|
الكوسموس
الخلاق:
استيلاد
التطوُّر والروحانية
هنريك
سكوليموفسكي
إني
قد أشبعتُ معنى المشاركة والعقل التشارُكي
كتابة وتقصياً. غير أننا لا نفهم دوماً جمال
السيرورة التشارُكية وتعقيدها. هناك، بالطبع، مشاركة سطحية أو
كاذبة، مثل لعب
البنغو أو اختيار ماركة شامبو في السوبرماركت
من بين ماركات أُخَر. وهناك المشاركة العميقة، مثل المحبة أو التعاون مع القوى
التطوُّرية من أجل إحداث المرحلة المقبلة من
التفتُّح التطوري. تمثِّل كل مرحلة من مراحل
هذا التفتح عدداً هائلاً من العوامل والقوى
المتعاونة والمتشاركة. وكل صفحة من صفحات
تاريخ التطور هي تعبير عن سحر المشاركة
الحقيقية. ليس من شيء في الكون يحدث بدونها،
سواء في الكون الحي أو في الكون القبلحي. فمن
خلال سيرورة المشاركة التعاونية البديعة هذه
يتماسك الكون في بنيانه. فالمشاركة والتعاون
أساسيان في اتِّساق الكون، أو في اتِّساق أيِّ بعض منه ذي شأن. إن
المشاركة من الأهمية بحيث يكاد لا يوجد شيء
ممكن الحدوث في التطور بدون وجود تضافر ضخم في
القوى والأحداث المتشاركة بروح التعاون. إن
كل بنية بيولوجية هي من روعة التعقيد بحيث إن
وجودها نفسها يمكن يُعَدَّ معجزة من معجزات
المشاركة. نخلص من هذا، في جملة ما نخلص إليه،
إلى أن الجينة الأنانية وهمٌ من خلق
الدارونية الجديدة. إن دفعة الحياة والتطور
تعاونية، تشارُكية، تعايشية، وتقاسُمية.
ومثلها طبيعة الأخلاق الراسخة في الحياة
نفسها. كل النظريات الأنانية عن الطبيعة
البشرية، كما وعزو العدوان إلى مخلوقات
الطبيعة، هي من إيجاد الإنسان الحديث، الإنسان
العدواني، الذي فقد تماسه مع الإلهي واغترب
عن دفعة الحياة التقاسُمية والتعاونية. هذا
وإن التعالي وثيق الصلة بالمشاركة. فالمشاركة
توفر السبل التي يحدث من خلالها الإفصاح عن
الأشكال، مفضياً إلى أشكال حياة جديدة،
حساسيات جديدة، أشواط جديدة في تحقيق الذات.
التعالي هو القوة، هو المحرِّك الذي يطلق
المشاركة ويدفع بها إلى الأمام وإلى الأعلى.
والتعالي لا يمكن أن يُفهَم حقاً ما لم نتحلَّ
بشيء من الحس بمعنى الإبداع. فالتعالي شكل
فريد من أشكال الإبداع، ومعنى الإبداع –
ومعنى الفن إجمالاً – لا يمكن أن يُفهَم ما لم
نُحِطْ علماً بأنهما يحصلان في سياق كوني
يقوده التعالي. بذلك فإن التعالي والإبداع
يتكاملان ويتوازنان تكاملاً وتوازناً جميلين.
فكلتا هاتين القوتين تحدث في الكون التشارُكي.
