|
الهند موطن الروح(2 - 2)
ديمتري أفييرينوس مع
الانتشار السريع للبوذية في الهند، لجأت
الهندوسية إلى قدرتها الاصطفائية العبقرية.
لقد اعتقد الهندوس منذ القديم بأن الله "يتنزَّل"
على الأرض دورياً في فترات تفصل فيما بينها
فواصل زمنية محددة، متَّخذاً صورة بشرية،
بما يُدعى أفتارا avatâra. ولا يجد
العديدون منهم غضاضة في قبول أن يسوع ومحمداً
كانا من هذه الفئة. وفي سفر الـبـْهـَغـَفـَدغيتا
Bhagavad-gîtâ (وهي رواية روحية
قصيرة أُدرِجَت منذ حوالى ألفي عام في سياق
ملحمة الـمهابهارتا[1]
Mahâbhârata) يعلن واحد من
هذه "التنزُّلات"، ألا وهو شري كرشنا،
إلى رفاقه البشر المتألِّمين ما يلي: كلَّما
ضعف الصلاح، وتفاقم
الشر، أتَّخذُ
جسماً. في كل
عصر أعود لإطلاق
سراح القديسين، وللقضاء
على خطيئة الخاطئ، ولترسيخ
العدل. على هذا الأساس
أُدرِج البوذا في مجمع الآلهة الهندوسي بوصفه
أفتارا[2]
وتم تبنِّي عقيدته في إطفاء الرغبة بوصفها من
تعاليم الهندوسية. وكذلك شأن مفهوم أهِمْسا
ahimsâ
(= كف الأذى عن كل حي) في الجـَيـْنية. بذلك فإن
هاتين "الزندقتين" أصلحتا الهندوسية
وأجرتا فيها دماً جديداً وعزَّزتا الـدهرما
ولم تسيئا إليه. غاية الوجود
الإنساني والهندوسية لا تني تقوِّم
الطبيعة البشرية، لا بالنظر إلى ما هي عليه
بالقوة والإمكان وحسب، بل كذلك بالنظر إلى ما
هي عليه في اللحظة الراهنة. فهي تأخذ
بالحسبان الحاجات الأولية للإنسان العادي،
كاللذة والنجاح الدنيوي – الغنى والمجد
والسلطان. إنها تعلن بهذا الصدد أن لهذه
المقاصد شرعيتها، على ألا تنسينا الاستقامة
والنزاهة والاعتدال والقناعة ومراعاة حقوق
الغير – وإلا فإنها تنقلب شراً. وهذه الخيرات
الدنيوية لا تقل مرغوبية في نظر بعض "الراشدين"
عن رغبة الأطفال في اقتناء الألعاب – دون
براءة هؤلاء! لكن في الزمان مُعِيناً أكيداً؛
وهذه الرغبات لا بد صائرة يوماً إلى البطلان،
شأنها شأن الألعاب يستغني عنها الطفل متى
كبر، إن لم يكن في غضون عمر واحد، ففي تجسُّد
مقبل. فكل إنسان، عاجلاً أم آجلاً، في حياته
الراهنة أو في تجسُّدات لاحقة، لا بد أن يجد
نفسه مضطربة قلقة، غير راضية بكل ما نالت من
مكاسب دنيوية. ويتخذ المرء حينئذٍ
لنفسه هدفاً آخر، ولنقل غاية أخرى أبعد
قليلاً من إشباع الرغبة الآنية – كالرضى الذي
تمنحه إياه خدمة مجتمعه وقريبه. وهذا الهدف،
على كونه يصنَّف بين الرغبات، فهو بلا ريب
رغبة "أنبل" وتبشِّر بنضج نفسي أكبر. لكن
المرء يكتشف رويداً رويداً أنها لا تكفيه هي
الأخرى. فما دامت هوية الإنسان الحقة ما تزال
مدفونة وغير متحققة ("غير متاجَر بوزناتها"،
بالمصطلح المسيحي)، وما دام يجوب العالم،
شأنه في ذلك شأن ملك أعمى يجوب مملكته مفتشاً
عنها، فإن عدم رضاه وقلقه لن يبارحاه. تضرب رغبة الإنسان
الأخيرة بجذورها في أن له روحاً إلهية خالدة؛ وهذه
الروح (آتما)، بما هي كيانه الحق، لن تشعر
بالرضى أبداً، بحسب الهندوسية، ما لم يبلغ
بها الإنسان غايات قصوى ثلاث: أ.
الغاية
الأولى هي الوجود اللانهائي، سَتْ Sat؛
إذ وحده الإنسان الذي يستقبل الموت الأرضي
بفرح حقيقي هو الذي استيقن أن الموت ولادة
جديدة وعبور أو تحوُّل إلى حالة جديدة من
الوجود أرقى من الحالة البشرية الجسمانية. ب.
الروح،
في المقام الثاني، تتوق إلى الوعي
اللامحدود، تشيت Chit؛ فالسرُّ يعذب
الإنسان، والجهل يتأكَّله، وغياب الفهم
يشلُّه، فيما معاينة ذاك هي ما ينعش فيه
الحياة. ت.
والروح،
ثالثاً، تفتش عن الفرح اللانهائي، آنندا
Ânanda
– عن تلك الغبطة التي تتعالى عن كل الملذات
التي يوفرها السعي الواهم إلى إشباع الشهوات
بعامة؛ الغبطة التي ترافق التحقق التام
بالأنية الحقة التي هي الروح. هذه الغايات القصوى
الثلاث، كما تؤكد الهندوسية (مع باطن كل منقول)،
لا يتم بلوغها إلا بتحقيق الاتحاد بالله
الذي ما هو إلا اتحاد مع الأنية الحقَّة أولاً
وأخيراً! اليوغا
أما الطرق إلى بلوغ
هذا الاتحاد الإلهي فهي عديدة؛ ويصح بهذا
الصدد قول المتصوفة المسلمين بأن "الطرق
إلى الله كنفوس بني آدم"! والهندوسية
تصنِّف البشر إلى أربع فئات رئيسية هي:
التأملية والعاطفية والناشطة والمجرِّبة،
فتقدِّم لكل منها فناً خاصاً – يوغا yoga – للتحقق
بالألوهة. ولما كان يندر وجود شخص يمثل لواحد
من هذه الأنماط النفسانية حصراً فإن أصناف
فنون الـيوغا تتداخل بحيث تناسب الحاجات
الداخلية لكل فرد. كلمة يوغا مشتقة
من جذر يوغ yug السنسكريتي الذي
يتضمن معاني "القَرْن" (كقَرْن الثور إلى
الثور تحت النير) و"الجمع" و، توسعاً،
"الاتحاد". واليوغا يعني بنوع خاص فناً
من فنون رياضة النفس – ذهنياً وشعورياً
وجسمانياً – يتم عن طريق مجاهدات وتمارين
وأوضاع جسمانية مختلفة؛ وذلك مؤدَّى الكلمة
في الأعم الأغلب. أما ممارِس اليوغا فهو "يوغاني"
yogin. ثمة أصناف عديدة من
اليوغا، منها ما يختص عموماً برياضة الجسم
والنفس استعداداً لمجاهدات من نوع أرقى
وأصعب، فيُعرَف عموماً باسم هاتهايوغا hatha-yoga. ولقد غالى بعضهم
في احتراف هذا اليوغا فجعله هدفاً بحدِّ ذاته
أو سبيلاً إلى التكسُّب من خلال استعراض
القدرات الخارقة التي تَحَصَّل عليها
بواسطته.[3]
غير أن كل هذه "الخوارق" المزعومة لا تمت
بصلة تُذكَر إلى "الكَرامات" (بالسنسكريتية:
سِدّهي siddhi)
والمواهب الروحية التي قد يحظى بها اليوغاني
الحقيقي من خلال مجاهداته. فالهدف الأصلي
والراجح دوماً من السيادة على الجسم ليس
استمالة الحشود بأيِّ وجه من الوجوه، بل القضاء
على بلهنيات العادة والرغبة المستحكمين
وشرودهما بما يعرقل إمكانية وصال الإنسان مع
الذات الحقة (آتما). أقل
شهرة من اليوغا السابق اليوغا غير الجسماني
حصراً. فهناك طريق "العرفان" المعروف
باسم جنانايوغا jnâna-yoga
الذي يخاطب المريدين من ذوي الاستعدادات
التأملية الرفيعة والملكات العقلية المتفتحة.
وهؤلاء يسعون إلى التواحد مع آتمن عن طريق
التفكُّر والتأمل الذي يبلغ أقصاه في
المشاهدة – وفيها يكون المتأمِّل هو موضوع
تأمُّله. يبدأ المريد بدراسة المقالات في
الإلهيات ثم بالغوص في المضامين
الميتافيزيائية للأسفار المقدسة؛ يلي ذلك
تأمُّل مطوَّل في التعليم المتلقَّى. ومتى
بلغ في تأمُّله درجة معينة من العمق حُقَّ له
أن يباشر التركيز التام على وحدة الروح
الكلِّي مع أنيَّته الحقة. وينصح له معلِّمه
المرشد (غورو guru)،
في سبيل التحقق بهذه الغاية، أن يفكِّر بنفسه
دوماً بصيغة الغائب (هو).
شري
ينترا: من أهم الرسوم الهندسية المقدسة التي
تُستعمَل ركيزة للتأمل العقلي في اليوغا
يتوجَّه طريق
المحبة، أو بهكتي يوغا bhakti-yoga، إلى الأشخاص
الذين تغلب عليهم العاطفة،[4]
ويخاطب بالتالي قطاعاً أوسع قليلاً من الناس
ويناسب البشر ذوي القدرات العقلية المحدودة
ممَّن يصعب عليهم التأمل أو الاستغراق المجرد
من الركيزة (نيربيجا سمادهي
nirbîja-samâdhi
أو
أسمبرجناتا
سمادهي
asamprajnâta-samâdhi)
الذي تبطل فيه كل ثنوية بين العالِم
والمعلوم، بين العقل والله، فيوفر لهم ركيزة
محسوسة في الصور والرموز والشعائر والأدعية و"الأوراد"
(بوجا puja)
والتعبُّد لتنزُّل إلهي أو أي تجلٍّ آخر من
تجلِّيات الحق الأسمى، يجده الأقرب منالاً
إلى ذهنه البشري.
