
افترض عاملاً سببياً اختار له المصطلح
الأرسطي entelechy.
لكن, بينما تعني entelechy
عند أرسطو سيرورة التحقق الذاتي التي توحِّد
المادة والصورة, فإنها تعني عند دريش كينونة
منفصلة تؤثر في المنظومة الفيزيائية بدون أن
تكون جزءاً منها. انتعشت
الفكرة الحيوية مؤخراً بطريقة أكثر صقلاً
بكثير مع روبرت شيلدريك الذي افترض وجود
مجالات "مولِّدة للشكل" morphogenetic
غير مادية تُعَدُّ العوامل المسبِّبة للنمو
وللحفاظ على الشكل البيولوجي. البيولوجيا
العضوانية
عارض
علماء البيولوجيا العضوية في أوائل القرن
العشرين كلاً من المذهب الآلي والمذهب الحيوي
وتناولوا بحماس شديد مشكلة الشكل البيولوجي،
متوسِّعين ومهذِّبين العديد من التبصرات
الأساسية لأرسطو وغوته وكانط وكوفييه. وقد
انبثقت بعض الخصائص الرئيسية لما ندعوه اليوم
التفكير المنظوماتي من تفكُّراتهم المسهِبة. اكتشف
روس هاريسون – أحد الشُرَّاح الأوائل
للمدرسة العضوانية – مفهوم التعضي [التنظيم]
الذي اتفق له أن يحلَّ بالتدريج محلَّ مفهوم
الوظيفة في الفسيولوجيا. يمثل هذا الانتقال
من الوظيفة إلى التعضي انتقالاً من التفكير
الآلي إلى التفكير المنظوماتي, ذلك لأن
الوظيفة مفهوم آلي بامتياز. رأى هاريسون في
التشكيل configuration
والعلاقة relationship
مظهرين هامين من مظاهر التعضي،
توحَّدا فيما بعد في مفهوم النموذج pattern
بوصفه تشكيلاً لعلاقات منظَّمة. كان
لعالم الكيمياء الحيوية لورنس هِندرسون
تأثير قوي من خلال استخدامه المبكر لمصطلح
"منظومة" للدلالة على المتعضيات الحية
والمنظومات الاجتماعية. منذ ذلك الحين
فصاعداً أصبح مصطلح المنظومة يعني كلاً
متكاملاً تنبثق خصائصه الجوهرية من العلاقات
ما بين أجزائه, وأصبح "التفكير المنظوماتي"
يعني فهم الظاهرة ضمن سياق كلٍّ أكبر. هذا في
الواقع هو المعنى الأصلي لكلمة "منظومة" system،
المشتقة من الكلمة الإغريقية synhistanai
("ضم شيء إلى شيء"). كي نفهم الأشياء
منظوماتياً يعني حرفياً أن نضعها ضمن سياق context
وأن نستنبط طبيعة العلاقات فيما
بينها. أكد
عالم البيولوجيا جوزف وودجر أنه يمكن وصف
المتعضيات وصفاً كاملاً بلغة عناصرها
الكيميائية "زائد علاقات التعضي". كان
لهذه الصياغة تأثير لا يستهان به على جوزف
نيدهام الذي رأى في صدور كتاب وودجر مبادئ
البيولوجيا (عام 1936) علامة على نهاية السجال
بين أنصار المذهبين الآلي والحيوي. كان
نيدهام الذي عالج في أعماله المبكرة المشكلات
البيوكيميائية للتطور يولي اهتماماً دائماً
وعميقاً للأبعاد الفلسفية والتاريخية للعلم.
وقد كتب العديد من المقالات دفاعاً عن
الأنموذج الآلي قبل أن يعتنق النظرة
العضوانية في مآل الأمر. وقد كتب في عام 1935 أن
"التحليل المنطقي لمفهوم المتعضية يقودنا
للبحث عن علاقات التعضي على المستويات جميعاً,
العليا والدنيا, الغليظة واللطيفة, للبنية
الحية". ترك نيدهام البيولوجيا فيما بعد
ليصير واحداً من قادة مؤرِّخي الفكر الصيني،
وبوصفه كذلك، مدافعاً غيوراً عن النظرة
العضوانية إلى العالم التي هي في أساس الفكر
الصيني. شدَّد
وودجر والعديد من المفكرين على أن إحدى
الخصائص الرئيسية للتعضي في المتعضيات الحية
تتمثل في طبيعته التراتبية hierarchical.