وإن تعاون عناصر متنوعة في التشكيلات
الكوسمية والبشرية هو من الروعة بحيث يمكن أن
ينظَر إلى سيرورة المشاركة بوصفها سيرورة
إبداعية. وهذا واحد من الأسباب التي تجعلنا
نعتبر الإبداع والمشاركة والتعالي
مثلث قوى. إن
الإبداع والمشاركة والتعالي هي العناصر التي
تسري في دمنا، وهي جزء من ذاكرتنا التطورية،
بما يمكِّننا من رؤية التطور الكوسمي بوصفه
يشمل المجال البشري. وإن أعلى منجزات النوع
البشري متطابقة مع تطور الكوسموس إجمالاً وهي، في
الواقع، جزء منه ونتفة. وبتمييزنا حقل
التعالي، متضافراً مع المشاركة ومع الدفعة
الإبداعية للكوسموس، نستطيع أن نضفي اتساقاً
جديداً على الصورة الكلِّية للكون التي يتحرك
فيها كل شيء في رقصة هائلة، على لولب صاعد
أبداً للتحقُّق الذاتي. لقد ظلت دفعة التطور
المبدع تتفجر عبر الكون مليارات من السنين،
فأزهرت في الأشكال البيولوجية في فوران عظيم.
لقد تفتحت بطرق عديدة عن الثقافة والفن
والروحانية الإنسانية. فإذا كان من استمرارية
في الأشكال المتطورة للكون ومن اتِّساق فيها،
فمن البيِّن تماماً عندئذٍ أن أشكال الثقافة
الإنسانية هي استمرار للتطور إجمالاً. أما
الروحانية فهي من مكتسبات التطور المتأخرة.
وهي تمثل سوية جديدة من سويَّات وعي النوع
البشري والتطور. نحن الطرف المفصلي للتطور،
استطالاته الحسَّاسة، هوائيَّاته القوية
التي تُستولَد من خلالها حساسيات جديدة
وقدرات جديدة. والروحانية هي، من حيث
لُبابُها، شكل جديد من أشكال الرؤية، وعبر
موشورها يكتسب الكون ونكتسب نحن أنفسنا عمقاً
ومعنى جديدين. إنها تهذيب جديد لا يُكسِبنا
فهماً جديداً وحسب، بل يغير الكون بأسره
طبيعته من خلاله. ولعل إبداع الروحانية في
حياة الكون لا يقل أهمية عن إبداع الحياة. فمن
خلال وجود الروحانية تشتد الحياة في الكون
أكثر بكثير. وقد يجوز لنا أن نسأل سؤالاً
ساذجاً لكنه ربما من الأهمية بمكان: لماذا فعل
الكون ذلك؟ أكان ينبغي عليه أن يفعل؟ وإذا كان
الجواب بالإيجاب، لماذا؟ والجواب البسيط هو:
لأن من طبيعة الكون أن يتعالى ويتعالى. لماذا
لم تمكث الأميبا [نوع من البكتيريا] حيث هي؟
لأنها كانت جزءاً من سيرورة تطورية من
طبيعتها أن تمضي قدماً، أبعد فأبعد. ذلك أن
قوة التعالي لا هوادة فيها ولا تُقاوَم. أي
نوع من الميِّزات التطورية، إن وُجِدَت،
تقدِّمها الروحانية للكائنات البشرية؟ يمكن
التعبير عن هذا السؤال بعبارة أبسط: لماذا هي
مهمة لنا؟ ماذا تفعل بنا؟ الروحانية مهمة لنا
لأسباب عديدة. إنها مهمة من أجل سعادتنا.
فالغبطة الروحية هي أسمى أشكال السعادة،
وتبدو أشكال السعادة الأخرى باهتة بالقياس
إليها. فللسعادة الكلِّية التحقيق جذور
وأبعاد روحية، بينما الأشكال الأخرى من
السعادة، من نحو الإشباع الحسِّي أو الشهرة
الأرضية، سطحية حقاً، وهي أشكال تعويضية
للسعادة. أما السعادة الحقة فهي حيازة ما هو
الأعمق والأنفس في الإنسان. إن مقارنة مع
أشكال الحياة غير البشرية قد تكون منوِّرة.