الإله
برهما، "الأقنوم" الباري في الثالوث
الهندوسي
ومن بين الآلهة
العديدة في البانثيون الهندوسي تُعتبَر
ثلاثة منها آلهة كونية وتشكل ثالوثاً هو
الواسطة بين المبدأ وتجلِّياته، ألا وهي:
برهما Brahmâ،
الموجِد الباري، فشنو Vishnu، الحافظ
الصائن، وشيفا Shiva (أو مَهيش Mahesh)، الهادم
المدمِّر. وهذه الآلهة تشكل كما أسلفنا "الثالوث
الأعلى" (تريمورتي trimurti)؛ وتتبع معظم
المذاهب البهكتية الهندوسية أحد الإلهين
شيفا وفشنو.
فشنو
نارَيَنا مضطجعاً على ثعبان الأبدية
أنـَنـْتـَشَيـِن ذي الرؤوس السبعة
المخيِّمة على رأسه
ودفعاً لأي تهمة
محتملة بالوثنية أو بـ"الشرك" من جانب
المتديِّنين التقليديين، نسارع إلى إيراد
ابتهال شنكرا الذي يرفعه كل الكهنة في
الهياكل المكرَّسة للإلهين المذكورين، كما
ولآلهة أخرى تمثِّل، بحسب الفقه الهندوسي،
"الصفات" التي تنخلِع على المطلق عندما
يوجِد الخلقَ في عالم الزمن: أيا
ربي، اغفر ثلاث خطايا ناجمة
عن تحيُّزي ببشريَّتي: أنت في
كل مكان، لكني أعبدك هنا؛ أنت
بلا صورة، لكني أعبدك في هذه الصور؛ أنت
غنيٌّ عن كل تبريك، غير
أني أرفع إليك هذه الصلوات وهذه الأدعية. ربي،
اغفر ثلاث خطايا ناجمة
عن تحيُّزي ببشريَّتي.
رسم
تراثي هندي يمثل الإله شيفا
أما طريق العمل، أو كرمايوغا
karma-yoga، فخطابه موجَّه
إلى النشطاء العمال، مؤكِّداً لهم أن لا
حاجة لهم إلى نبذ العالم لبلوغ الحق، وأن
التغيير المطلوب في الموقف هو من رتبة معنوية.
فسواء كان العمل الذي يضطلع به المريد حرفة
يدوية متواضعة أو كان منصباً سياسياً رفيعاً،
عليه أن ينسى التفكير في نفسه وأن يزهد في
ثمار عمله وأن يصبح عديم الاكتراث لأي نجاح أو
فشل شخصيين، واضعاً نصب عينيه خدمة الحق
وإحقاقه وحسب.[5] هناك أيضاً الطريق
السرَّانية "الملكية" – راجايوغا râja-yoga
– التي يلتمسها ذوو الحاجة إلى فن أو منهاج
واضح المعالم يؤلِّف بين الطرق السابقة
جميعاً ويولي كل مركبة من مركبات الفردية
الإنسانية حقها من العناية. وهذه الطريق،
شأنها شأن يوغا العرفان، تبقى غير متيسِّرة
إلا للقلة التي تتمتع بالاستعدادات النفسية
الكافية، ولاسيما الإرادة الفولاذية.
الـتشاكرا:
المراكز الستة للطاقة الكامنة في الجسم
اللطيف التي تستهدف ممارسةُ اليوغا
تفتُّحَها التدريجي، من العَجُز إلى قمة
الرأس
وتشمل هذه الطريق
أيضاً، كما علِّم الأستاذ اليوغاني الكبير
بتنجلي Patanjali
في الـيوغاسوترا Yoga-sûtra،
فنوناً جسمانية في بعض الأحيان، بوسع أيٍّ
كان، بحسب استعداده النفساني والجسماني، أن
يتعلم بعضها، من أوضاع بدنية وتمارين تنفسية،
مما يرمي إلى تيسير الصحة الطيبة، بما هي
ضرورية للحياة الروحية والتأمل. لكن التوَّاق
اليوغاني يباشر مجاهداته عادة وهو في ريع
الصبا، ويصرف سنوات طوال في استيعاب الرياضات
والفنون. وهو يبدأ بالالتزام بخمسة نواهٍ (ياما
yama) الغرض منها استئصال
شأفة الرغبة من نفسه؛ ثم بخمسة أوامر
أخلاقية موجبة (نياما niyama) تستهدف
التخلُّق بأرفع مستويات الأخلاق الإنسانية.[6]
وغني عن القول إن هذه النواهي والأوامر
حمَّالة لعمق متدرِّج غير محدود. قد يبدو بعض التمارين
التي يؤديها اليوغاني أخرق في نظر الإنسان
الحديث الذي يعتبر أن "الوقت من ذهب"،
لكنها جميعاً تندرج في منقول وخبرة عريقين. إذ
إن جميع الفنون الجسمانية، بحسب المنقول
الهندوسي بعامة، تقود إلى ضبط النفس الذي لا
مندوحة عنه للاتحاد اللاحق مع الذات –
وبالتالي مع الحق. وتقضي السيطرة على الجسم
بمجاهدة الرغبات، جسيمها وتافهها (كالانقياد
السريع لتلبية دافع معيَّن، والتمطِّي، وحتى
الحك والتثاؤب)؛ فكل ذلك، على تفاهته
الظاهرة، خطوة لا يستهان بها نحو ضبط النفس
والذهن التام.[7] بعد أن يَرْسَخ
المتمرِّن اليوغاني في الرياضات النفسانية
والجسمانية، من أوضاع بدنية (آسنا âsanâ)، وتوقيع
للنَفَس (براناياما prânâyâma)،
وضبط للحواس (برتياهارا pratyâhâra)، فإنه يشرع في
تركيز فكره على صورة فكرية واحدة، باعتبارها
ركيزة للتأمل الذي يشتمل اصطلاحاً على مراحل
ثلاث: -
التركيز
(دهارنا dhâranâ) -
التفكُّر (دهِيانا
dhyâna) -
الاستغراق
أو المشاهدة (سمادهي samâdhi) ويتسنَّم اليوغاني
ذروة تأمُّله متى استطاع أن يتخطَّى كل إحساس
وكل فكر، متحرراً من كافة العقالات الأرضية،
مترقباً "الفتح" النهائي حيث يُعرَف آتمن
معرفة لا تشوبها ثنوية. على أن غاية الاتحاد
الصوفي هذه لا يبلغها كلُّ التواقين أو
المريدين، وإمكانية إجهاض المحاولة واردة
إبان عمر واحد، وكذلك إمكانية التقهقر روحياً
(وخصوصاً إذا لم تكن المجاهدة تتم بإشراف مرشد
حكيم وبركته)، وينطوي السلوك إليها على مخاطر
جمَّة على سلامة الجسم والنفس والذهن. لكن "الواصلين"،
أو "المحقِّقين" بعبارة أدق، يشهدون،
شأنهم شأن الصوفية في كل البلدان والأزمنة،
أن شهود الحق بالاتحاد به وَجْد لا يدانيه
وَجْد، تضمحل أمامه كل المسرَّات، أرضيِّها
وسماويِّها![8] ومن جانبنا لا
يخامرنا ريب أن الصوفي الحقيقي، بما هو
متَّحدٌ بالحق، وواحدٌ في ذاته، تُكْسِبُه
هذه الخبرة المذهلة طمأنينة وحكمة لا
تضارَعان، كما ورحمة وكرماً غير محدودين،
ومحبة لانهائية لكل ما في الوجود. فلقد قام
أحد الغربيين بزيارة لواحد من أكابر "العارفين"
(جنانِن jnânin)
في عصرنا، ألا وهو بهغفان رامانا مهارشي Bhagvan
Ramana Maharshi،
قبل وفاة هذا الأخير بغتة عام 1951 بفترة وجيزة،
فكتب في جملة ما كتب: "أياً كان المحيط الذي
قد يتفق لشري رامانا أن يحضر فيه يبدو جلياً
أنه إنسان علياني. لقد كانت نظرته الهادئة
الواثقة نظرة من أبصر الكثير وتفكَّر ملياً
في كل خبرة حتى خَلُصَ إلى يقين نهائي لا
يتزعزع. حتى الكافر كان بوسعه أن يرى أنه يملك
نوعاً من الطمأنينة الشخصية يندر وجودها حتى
في الشرق الميال بطبيعته، كما هو معلوم، إلى
التأمل." ولقد صرح واحد من تلامذة شري
رامانا، وهو أستاذ سابق في الأدب الإنكليزي:
"حسب المرء أن يدنو منه لكي يشعر بالسلام."
شري
رامانا مهارشي
أشواط
الحياة
إن بلوغ مثل هذه
الطمأنينة ليس بالطبع بالأمر الميسور.
