في
التجربة المُجراة على اليوغانيين تم
تسليط الضوء على أمرين جديدين: أولاً، لا
ينجم كبح المنبِّهات الواردة عن تركيز
الانتباه على منبِّه خارجي آخر، بما أن
اليوغاني يركز على صورة ذهنية؛ فهو إذن
منقطع تماماً عن الوسط المحيط. ثم، وفي
حين أن غياب السيَّالات الواردة ينبغي
عادة أن ييسِّر العبور من حالة الصحو إلى
حالة النوم، لا يشاهَد شيء من ذلك عند
اليوغانيين بما أن مخططهم الكهربائي
الدماغي يُظهِر على ما يبدو نظماً من نمط a
(المخططات البيانية 5). أما عند الأفراد
العاديين فتقابل الموجات الدماغية من
هذا النمط حالة الراحة الذهنية التي يؤدي
استمرارها إلى حالة يقظة دنيا hypovigile،
أو نوع من الوَسَن يسبق النوم بقليل. أما
ما يميز التأمل فهو الثبات على إيقاع a
إبان مُدَّات طويلة بدون ظهور عوارض
النوم الذي يتبع عادة. وهو كذلك غياب
تأثير المثيرات الحواسية الخارجية التي
لا تحرض أي ارتكاس توقُّف لهذا الإيقاع.
وقد رُصِدت ظواهر مشابهة إبان الـزازِن
zazen،
أو طريقة التأمل في بوذية زِنْ zen، الأمر الذي ليس
بمستغرب نظراً للقرابة بين فنِّي اليوغا
والزِنْ، ولكن أيضاً في بعض حالات
الاسترخاء العميق، في بعض الحالات
النوامية، وفي حالات باثولوجية،
كالسرنمة (=السير في أثناء النوم) somnambulism. لكنما ينبغي
ألا نستنتج من ذلك أن تأمل اليوغا أو
الزِنْ ما هو إلا مجرد استرخاء ذهني شديد
أو نوام ذاتي التحريض.
الصورة
14: ممارسة أحد البرانايامات. إن التنفسات
الموقَّعة تُجرى عادة ببطء شديد وتترافق
بتركيز للانتباه على قسم معيَّن من
الشجرة التنفسية. إنها تساعد على بلوغ
حالة من الاسترخاء والهدوء الداخلي
وتقلل التواتر القلبي، ربما عبر تنبيه
العصب المبهم (القحفي 10).
المخطط
البياني 5: يمثل لتبدلات النبض إبان جلسة
يوغا.
لقد جرى قياس النبض لدى شخصين في مناسبات
مختلفة: بعد آسانا، بعد براناياما سريع،
وبعد براناياما بطيء. وتأثير براناياما
هام جداً. أما عند حوالى عشرين تلميذاً
آخرين فيشير النبض أيضاً إلى تناقص واضح
للتواتر بعد الجلسة. ويبدو أن اليوغانيين
يتمكَّنون، بممارسة البراناياما
والباندها التي تقترن بها إلى إبطاء
إرادي لتواتر نظمهم القلبي.
على
أن الباحثَيْن اليابانيين د. أكيرا
كاساماتسو ود. توميو هيراي اللذين يديران
قسم الطب النفسي العصبي في جامعة طوكيو
توصَّلا إلى معطيات مختلفة بعض الشيء –
وإن لم تكن أقل إدهاشاً. لقد وضعا مساري
أجهزة التخطيط الكهربائي للدماغ على
الرؤوس المحلوقة لرهبان زِنْ جالسين في
وضع اللوتس في أماكن هادئة تماماً
ويتنفسون ببطء شديد (تنفسين في الدقيقة
بدلاً من 16). وكان المخطط يبين أن الرهبان
في حالة استرخاء عضلي تام. في بداية
التأمل كانت الخطوط تشبه الخطوط
المسجَّلة لدى الإنسان العادي في حالة
الصحو؛ لكنها سرعان ما بدأت تخرج عن
المعتاد، إذ أظهر شريط التسجيل موجات a
التي لا تظهر عادة إلا عند إغلاق
العينين، علماً بأن الرهبان ظلوا في
أثناء التأمل مفتوحي الأعين. إبان القسم
الأول من التجربة كان المخ وحساسية
المتعضِّية كلها خاضعين لحالة السكينة
النفسية أكثر من ضوضاء الوسط المحيط، لكن
المدهش هو أن موجات a
المسجَّلة عادة في الناحية القذالية
للمخ تجتاح رويداً رويداً المخ كلَّه؛
وهذه ظاهرة تشاهَد للمرة الأولى. وفي بعض
مراحل التأمل، مع اشتداد ظهور موجات a،
كانت موجات q التي تشاهَد في
أثناء النوم تظهر هي الأخرى. من جانب آخر
حاول الباحثان اليابانيان قياس استجابة
الراهب المتأمِّل للمنبِّهات الخارجية.