"الغبطة الروحية" عند الخنزير هي أن يكثر
من الأكل إلى حدٍّ لا يستطيع معه حراكاً. وهذا
ليس شكل السعادة الذي قدَّره لنا التطور. الروحانية
مهمة جداً من أجل نجاتنا وحُسْن حالنا في هذه
الأزمنة المائجة المتكسرة. قد يقتنع بعضهم
بأن التطور إنما هو بقاء الأنسب. حُسْن البقاء
في زماننا، المليء بالشدائد والتوترات،
يتطلب مرونة نفسية وسلاماً داخلياً. وهاتان
الصفتان من ثمار صفاتنا الروحية. هكذا وحدهم
الأقوياء روحياً في زماننا لهم في النجاة حظ؛
إذ إنهم يتحلُّون بالمرونة المطلوبة
والمسافة، بينما الآخرون، المشفوطون في
الدوامة، ينكسرون مثل أعواد الثقاب على الرغم
من صلابتهم الظاهرة التي قد تكون سطحية وحسب.
على البشر، في الألفية الثالثة، أن يكونوا
أقوياء روحياً. فللسكنى في الفضاء الروحي
لكياننا نفسه ميِّزة تطورية بارزة؛ إذ إنها
تمكِّننا من احتمال الدنيويين والحمقى
والعدوانيين برحمة وبرحابة صدر. إن
حيازة بُعدٍ روحي هامة لكل بشري في سعيه/سعيها
إلى تحقيق الذات. وسيرورة تحقيق الذات هي
التحقق بأعلى كموناتنا، بطبيعتنا الأعمق.
فالكون، من بعد أن نطق بالحياة، ومن بعد أن
أفصح عن الوعي وعن الوعي الذاتي، لم يعد أمامه
من مكان يمضي إليه غير نحو الأعلى – نحو النطق
بالروحانية. تلكم درب تحقق الكون بذاته،
وضمنه، تلكم دربنا. إن الرحم الروحية التي
نحيا ضمنها مهمة هي الأخرى من أجل حِسِّنا
بالارتباط بالآخرين، من أجل حسِّنا
بالانتماء، من أجل حسِّنا بالتعاطف مع
الآخرين، من أجل حسِّنا بالمشاركة في مشاريع
مشتركة تهمُّنا جميعاً. هذه الرحم الروحية
ليست من قبيل كماليات لا تطيقها إلا النخبة
المختارة، بل هي أرضية كياننا الاجتماعي. وأخيراً،
إذا أمعنَّا النظر في إمكانية الموت الحراري
لكوكبنا، الناجم عن استنفاد الشمس لطاقتها
بعد حوالى خمسة مليارات سنة، فإن السؤال
التالي ينطرح: كيف يمكن لنا أن "ننجو"
ونواصل مغامرتنا التطورية؟ قطعاً ليس من خلال
استحداث أجسام أمرن وأصلب؛ إذ إن أجسامنا
البيولوجية سوف تفنى. فالطريق بالدقة هي من
خلال الإفصاح عن مجالات للروحانية جديدة يمكن
بواسطتها للحياة، وللوعي قطعاً، أن ينجوا
ويستمرا في شروط عبربيولوجية. فلعل "الحياة"،
بتطوير الروحانية على هذا الجرم وضمن
الكائنات البشرية (وربما ضمن كائنات أخرى)،
كانت بذلك تهيِّئ نفسها مسبقاً لشوطها
البعدبيولوجي؛ الأمر الذي سيكون بمعنى غريب
شوطاً البعدحياتي. جزماً إن البقاء البيولوجي
شرط ضروري – من أجل إطلاق السيرورة. لكن لعبة
التفتح التطوري تبدأ بعد توفير هذا الشرط.
فالبيولوجيا ما هي إلا وعاء يتطور الروحي
ضمنه ويزدهر. بذلك
فإن الروحانية هي استطالة طبيعية واستمرار
لرحلتنا التطورية، وهي مصطلح جمعي يغطي طيفاً
واسعاً من الحساسيات الإنسانية. الروحانية
تتضمن حساسية أخلاقية نامية جداً، حسَّ الحق
والباطل، وإصراراً على السعي إلى الحق
وإنفاذه. وهي تتضمن الحساسية الجمالية،
ولاسيما حساً نامياً للغاية بالجمال الداخلي.