فالحياة، في نظر الهندوسي الذَّكَر
المتمتِّع بالإرادة والاستعداد للالتزام
بالسلوك باتجاهها، تنقسم إلى أربعة أشواط: -
يأتي
أولاً شوط حياة الطالب التي تبدأ بشعيرة
"الابتداء"[9]
initiation بين سن الثامنة
والثانية عشرة، ويدوم تقليدياً اثنتي عشرة
سنة. -
ومتى تزوج الطالب
أنهى الشوط الأول من حياته ودخل شوط رب
الأسرة، متمتعاً بملذات الحس والحياة
الأسرية، ساعياً إلى النجاح وخادماً مجتمعَه
وقريبَه. -
وفي أي ساعة
يختارها بعد ولادة أول أحفاده يجوز له أن
يتخلَّى عن هذه المسرَّات وهذه المسؤوليات؛
وبعد أن يكفل لزوجه مستقبلها – اللهم إلا إذا
اختارت المضي معه كرفيقة طريق – ينسحب إلى
الغاب طالباً الكشف. -
فإذا
تكلَّلت مجاهداته بالـ"فتح"، بلغ الشوط
الرابع – والأخير – من حياته الأرضية: إنه
يصير سَنِّياسِن sannyâsin، ولياً كاملاً
زاهداً في الدنيا، رجلاً بلا مأوى، لا يملك من
متاع الدنيا إلا مئزراً يستر به عورته وقصعة
يستجدي بها قوت يومه.[10]
"إنه لا يفكر في الآتي، ولا يهتم للحاضر"،
كما جاء في أحد النصوص الهندوسية؛ فالـسَنِّياسِن
"يحيا متواحداً مع الأنية السرمدية، لا
يبصر شيئاً سواها". لا بدَّ في سياق كهذا
أن نعرِّج – ولو قليلاً – على ذكر عدد من
حكماء الهند الحديثة اطلاعاً على حيوية الروح
الهندية وتجدد تعبيراتها المتواصل. راماكرشنا
منهم شري راما كرشنا Sri
Ramakrishna
(1833-1886)، المجدِّد الروحي والحكيم المتألِّه،
الذي ولد رابع
خمسة أبناء في قرية كرمابوكور Karmapukur
الصغيرة في البنغال، على بعد حوالى مئة
كيلومتر غرب كلكتا. كان أبواه برهمنيين
بسيطين لكنهما حريصان على المحافظة على
التقوى الدينية المنقولة.[11]
لم يشغف، وهو بعدُ طفل، بالواجبات المدرسية
المملة، بل راح عوضاً عن ذلك يبدي سمات روحية
مبكرة، منها خبرات وَجْدية صاعقة،[12]
وفترات طويلة من التأمل، واستغراق سرَّاني في
القَصَص الدرامي للمنقول الملحمي الهندي. لقد
ساعدته ذاكرته المذهلة على استيعاب عدد هائل
من الأساطير؛ فراح، تساعده في ذلك موهبتُه
الفطرية في كل الفنون، يتواحد مع الأبطال
والآلهة، يحاكي ويغني أدوارهم مشغوفاً،
ولاسيما دورَيْ الإلهين شيفا وكرشنا،
ويسوِّي صورهم بالطين. لقد كان يتحلَّى، على
حد قول رومان رولان، بـ"لدونة سحرية"
يتحول بفضلها "آنياً إلى كلٍّ من الكائنات
التي كان يراها أو يحلم بها". هذه اللدونة
هي "سمة الفن والحب. فيها بانت القدرة
الرائعة التي أُنعِمَ بها على راماكرشنا، ألا
وهي عبقرية معانقة كل نفوس العالم"! وعندما بلغ الثامنة
من العمر، بعد وفاة والده بسنتين، إبان
الاحتفاء الرسمي بإدخاله في طائفة البراهمة (أوبـَنـَيـَنا
upanayana)، حيث مُنح الحبل
المقدس وصار بذلك دويجا dwîja
("مولوداً اثنتين")، صدم أقرباءه من ذوي
الطائفة العليا بقبوله علناً وجبة شعائرية
أعدَّتها امرأة من طائفة دنيا. مع أن راماكرشنا قاوم
الدراسات "الكهنوتية" التقليدية فقد ذهب
في سن السادسة عشرة إلى كلكتا لمساعدة شقيقه
الذي كان يخدم كاهناً لدى عدد من الأسر
المحلية. ولقد انزعج من الاتِّجار الفظ
والغثاثة الروحية وبوار البيئة المدنية. بيد
أنه عندما سئل شقيقُه أن يصير كاهناً في جملة
معابد كبيرة في داكشِـنـِشْوَر على مقربة من
الغانج في ضواحي كلكتا وجد راماكرشنا في
المكان بيئة جديدة ودائمة لنضجه وتعليمه
الروحيين. الجهاد
الروحي:
كاهن الأم الإلهية
بُنيَت جملة المعابد
المذكورة – وهي تضم أكثر المعابد فخامة في
الناحية – على نفقة أرملة ثرية من طائفة دنيا
تدعى راني رَسْمَني Rânî
Rasmanî،
مثالُها الروحي
الربَّةُ كالي Kalî.[13] وقد اختير
راماكرشنا للخدمة كاهناً في معبد كالي.
منذئذٍ كرَّس راماكرشنا نفسه بحماسة وقَّادة
لخدمة الإلهة، بحسب المنقول الهندي الذي
يعتبر الإلهات تجلِّيات مختلفة للطاقة
الكونية (شكتي shakti).
لقد اتقدت في نفس راماكرشنا رغبةٌ في "التحقق"
بالأم الإلهية كانت من العنف بحيث إنه كابد
سلسلة من الاختبارات الروحية أدرك من خلالها
أن "الأم" كانت تدعوه لتبليغ رسالة روحية
شاملة للهند وللإنسانية على حد سواء.
رسم
تراثي للإلهة كالي المرعبة، ربَّة الموت
والحياة
لقد فسَّر الكثيرون
سلوكه الوَجْدي "المجنون بالله"، غير
المراعي للسُّنَن الدينية، والغريب الأطوار
أحياناً، إبان الخبرات الروحية التي
يكابدها، على أنه من علامات الجنون. لكن هذا
السلوك، لدى إمعان النظر فيه، يمثِّل جانباً
من جهاده الشخصي لتحرير نفسه من النماذج
الدينية التقليدية ولتحقيق روحانية جديدة
أعمق.[14]
ويروي أحد مريديه أنه كان أيامئذٍ يرتمي على
الأرض، ويمرِّغ وجهه في التراب، باكياً
ومنادياً أمَّ الكون. لقد كان كثيراً ما يهمل
المراسم وينسى تقديم القرابين؛ أو بالعكس،
يواصل الإنشاد المقدس الساعات الطوال بعد
اختتام الصلاة ويستغرق في حالات وَجْدية من
العمق بحيث لا يتسنى له إلا أن يهمس: "أيها
الإله العليُّ! كيف لي أن أغنِّي مجدك
اللانهائي؟" كانت الدموع تنهمر من عينيه
فيسخر منه الخدم. وكان رواد الهيكل يشكون أمره
لماتهور بابو Mathur Babu، صهر راني
رَسْمَني ومدبِّر المكان؛ لكن هذا الأخير
وحماتَه التقية لم يفقدا قط إيمانهما به، إذ
شعر كلاهما، منذ اللحظة الأولى التي عرفاه
فيها، أنه سوف يكون أستاذهما الروحي ("كاشح
الظلمة"، غورو guru).
ومع ذلك لم يكن راماكرشنا يراعيهما في شيء. في عام 1859 عقد له
أهله، جرياً على عادات ذلك الزمان، على بنت
صغيرة في الخامسة اسمها ساردا ديفي موكهرجي Sâradâ
Devî Mukhergee،
سليلة أسرة برهمنية فقيرة من قرية مجاورة
لكرمابوكور. ولقد قيِّض لها أن تكرَّم بوصفها
الأم القديسة البتول؛ وبعد موت المعلم، حتى
وافاها الأجل عام 1920، واصلت دورها مع
المريدين لأن المعلِّم، كما كانت تقول، "تركـ[ـها]
على الأرض حتى [تـ]ـكشف للبشر المظهر الأمِّي
للإله!"
سارادا
ديفي، زوج راماكرشنا الروحية
النضج
الروحي
عرف راماكرشنا خبرته
الروحية الحاسمة وهو في التاسعة عشرة عندما
"تحقق" كاهناً للإلهة كالي بالأمِّ
الإلهية ونال المعرفة المباشرة بالطاقة
الكونية، سرِّ الخليقة كلها؛ إذ قاده كربُ
عدم بلوغ هذه المعرفة إلى عتبة الانتحار. على
أنه لا توجد صلة تُذكَر بين هذا الكرب الممضِّ
و"التحقق" الأعلى الذي لا يتم بلوغه إلا
بمعراج روحي متسامٍ. بعد "تحقُّقه"
بالأمِّ تلاشت بلبلتُه الشعورية والتقى بالـغورو
الأول في حياته، القديسة الراهبة
بْهـَيـْرَفي برهمني Bhairavî
Brahmanî التي أدخلتْه في
مسلك التنترا Tantra
وعاينت فيه تجسداً إلهياً. وقد أقرَّها على
رأيها أستاذان فقيهان دُعِيا لامتحانه: فإذ
لم يجدا في سلوكه ما يشير إلى أي نوع من أنواع
الاضطراب الذهني اطمأنتْ قلوبُ المؤمنين
وتقاطر الحجاج لالتماس بركته. أما أستاذه
الثاني توتا بوري Totta Puri،
الممتلئ عزماً وقوة، فقد علَّم راماكرشنا
الفيدنتا وجعله يستغرق في حالة رفيعة جداً من
الغيبة الروحية، ألا وهي الـنيرفيكالبا
سامادهي nirvikalpa-samâdhi الذي يفنى فيه
المرء عن نفسه تماماً. ولقد قيِّض له أن يبقى
مستغرقاً في هذه الحالة حوالى ستة أشهر بدون
أن يسترجع وعي العالم المتجلِّي. ولقد صحا من
هذه الحالة بالغاً أشده روحياً: لقد نال موهبة
نادرة هي الـبهافا موكها bhâva-mukha، "عتبة
الصيرورة"، التي سمحت له بالإحاطة، في آن
معاً، بالمطلق والنسبي. وإذ جمع في نفسه بين
غير المقيَّد والمقيَّد، متواحداً مع كلِّية
الوعي الكوني، تخطَّى حالة الـجيفن موكتا jîvan-mukta،
"المنعتق حياً"، السرمدية، لأنه صار
قادراً إرادياً على العودة إلى صعيد الوهم
الكوني، "لعبة برهمن": لقد فعل ذلك عند كل
خبرة ثنوية جديدة؛ إذ كان في وسعه أن يرى
برهمن "مفتوح العينين"، قائماً في آن
معاً في المبدأ وفي التجلِّي، بحيث يستطيع
التواحد مع القادمين إليه ومشاركتهم آلامهم.
راماكرشنا
لقد كان راماكرشنا
يرى الله في كل إنسان ويصرح بأن البلبلة
والألم مصدرهما كون الإنسان لا يسعى إلى
الحياة بالله. لذا كان يصلِّي لكي يأتي
المريدون إليه. لكنه لم يكن ينتزعهم من
مذاهبهم الأصلية، لأن خبرته قادته إلى
اعتبار الأديان والمذاهب الخاصة بكل أمة، على
الصعيد السرَّاني الباطن، طرقاً متساوية إلى
الغاية التي هي الله. فعندما بلغ راماكرشنا
الثامنة والعشرين شرع يدرس مختلف التعاليم
الدينية المنقولة. وقد أذهل أساتذته بقدراته
على الاستيعاب وذاكرته العجيبة وموهبته
الروحية الفطرية. وفي سن الثالثة والثلاثين
بدأ يدرس المنقول الإسلامي ودرس عقيدة البوذا
واطَّلع على الكتب المقدسة وعلى الخبرة
الروحية المسيحية،[15]
وخرج من هذه الخبرات بعقيدة وحدة الأديان في
المطلق، المتفرعة مباشرة عن وحدة الحقيقة
التي تذوَّق "نكهاتها" المتنوعة في
المنقولات التي درسها، الأمر الذي عزَّز
يقينه بدعوته الدينية العالمية. كان يجيب
سائله عن كيفية "التحقق" بالله بأنه "يجذبنا
دائماً كما يجذب المغناطيس الحديد. لكن
الحديد لا ينجذب إذا كان مغطى بالوسخ. عندما
يُزال الوسخ سرعان ما يلتصق الحديد
بالمغناطيس." في عام 1868 قام
راماكرشنا برحلة حج واسعة عبر الهند. وعلى
الرغم من التكريم الذي حظي به فقد انفطر قلبه
لفقر الجموع، فنزل ضيفاً على جماعات منبوذة
لإبراز شدة بلواها، مشدِّداً على السادة
الأغنياء أن يبذلوا جهوداً رسمية للتخفيف من
وضعهم المزري. لقد كان الإحسان في نظره هو
الاعتراف الأخوي بالألوهة في كل مخلوق. لقد
رأى في محبة الله خير وسيلة لإلغاء الطوائف:
"عشاق الله لا ينتمون لأية طائفة. فأجسامهم
وأذهانهم مطهَّرة بهذه المحبة [...]. البرهمني
الذي ليست لديه هذه المحبة ليس برهمنياً،
والمنبوذ الذي عنده هذه المحبة ليس منبوذاً."