بالفعل, إن خاصية بارزة من خصائص الحياة ككل
هي ميلها لتشكيل بنى متعددة المستويات من
منظومات ضمن منظومات. وكل شكل من أشكال الحياة
هذه يمثل كلاً بالنسبة إلى أجزائه, وفي الوقت
ذاته يمثل عنصراً ضمن كلٍّ أكبر. بذلك تتجمع
الخلايا لتشكِّل النسج، والنسج لتشكِّل
الأعضاء، والأعضاء لتشكل المتعضيات. وهذه
توجد بدورها ضمن منظومات اجتماعية
وإيكولوجية. ونجد عبر العالم الحي منظومات
حية تعشش ضمن منظومات حية أخرى. منذ
البدايات الأولى للبيولوجيا العضوانية
دُعيَت هذه البنى المتعددة المستويات
تراتبيات hierarchies.
لكن هذا المصطلح يمكن أن يكون مضللاً نوعاً
ما، بما أنه مشتق من التراتبيات البشرية التي
هي بنى جامدة نوعاً ما وقائمة على السيطرة
والهيمنة، بما لا يمت بصلة بتاتاً إلى النظام
المتعدد المستويات الموجود في الطبيعة. سنرى
أن المفهوم المهم عن الشبكة network –
شبكة الحياة the web of life
– يقدم منظوراً جديداً لما يُدعى
تراتبيات الطبيعة. ولقد
ميَّز المفكِّرون المنظوماتيون الأوائل
تمييزاً واضحاً وجود مستويات مختلفة من
التعقيد تترافق مع أنواع مختلفة من القوانين
تعمل على كلِّ مستوى. بالفعل, أصبح مفهوم "التعقيد
المتعضي" organized complexity
الموضوع الأخص في المقاربة المنظوماتية. تبدي
الظواهر المرصودة عند كل مستوى من التعقيد
خصائص لا توجد في المستوى الأدنى. مفهوم درجة
الحرارة، مثلاً, المركزي في الترموديناميكا،
لا معنى له على مستوى الذرات المفردة حيث تعمل
قوانين النظرية الكوانتية. وعلى غرار ذلك, ليس
طعم السكر موجوداً في ذرات الكربون
والهدروجين والأكسيجين التي تؤلِّفه. وقد نحت
الفيلسوف سي. دي. برود في مستهل عشرينيات
القرن العشرين مصطلح "الخصائص المنبثقة"
لوصف تلك الخصائص التي تظهر عند مستوى محدد من
التعقيد دون أن تكون موجودة في المستويات
الأدنى. التفكير
المنظوماتي
ساعدت
الأفكار التي طرحها علماء البيولوجيا
العضوانية في النصف الأول من القرن العشرين
على ولادة طريقة جديدة في التفكير – "التفكير
المنظوماتي" – بلغة الترابط والعلاقة
والسياق. وفقاً للرؤية المنظوماتية, تتصف
المتعضية أو المنظومة الحية بخصائص جوهرية هي
خصائص الكل التي لا يتصف بها أيٌّ من أجزائه.
