|
الهند: موطن الروح
(1 من 2)
ديمتري
أفييرينوس
قبل
أن نجيز لنفسنا الاسترسال في هذه التداعيات
البسيطة في خصوصية الثقافة الروحية للهند،
يحسن بنا أن نبيِّن أننا لم نقصد من العنوان
الموضوع لها حَصْر الخبرة الروحية الإنسانية
في بلد من البلدان – وإن يكن الهند التي نحبُّ
–، إنما بالحري التشديد على أن الطابع العام
الذي اتَّسمت به الحضارة الهندية إجمالاً،
فغلب عليها، هو طابع التوق والتسامي الروحيين
إلى المطلق؛ وأيضاً على أن الهند ظلت أعصراً
طوالاً منبعاً ومصباً للمنقولات الروحية
الشرقية، بشقَّيها الظاهر والباطن، بما هي
كانت، وما تزال – وإنْ على نطاق أضيق بكثير من
ذي قبل وأخفى – مركزاً من مراكز إشعاع مستودع دين
الحكمة، على حد ما جاء في كتاب هـ.
بلافاتسكي العقيدة السرية (أو "الحكمة
الخالدة" philosophia
perennis، على حد تعبير
أوغسطينوس سطُوْيخوس)، الذي يعتبره "أهل
الباطن" إرثاً بشرياً مشتركاً موغلاً في
القِدَم، يعود إلى البدايات البكر لوجود
الإنسان على الأرض، تناقله حكماء الإنسانية
وعارفوها وصانوه حتى وصلنا منه ما وصلنا. تنوع
عقائدي مدهش
لا يكاد المرء يعقد
صلاته الأولى مع الفكر الروحي للهند حتى
يعتريه ذهول وخشوع عظيمان أمام ذلك التنوع
الحاذق اللانهائي في المعتقدات الدينية
لتلك البلاد العريقة. فالحق أن الهند زاولت
منذ أقدم الأزمنة معظم – إن لم نقل جميع –
ضروب التجربة الروحية الإنسانية، واختبرت
كافة تلاوين طيفها. ففي أدغال الجنوب وفي
أواسط الهند وشمال شرقها ما تزال بعض القبائل
تقيم شعائر أحيائية animistic
بدائية يُعتقَد أنها تمثل أقدم المعتقدات
الدينية التي عرفها العالم. ويرى الآخذون
بهذا الاعتقاد أن روحاً فرداً تسكن في كل
موجود من موجودات الكون. ومع أن غالبية مسلمي
الهند يعيشون اليوم في باكستان وبنغلادش فإن الإسلام
ما يزال يأتي في المرتبة الثانية في الهند بعد
الهندوسية من حيث عدد المؤمنين. أما البوذية
التي وُلِدت في الهند في القرن السادس قبل
الميلاد فهي تمثل حركة إصلاح "باطني" في
قلب هندوسية ذلك الزمان؛ وهذه الفلسفة
الباطنية العظيمة، وإن لم تلقَ الترحاب كله
إلا خارج الهند، فلا يزال لها موطئ قدم راسخ
في موطنها الأصلي. كذلك شأن الجَـيْـنِـية
– وهي "بدعة" زهدية معاصرة تقريباً
للبوذية – التي لا تزال ذات دالَّة قوية على
مريديها المسالمين. ويفيدنا المنقول بأن المسيحية
دخلت الهند على يد القديس توما، الرسول "المشكِّك"
على رأي مفسِّري الإنجيل؛ وللمسيحية حضور
روحي لا يستهان به في الهند. يبقى أن نذكر
ملَّة السيخ التي تُعتبَر محاولة توفيقية
بين الإسلام والهندوسية،[1]
والديانة الزردشتية أو الفارسية التي
يُعتبَر أتباعها، على قلَّتهم، عصباً هاماً
في الاقتصاد الهندي. الدهرما
أما "الدين"
السائد إلى حد كبير في الهند فهو الدين الذي
أطلق عليه الغرب اسم الهندوسية Hinduism والذي يدعوه
معتنقوه بـدهرما dharma
– وهي كلمة سنسكريتية قد تصح ترجمة معناها
الضيق بـ"الواجب" ومعناها الواسع بـ"النظام"
أو "الناموس". ولقد كان الدهرما حتى وقت
قريب (أي قبل أن تتبنى الهند نظام العلمنة) هو
الواقع الأساسي الكلِّي الحضور في حياة الهند، وتشكل تجلِّياته المشهد الثقافي
العام للبلاد، وتتخطى تعاليمه المجالات التي
ينحصر فيها تقليدياً بكثير. فهو في آن معاً
"فلسفة" (بالمعنى "الخام" للمصطلح،
أي "محبة الحكمة" philo-sophia) ونظام اجتماعي
ومنهاج حياة. والكتب المقدسة للهندوسية من
التعقيد والعمق بحيث لا تترك لدارسها عموماً
أي وقت للنهوض بدراسات أخرى. أما البانثيون pantheon (مجمع الآلهة) في
ظاهر الهندوسية فهو غفير العدد أيضاً،[2]
يسكنه مئات الآلهة (ديفا deva)
وأنصاف الآلهة (شكل 1)؛ وصورها ذات الأذرع
العديدة والوجوه المستقاة من عالم الحيوان
وفيرة العدد في المعابد ومقامات الصلاة
والتخشُّع المقامة على طول طرق الهند القديمة.