لقد ظل
بمحبته دوماً
قريباً من الناس، ولاسيما فقراءهم، بسيطاً في
مأكله وملبسه، مليئاً بالدفء الحاني، بريئاً
من كل ادِّعاء فكري أو عقيدة دينية متحجرة.
راماكرشنا
مستغرقاً في جلسة يوغية
الرسالة
العالمية
لقد صار لراماكرشنا
مريدون كثيرون من كل الفئات والطوائف. فهو لم
يكن مجرد معلِّم عظيم؛ فقد اعتبره مريدوه
تجسيداً للمنبع المقدس للمنقول الديني
الهندي وللمثل الإنسانية الشاملة التي يكدح
كل البشر إلى بلوغها. ولقد اقترنت حيويتُه
وجاذبيتُه الروحيتان بحسٍّ فكاهي حادٍّ –
غالباً ما يستهدف نفسَه أو مريديه عندما تكون
مخاطر الكِبَر والاغترار بالنفس وشيكة
الاستفحال. كان واحد من أهم
الأحداث إبان العقد الأخير من حياته اهتداء
تلميذه فيفيكانندا الذي قُيِّض له أن ينظِّم
ويبشِّر بتعاليم راماكرشنا عبر الهند
وأوروبا والولايات المتحدة. ففي عام 1886،
عندما شعر راماكرشنا بدنوِّ أجله عيَّن
فيفيكانندا وريثه الروحي وأوكل إليه "أمر
كل إخوته". وقبل وفاته ببضعة شهور جمع من
حوله حلقة من مريديه المقربين ونقل إليهم
قوته الروحية ("بركته") واستغرق معهم في
حالة روحية رفيعة عاتقاً إياهم إلى الأبد من
الألم والخوف. لا تظهر تعاليم
راماكرشنا في شكل منهجي على الإطلاق. فهو لم
يدرس في الكتب ولم يكتب شيئاً قط، بل كان
يستجوب القادمين إليه والبالغين درجات
مختلفة من المعرفة؛ فكان بوسعه حينئذٍ أن
ينقل هذه نقلاً مبسطاً يلائم "وِسْع" كل
من محدِّثيه. لقد دوَّن مريدوه أحاديثه فقط في
سياق قوة شخصيته الروحية؛ وبالتالي فإن لهذه
الأحاديث الغنية بالأمثال والقصص صفة
الإنجيل (= البشارة) – رسالة خلاص متمركزة حول
مثال حياته الروحي. ولقد
رفض بتاتاً كل محاولات بعض التلاميذ تأليهه؛
إنما اقترح بالحري أن يكون تجسيدُه للكمونات
الروحية للإنسان بمثابة المرشد والإلهام
للآخرين. لقد تحلَّى راماكرشنا بنوع خاص من
القدرة على اجتذاب البسطاء–العظماء قلما
جاراه فيها أحد في التاريخ الروحي المعاصر،
اتَّسمت بمحبته الصافية للبشر أجمعين وحماسه
الطفولي للروحانية بكل صورها. رسالتُه تتلخص
في عتق البشر بأن أيقظ فيهم معرفة الله ومحبته
وقوته، وتوحيدهم بالحضِّ على تجاوز الفواصل
الواهية التي تفرق فيما بينهم. سوامي
فيفيكانندا
ومنهم فيفيكانندا
(1863-1902)، المجدِّد الروحي والمبشِّر بالإنجيل
العالمي، الذي ولد في كلكتا في أسرة برهمنية
عريقة. كان اسمه نارِندرانات ("ابن رب
الإنسان") دَتَّا Narendra Nath Datta. كان والده
محامياً لامعاً، وأمه امرأة شديدة التقوى؛
فكان لشخصي الأبوين تأثير واضح على الصبى
نارِندرا وصورته عن نفسه. فقد كان صبياً محباً
للَّهو[16]
أظهر أيضاً مقدرات عقلية واعدة في الإنسانيات
والموسيقى والعلوم واللغات في المدرسة
الثانوية والجامعة. لقد نشأ على قيم تربوية
غربية كان من شأنها أن تُعِدَّه لتبوأ منصب
رفيع في الإدارة البريطانية العامة أو الخاصة.
لكنه في الخامسة عشرة من عمره طرأت عليه خبرةُ
وَجْد روحي صاعقة عززت شعوره الكامن بدعوة
روحية – على كونه مجاهراً بالشك في كل
الممارسات الدينية التقليدية. انضم إلى حركة
الإصلاح الهندوسي الحرة برهمو ساماج Brahmo
Samaj، "جمعية
الله" التي ضمت نخبة من المثقفين (ومنهم
طاغور)، همُّهم التباحث حول مستقبل الدين
وإصلاح الهندوسية. ولقد لمع نجم نارِندرا
الشاب فيها نظراً لفصاحته الديالكتيكية؛ لكن
أشواقه الروحية الأعمق كانت ما تزال غير
مَرضِيَّة. كان في السابعة
والعشرين عندما سمع براماكرشنا ومضى للقائه
في دكشنشوَر. كان اللقاء بين الحكيم "الأمِّي"
(بمعنى المتعبِّد للأم الكبرى في صورة كالي)
المطوَّق بالمريدين من كل المذاهب وبين الشاب
الساخر المعتد بنفسه من غريب الأحداث: لا بدَّ
يومئذٍ أن "شيئاً ما" حدث لأن كلا
الرجلين دأب منذئذٍ على القول إنهما "تعارفا"!
لقد كشف راماكرشنا على الفور المواهب الروحية
الهائلة الكامنة في نارِن وكسب قلبه بعد
سجالات فكرية طويلة حطَّم فيها أسوار فكره
المغرور. وكانت زيارات متكررة للحكيم الكبير
خسر فيها نارِن شيئاً فشيئاً كل دفاعاته، حتى
إنه عزم أن يقيم بالقرب من أستاذه ويحيا حياة
المريد، لكن بدون أن يحسم أمره. وفي العام
التالي (1882) مات والده ووقعت أسرة دتَّا في عسر
مادي شديد. أصابت نارِن بلبلة رهيبة، واختبر
غرور الحياة الدنيا (تخلَّى عنه كل أصحابه بعد
أن افتقر)، ووجد أخيراً الشجاعة على القيام
بالخطوة الحاسمة في حياته فانضم إلى جماعة
المريدين. الزاهد
مريد راماكرشنا
لقد كان نارِندرا
عنيفاً بطبعه؛ فأراد أن يمضي على الفور حتى
أقصى التجربة: جعل نفسه سنياسِن في أشرما
راماكرشنا وألحف على أستاذه أن يعطيه أعلى
درجات المعرفة. كان راماكرشنا من جانبه على
يقين من إخلاص نارِِن واستعداده فأجاز له أن
يبلغ سريعاً أعلى درجات الاستغراق الروحي (سمادهي)
في المطلق التي لا يبلغها المريد عادة إلا بعد
سنوات من الجهاد والرياضة. فلعل راماكرشنا
أحس بدنوِّ أجله (مات بعد سنتين من دخول
نارِندرا إلى الـأشرم) وأراد أن يَسِمَ
مريده الحبيب بخاتم سلطانه الروحي في أسرع
وقت ممكن. بعد موت راماكرشنا
عام 1886 تولَّى نارِن قيادة رهبنة راماكرشنا،
مُعِداً الرهبان روحياً وعقيدياً لعمل
تبشيري واسع شرع فيه هو نفسه عبر الهند –
كارزاً في الفرادة الروحية للحضارة الهندية
وفي الحاجة الماسة إلى التجديد والإصلاح في
الأوضاع الاجتماعية، ولاسيما تخفيف وطأة
الفقر عن كاهل جموع الهند والقضاء على
التمييز الطائفي. لقد ظهرت فيه مواهبه
التنظيمية والخطابية، فانتظمت جماعة
المريدين تحت قيادته وعمَّمت تأثيرها. في عام 1892، وهو في
التاسعة والعشرين، ركب البحر في رحلة حول
العالم، واتخذ بهذه المناسبة رسمياً اسمه
الروحي: فيفيكانندا، "الواجِد غبطته (آنندا
ânanda)
في التمييز (فيفيكا viveka)"، وهو اسم
يختصر مسلك الـفيدنتا الروحي أحسن اختصار.
من اليابان مضى إلى الولايات المتحدة حيث كسب
له صيتُه وألمعيَّتُه تعيينه ممثلاً للهند في
برلمان الأديان المنعقد في شيكاغو عام 1893.
سوامي
فيفيكانندا
قاد النجاح الذي لقيه
فيفيكانندا هناك إلى قيامه بجولة محاضرات
واسعة في بوسطن ومدن أمريكية أخرى، فكان –
بعد الثيوصوفيين – أول من كسب للهندوسية
احتراماً عميقاً في نفوس الأمريكيين
المتنوِّرين. ولقد أكَّد على أهمية الروحانية
الهندية والتقدم المادي للغرب – كلاهما، في
نظره، كان في حاجة إلى الآخر. وفي بوسطن وجد
الشيء الكثير مما تشترك به النظرة الشرقية
إلى الوجود مع فلسفة الترانسندنتاليين (رالف
و. إمرسون، هنري د. ثورو، وأتباعهما). وبعد
جولة في إنكلترا، حيث وجد مستمعين مدركين
لأهمية الهند الروحية، صار بعضهم مريديه،[17]
ودول أوروبية أخرى (وبخاصة ألمانيا)، عاد
فيفيكانندا إلى الولايات المتحدة، مؤسِّساً
"جمعية الفيدنتا" في نيويورك عام 1896. وقد
تركت محاضراته في فلسفة الـفيدنتا والـيوغا
أثراً عميقاً في وليم جيمس وجوسيا رويس
وأعضاء آخرين في كلية هرفرد. عاد فيفيكانندا
بعدئذٍ إلى الهند بعد غياب أربع سنوات حيث
استُقبِل استقبال الفاتحين. لقد ساعده الصيت
الذي أحرزه في الغرب على إلقاء المحاضرات
وعلى التعرف إلى مريدين جدد وعلى جمع المال
الضروري لتأسيس "أديرة" (مَتْ math)
في مدن هندية عديدة وللنهوض بالنشاطات
الإصلاحية. بذلك أسس نظاماً رهبانياً،
رتبياً، له قواعد سلوكه وآبائه (سوامي swami = "معلِّم")،
مستفيداً من طريقة تنظيم الرهبنات المسيحية.
