|
الطفولة لقد
بات اليومَ من الثابت أصولاً أن الطريقةَ
التي يُعامَل بها الإنسانُ في محيطه الأقرب
طوال طفولته المبكرة تُشرِطُ الاستعداداتِ
التي يبديها حيال الآخرين عندما يبلغ سنَّ
الرشد إشراطًا قويًّا. إن "سوء معاملة"
الأطفال هو واحد من أكثر أعمال العنف
انتشارًا في مجتمعاتنا. في كلِّ مكان من
العالم، يكابد الأطفالُ لطمَ أهاليهم
وأساتذتهم وضربَهم؛ إذ تُعتبَرُ القَصاصاتُ
والعقوباتُ البدنية – كالضرب على الإليتين
والصفعات والضربات – التي يكون الأطفالُ
ضحاياها الأبرياء وسائلَ تأديبيةً مشروعةً
تُستعمَل "لخيرهم". كما يُعتبَر عمومًا
أن المربي الذي يضرب طفلاً إنما يؤدبه
تأديبًا "حسنًا" – وهذا لأنه، كما يقال،
"القصاص على قدر المحبة"[1]!
وبهذا لا يتم تغييبُ الآلام التي تُنزَل بحق
الأطفال وحسب، بل وتُنكَر أيضًا. ففي
مجتمعاتنا كلِّها، يسود "إنكار"[2]
حقيقي لمعاناة الأطفال. وغالبًا أيضًا ما
يُبَرَّأ الأهلُ والمربون من أعمال العنف
التي يُنزِلونها بالأطفال، بحيث يقع الذنبُ
كله على الأطفال أنفسهم. إن هؤلاء، في
المحصلة، هم الذين يُنعَتون بـ"السيئين"
و"الأشرار"! في
الواقع، تخلِّف أعمالُ العنف في نفوس الأطفال
رضوضًا خطيرةً تَسِمُ حياتَهم الوجدانية
والنفسانية وَسْمًا مستديمًا. إن العلاقات
الأولى التي يعيشها صغيرُ الإنسان مع أقربائه
تسهم إسهامًا حاسمًا في بناء هُويته وتجسِّد
مقدمًا، في جانب كبير منها، العلاقاتِ التي
سيُقيمها بنفسه لاحقًا مع الآخرين. الطفل
المعنَّف مهدَّد جدًّا بأن يصير عنيفًا عند
يكبر؛ والطفل المُهان مهدَّد جدًّا كذلك بأن
يعدَم معرفةَ كيفية احترام الآخرين. ولسوف
يميل إلى معاملة الآخرين على النحو الذي عومل
به، كما لو كان يريد الانتقام مما كابده. ليس
مقضيًّا عليه حتمًا أن يكون عنيفًا، لكنه
سيكون على استعداد مسبق قويٍّ لأن يصير كذلك.
بالإضافة إلى ذلك، سيَسهُل على
الإيديولوجيات التي تُعلِّم احتقارَ الإنسان
الآخر تجنيدُه، وسيكون مهيَّأً للخضوع
المنفعل للدعاوات التي تحضُّ على القتل. في
المقابل، إذا كان صغيرُ الإنسان محترمًا
ومحبوبًا في محيطه، فسيكون عندئذٍ مستعدًّا
سلفًا pré-disposé
لاحترام الآخرين وحبِّهم كما لو
كان يريد التعبيرَ عن "امتنانه". وستكون
حظوظُه عندئذٍ أوفر في أن يجد في دخيلته
القوةَ على مقاومة الإغراءات الجماعية التي
تسوق إلى احتقار الآخرين وكراهيتهم وقتلهم. الطفل،
سلفًا، كائن ذو حاجات ودوافع ورغبات. وطبيعة
الطفل تُجسِّد مسبقًا ما ستكونُه طبيعةُ
الإنسان الراشد. والإنسانُ، بطبيعته، نَزوعٌ
إلى الشر ومستعدٌ للخير في آنٍ معًا؛ فهو، في
الوقت نفسه، قابل للصلاح وللطلاح. ففي اجتماع
الضدين هذا، تحديدًا، تكمن حريتُه،
وبالتالي، مسؤوليتُه. إن هذا النزوع الطبيعي
لدى الإنسان إلى الخبث وذلك الاستعداد، الذي
لا يقلُّ طبيعيةً، إلى الحسنى مستقلان عن
المعاملة التي يلقاها الطفل. وإن نزوع الراشد
إلى العنف ليس عاقبةَ الرضوض التي كابدها في
طفولته وحسب؛ ففي الواقع، ليس قطعًا صحيحًا
أن الطفل "بريء" تمامًا. بالمثل، لا يجوز
لنا الدفاع عن الفرضية القائلة بأن صغيرَ
الإنسان، مادام محترمًا ومحبوبًا من أهله،
سوف يكون "مبرمَجًا"، بمعنًى ما، على فعل
الخير وسيَعدَم كل نزوع إلى الشر. إن سرَّ
الشر – علَّة مأساة الوجود البشري – لا يذعن
لتفسيرٍ بهذه السهولة. وحتى
لو كان الطفل محبوبًا ومحترمًا، فإن الرجل
الذي سيصير إليه هو كائنٌ ذو مطامع ورغبات
وشهوات، وسيصعب عليه دائمًا التغلبُ على قوى
الثقالة هذه في طبيعته ليقوى على إظهار
الطيبة للإنسان الآخر. وهكذا تصادفُ
الإيديولوجياتُ القائمةُ على إقصاء الإنسان
الآخر في كلِّ فرد تواطؤًا طبيعيًّا متأصلاً
في "دوافعه". يحتاج
الطفلُ، لكي يبني شخصيتَه، إلى مواجهة سلطة
الراشدين الذين يصدُّونه بحدودٍ ونواهٍ. لكن
هذه السلطةَ تَضِلُّ عندما تبتغي تأكيدَ
قدرتها بواسطة العنف، سواء كان تعنيفًا
بالضرب أم بالإذلال. ليس العنف تأديبيًّا،
وهو، في حدِّ ذاته، إخفاق للتربية. إن تحريم
ضربِ الطفل أو تكبيدِه معاملةً مهينةً، بحجة
تربيته تربيةً أفضل، يجب أن يكرَّس مبدأً لا
يُمَسُّ مطلقًا. وإن إحدى كبرى المهمات
المنوطة بالأجيال القادمة هي استئصال شأفة
العنف المكبَّد للأطفال. وإنه لتحدٍّ حقيقي،
رِهانُه حاسمٌ لمستقبل البشرية نفسه. · التربية ترجمة:
محمد علي عبد الجليل مراجعة:
ديمتري أفييرينوس |
|
|