وهذه الخصائص تنبثق عن التفاعلات والعلاقات
ما بين الأجزاء وتتخرب عندما نشرِّح المنظومة
فيزيائياً أو نظرياً إلى عناصر معزولة. وعلى
الرغم من أننا نستطيع أن نميز أجزاء مفردة في
منظومة ما فإن هذه الأجزاء ليست معزولة,
وطبيعة الكل مختلفة دوماً عن مجرد مجموع
أجزائه. توضَّحت الرؤية المنظوماتية للحياة
بشكل جميل مسهَب في كتابات بول فايس الذي جلب
المفاهيم المنظوماتية إلى علوم الحياة من
دراساته الأسبق في الهندسة وصرف حياته كلَّها
مستكشفاً وداعية لتصوُّر عضواني كامل في
البيولوجيا. يمثل
انبثاق التفكير المنظوماتي ثورة عميقة في
تاريخ الفكر العلمي الغربي. لقد ساد في
الأنموذج الديكارتي الاعتقاد بأنه في أية
منظومة معقدة يمكن فهم سلوك الكل فهماً
كاملاً من خلال خصائص أجزائه. وهذه كانت طريقة
ديكارت المحتفَل بها في الفكر التحليلي التي
شكلت خاصية جوهرية للفكر العلمي الحديث. لا
يمكن في المقاربة التحليلية أو الاختزالية
المضي في تحليل الأجزاء إلا باختزالها إلى
أجزاء أصغر. وقد سار العلم الغربي على هذا
النهج، وكان ثمة في كل مرحلة مستوى من
مكوِّنات أساسية لا يمكن المضي قدماً في
تحليلها. تمثلت
الصدمة الكبرى لعلم القرن العشرين في كون
المنظومات لا يمكن فهمها بالتحليل. إن خصائص
الأجزاء ليست خصائص صميمية بل يمكن فهمها فقط
ضمن سياق كلٍّ أكبر. بذا فقد انعكست العلاقة
ما بين الأجزاء والكل. ففي المقاربة
المنظوماتية ينبغي فهم خصائص الأجزاء فقط من
تعضي الكل. تبعاً لذلك, يركز التفكير
المنظوماتي ليس على لبنات البناء الأساسية بل
على المبادئ الأساسية للتعضي. التفكير
المنظوماتي "سياقي" contextual
وهذا مناقض للتفكير التحليلي.
فالتحليل يعني عزل الشيء عن سواه من أجل فهمه؛
بينما يعني التفكير المنظوماتي وضع الشيء في
سياق كلٍّ أكبر.** الفيزياء
الكوانتية
كان
لإدراك المنظومات باعتبارها كلِّيات
متكاملة، لا يمكن فهمها تحليلياً, وقع أكبر في
الفيزياء منه في البيولوجيا. إذ طالما اعتقد
الفيزيائيون، منذ أيام نيوتن، أن الظواهر
الفيزيائية كافة يمكن اختزالها إلى خصائص
القسيمات المادية الصلبة الصماء. غير أن
النظرية الكوانتية في العشرينيات أجبرتهم
على قبول واقعة أن الموضوعات المادية الصلبة
للفيزياء الكلاسية تتلاشى في المستوى
التحتذري subatomic
إلى نماذج احتمالية أشبه بالأمواج. علاوة على
ذلك، لا تمثل هذه النماذج احتمالات لأشياء،
بل بالحري احتمالات الترابط المتبادل فيما
بينها. ليس للأجزاء التحتذرية من معنى
ككيانات معزولة, بل يمكن فهمها فقط كترابطات
أو علاقات متبادلة بين سيرورات متنوعة من
الملاحظة والقياس. بكلمات أخرى, ليست
القسيمات التحتذرية "أشياء" بل ترابطات
متبادلة بين الأشياء, وهذه بدورها ترابطات
بين أشياء أخرى وهلمَّجرا. في الفيزياء
الكوانتية لا نتوصل إلى "أشياء" بل
نتعامل دوماً مع ترابطات متبادلة. كذا
فإن الفيزياء الكوانتية تبيِّن لنا أنه لا
يمكن أن نفكِّك العالم إلى واحدات أولية
موجودة وجوداً مستقلاً بعضها عن بعض. وفيما
نحن ننقل انتباهنا من الموضوعات
الماكروسكوبية إلى الذرات والقسيمات
التحتذرية, لا تبدي لنا الطبيعة أية لبنات
بناء معزولة، بل تظهر بالحري كنسيج معقَّد من
العلاقات ما بين أجزاء متنوعة لكلٍّ موحَّد.