وقد أسَّس، علاوة على ذلك، "إرسالية
راماكرشنا" The Râmakrishna Mission
المكرَّسة لنشر رسالة المؤسِّس، سواء في
الهند أو في خارجها. وفي هذا جِدَّة لم تعرفها
شبه القارة الهندية: فلئن انتشرت الهندوسية
في الهند الصينية في القرون الميلادية الأولى
لم يصر الأمر عيانياً فعلاً، ولاسيما أن
الشريعة الهندوسية كانت، نظرياً، تحرِّم
السفر إلى الخارج تحت طائلة الحرمان. من هنا
أجرى عمل إرسالية راماكرشنا في الهندوسية
دماً جديداً وصار "أجانب" كثيرون
يترددون على مقراتها في أوروبا وأمريكا. وفيما بدا على
فيفيكانندا أنه لا يعرف الكلل سافر من جديد
إلى الولايات المتحدة عام 1889 حيث أسَّس جماعة
رهبانية، الـ"شنتي آشرم" Shantî
Âshram
("دير السلام")، على أرض موهوبة بالقرب من
سان فرنسسكو. وفي عام 1900 حضر في باريس مؤتمر
تاريخ الأديان، متكلِّماً مطولاً على تاريخ
الهند الديني والثقافي. وقد عاد إلى الهند في
كانون الأول من العام نفسه، وقد اعتلَّت صحته
كثيراً من جراء نشاطاته المنهِكة (كان مصاباً
بداء السكري). وقد توفي وهو في التاسعة
والثلاثين، وإن يكن نشاطه الكثيف قد ترك
انطباعاً بأنه عاش أكثر من ذلك بكثير. فإلى
جانب عمله التنظيمي والتوجيهي كمعلِّم روحي،
كان قد باشر بناء صرح فكري مرتبط مباشرة بهذا
العمل، بثَّه بسخاء في محاوراته ومحاضراته.
وهذا الصرح مخصص لعرض أسُس الـفيدنتا
ولتقديم النصح في ممارسة مختلف طرق اليوغا؛
وهو فيه مخلص لروح تعاليم راماكرشنا، مع
إضفاء صبغة عقلية وديالكتيكية رفيعة على
تعليم شفهي كان عند المعلِّم عملياً أكثر منه
نظرياً. بيد أن الأسس هي هي: التأليف الديني (والفلسفي
عند فيفيكانندا) القائم على الخبرة الروحية
المباشرة؛ التشديد على الرياضات النفسية
البدنية (يوغا) ابتغاء "التحقق"
بالمطلق؛ وأخيراً النكهة "التعبدية" (بهكتي)
الواضحة المفضلة على الطرق الأخرى لبلوغ
الغاية السامية (الاتحاد مع برهمن بواسطة
اللقاء الصوفي مع الله أو الأم). إن عمل
فيفيكانندا بهذه المثابة يشكل واحدة من أهم
الشهادات على نهضة الهندوسية في نهاية القرن
التاسع عشر، ورسالته اليوم تتواصل عالمياً من
خلال العديد من التنظيمات التي أسَّسها. شري
أوروبندو
ومنهم أيضاً
اليوغاني والفيلسوف والشاعر الكبير أوروبندو
غهوسِّه Aurobindo Ghose
الذي انصرف، بعد اطلاع واسع على ثقافة الغرب
وحياة سياسية نشطة تستهدف إجلاء الإنكليز من
الهند، إلى دراسة عميقة للأبعاد الروحية
المنقولة للحياة الثقافية والدينية للهند. تأليف
بين ثقافتين
ولد شري أوروبندو في
كلكتا في 15 آب 1872، ثالث أبناء د. كرشنادهن
غهوسِّه Krishnadhan Ghose، الطبيب
البنغالي المعجب أشد الإعجاب بالثقافة
البريطانية، فحمل الصبي اسمين: الأول بنغالي
هو أوروبندو (اللفظ البنغالي للكلمة
السنسكريتية Aravinda
التي تعني "لوتس")؛ والثاني إنكليزي هو
أكرويد. تلقَّى، شأنه شأن شقيقيه، تربية
إنكليزية محضة، مع أن جدَّه كاليبراساد غهوسِّه
Kaliprasad
Ghose ظل
على وفائه للثقافة الهندية. في عام 1879 عُهِد
بالأشقاء الثلاثة (ولد بعده للأسرة بنتٌ وصبي)
إلى أسرة في مانشستر بدأ في كنفها يتعلم
اللاتينية. وفي عام 1885 دخل مدرسة القديس بولس
في لندن، حيث درس بصفة خاصة الإغريقية وتاريخ
أوروبا وعدة لغات أوروبية ونمَّى موهبته
الشعرية. ثم ما لبث عام 1889 أن سجَّل نفسه في
كنغز كوليدج في كمبردج وانتسب إلى جمعية
للطلاب الهنود، متخلياً بعيدئذٍ عن اسمه
الإنكليزي. لقد كان والده يُعِدُّه للخدمة
المدنية الهندية موظفاً؛ لكنه أخفق في امتحان
ركوب الخيل؛ كما أنه كان في الواقع يبدي مشاعر
قومية لا تتوافق مع تينك الخدمة. تنبَّه إلى مواهبه
جيمس س. كوتُّن، شقيق معاون حاكم البنغال
الأسبق، ومهاراجا بارودا، فغادر إنكلترا عام
1893 ودخل في خدمة ولاية بارودا. وهناك سرعان ما
تعاون سراً مع هيئة تحرير مجلة هندوبراكاش
Induprakash ("نور الهند")
ذات الاتجاه القومي. كان يرى تقصيراً في نشاط
"مؤتمر عموم الهند" (تأسَّس عام 1885) الذي
كان منذ بداياته يسعى إلى إلهام الإدارة
الإنكليزية إصلاحاتٍ نافعة للبلاد. من هنا
فقد رأى ضرورة تجديد ثقافة الأمة الهندية
وتراثها الروحي. ومنذئذٍ عكف على دراسة
المنقولات السنسكريتية والبنغالية الكبرى
المستبعَدة من دراساته السابقة. لم يجعله هذا
المسعى يتنكَّر لمكتسباته من الثقافة
الأوروبية، بل كرَّس فكره للبحث عن تأليف
أعلى يمكن لخير ما في الثقافتين أن يشكل
عنصراً فيه، ومن شأن العنصر الهندي فيه أن
يردَّ للهند وعيها الذاتي وعزَّتها. ناضل سياسياً في
التنظيمات السرية الناشطة من أجل الاستقلال،
وبخاصة في جمعيات موطنه البنغال، غير مستنكف،
على خلاف مع غاندي، من اللجوء إلى العنف عند
الضرورة. وبعد حركة الاستنكار الكبرى التي
نجمت عن تقسيم البنغال عام 1905 قام أوروبندو
بجولات سياسية فيها، وترأس إدارة الجامعة
القومية البنغالية، وشارك في تحرير جريدة باندي
ماتارَم Bande
Mâtâram
("حَيِّ على الأم"... التي هي الوطن والنفس)
التي سُمِّيَت كذلك اقتباساً من أول كلمتين
من نشيد كتبه الشاعر والمفكر القومي بنكيم
تشاندر تشاترجي Bankim Chandra Chatterjî
كان أضحى نشيد البنغاليين القومي. في عام 1907
تعرض أوروبندو للملاحقة، مما اضطره إلى ترك
"جامعته". في تلك الأثناء أيضاً عانى
مؤتمر عموم الهند من أزمة حادة. وقد اعتُبِر
أوروبندو آنذاك محسوباً على الجناح المتطرف
إلى جانب الماراثي تيلاك. يعود
إلى تلك الفترة بدء ممارسته العملية للرياضات
اليوغية التي زوَّدته برباطة الجأش
والطمأنينة الداخلية. وفي عام 1908، اتُّهِم
بالتخطيط لنشاطات إرهابية واعتُقِل. ولقد
تعمَّق في هذه الاهتمامات
في فترة السنة
التي قضاها في السجن بين المجرمين والتي
انقطع في أثنائها إلى ممارسة اليوغا والقراءة
والعمل الأدبي والتأمل في الـفيدا والـأوبنشاد
والـبهغفدغيتا. هكذا حوَّلت الحكمة
الهندية الخالدة الشاب "الإنكليزي"
الملحد، المؤمن بالحداثة، إلى عاشق لله، الله
بذاته في ذاته، فصار يأتمر بأمره، ليس بواسطة
رؤى، لكن عبر الشعور بحضوره في كلِّ شيء
وبقوَّته في دخيلة نفسه. في عام 1910، إذ تعرَّض
للاعتقال مرة أخرى، ذهب خُلسة إلى
تشاندرناغور (الفرنسية آنذاك)، ومنها في قارب
إلى مستوطنة بونديشيري الفرنسية حيث استقر
نهائياً. هناك تخلَّى جهراً عن كل نشاط سياسي
مباشر، وحتى عام 1914 عن كل نشاط علني ونشر، حيث
أسَّس معتزَلاً كرَّسه لتنمية تعاليمه
الروحية ونشرها، مع بقائه ساهراً على الشؤون
السياسية للهند "من بعيد". وبعد فترة
انضم إليه زوجه وعدد من مريديه وأصدقائه. وفي
عام 1914 أسَّس مع صديقه بول ريشار وحلقة
صغيرة من المريدين مجلة آريا Arya
(التي أصبحت لسان
حال تعاليمه الروحية والفلسفية)
وباشر نشر مؤلفاته. لقد استطاع إبان
تلك السنوات أن يؤلِّف بين الخبرات الروحية
للماضي ويحقق ما كتب عنه فيما بعد في تأليف
اليوغا: "[...] لن يكون تلميذ اليوغا راضياً
ما دام لم يضم إلى تصوره الخاص جميع الأسماء
والصور الأخرى للألوهة [...] ما دام لم يلحم
جميع التعاليم في تناغم الحكمة الأزلية."