عندما نُسمِع إنساناً عادياً مغمض
العينين طقَّة تختفي موجات aعلى
الفور لتظهر من جديد، وإذا تكررت العملية
عدة مرات تكراراً منتظماً يعتاد الفرد
هذه الطقَّات ولا يستجيب للصوت. أما
رهبان زِنْ فقد حققوا حالة من اليقظة
بحيث إن مخَّهم كان يستجيب لكل طقَّة
مثلما يستجيب للطقَّة الأولى تماماً
مهما تكرر عدد الطقَّات. وكل هذا يثبت أن
المخ في حالة التأمل محكوم بطاقة ذات
طبيعة نفسية مختلفة عن حالة الوَسَن
العادية ويحتفظ بكل صحوه رغم وجود موجات q التي تميِّز
النوم. جدير بالذكر أن هؤلاء القوم،
يوغانيين ورهبان زِنْ، الذين قبلوا بكل
طيبة خاطر القيام بدور حيوان التجربة،
أُجريَت عليهم الاختبارات في شروط بعيدة
غالباً عن الشروط الطبيعية التي يحيون
فيها وسط تناغم الطبيعة.
الصورة
15: بادماسانا، أو جلسة اللوتس. أشهر جلسات
التأمل.
الخبرة
الداخلية لليوغاني
لكي
تتوضح هذه المسألة، يجدر بنا أن نفحص عن
كثب فن الرياضات النفسية–الذهنية
للراجايوغا والحالات الذاتية التي تفضي
إليها. تشتمل الرياضات عموماً على شوطين
متتالين: يمارس المريد إبان الشوط الأول
تركيز الانتباه بحسب كيفيات متنوعة،
يشتمل بعضها على استرخاء فعَّال يترافق
مع تركيز الانتباه على نقاط مختلفة من
الجسم. وفنون التركيز التي وصفها شولتز
شديدة القرب منها. فيما يشتمل بعضها
الآخر بصورة أساسية على توضيع الانتباه
صعوداً من السرَّة إلى الحنجرة، ثم
نزولاً بالعكس بالتواقت مع التنفس. وهناك
تشابه بين عمليات التحريض الذاتي على
النوام المذكورة أعلاه وبين هذا التمرين.
بيد أن الاسترخاء والنوام
الذاتي التحريض يفترقان عن
فنون الراجايوغا في نقطة
جوهرية. ففي اليوغا يتم عبور الانتباه من
نقطة إلى أخرى بحسب دورة محددة بدقة،
ويُنفَّذ إما بسرعة كبيرة، وإما بالعدِّ
الذهني للدورات المنجزة، الأمر الذي لا
يتم في الطريقتين الأخريين. وبذا يكون
الفرد مرغماً على الاحتفاظ بيقظته كاملة
مع انقطاعه عن العالم الخارجي.
يوضح
الشوط الثاني توضيحاً أكثر أصالة التأمل
بحسب الطريقة اليوغية. يولِّد الاسترخاء
والنوام الذاتي التحريض حالةً ذهنية
متدنِّية اليقظة غير مضبوطة يمكن في
غضونها أن تتشكل صور ذهنية غنية نوعاً ما.