فكما عبَّر فيرنر هايزنبرغ – أحد مؤسِّسي
النظرية الكوانتية: "بذلك يظهر العالم
كنسيج معقد من الأحداث تتناوب فيه روابط
مختلفة الأنواع أو تتشابك أو تتراكب,
وبالتالي تعيِّن نسيج الكل." إنما
الجزيئات والذرات – البنيات التي تصفها
الفيزياء الكوانتية – عبارة عن مكوِّنات. غير
أن هذه المكوِّنات – أي القسيمات التحتذرية
– لا يمكن فهمها ككيانات معزولة بل يجب
التعريف بها عبر علاقاتها المتبادلة. عبَّر
هنري ستاب عن ذلك بالكلمات التالية: "القسيم
الأولي ليس كياناً غير قابل للتحليل ذا وجود
مستقل. إنه، في ماهيَّته، جملة من العلاقات
تمتد خارجاً لتواصِل الأشياء الأخرى." تعبِّر
شكلانية النظرية الكوانتية عن هذه العلاقات
بلغة الاحتمالات، وهذه الاحتمالات تتعيَّن
بواسطة ديناميَّات المنظومة برمَّتها.
فبينما تتحدد خصائص وسلوك الكل في الميكانيكا
الكلاسية بخصائص وسلوك الأجزاء، تنقلب
الحالة في الميكانيكا الكوانتية: الكل هو
الذي يحدِّد سلوك الأجزاء. ناضل
الفيزيائيون الكوانتيون إبان العشرينيات
بالنقلة التصورية نفسها من الأجزاء إلى الكل
التي تمخضت عن مدرسة البيولوجيا العضوانية.
فلعل علماء البيولوجيا، في الواقع، كانوا
سيجدون التغلب على المذهب الآلي الديكارتي
أصعب بكثير لو أنه لم يتحطم على ذلك النحو
المشهدي في الفيزياء، التي ظلت أعظم انتصارات
الأنموذج الديكارتي إبان قرون ثلاثة. لقد رأى
هايزنبرغ أن النقلة من الأجزاء إلى الكل هي
السمة المركزية في الثورة المفهومية، فكان من
عظم التأثر به أنه عَنْوَنَ سيرته الذاتية
العلمية الجزء والكل Der Teil und das
Ganze. علم
نفس الغشتالت
عندما
تصدَّى علماء البيولوجيا العضوية الأوائل
لمسألة الشكل العضوي وتناقشوا في المزايا
النسبية للمذهبين الآلي والحيوي, أسهم علماء
النفس الألمان في ذلك الحوار منذ بدايته.
الكلمة الألمانية المعبِّرة عن الشكل العضوي
هيGestalt
(المتميِّزة
عن كلمة Form
التي تشير إلى شكل الجماد), كما عُرِفَت مشكلة
الشكل العضوي التي أُشبِعَت مناقشة بمشكلة
الجشتالت Gestaltproblem
في تلك الأيام. ففي منعطف القرن العشرين كان
الفيلسوف كريستيان فون إهرِنْفِلس أول من
استخدم كلمة Gestalt
بمعنى النموذج الإدراكي المتعذر
الاختزال, وأشعل بذلك شرارة مدرسة علم نفس
الغشتالت. ميَّز إهرِنْفِلس خصوصية الغشتالت
بالإصرار على عبارة "الكل أكثر من مجموع
أجزائه" التي صارت الصيغة الأساسية عند
المفكِّرين المنظوماتيين فيما بعد. رأى
علماء نفس الغشتالت، يقودهم ماكس فِرتْهايمر
وفولفغانغ كولر، أن وجود كلِّيات غير قابلة
للاختزال سمة أساسية من سمات الإدراك الحسي.