شري
أوروبندو شاباً في الفترة التي أسَّس فيها
معتزَله الروحي
وقد ترجمت كتاباته
إلى الفرنسية السيدة ريشار (ميرا
ألفاسا) التي ما لبثت أن
غادرت بوديشيري، لتعود وتستقر فيها عام 1920 وتصبح شريكة شري
أوروبندو ورفيقته الروحية في عمله بتنظيمها جماعة
المريدين في الآشرم، وتُعرَف منذ ذاك بلقب
"الأم". واعتباراً من 1926 تسلَّمت "الأم"
الإدارة الفعلية للآشرم، فيما قرَّر
أوروبندو أن يعتزل العالم في خلوة دائمة، لا
يقطعها كل عام إلا عدد محدود من الظهورات
العلنية (درشن darshan)
في مناسبات احتفائية خاصة.
"الأم":
رفيقة أوروبندو الروحية
ولدى
وفاته في بونديشيري في 5 كانون الأول 1950 – تلك
الوفاة التي لم يصدِّقها مريدوه والتي لا
تستبعد في نظرهم استمرار حضوره الروحي بينهم
– دُفِن في باحة في البناء المركزي للآشرم في
مقام (سمادهي samâdhi)
يؤمُّه الزوار حتى اليوم للتبرُّك.
شري
أوروبندو قبيل وفاته
فكره
"الفلسفي": الحقيقة الإلهية كامنة في
الذات الإنسانية
تهيمن
فكرة "التأليف" على رؤيا شري أوروبندو
الفلسفية برمَّتها، حيث تتلاقى الاختبارات
الجزئية للحقيقة كافة، كما وعلى إلهامه
الشعري وعلى شروحه على النصوص الخالدة للحكمة
الهندية. هو ذا يقول: [...] ثمة حقيقة واحدة،
هي حقيقة الوجود بأسره، أعظم وأكثر سرمدية من
جميع تشكُّلاتها وتجلِّياتها؛ إيجاد هذه
الحقيقة والحياة فيها، وتحقيق أكمل تجلٍّ
وتشكُّل ممكن بها، هو سرُّ الكمال، سواء كان
ذا كيان فردي أو مشترك. هذه الحقيقة موجودة في
باطن كل شيء، وتمنح كل شيء تشكُّلاته وقوة
كيانه وقيمة وجوده. إن المقبوس السابق من
كتاب الحياة الإلهية لأوروبندو يلخِّص
إلى حد ما حكمته النظرية. لقد استفاد من
الثقافة والعلم الأوروبيين مفهومَ التطور
البيولوجي، ومن الحكمة الهندية الأنطولوجيا
والإلهيات. وهذه تقول بوحدة الوجود، أو
كلِّية الوعي الذي هو الأرضية المشتركة لكل
الوقائع المادية والنفسانية لعالم الظواهر
أو العالم البشري. فـ"التطور الروحي"، أو
تطور الوعي هو الإطار المركزي لفهم فكر
أوروبندو. وإن مصطلح وعي مصطلح غني
ومعقَّد عنده. فالوعي، في الأونطولوجيا
الأوروبندية، محايث للعالم، مبطون في كل
الأشياء، يشارك في مراتب الوجود المختلفة
بطرق مختلفة، في المادة الجامدة ظاهرياً كما
في الحياة النباتية والحيوانية والإنسانية
والإنسانية الفائقة – وهو يتعالى عليها
جميعاً في الوقت نفسه. إن sachchidânanda – حرفياً، أعلى
درجات "الوجود والوعي والغبطة" – يُعرَف
أيضاً بالمطلق. وهذا المطلق هو "حقيقة
الحقائق"[18]
التي تحيط بكل الحقائق الجزئية وتفصح عن
نفسها بصورة خاصة عبر العقل الإنساني، وينبغي
لها أن تفصح عن نفسها أبهى فأبهى بتطور هذا
العقل تصاعدياً.[19] إذاً فالوعي، بحسب
أوروبندو، حاضر في الإنسان، وبالتالي، ناشط
فيه من خلال مراتبه الذهنية. فالذهن الفائق Supermind يتوسَّط بين سَتشتشيدانندا
وتعددية العالم. والذهن الأرفع Overmind
ينوب مناب الذهن الفائق. أما الذهن الكشفي Intuitive
Mind فهو
نوع من الوعي القلبي يميِّز الحقيقة إبان
اللوامح الطارئة، وليس في الإحاطة الشاملة.
الذهن المتنوِّر Illumined Mind
يبلِّغ الوعي بالرؤيا، فيما يبلِّغه الذهن
الأعلى Higher
Mind من
خلال الفكر التصوري. والذهن عموماً يستدمج
الواقع عبر المدرَكات المعرفية والعقلية
والذهنية، وليس من خلال الرؤيا المباشرة، وإن
يكن الذهن مفتوحاً كذلك على الدرجات العليا
للوعي، من حيث إنه
موجَّه أساساً
نحو الذهن الفائق الذي يشترك فيه بالاشتقاق.
والـبسيخي Psyche هي الشكل الواعي
من النفس الذي يجعل التطور من الجهل إلى النور
ممكناً. الحياة هي الطاقة الكونية التي
تُستقبَل الألوهة من خلالها فتتجلَّى.
والمادة، على كونها المستوى الأدنى في
تراتبية أوروبندو في تجلِّي الوعي، فهي غير
قابلة للاختزال إلى مجرد الجوهر المادي،
لكنها تعبير عن سَتشتشيدانندا في صورة
أكثف. الألوهة إذن، بحسب
أوروبندو، فاعلة في مراتب الوجود كافة عبر
تطور صاعد في الطبيعة يرتقي من الحجر إلى
النبات، من النبات إلى الحيوان، ومن الحيوان
إلى الإنسان، حيث تفصح عن نفسها في وعيه،
وينبغي أن تفصح عن نفسها بامتلاء أعظم مع
تنامي هذا الوعي وتطوره. فلما كان الإنسان في
الوقت الحاضر يبدو وكأنه المدماك الأخير على
هرم التطور الصاعد فإنه يعتبر نفسه النقطة
النهائية لهذا التطور، متوهِّماً استحالة أن
يوجد ما يعلو عليه على مستوى الكرة الأرضية.
إنه مخطئ في ذلك لأنه، في طبيعته المادية
بمجملها، ما يزال حيواناً – حيواناً مفكراً
وناطقاً، إنما حيوان في عاداته وغرائزه
الجسمانية. من الواضح، والحالة هذه (إذا
سلَّمنا أن التطور سيرورة متواصلة لا نهاية
لها)، أن الطبيعة لا يمكن أن تكتفي بنتيجة
ناقصة كهذه، وهي، بالتالي، لن تألو جهداً في
تكوين كائن يكون من الإنسان في المستقبل ما هو
الإنسان اليوم من الحيوان – كائن سيكون
بشرياً من الخارج، لكن وعيه سيرتقي عالياً
فوق الذهن المحدود وعبوديته للوهم، مايا.[20] إن النظرة التراتبية
إلى الوعي أو الروح يجب أن تُرى أيضاً من
منظور سيرورة يشاهَد فيها العليُّ بوصفه
كائناً وصائراً إلى التجلِّي على كل مستويات
الوجود. إن الوعي يتحرر من خلال قانون داخلي
يوجِّه التطور. ويشاهَد التطور الروحي كسلسلة
من التصاعدات من الوجود المادي، الجسماني،
صعوداً حتى الوجود الذهني الفائق supramental existence، نتمكن من
خلالها من بلوغ كياننا الحق وتحقُّقنا. اليوغا وسيلة يمكن
بها للدفع التطوري أن يستعين بالجهد الإنساني.
ففي حين ينحو التطور نحواً بطيئاً غير مباشر،
يعمل اليوغا عملاً سريعاً ومباشراً. التطور
ينشد الألوهة من خلال الطبيعة، فيما اليوغا
يستمسك بالألوهة بوصفها متسامية على الطبيعة. إن الغاية القصوى
للوجود الأرضي للإنسان هي التحقق بالوعي
الكلِّي، ضمن الشروط الخاصة بكل فرد. من هنا
ليس ثمة، بنظر أوروبندو، عقيدة دينية أو
فلسفية عالمية ينبغي للإنسان أن يكون عبداً
لها. لقد كان همُّ أوروبندو الأول "جعل
الحقيقة فاعلة في النفس البشرية". وفي سبيل
هذه الغاية وضع أسس "يوغا متكامل" integral yoga مرن (بمعنى
أنه يلائم خصوصية كل فرد)، غير مصمَّم
للزاهدين في الدنيا، بل يستهدف تحويل
الحياة البشرية الأرضية "ههنا في الفرد
والمجتمع" بعمل "متكامل" على الذات.
وهو يدعى كذلك لأنه يسعى إلى استدماج زبدة
الطرق القديمة وسيروراتها، مؤلِّفاً بين
مناهجها وثمارها في منظومة واحدة؛ وهو "متكامل"
أيضاً بمقدار ما يصبو إلى تحول تام للوعي
والطبيعة، ليس للفرد وحسب بل للإنسانية ككل
وللكوسموس بأسره. وعلى غير بعض طرق
اليوغا في الماضي، لا ينشد اليوغا المتكامل
الخلاص من دورة الولادة والموت، بل ينشد
إطلاق الطاقات الكامنة في الإنسان من عقالها[21]
بما يحوِّل الحياة والوجود بأسره، بالألوهة،
للألوهة، ومن خلال الألوهة. العروج إلى
الألوهة هو محل التشديد في غالبية طرق اليوغا
المتَّبعة، بينما العروج إلى الألوهة ليس في
اليوغا المتكامل إلا الدرجة الأولى، من حيث
إن الغاية الحقيقية هي "تنزيل" الوعي
الجديد الذي تم بلوغه بواسطة العروج
واستعماله لـ"رَوْحَنَة" العالم. على
المرء، بحسب شري أوروبندو، أن ينفتح على
الوعي الإلهي "الذهني الأرفع" supremental
بما يصنع منه إنساناً فائقاً قادراً على
النهوض بنظام جديد للحياة في العالم،
يحوِّل المؤسَّسات البشرية المحتضرة إلى "أشكال
حرَّة" من القوة والمحبة والعدالة. فكان
التشديد في تعاليمه على "رَوْحَنَة"
عالم الظواهر والنشاط الإنساني ككل، بواسطة
نشوء نخبة روحانية منظَّمة تمتد لتلامس
البشرية بأسرها، شأنها شأن الخميرة في العجين.[22]
ولقد وضع شري أوروبندو أسس عقيدته في مؤلفات
رائعة ما تزال حتى اليوم مصدر إلهام لمفكرين
كثيرين في مجالات الفلسفة والتاريخ واليوغا
والخبرة الروحية إجمالاً.[23] نظام
"الطوائف"
ثمة فارق لا يستهان
به بين التعبير السامي الذي يبلغه "الدين"
في حياة اليوغانيين الحكماء الحقيقيين من
جهة، وبين التعبير عنه في نظام "الطوائف"[24]
السائد حتى الآن. وطوائف المجتمع الهندوسي،
بحسب المنقول الفيداوي، أربع؛ ونجد في الـبوروشا
شوكتا Purusha
Shukta وصفاً لها
بوصفها منبثقة من جسم الإله الخالق برهما
وفقاً لترتيب نازل، بحيث ولد البراهمة من رأس
الإله، فاختصوا بالمعرفة والكهانة؛ وولد الـكشتريا
من ذراعيه، فصاروا رجال البأس والقوة من
النبلاء، حكاماً ومحاربين؛ وولد الـفَيْشيا
vaishya من فخذيه،
فانفردوا بدعم المجتمع بالإنتاج الزراعي
والتجارة وبعض الحرف؛ وولد الـشودرا shudra أخيراً من قدميه،
فعملوا على خدمة المجتمع واختصوا بحرف أخرى.
