|
الحرية
الأولى والأخيرة
جِدُّو
كريشنامورتي
34. في
التفاهة
سؤال: بماذا
ينبغي أن ينشغل الذهن؟ كريشنامورتي: ههنا
مثال جيد جداً على كيفية نشوب النزاع: النزاع
بين ما يجب أن يكون وبين ما هو كائن.
نحن أولاً نوطد ما يجب أن يكون، المثال،
ثم نحاول أن نعيش بحسب ذلك النموذج. نقول إن
الذهن يجب أن ينشغل بأمور نبيلة، بالغيرية،
بالكرم، باللطف، بالحب؛ ذلك هو النموذج،
المعتقد، اليجب أن يكون، الينبغي، ونحن
نحاول أن نعيش بمقتضاه. هناك إذن نزاع ينشب
بين ما يجب أن يكون نخلعه إلى الخارج وبين
الواقع، الما هو كائن، ومن خلال ذلك
النزاع نأمل أن نتحول. مادمنا نصارع لتحقيق
الما يجب أن يكون، نشعر بالفضيلة، بالخير، ولكن ما هو المهم: الما يجب أن
يكون أو ما هو كائن؟ بم تنشغل أذهاننا
– فعلاً، وليس إيديولوجياً؟ بالتفاهات، أليس
كذلك؟ بالمظهر الشخصي، بالطموح، بالجشع،
بالحسد، بالنميمة، بالقسوة. إن الذهن يعيش في
عالم من التفاهات والذهن التافه الذي يخلق
نموذجاً نبيلاً يبقى تافهاً، أليس كذلك؟
فالسؤال ليس ما يجب على الذهن أن ينشغل به
إنما هل بوسع الذهن أن يحرِّر نفسه من
التفاهات؟ إذا كنا واعين أصلاً، إذا كنا
نتقصَّى أصلاً، نعرف تفاهاتنا الخاصة: الهذر،
التشتيت المتواصل للذهن، القلق على هذا الشيء
أو ذاك، الفضول حول ما يفعله الناس أو ما لا
يفعلونه، محاولة إنجاز نتيجة، سعي المرء إلى
تضخيم ذاته، وهكذا دواليك. ذلك ما يشغلنا
ونعرفه جيداً. هل بوسع ذلك أن يتحول؟ تلك
هي المشكلة، أليست كذلك؟ إن السؤال حول ما
يجب أن ينشغل به الذهن نقص في النضج صرف. الآن، إذ أتبصر بأن
ذهني تافه ومنشغل بالتفاهات، هل بوسعه أن
يحرر نفسه من هذا الوضع؟ أليس الذهن، بطبيعته،
تافهاً؟ هل الذهن إلا نتيجة الذاكرة؟ ذاكرة
ماذا؟ كيفية البقاء، ليس جسمانياً بل نفسانياً
أيضاً عبر تنمية بعض الخصال، الفضائل، اختزان
التجارب، توطيد
نفسه في نشاطاته الخاصة. أليس ذلك تافهاً؟
الذهن، وهو نتيجة الذاكرة، الزمن، تافه بحد
ذاته؛ فماذا بوسعه أن يفعل ليحرر نفسه من
تفاهته الخاصة؟ هل بوسعه أن يفعل شيئاً؟
تحسَّس، أرجوك، أهمية الأمر. هل بوسع الذهن،
وهو نشاط مركَّز على ذاته، أن يحرر ذاته من
ذلك النشاط؟ جليٌّ أنه لا يستطيع؛ إنه يبقى
تافهاً، مهما فعل. إنه يستطيع أن يتخرَّص
بخصوص الله، يستطيع أن يصمِّم أنظمة سياسية،
يستطيع أن يخلق معتقدات؛ لكنه لا يزال ضمن حقل
الزمن، وتغيُّره لا يزال يجري من ذاكرة إلى
ذاكرة، إنه ما يزال مقيداً بمحدوديَّته. هل
بوسع الذهن أن يقوِّض تلك المحدودية. أم أنك
تلك المحدودية تتقوَّض عندما يكون الذهن
هادئاً، عندما لا يكون نشطاً، عندما يعترف
بتفاهاته، مهما كانت عظمة ما تخيَّله عنها؟
عندما يعي الذهن تماماً، إذ يبصر تفاهاته،
فإنه يصير هادئاً حقاً – إذ ذاك فقط هناك
إمكانية سقوط هذه التفاهات. فمادمت تتقصَّى
ما يجب أن ينشغل به الذهن، سيبقى منشغلاً
بالتفاهات، سواء بنى كنيسة، أو صلَّى أو ذهب
إلى مقام. الذهن نفسه وضيع، صغير، وبمجرد قولك
إنه وضيع لن تحل ضعته. عليك أن تفهم ذلك، على
الذهن أن يعترف بنشاطاته، وفي سياق هذا
الاعتراف، في تبصُّره للتفاهات التي شادها عن
وعي منه أو عن غير وعي، يصير الذهن هادئاً. وفي
ذلك الهدوء هناك حالة إبداعية وهذا هو
العامل الذي يُحدِث التحوُّل. *** *** ***
|
|
|