عندما يصبح حسُّ تقدير الجمال الداخلي وجمال
الكوسموس بأسره هذا طاغياً فإنه يتجلَّى رهبة، أو
حساً بالقدسي. بذلك فإن الروحانية
تتضمن الحساسية بالقدسي. وهذه الحساسية، على
أعلى مستوياتها، تتجلَّى كمُواحدة مع الحق
المتعالي الأقصى؛ الأمر الذي يتخطى كل الحواس
والوصايا الإنسانية ويوصف أحياناً بالسكنى
في الله. هذه السكنى مقدرة نادرة، وهي صفة
القديسين الذين نبجَّلهم لأننا نعرف في
دخائلنا أنهم يرمزون إلى أسمى غايات البشرية
ويدلوننا على الطريق إلى مصيرنا. ما هي منزلة الروحانية في مجال التعالي–المشاركة–الإبداع؟ الروحانية هي ابنة الإبداع وواحد من أسمى أشكال إزهارها. ومع ذلك، فهي، في الوقت نفسه، نتيجة سيرورة التعالي الحتمية التي لا مناص لها، وهي تتعالى على كل الغايات السابقة، من الارتقاء بالمضي إلى صعيد أعلى، إلى الروحانية حصراً. ومع ذلك ليست الروحانية مجرد حصيلة حدثت وحسب من جراء تضافر ضغط كلٍّ من الإبداع والتعالي. الروحانية، منظوراً إليها في ضوء أحذق، بنظرة متعاطفة مع السيرورة التطورية برمَّتها، يمكن أن تُرى كنقطة أوميغا مصغَّرة، النقطة التي كانت تسحب باتجاهها التنامي الكوني بأسره. لم يكن للكون من مكان يمضي إليه غير الصعيد الروحي. الروحانية، بهذا المعنى، نتيجة لا مناص منها للتطور كما نعرفه. كان لابد للكون من أن يتمخض عن الله لأن الله (أو الإلهي) كان كامناً في أحشاء الكون من أجل أن يصير تتويجاً لمجده. إن
من شأن التعالي والإبداع أن يربطا كل سيرورات
الحياة بعضها ببعض، بما فيها الحياة البشرية.
فهما ييسران سيرورات الشفاء، كما وإبداع كل
أشكال الفن التي اتَّصفت بكل هذه القوة
والأهمية في معراج الحياة في صراعها مع
الإنتروبيا. لم يكن الفن عالَماً للسرور
الإنساني وحسب، بل شافياً، ناطقاً
بالروحانية، قوة نيِّرة في تحقيق الكوسموس
لذاته وتحقيقنا لذواتنا. ويلوح لنا أننا، في
شعائر ثقافات نقلية عديدة، في حضرة الشوط
الذي تجري فيه دراما كوسمية فريدة من نوعها.
ففي الفضاء الفيزيائي (وهو في الوقت نفسه
عبرفيزيائي) يحصل تشخيص للطاقة فريد من نوعه
– عبر الرقص، والغناء، وشعائر أخرى – تشفي،
تشحن بالطاقة، تجدِّد، وتعيد تأكيد –
الجماعة والفرد كليهما – وتعيد وَصْلَهم
بالسماء وبقوى كوسمية أخرى هامة. ففي ظل
المشاركة والإبداع والتعالي التام يحصل
الشفاء والشفاء الذاتي. هذه الشعائر، وبخاصة
في أحسن أحوالها، يمكن أن تُرى بوصفها
تعبيرات متلمِّسة لوجود حقل التعالي/الإبداع/
المشاركة ولمجده – نجتهد في محاولة صوغه في
كلمات، بينما حاولت الثقافات النقلية
التعبير عنه من خلال دراما كوسمية بهيجة،
وَجْدية وتهتُّكية، شارك فيها الكوسموس
برمَّته بينما كانت الكائنات البشرية
سُكَّانه. أما
الأخلاق فهي تنبثق انبثاقاً طبيعياً تماماً،
يكاد يكون حتمياً، من مناقشتنا. فالتطور، إذ
يتنامى ويتفتح ويفصح عن مكنوناته، يريد أن
يحافظ على منجزاته ليس على الصعيد البيولوجي
وحسب، بل وعلى الصعيدين الإنساني والروحي.