ومن ثَمَّ فإن هذه الطوائف الأربع تنقسم إلى
آلاف الطوائف الفرعية، لكل منها قواعده
ومنزلته وتقاليده. وتحرِّم قواعد النظام
تحريماً شديداً عقد أي قران أو صلة اجتماعية
خارج الطائفة. وقد بلغ الانحدار بالنظام
الطائفي إلى اعتبار ملايين الناس خارج
النظام،[25]
وهم "المنبوذون" paria
الذين قد يدنِّس ظلُّهم هندوسياً طائفياً
متشدِّداً!
شري
دايانندا سرسفتي: من الفقهاء المتشدِّدين
القيِّمين حالياً على التراث الروحي المنقول
للفيدنتا
مما لا ريب فيه أن
نظام الطوائف أسهم في تقسيم البلاد بعد غياب
روحه عنه وانحطاطه. ومن هنا الجهود الهائلة
التي بذلها غاندي للتخفيف من مساوئه.[26]
ولئن كان مثل هذا النظام يصدمنا اليوم ويحزُّ
في نفسنا فقد كان أصلاً ينطوي على معنى عميق.
وهو، على تقهقره وانحداره، لم يخلُ يوماً من
المعنى ولم يكن قط بالقسوة التي يتصوَّرها
بعضُهم. فحتى قبل أن يلغي دستور الهند مفهوم
النبذ الاجتماعي عام 1950 لم يكن المنبوذون
عبيداً أو أقناناً كما قد يتبادر إلى الذهن.
فمَن كان من هؤلاء يتخلَّى عن متاع الدنيا
تقرُّباً إلى الحقِّ كان يُجَلُّ ويُكرَّم
بمثل ما كان يحظى به أي سَنِّياسِن،
باعتباره يحتل منزلة مستعلية على الطوائف
كلها. وكانت الطوائف العليا في الهرم
الاجتماعي تضطلع بمسؤوليات أعظم، وكانت
الجريمة عينها يعاقَب عليها أبناءُ الطوائف
العليا بأقسى مما يُعاقَب عليها أبناءُ طائفة
أدنى أو المنبوذون. ولقد كان يُترَك لكل طائفة
أصلية أو فرعية أن تسنَّ قواعدها السلوكية
الخاصة ويُسمَح لكلٍّ منها أن يحدد مجال
نشاطه الذي يستقل به كل الاستقلال. إنها، بوجه
من الوجوه، "جمهورية" أفلاطون مطبَّقة!
ومثله كمثل النظام الإقطاعي في العصر الوسيط
الأوروبي، كان نظام الطوائف ييسِّر بناء
مجتمع متماسك ومستقر يستتب فيه الـدهرما؛
لكنه، مثل الإقطاع أيضاً، يشجع لدى انحطاطه
على جمود المجتمع في عطالة شالَّة. واليوم،
وقد انهارت الأسس المنقولة التي يرتكز عليها،
وغابت عنه الروح التي كانت تحرِّكه، وتعددت
الأديان والملل في الهند، لم يعد من مبرِّر
لبقائه على صورته الأولى. ذلك أن إكراه امرئ
على المواظبة في موقع أو مهنة ولد فيها بات
اليوم يعرقل تفتُّح مواهبه؛ وهو، إذ يعزل
الهنود بعضهم عن بعض، أمسى كثيراً ما يؤخر
النهوض بالمجتمع اجتماعياً وثقافياً. بيد أن
عموم رجال السياسة والمفكرين، وملايين
الهندوس من ورائهم، ما زالوا يتشبثون بنظام
الطوائف وبدينهم إجمالاً بصورته التقليدية.
ويؤسفنا القول إن باطن الهندوسية –
الميتافيزياء وطرق التحقُّق الروحي – قد
انحسر إلى حد كبير وأضحى صعب المنال للغاية.
شيفا
الراقص: من رموز حيوية المنقول الروحي للهند
خاتمة
كذا تتواصل في الهند
تجربة من أعظم التجارب الروحية التي خاضتها
الإنسانية ودوَّنها تاريخ الإنسان. فإذا نجحت
الهند فيها في الحصول، بدرجة معقولة، على
الازدهار المادي وتساوي الفرص للجميع، كل
بحسب مواهبه وكفاءاته الحقيقية، وذلك مع صون
كنوز منقولها الروحي – بما ييسِّر للغرب الذي
أضاع تراثه الروحي النهلَ من معينه لتكوين
نخبته الروحية التي ستقع على عاتقها مهمة
إنقاذ ما يمكن إنقاذه من منقوله وثقافته –
إذا نجحت الهند في ذلك، نقول، فلا يُستبعَد أن
تتحقق النبوءة التي نطق بها المؤرخ الكبير
أرنولد توينبي عام 1952 بخصوص القرن الواحد
والعشرين: "الهند المقهورة ستقهر قاهريها!" *** *** *** مراجع
للتوسع
عامة- Bhagavadgītā (The), with an introductory essay, Sanskrit text, English translation and notes by S. Radhakrishnan, George Allen & Unwin Ltd., London, 1963. - BRODOV, V., Indian Philosophy in Modern Times, Progress Publishers, Moscow, 1984. - COOMARASWAMY, Ananda K., Hindouisme et bouddhisme, coll. « Idées », Gallimard, Paris, 1949. - COOMARASWAMY, Ananda, The Dance of Shiva: Fourteen Indian Essays, with a forward by Romain Rolland, Asia Publishing House, Bombay & Calcutta, 1956. - DANIÉLOU, Alain, Les Quatre Sens de la vie : Système social des Hindous, Éditions du Rocher, Monaco, 2000. - DASGUPTA, Surendranath, Indian Idealism, Cambridge University Press, 1962. - GARRATT, G. T. (ed.), The Legacy of India, Oxford University Press, 1938. - HERBERT, Jean, Spiritualité hindoue, coll. « Spiritualités vivantes », Albin Michel, Paris, 1972. - NARAVANE, V. S., Modern Indian Thought: A Philosophical Survey, Asia Publishing House, Bombay, 1967. - RADHAKRISHNAN, S., Indian Philosophy, vols. I & II, The Macmillan Company, New York, George Allen & Unwin Ltd., London, 1956. - RADHAKRISHNAN, S., The Hindu View of Life, George Allen & Unwin Ltd., London, 1954. - Upanishads du Yoga, traduites du sanskrit, présentées et annotées par Jean Varenne, coll. Connaissance de L’Orient, Gallimard / Unesco, 1971. - WOOD, Ernest, Yoga, Penguin Books, 1982. عن
راماكرشنا
-
ISHERWOOD, Christopher, Ramakrishna and His
Disciples, Methuen, London, 1965. -
LEMAÎTRE, Solange, Ramakrishna
et la vitalité de l’hindouisme, Éditions du Seuil, 1959. -
ROLLAND, Romain, La vie
de Ramakrishna suivi de L’enseignement de Ramakrishna (Paroles
groupées et annotées par Jean Herbert), Robert Laffont, 1973. عن
فيفيكانندا
- The Complete Works of Swami Vivekananda, 7 vols., Almora, Advaita Ashrama, 1918-1922. - NIKHILANANDA, Swami, Vivekananda: A Biography, 1953. -
ROLLAND, Romain, La vie
de Vivekânanda et L’Évangile
universelle, 2 vol., Paris, 1966. - YALE, John (ed.), What Religion Is in the Words of Swami Vivekananda, 1962. عن أوروبندو- BRUTEAU, Beatrice, Worthy Is the World: The Hindu Philosophy of Sri Aurobindo, Rutherford, N. J., 1971. - CHATTERJEE, Tulsidas, Sri Aurobindo’s Integral Yoga, 2nd ed., West Bengal, 1970. - SRINIVASA IYENGAR, K. R. (ed.), Sri Aurobindo: A Centenary Tribute, Pondicherry, 1974. - MCDERMOTT, Robert A. (ed.), Six Pillars: An Introduction to the Major Works of Sri Aurobindo, Chambersburg, Pa., 1974. -
MONOD-HERZEN, Gabriel, Le Yoga et
les yoga : Essai psychologique, Monaco, 1978. - O’CONNOR, June, The Quest for Political and Spiritual Liberation: A Study in the Thought of Sri Aurobindo Ghose, Cranbury, N. J., 1976. -
SATPREM, Sri Aurobindo, or the
Adventure of Consciousness, Pondicherry, 1982. [1]
أصبحت ترجمة جيدة لملخص لهذه الملحمة
الكبرى متوفرة باللغة العربية بفضل الجهد
المشكور الذي بذله صديقنا عبد الإله الملاح.
ولا يسعنا هنا إلا أن ننصح للقارئ باقتناء
الطبعة الثانية منها، دار ورد، دمشق 2002. [2]
ذلك إجراء لا يمكن أن يتم إلا في الهندوسية،
لأنه، مع أخذ الفوارق بعين الاعتبار، لا
يقل جرأة عن تكريس مؤسِّس البروتستانتية
مارتن لوثر في عداد قديسي الكنيسة
الكاثوليكية! [3]
تعج الهند بخارقي العوائد من "الفقراء"
– وهم يوغانيون منحرفون همُّهم إبهار
الجماهير بقدراتهم العجيبة، من إخراج
مصرانهم، ودحرجة أعينهم على وجناتهم،
وإبطاء نبضهم القلبي أو إيقاعهم التنفسي
حتى إيقافه، ودفنهم أحياء لفترات قد تطول
شهوراً، إلخ. [4]
يقابل هذا اليوغا في المسيحية تصوف المحبة،
بينما يقابل جنانايوغا "الغنوص" gnôsis. [5]
لدينا في شخص موهنداس ك. غاندي، ذلك الإنسان
الصادق البسيط، في رفضه غير المداهن
للأنانية والأثرة والعنف، مثال ساطع على
امرئ متحقق بطريق العمل. راجع في هذا الصدد
دراستنا "م. ك. غاندي: بين القداسة
والسياسة" المنشورة في الإصدار الثامن
من معابر، باب "اللاعنف والمقاومة". [6]
النواهي هي: أ. الامتناع عن أذية أي مخلوق (أهِمسا
ahimsâ)؛
ب. الارتداد عن الكذب (سَتْيا satya)؛
ج. الكف عن السرقة (أسْتِيا asteya)؛
د. الكف عن الفاحشة (برهمتشاريا brahmacharya)؛
هـ. عدم الجشع (أبَرِغراها aparigraha).