إنهما لا ينطويان على أي
منهاج محدد يسمح بالمحافظة
على التيقظ على سوية عالية. على العكس من
ذلك، تقود ممارسة اليوغا إلى حالة يقظة
مضبوطة. فبالفعل، ما إن يقطع المريد
التركيز الجاري إبان الشوط الأول يجد
نفسه في حالة انفكاك متقدمة. وإذن فإن
الأفكار أو الصور تطرأ في حقل وعي فارغ
نسبياً. وعلى المريد عندئذٍ أن يرقب هذه
الصور والأفكار أو الانطباعات التي
تتقاطر بوصفه شاهداً محايداً تماماً،
مجتنباً كل تداعٍ. وهذه الممارسة
الموسومة بـ"الشاهد الفاعل"،
الممارَسة بانتظام على كرِّ الأيام
والشهور، تؤدي إلى افتقار متدرِّج في
قدرة التصوير الذهني الذي يصير غالباً
يأخذ أشكالاً مجرَّدة. وأخيراً تفرض صورة
طاغية نفسَها وتبقى وحدها في حقل وعي
المريد بحيث إن الانتباه يتركَّز على
نقطة التثبيت هذه بدون توتُّر ولا مجهود
إرادي. وأياً كانت الصورة ينبغي لها أن
تكون إسقاطاً لموضوع محبَّب بحيث تزيد
العلاقة الوجدانية حتماً من شدة التركيز
على هذا الموضوع. وفي الشوط الختامي
يتعين على هذا الإسقاط حتى أن يتوارى.
وموقف "الشاهد" الذي يتخذه الفرد
يسمح له أن يحافظ على درجة عالية من
اليقظة الداخلية، و"نشاط" هذا
الشاهد الذي يتمثَّل في الحدِّ من تسلسل
التداعيات العفوية، أو حتى في القضاء
عليه، يحول دون تبدُّد الانتباه.
الصورة
16:
في معبد سوجيجي في يوكوهاما، يحاول رهبان
زِنْ بلوغ الإشراق الداخلي (ساتوري)
عن طريق تأمل زازِنْ.
وبالطبع،
إذا أسيئت ممارسة هذا المنهاج – وهو أمر
كثير الحدوث – فإن الرياضات النفسية–الذهنية
لليوغا تفضي في مآل الأمر إلى النتيجة
نفسها التي يولِّدها التحريض الذاتي
النوامي، فيقع الفرد إذ ذاك في حالة نوام
عميقة نوعاً ما، أو ببساطة يغفو. وبعبارة
أخرى، إذا عدنا إلى المقارنة المذكورة في
مستهلِّ هذا البحث، يصير الفرد منفكاً،
أي أن الأمواج تكون اختفت من على صفحة
الماء، لكن الراصد يكون اختفى هو الآخر،
أو لم يعد من الانتباه بحيث يستطيع رؤية
قاع البحيرة. وهذه الحالة متدنِّية
اليقظة ليست معاكسة لغاية اليوغا وحسب،
بل هي أيضاً خطرة. فقد يستهوي الطرب
والصور المتولِّدة الأشخاصَ غير
المتمرِّسين الذين يجانبون الحذر. ومع
أخذ الخصائص التي تتَّسم بها حالة
النوام، يبقى مثل هؤلاء الأشخاص
معرَّضين أيضاً للوقوع في براثن أستاذ
غير متمكِّن، وتكبُّد تأثيره تكبداً
مفرطاً. من هنا حالات "الجذب" التي
يتسبب فيها اليوغانية المزعومون. وعلى
العكس، إذا جرت الممارسة على الوجه
الصحيح مدة كافية يصل المريد إلى حالة
قوامها الانفكاك والانتباه اليقظ،
يستشعرها جديدة كل الجدة بالقياس إلى كل
الخبرات المعروفة: الأحلام، النوام،
الصحو، إلخ.
وهذه
النظرات تتقاطع مع نظرات باحثين علميين
آخرين. ويصرُّ كاساماتسو وهيراي من
جانبهما على وجود "تركيز بلا توتُّر"
في تأمل الزِنْ، وعلى توطيد حالة يقظة
مندارة نحو الداخل على الرغم من ظهور
تعديلات كهربائية دماغية تشير إلى
انخفاض في هذه اليقظة (موجات q).
والواقع أن نمطاً واحداً من الخطوط
الكهربائية الدماغية السوية قد يقابل
خبرات داخلية شديدة الاختلاف، كما
يستنتج أحد الباحثين.
وأخيراً يخلص فريق آنند إلى أن "اليوغاني
المتأمل يوجد في حالة وعي خاصة جداً قد
تتوقف على التأثيرات المتبادلة بين
التشكُّل الشبكي والقشر، وليس على تنشيط
السيَّالات الواردة الخارجية أو
الداخلية للتشكل الشبكي." إن الدراسة
العلمية للراجايوغا ما تزال في
بداياتها، لكنها تبدو من الآن واعدة
بالكثير. إنها بلا ريب قد تسمح بإضافة
عناصر جديدة إلى الفسيولوجيا النفسية
وإلى الأبحاث في مضماري التنويم
والتحليل النفساني.