وهو يفعل ذلك من خلال المشاركة، والمقاسمة،
والتعايش، والتعاون. تلكم هي القيم الأخلاقية
"الأصلية"، الراسخة فعلاً في بنيان
التطور وفي بنيان الحياة. بذلك سوف أحاجج بأن
الأخلاق يمكن أن تُشتقَّ من قراءة ذكية للكون، نابعة من فهم أعمق للعظمة
التطورية، بدوراتها، وبدفعتها. نحن الآن مستعدون
لاقتراح إلزام أخلاقي، كوسمي وإنساني معاً،
عقلاني ومتعالٍ معاً. وهذا الإلزام ليس
محصِّلة حساسية التطور فحسب، بل هو يزوِّد
بإرشادات عينية للسلوك الإنساني في هذا
العالم. هي
ذي الصياغات الرئيسية لإلزامنا الجديد: -
السلوك
بما يصون تفتح التطور بكل ثرائه ويعزِّزه؛ - السلوك بما يصون الحياة ويعزِّزها، وهو شرط ضروري لمواصلة التطور؛ - السلوك بما يصون المنظومة الإيكولوجية ويعزِّزها، وهو شرط ضروري للمزيد من تعزيز الحياة والوعي؛ - السلوك بما يصون ويعزِّز المقدرات التي هي الشكل الأعلى تنمية للكون المتطوِّر: الوعي، الإبداع، التراحم، الروحانية؛ - السلوك بما يصون ويعزِّز الحياة التي هي الوعاء الذي تُحتضَن فيه أثمن منجزات التطور. وما
هذه الخصائص الخمس لهذا الإلزام الجديد إلا
تنويعات على اللحن نفسه. فكلُّها يتفرع من
الصياغة الأولى. وهذا ليس حتمياً وحسب، بل
مرغوب إلى حدٍّ كبير. فالإلزام الأخلاقي يجب
أن يكون من العمومية بما يكفي لتوفير أساس
فلسفي للقيم، لكنه يجب أن يكون مثمراً ومفتوح
النهاية بما يكفي لتوليد عواقب وإرشادات
للعمل نوعية. إذ إن علينا، في المقام الأخير،
أن نصله بأعمال ومساعٍ بعينها في حياتنا
اليومية. والإلزام المصرَّح به أعلاه يمكن أن
يُرى كأساس لأخلاق كلا البقائين البيولوجي
والروحي. فالأخلاق المطروحة هاهنا أخلاق
طبيعية بالمعنى الذي يكون التطور وفقه طبيعياً، والروحانية
طبيعية، وكدح الإنسان
من أجل مغانم حياته/حياتها العليا طبيعياً.
أجل، إن أخلاقنا طبيعية وعقلانية، لكنها أيضاً أخلاق تتوضع في إطار الكون الموهوب
حاملَ التعالي. فبدون قبول التعالي لا
معنى لأي أخلاق. الأخلاق
الإنسانية هي نتيجة فعاليات التعالي، هي
ثمرة الإفصاح عن الحساسيات الأخلاقية. بيد أن
الأخلاق بحدِّ ذاتها تصير في الوقت المقدَّر
مركبة للمزيد من تعالي البشر على درب تحقيق
الذات. من هنا فإن الروحانية والأخلاق وثيقا
الصلة إحداهما بالأخرى؛ إذ هما تتعاضدان
وتتداعمان، ومعاً تساعداننا في رحلتنا.