والأوامر هي: أ. النظافة (شّوْتشا shaucha)؛
ب. الاكتفاء (سَنتوشا santosha)؛
ج. التقشف (تاباس tapas)؛
د. درس النفس (سوادهِيايا swâdhiyâya)؛
هـ. تقوى الله (إيشفرا براندهانا îshvara-pranidhâna). [7]
الهنود، في ولعهم بالتشبيهات والاستعارات
الموحية، يمثِّلون للذهن غير المنضبط بقرد
مسعور في قفص. فمثله كمثل القرد، يطفر الذهن
من خاطر إلى خاطر، من ذكرى إلى ذكرى، ومن
إحساس إلى إحساس؛ وهم لا يكتفون بذلك،
فيقررون أنه قرد مسعور وثمل يطفر في قفص؛ بل
هو في نظرهم قرد مسعور وثمل ومصاب بداء
الرقص؛ لا بل إنه قرد مسعور وثمل ومصاب بداء
الرقص... لَسَعَهُ زنبور! [8]
يجمع الصوفية على القول إن خبرة الاتحاد
الصوفي تستعصي على أي وصف لغوي، وإن وحده
يتذوَّق شهدَها المتحقِّقُ بها. أما غير
المتحقق فله الحق في لحظات الضعف التي
تراوده أن يشك في وجودها أصلاً؛ بينما قد
يتساءل "البرَّاني" عن الفارق بينها
وبين الهلس. غير أن الهلس أو الوهم لا
يُحدِثان تحولاً في ضحاياهما – هذا إن لم
يزيدا في بلبلتهم. أما صوفية كل الأزمنة
والبيئات، كما ومريدوهم ومن جاوَرَهم، فقد
أكدوا دوماً أن الخبرة الصوفية تُحدِث
تحولاً جذرياً في طبيعة المتحقق بها، من
حيث إنه يعرف، ذوقاً وكشفاً، أن "الروح
التي هي أعلى المراتب القدسية ما هي إلا
قطرة أو ذرة من المحيط الروحي العظيم. وإن
بدت لنا منفصلة ومحدودة، إلا أنها في
الحقيقة على صلة دائمة بالروح الكلِّي الذي
هي شعلة منه، كما أنها على صلة بكل قطرة
وبكل ذرة من ذرات الوجود الروحية، لأنها
وحدة كاملة لا انفصام لها." (عباس
المسيري، اليوجا ينبوع السعادة، دار
المعارف بمصر 1966، ص 290) [9]
وهو غير "المسارَرة" التي تُعتبَر
بمثابة "جواز الدخول" إلى نطاق الباطن
حصراً. [10]
لقد وجد هندوس كثيرون صعوبة في تصديق أن
عدداً من المبشِّرين المسيحيين، بعيشهم
المرفَّه، المتمثِّل بامتلاك حذاء ومأوى
وقوت منتظم، يمكن أن يكونوا حقاً من "أولياء
الله الصالحين"! [11]
من المأثور عن حياة راماكرشنا أن أباه
كهوديرام Khudiram
رأى وهو يحج إلى هيكل غايا، حيث ذهب لتقديم
الإجلال لأثر قدم فشنو، حلماً يبشره بولادة
طفل تتجلَّى فيه قدرة الإله؛ وفي اللحظة
نفسها رأت زوجُه تشاندرا ديفي Chandra Devî
التي لبثت في القرية بشارةً في المنام
بأمومة إلهية. والواقع أن المأثور يعتبر
راماكرشنا أفاتارا من الأفاتارات
الصغار للإله فشنو. [12]
لقد عرف راماكرشنا خبراته الوَجْدية
الأولى وهو بعدُ في السادسة يتأمل روعة
الطبيعة، شاعراً بفرح لا يوصف يترع قلبه. [13]
يجتمع في هذه الإلهة الكبرى، نقلاً، رعبُ
الموت والدمار مع الأمومة الكلِّية
الحانية، ويمثَّل لها بصنم وحشي المظهر
عديد الأذرع، يحمله أسد. وهي محلُّ تجسيد
طيف واسع من المشاعر الدينية والإنسانية،
من أكثرها بدائية إلى أسماها، وهي ذات
شمولية رمزية ("الأم الكبرى" Magna Mater)
يصعب وضعها في قوالب الأشكال الدينية
التقليدية. فهي إما أن تلد أبناءها وإما أن
تميتهم، تغرقهم في الظلمة أو في وهج
المعرفة. [14]
من ذلك محاكاته لأفعال القرد الإله هنومان (رفيق
راما المخلص ورمز التواضع والخدمة)؛ إطعامه
الحيوانات من نفس الطعام المُعَدِّ لكالي (تجديف
في نظر البرهمني التقليدي)؛ تنظيفه كوخ أحد
المنبوذين بشعره (تدنيس مروِّع لبرهمني)؛
إنشاده ورقصه الوحشي كلما اضطرب بالروح؛
رفضه مرتبته البرهمنية، مؤكداً أن التفوق
الطائفي يحطُّ روحياً – وكل هذه السلوكيات
الخارجية رموز إلى أحواله الروحية الباطنة. [15]
لقد عاش روحانية الإسلام مدة عدة أيام وشعر
إلى جانبه بحضور شخص المسيح وانكشفت له سعة
محبته. لكنه رأى في إصرار المتديِّنين
التقليديين على مفهوم المعصية أو الخطيئة
استعداداً فيهم لاقترافها. [16]
من ذلك أنه كان يمارس الرياضة (وهو أمر نادر
في الهند آنذاك) ويكثر من السهر. لقد كان
مديد القامة، رياضي البنية، يجيد الحديث
اللبق، ملفتاً للأنظار في المجتمع
الدنيوي، الأمر الذي كان يروق له على ما
يبدو. [17]
منهم تلميذته المخلصة مرغريت نوبل التي
لحقت به إلى الهند وترهَّبت باسم نيفدِتا Niveditâ. [18]
نستعير هذا المصطلح من عقيدة ابن عربي. [19]
"حقيقة الحقائق" هذه كامنة في النصوص
القديمة، إنما ممتزجة فيها بحقائق "ظرفية"
مرهونة بالزمان والمكان، كما وبالعصور
والشعوب التي تعاملت مع هذه النصوص. ولقد
وجدها أوروبندو عند هيراقليطس، في الـفيدا،
في الـأوبنشاد، وفي الـغيتا؛ وهي
تظهر في هذا النص الأخير بوصفها الغاية
النهائية للعمل وللمعرفة وللمحبة. [20]
يقول أوروبندو بهذا الصدد في ساعة الله:
"الإنسان كائن في حالة انتقال وليس
كائناً نهائياً. ذلك لأن فيه، وفيما بعده،
ترتفع مراحل مشعة تتسامى نحو إنسانية
متفوِّقة إلهية." [21]
ليس المقصود بهذا "الإطلاق"، بأي وجه
من الوجوه، عبودية المرء لميوله ومنازعه،
بل هو يعني "تفتحاً"، توجِّهه المحبة
والمعرفة، للحقيقة الإلهية الهاجعة في
أعماق كيانه. جاء في كتاب أوروبندو تأليف
اليوغا: "لا شيء يمكن تلقينه للذهن ما
لم مختبئاً كمعرفة كامنة في النفس المتفتحة
للمخلوق. وعلى النحو ذاته، ليس كل كمال في
مستطاع الإنسان الظاهر تحقيقه إلا تحقيقاً
للكمال الأزلي للروح فيه." [22]
يجتمع مريدو وأنصار ومؤيِّدو نظرة شري
أوروبندو إلى التطور الروحي وطريقته
اليوغية في جماعات عبر العالم أجمع، أشهرها
تلك التي باشرت، بإشراف "الأم"، بناء
أوروفيل Auroville،
المدينة القريبة من بونديشيري التي
صُمِّمت لتجسِّم مثال أوروبندو عن إنسانية
متحوِّلة، والمعتزَل في بونديشيري حيث
أقام أوروبندو نفسه مدة أربعين عاماً. وهذه
الأماكن ناشطة في مجالات التربية الحديثة،
وهي ترمي، على هدي من فكر المعلِّم، إلى نشر
المعرفة العلمية الدولية وإلى بلوغ الصحة
البدنية والنفسية عبر سلوكيات حياتية صحية. [23]
تحوي مؤلفات أوروبندو جانباً كبيراً من
المعرفة الروحية التي وُهِبَها في سلوكه
اليوغي وتقدم عرضاً مفصلاً للفلسفة
الروحية واليوغا، وتشتمل على تأويلات
دقيقة للفيدا والأوبنشاد والـغيتا،
وتتناول روح الحضارة والثقافة الهنديتين،
وتستلهم الطبيعة وتدرس تطور التجربة
الشعرية، وترسم ملامح تقدم المجتمع
الإنساني نحو مستقبله الإلهي، ويخيم عليها
المنحى التأليفي الشامل الذي تتكامل فيه
الرؤى الجزئية للحقيقة في رؤيا كونية
كلِّية. نذكر منها بالأخص: الدورة
الإنسانية، مثال الوحدة الإنسانية، رسالة
الثقافة الهندية، الحياة الإلهية، تأليف
اليوغا، بالإضافة إلى عدد كبير من
الرسائل في اليوغا والقصائد والمسرحيات
والقصص القصيرة. [24]
الكلمة السنسكريتية المعبِّرة عن فكرة
‘"الطائفة" cast
هي فَرْنا varna
التي تعني "لون". ويُظَن بأن النظام
بدأ مع انتصار الفاتحين الآريين الأوائل
على السكان الأصليين؛ لكننا شخصياً نرتاب
في صحة ذلك، أو على الأقل في تعليله
الماركسي. [25]
الواقع أن هؤلاء قد شكَّلوا فيما بينهم
طوائف خاصة بهم! [26]
راجع: "م. ك. غاندي: بين القداسة والسياسة"،
معابر، الإصدار الثامن.
|
|
|