أكد هؤلاء أن المتعضيات الحية تدرك الأشياء
لا كعناصر معزولة، بل كنماذج إدراكية متكاملة
أو كلِّيات متعضية ذات معنى تبدي صفات غائبة
في عناصرها. كانت فكرة النموذج مبطونة دوماً
في كتاباتهم، ومراراً ما استخدموا مقايَسة
الثيمة الموسيقية التي يمكن عزفها بمفاتيح
مختلفة دون أن تفقد سماتها الجوهرية. رأى
علماء نفس الغشتالت – على غرار علماء
البيولوجيا العضوانية – في مدرستهم الفكرية
طريقاً ثالثاً يتعدَّى المذهبين الآلي
والحيوي. وقد قدمت مدرستهم إسهامات جوهرية في
علم النفس, خصوصاً في دراسات التعلُّم وطبيعة
تداعي المعاني. بعدئذٍ بعدة عقود, في
الستينيات, أدَّت المقاربة الكلانية في علم
النفس إلى صعود مدرسة موازية في العلاج
النفسي، عُرِفَت بعلاج الغشتالت، شددت على
مكامَلة الخبرات الشخصية إلى كلِّيات ذات
معنى. عندما
قامت جمهورية فايمار في ألمانيا العشرينيات
كان علماء البيولوجيا العضوانية وعلم نفس
الغشتالت جميعاً جزءاً من اتجاه نظري أوسع
رأى نفسه كحركة احتجاجية على التشظِّي
والانسلاب المتزايدين للطبيعة البشرية.
اختصَّت ثقافة فايمار برمَّتها بنظرة ضد آلية
antimechanistic،
هي "الجوع إلى الكلِّية". وقد ترعرعت
البيولوجيا العضوانية، وعلم نفس الغشتالت,
والإيكولوجيا، والنظرية العامة للمنظومات
فيما بعد، في حضن روح العصر الكلاني هذا. الإيكولوجيا
في
حين واجه البيولوجيون العضوانيون كليةً غير
قابلة للاختزال في المتعضيات، وواجهها
الفيزيائيون في الظواهر الذرية، وعلماء نفس
الغشتالت في الإدراك, واجهها الإيكولوجيون في
دراساتهم لتجمعات الحيوان والنبات. وانبثق
علم الإيكولوجيا الجديد عن المدرسة
العضوانية في البيولوجيا خلال القرن التاسع
عشر عندما شرع البيولوجيون يدرسون تجمعات
المتعضيات. كلمة
إيكولوجيا مشتقة من كلمة oikos
الإغريقية ("منزل الأسرة") وتعني دراسة
المنزل الأرضي. وهي تعني بدقة أكبر دراسة
العلاقات التي تربط داخلياً أعضاء المنزل
الأرضي. نحت البيولوجي الألماني إرنست هِكِل
هذا المصطلح في عام 1886, معرفاً به أنه "علم
العلاقات ما بين المتعضية والعالم الخارجي
المحيط بها". وقد استخدم البيولوجي
البلطيقي الرائد في مجال الإيكولوجيا جاكوب
فون أوكسكُل كلمة Umwelt
("بيئة") لأول مرة عام 1909. ركَّز
الإيكولوجيون في العشرينيات على العلاقات
الوظيفية ضمن تجمعات النبات والحيوان. وقد
أدخل تشارلز إلتون في كتابه الرائد إيكولوجيا
الحيوان مفاهيم سلاسل الغذاء ودورات
الغذاء, ورأى علاقات التغذية ضمن التجمعات
البيولوجية بوصفها مبدأ التعضي المركزي
لديها. بما
أن لغة علماء الإيكولوجيا الأوائل كانت وثيقة
القرابة من لغة البيولوجيا العضوانية, لا
غرابة أنهم قارنوا التجمعات البيولوجية
بالمتعضيات. على سبيل المثال, نظر فريدريك
كليمنتس – عالم أمريكي في إيكولوجيا النبات
ورائد في بحوث الوراثة – إلى تجمعات النبات
على أنها "متعضيات فائقة" superorganisms.
وقد أشعل هذا المفهوم شرارة مناظرة ماتعة
استمرت أكثر من عقد من السنين، إلى أن نبذ
العالم البريطاني في إيكولوجيا النبات إ. جي.