الروحانية هي التعبير عن المعراج المجيد
للتطور إلى المستوى العبربيولوجي؛ لكنها
أيضاً جملة من الاستراتيجيات من أجل الحفاظ
على المظاهر الحاذقة والجليلة للتطور. إنها
مركبة من أجل المزيد من اكتمال النوع؛ لكنها
أيضاً جزء من الأخلاق لمساعدة البشر السائرين
على درب تحقيق الذات. كل شيء متوافق، على أن
نعتمد وعندما نعتمد منظوراً شمولياً مناسباً.
فالأخلاق والروحانية والتطور مظاهر للبنيان
نفسه. بيد أن الوصول إلى مثل هذا المنظور
المحيط بكل شيء يتطلب منا أن نتخذ تصوراً هو
غير تصور الإنسان الراجِل عن الكوسموس، الذي
يماثلنا على الأقل إبداعاً، بل هو في الواقع
أكثر إبداعاً منا؛ ذلك أننا لسنا إلا مظهر من
مظاهر إبداعه الخارق. لكل منظومات المعرفة
البشرية حدودها؛ أما الإبداع فلا حدود له. فلا
يغيبنَّ هذا عن أذهاننا ونحن نتقدَّم، إلى
جانب التطور، على درب المزيد من التعالي. لقد
حاولت، بتمييزي حقل التعالي/الإبداع/المشاركة،
أن ألوِّح بنموذج جديد للفهم التطوري. فبدون
الاعتراف بأن الكون هو رحلة التعالي؛ بدون
إدراك أن الكوسموس هو فنان وأننا (بما
فينا نِصال العشب) مشتركون في إبداعه؛ بدون
تبيُّن أن المشاركة هي كيفية ذات مغزى
عظيم من كيفيات وجود الحياة – لا مفرَّ لنا من
الضياع في أبخرة التفاصيل والنماذج
الذرَّانية. كل جيل يسيء التصرُّف عندما
يفترض أنه بلغ ذروة الفهم البشري وأن بوسعه أن
يصوغ شمائل نهائية عن المعرفة كلها أو أن يأتي
بالنظريات النهائية. مسعى كهذا مسعى مغرور
وليس من طبيعة الكون المفتوح. الكون قابل
جزئياً للمعرفة؛ لكننا لا نستطيع حتى تخيُّل
الأسرار التي لا يُسبَر لها غور والتي يضنُّ
بها علينا. السكنى في السر جزء من جمال الشرط
الإنساني الذي قد يكون بهجة للذهن التحليلي
لكنه أبعد ما يكون عن فهم صورة الكون برمَّتها. نحن
واحد مع الكوسموس الهائل، المبدع، التعاوني،
الذاتي التعالي. وفي فهم هذا عزاء عظيم
لحياتنا الفردية. لكنه أيضاً إلهام عظيم
للتعاون مع هذا الكوسموس الذي لا يُسبَر له
غور، الغامر أحياناً. نحن مصنوعون من الغبار
الكوني، لكننا هباءات ذكية منه. لهذا السبب
يمكننا أن نساعد التطور والكوسموس على معرفة
نفسه معرفة أفضل وعلى المزيد من التعالي على
نفسه. وكلما زاد نفاذ بصيرتنا العقلية
وتعمَّقت روحانيَّتنا كان الكون الذي يمكننا
اكتشافه، وبالتالي بناؤه، أجمل وأرهب. ذلك أن
كليهما مظهر للآخر؛ وأعني، الكوسموس
التشارُكي وابنه العقل التشارُكي. إننا،
ببناء أنفسنا، عمقنا، فطنتنا، حساسيَّتنا
المهذَّبة، نبني الكون من حولنا – بحسب قدرات
فهمنا. أجل، إن الكون وفهمنا له محبوكان حبكة
وثيقة جداً. ولن يتأتى لنا أن نفوز بجواب على
الأمر كلِّه، على ألغاز الكون ولطائفه، حتى
نكون وما لم نكن متحققين بذاتنا مع الكون
المتحقق بذاته نفسه. عندئذٍ لن نحتاج إلى
الجواب. فسنكون الجواب. ***
*** ***
|
|
|