المخططات
البيانية 6: مخططات كهربائية للدماغ
شوهدت في أثناء حالات ذهنية مختلفة.
إن تخطيط الدماغ الكهربائي، أو تسجيل
الموجات الكهربائية للمخ، يبيِّن وجود
إيقاعات تتبدل بحسب الحالة الذهنية.
نلاحظ لدى الشخص الصاحي إما خطاً غير
متواقت أثناء النشاط الذهني والحواسي (1)،
أو موجات α
الأبطأ أثناء الراحة (2). وتتوقف موجات α
بتأثير
تنبيه حواسي أو نشاط ذهني، ليحل محلَّه
من جديد خط عدم التواقت: هذا ما يدعى
ارتكاس التوقف. ويؤدي استمرار الراحة
الذهنية إلى تشديد نَظْم α (3) ثم إلى
ولوج تدريجي في حالة الوسن التي تتميز
بظهور نَظْم θ
(4). ويشتمل النوم على أطوار مختلفة تقود
إلى توطيد إيقاع بطيء أثناء النوم العميق
(5). أما تأمل زِنْ (الصورة 16) فهو يتميز
باستمرار إيقاع α
المشدَّد و θ
بدون العبور إلى النوم. وفي حالة معينة من
اليوغا يوجد، بالإضافة إلى ذلك، زوال
ارتكاس التوقف (6) حيث لا يتأثر هذا
الإيقاع حتى بالمنبهَّات الخارجية
العنيفة. وبهذا ينقطع الشخص عن العالم
الخارجي ويحيا حالة من اليقظة تتناسب
وتركيز الانتباه على إسقاط ذهني محدد.
وتشاهَد المخططات 3 و 4 و 6 في بعض حالات
الاسترخاء والنوام يوجد فيها الشخص في
حالة ما دون اليقظة. وبهذا تتوافق
المخططات نفسها مع حالات مختلفة جداً من
اليقظة. وقد شوهدت لدى اليوغانيين أيضاً
مخططات ذات نمط اشتدادي. نقلاً عن:
Das
& Gastaut, Electroencephal. Clin. Neurophysiol., suppl. 6,
1955, pp. 211-19.
منهاج
عمل
استكمالاً
للبحث يحسن بنا أن نعود إلى التعريف
باليوغا، مؤسَّساً هذه المرة ليس على
الاشتقاق اللغوي ولا على الغايات
المقصودة، بل على الوسائل المستعملة.
تشترك الفنون الموصوفة أعلاه، على
تنوعها، في عدة خصائص:
1.
سواء تعلق الأمر بالجلسات
أو بالتنفسات أو بالرياضات النفسية–الذهنية،
يبقى الإنسان بكلِّيته هو المعني دوماً؛
فالرياضات الممارَسة تفعل على المستويات
الفسيولوجية والنفسية–الفسيولوجية
والنفسية–الذهنية في آن معاً.
2.
يلعب تركيز الانتباه
بالاشتراك مع ضبط التنفس دوراً هاماً في
كل الأشواط. فمن شأن الانتباه أن يوسِّع
أو يُنقِص كمونات العمل المتولدة عن
المنبهات الخارجية أو الداخلية؛ ومن هنا
فعالية الهاتهايوغا على الصعيد
الفسيولوجي. وهذه الممارسات تحرِّض، من
جانب آخر، حالات نوامية.
3.
بالإضافة إلى الأوضاع
والتنفس والتركيز، يجب على المريد أن
يروِّض نفسه على تنمية مفهوم "الشاهد
الفاعل" في نفسه. وهذا المفهوم يرمي
إلى صيانة أو زيادة اليقظة في المواقف
المولِّدة عادة لحالات يقظة متدنِّية،
كالوسن أو النوام.
4.
ينحو منهاج اليوغا إلى
توطيد استقرار واستمرارية نفسانية
وفسيولوجية أكبر عند الإنسان. وهذه،
برأينا، هي العلَّة العميقة من القيام
برياضات بهذه الصعوبة ومن التناقض
الظاهري: التواتر التنفسي الثابت مهما
كان الوضع، المحافظة على يقظة متنامية
على الرغم من الانفكاك الذي ينزع إلى
إنقاصها.
القائمة
بالطبع ليست ناجزة. لكن هذه النقاط
الأربع تبدو لنا من الأهمية بما يجنِّب
الوقوع في سوء فهم كثير الشيوع. ليس
الهاتهايوغا منهاجاً جسمانياً صرفاً.