تَنْسلي مفهوم المتعضيات الفائقة هذا
واستبدل به مصطلح "المنظومة الإيكولوجية"
ecosystem
الذي نحته لكي يعبِّر عن تجمعات النبات
والحيوان. شكَّل مفهوم المنظومة الإيكولوجية
– الذي يُعرَّف به اليوم بأنه "مجتمَع community
من المتعضيات وبيئتها المادية يتفاعلان
كواحدة إيكولوجية" – التفكيرَ الإيكولوجي
اللاحق كلَّه، وبواسطته حصراً احتُضِنت
المقاربة المنظوماتية في الإيكولوجيا. استخدم
مصطلح "النطاق الحيوي" biosphere
أول ما استخدمه في أواخر القرن التاسع عشر
العالمُ الجيولوجي النمساوي إدوارد سويس لكي
يصف طبقة الحياة المطوِّقة للأرض. وبعد عدة
عقود طوَّر عالم الكيمياء الجيولوجية الروسي
فلاديمير فرنادسكي هذا المفهوم إلى نظرية
مستوفية الصفات في كتابه الرائد النطاق
الحيوي. رأى فرنادسكي، مستنداً إلى أفكار
غوته وهُمبولت وسويس، أن الحياة "قوة
جيولوجية" تخلق جزئياً البيئة الكوكبية
وتحكمها. تُعَدُّ هذه النظرية, من بين
النظريات المبكرة في الأرض الحية, الأقرب إلى
نظرية غاياGaia المعاصرة
التي طورها جيمس لَفْلوك ولِنْ مارغوليس في
السبعينيات. أثرى
علم الإيكولوجيا الجديد الطريقة المنظوماتية
الصاعدة في التفكير بإدخاله مفهومين جديدين
اثنين هما: المجتمَع community
والشبكة network.
وقد يسَّرت نظرةُ الإيكولوجيين إلى المجتمع
الإيكولوجي على أنه تجمُّع من المتعضيات تجعل
علاقاتها المتبادلة منها كلاً وظيفياً
انتقالَ التركيز من المتعضيات إلى المجتمَع
والعكس، بتطبيق أنواع المفاهيم عينها على
المستويات المختلفة للمنظومات. نعلم
اليوم أن معظم المتعضيات ليست أعضاء في
مجتمَعات إيكولوجية وحسب، بل هي بذاتها
منظومات إيكولوجية معقدة تضم حشداً من
المتعضيات الأصغر الذاتية الحكم بدرجة لا
يستهان بها، وتتكامل مع ذلك تكاملاً منسجِماً
مع وظيفة الكل. هناك، إذن، ثلاثة أنواع من
المنظومات الحية – المتعضيات، وأجزاء
المتعضيات ومجتمَعات المتعضيات – كلُّها
كلِّيات متكاملة تنبثق خصائصها الجوهرية من
تفاعلات أجزائها والتواكل بين هاتيك الأجزاء. شكَّل
الكثير من الأنواع، على مدى مليارات السنين
من التطور، مجتمعات متآصرة بإحكام بحيث إن
المنظومة الكلِّية باتت تشبه متعضية كبيرة
عديدة المخلوقات. لا يستطيع النحل أو النمل،
مثلاً، البقاء في عزلة، بل إنه ضمن أعداد
كبيرة يكاد تسلك سلوك الخلايا في متعضية
معقدة تنتظمها فطنة جمعية ومقدرات على التكيف
أعلى بكثير مما تقدر عليه الأعضاء الأفراد.
ثمة أيضاً بين أنواع مختلفة تنسيق وثيق مشابه
للفعاليات حيث يُعرَف باسم التعايش symbiosis،
وتكون للمنظومات الحية الناتجة هنا أيضاً
خصائص المتعضية المفردة. لقد
نُظِر إلى المجتمعات الإيكولوجية منذ بدايات
الإيكولوجيا على أنها مؤلَّفة من متعضيات
مرتبطة بعضها مع بعض في نمط شبكي عبر علاقات
التغذية. تَرِد هذه الفكرة مراراً في كتابات
علماء الطبيعة في القرن التاسع عشر, وعندما
بدأت سلاسل ودورات الغذاء تُدرَس في
العشرينيات سرعان ما وُسِّعت هذه المفاهيم
إلى المفهوم المعاصر عن شبكات الغذاء. "شبكة الحياة" the
web of life،
بالطبع, فكرة قديمة استفادها الشعراء
والفلاسفة والصوفية عبر العصور لكي ينقلوا
إحساسهم بالتواشج والتواكل بين الظواهر كافة.
نجد واحداً من أجمل التعبيرات عنه في خطاب
الزعيم سياتِل الشهير الذي جاء فيه: نعلم هذا علم
اليقين. كل
الأشياء متصلة
كرابطة الدم في
الأسرة الواحدة [...] كل ما تُبتلى به
الأرض يُبتلى به أبناء
الأرض وبناتها. ليس الإنسان مَن
حاك شبكة الحياة؛ إنْ هو إلا مجرد
خيط فيها. فكل ما يفعل
بالشبكة يفعله بنفسه. ومع
صيرورة مفهوم الشبكة أبرز في الإيكولوجيا,
بدأ المفكرون المنظوماتيون باستخدام نماذج
الشبكة في مستويات المنظومة كافة, وباتوا
ينظرون إلى المتعضيات على أنها شبكات من
الخلايا والأعضاء والمنظومات العضوية، مثلما
فُهِمت المنظومات الإيكولوجية على أنها
شبكات من المتعضيات الفردية. مقابل ذلك،
باتوا أيضاً ينظرون إلى دفقات المادة والطاقة
عبر المنظومات الإيكولوجية على أنه استمرار
للطرق الاستقلابية عبر المتعضيات. قدمت
هذه الرؤية للمنظومات الحية كشبكات منظوراً
جديداً لما يدعى تراتبيات الطبيعة. فبما أن
المنظومات الحية في المستويات كافة هي شبكات,
يجب علينا أن نتذهَّن شبكة الحياة كمنظومات
حية (شبكات) تتفاعل شبكياً مع منظومات (شبكات)
أخرى. مثلاً, يمكن أن نصور تخطيطياً منظومة
إيكولوجية كشبكة ذات بضع عُقَد، يمثِّل كل
منها متعضية، الأمر الذي يعني أن كل عقدة،
عندما تُكبَّر، تظهر هي الأخرى أيضاً كشبكة.
وكل عقدة في الشبكة الجديدة قد تمثل عضواً،
يظهر بدوره، عندما يُكبَّر، كشبكة, وهكذا
دواليك. شبكة
الحياة، بكلمات أخرى, عبارة عن شبكات ضمن
شبكات. وعلى كل مقياس منها, تتكشف عُقَد
الشبكة، لدى إمعان النظر، عن شبكات أصغر. ونحن
نميل إلى ترتيب هذه المنظومات، المعشِّشة
جميعاً ضمن منظومات أكبر، في مخطط تراتبي
بوضع الشبكات الأكبر فوق الشبكات الأصغر على
نحو هرمي. لكن هذا العمل إسقاط للبنية الهرمية
عند البشر على الطبيعة؛ إذ ليس ثمة في الطبيعة
من "فوق" أو "تحت"، ولا تراتبيات ثمة.
هناك وحسب شبكات تعشِّش nesting
ضمن شبكات أخرى. أصبح
منظور الشبكات في العقود الأخيرة مركزياً
بالنسبة للإيكولوجيا أكثر فأكثر. فكما عبَّر
عن ذلك العالم الإيكولوجي برنارد باتِّن في
ملاحظاته الختامية على مؤتمر حول الشبكات
انعقد مؤخراً: "الإيكولوجيا هي الشبكات...
وفهم المنظومات الإيكولوجية سوف يعني في
المآل فهم الشبكات." بالفعل, أصبح مفهوم
الشبكة خلال النصف الثاني من القرن العشرين
المفهوم الرائس للتقدم الحاصل مؤخراً في
الفهم العلمي، ليس للمنظومات الإيكولوجية
وحسب, وإنما لطبيعة الحياة نفسها. *** *** *** ترجمه عن الإنكليزية:
معين رومية
*
راجع: فريتيوف كابرا، "الإيكولوجيا
العميقة"، معابر، الإصدار الثاني. **
راجع: فريتيوف كابرا، "معايير التفكير
المنظوماتي"، معابر، الإصدار الأول.
|
|
|