فالتركيز والتنفسات المرافقة للأوضاع
البدنية هي مكمن الفعالية والخطر معاً –
وهو خطر من رتبة ذهنية أكثر منه من رتبة
فسيولوجية. والتأمل ليس بالتنويم، ولا هو
بوَسَن لذيذ، ولا بشرود ذهني. وهو ليس
كذلك بالتحليل الذاتي، لكنه يتطلَّب من
المريد نفسانية "منقَّاة". لذا كان
الأساتذة القدامى يولون اختيار مريديهم
عناية فائقة. ذلكم أيضاً هو السبب في أن
ظهور أعصبة (وربما ذهانات) كامنة بعيد
ممارسة اليوغا ليس بالأمر الاستثنائي.
فاليوغا بالفعل منهاج عمل يتوصل به المرء
إلى تقوية وضبط ملكات قليلة التفتُّح أو
عديمته في الحالة العادية. لذا ينبغي
لهذا التفتح أن يتم على أرض ذهنية من
الصلابة بحيث يمكن تحمُّل تَبِعاته، أو
على أرض ممهدة بتحليل نفساني مسبق. فإذا
استبعدنا هذه التحفظات، يبقى صحيحاً أن
فناً يسمح بتنمية ضبط الإنسان نفسه،
وبالأخص ترقية ملكات الانتباه عنده، من
شأنه أن يتمخض عن نتائج هامة.
اليوغا
في الحاصل منهاج يرمي إلى تعليمنا كيفية
استعمال ملكات بحوزتنا بالقوة in
potentia. القرد
يملك يداً تسمح له، مثل يد الإنسان،
بالإمساك بالأشياء؛ غير أنه عاجز عن
استخدامها في استعمال الأدوات (كالعزف
على الكمان مثلاً). وبلغة المعلوماتية
يصح قولنا إن للقرد وللإنسان hardware
متشابه، أي بنية مادية قريبة، لكن وحده
الإنسان يملك الـ software،
أي برنامج الاستعمال الذي يسمح له بتكليف
هذا العضو مهمات معقدة. ألا يصح هذا على
المخ؟ ألا توجد كيفيات استعمال لدماغنا
ما نزال نجهلها؟ أغلب الظن أن الأمر
كذلك، وأنه، مع كون وعي الصحو الذي
ألِفناه أكثر من غيره هو بالتأكيد ظاهرة
عارضة epiphenomenon،
هناك وعي من نوع آخر. إن غالبية علماء نفس
السلوك والمدرسة الفرويدية في التحليل
والعقلانيين لا يأبهون لوجوده،
ويعتبرونه إسقاطاً من إسقاطات اللاوعي؛
فوظيفة المخ ووظيفة الفكر لا تنفصلان،
وحالة مخ حيٍّ معلَّق التفكير هي حالة
الجنون أو الموت الداني. كان من الممكن أن
يكون علماء النفس والمحلِّلون هؤلاء
محقِّين لو لم يكن يوجد، فيما يتعدى
العمليات الذهنية المعتادة، مستودع طاقة
أعمق وأشد فعالية بما لا يقاس من كل
الطاقات القابلة للرصد العلمي. وبما أن
معظمهم ينكر أصلاً وجود طاقة كهذه، فهم
يسجنون أنفسهم في شكوكهم واستنتاجاتهم
المتسرعة الضيقة.
الصورة
17: "اليوغا ينبوع السعادة" (عباس
المسيري)
لم
يعد بإمكان العلم في الوقت الحاضر أن
يتجاهل فرضية وجود مثل هذا المستودع من
الطاقة. ومن هذا المنظور يجب مواصلة
الأبحاث على اليوغا وغيره من فنون
الاستبطان. بانتظار العلم عمل كثير. هناك
بخاصة العديد من فنون اليوغا ما تزال غير
معروفة جيداً أو لا يعرفها إلا قلة من
الناس، من شأن دراستها أن تُلزِم الإنسان
بالسير على درب استكشاف داخلي أبعد وأكثر
إيغالاً، بكل ما ينطوي عليه مثل هذا
المشروع من انتصارات وهزائم. غير أنه ما
من استكشاف إلا وينطوي على مخاطر، وما من
بحث جديد إلا ويقضُّ مضاجع النيام
الآمنين في يقينيَّاتهم.
*** *** ***
|