وليس بمستغرب أن يظهر إله "شعبي" مثل
شيفا بمئات الهيئات والصور (شكل 2).
شكل
1:
لوحة تمثل البانثيون الهندوسي. إن كل عمل في كل ساعة
من حياة الهندوسي التقي، المحافظ على موروثه،
يتميَّز بشعيرة خاصة، أو قل إن المتعبِّد
يؤديه أداءه لطقس مقدس، حتى إن بعض المراقبين
الغربيين أطلق على الهند اسم "بلاد الكهنة".
والواقع أن أهمية الطقس في كل مجتمع نقلي
تتمثل في اشتراك الأفراد، من خلاله، في
الحقائق الروحية اشتراكاً رمزياً بما ييسِّر
لهم اتصالاً دائماً – وإن على نحو غير مباشر،
نفسي – بهذه الحقائق.
شكل
2:
شيفا، المظهر المميت من مظاهر الألوهة. أما المجتمع الغربي
الذي يصح تجاوزاً تشبيهه بالمجتمع الهندي
التقليدي فهو مجتمع أوروبا المسيحية في العصر
الوسيط، حيث كان الإيمان المشترك هو قطب
الرحى الذي تدور عليه الحياة الاجتماعية
والثقافية برمتها، وكانت الكنيسة تدعم
النظام الاجتماعي دعماً قوياً بما يبقي البشر
في المنزلة أو المرتبة الاجتماعية التي
وُلِدوا فيها. غني عن القول إن
الهندوسية ليست القوة الوحيدة التي أثَّرت في
تاريخ الهند وشكَّلته. فعلى العكس من ذلك،
يقدِّر مراقبون عديدون أن قروناً مليئة
بالفاقة، والغزوات، والحروب، والفيضانات،
والمجاعات قد تكون مسؤولة عن ذلك النزوع
الجماعي إلى اليأس من هذه الدنيا وإلى
التفتيش عن الخلاص في آخِرة مفترضة. لكن هؤلاء
المراقبين، وقد اعتادوا اختزال الحياة
البشرية برمَّتها إلى العامل الاقتصادي وحده، ينسون أن الفترات من تاريخ الهند التي
شهدت ذروة النشاط والتفتح الروحيين قد تزامنت
مع الفترات التي بلغ فيها الازدهار الاقتصادي
والمادي أوْجَه. وحتى لو أخذنا ذلك العامل
بعين الاعتبار يبقى أن للهندوسية، شأن الدين
في كل مجتمع نقلي traditional،
دورها الحاسم في رسم مسار الحياة الهندية
إجمالاً. على هذا الأساس، تتحمل الهندوسية
بحق المسؤولية عن مجد الهند عندما بلغ
منحناها نهايته الحدِّية العظمى، وعن بؤسها
عندما آلت إلى الانحدار نتيجة التراجع الدوري
الذي يمر به كل ظهور "تاريخي" للحكمة
الخالدة بعد بلوغه حداً معيناً. وبذلك تكون
الهندوسية قد دفعت بنمو الهند الروحي قدماً
إلى الأمام، فيما عادت بتقدمِّها المادي
القهقرى. فاليوم، وقد ضاع روح نظام الطوائف
الاجتماعية cast
system النقلي فإن
جمهرة المذاهب والطوائف أمست ذريعة لتفتيت
البلاد وتواصِل التسبب في تفتيتها من الداخل. غير أن السؤال الذي
ينطرح على الباحث بإلحاح هو الآتي: هل يصح
اعتبار الهندوسية ديناً جامعاً مشتركاً؟
والدافع إلى طرح هذا السؤال هو ذلك التنوع
المدهش في معتقداتها، وشعائرها، وآلهتها،
وقناعتها المتسامحة بأن كل دين ينطوي على
وجه من وجوه الحقيقة، أو هو درجة من الدرجات
على سلَّمها، ونزوعها الاصطفائي إلى
استيعاب وتمثُّل وجهات نظر الأديان الأخرى
ومعتقداتها وأبطالها الروحيين، مهما كانت
هذه الأديان بعيدة عنها في الظاهر. كذا فقد يتفق الباحث
أن يستمع إلى تنديدات كثيرة لا جدوى منها،
يشنُّها أحياناً "المتغرِّبون" من
الهندوس على الهندوسية، باعتبارها تطيُّراً
"رجعياً" يشجِّع على التخاذل والهروب من
النشاط المنتج. كذلك قد يتفق له أن يستمع إلى
مدائح مطنِبة يرفعها مفكرون من الشرق ومن
الغرب على حد سواء. فقد صرَّح "عالم"
أمريكي، غير متحرِّج، بأن "الهندوسية هي
الدين الأشد تشوُّشاً وتشويشاً في العالم
والأشد اختلافاً عن الأديان الأخرى"؛ إنه
دين لم يُعرَف له مؤسِّس تاريخي، بلا سلطة
مركزية (على غرار الكنيسة الكاثوليكية!)، بلا
شريعة تصلح عالمياً (وكأن ثمة شريعة ما تصلح
عالمياً في الأصل!). إن مثل هذه الأحكام
المتسرعة يطلقها المتديِّنون اعتباطاً
انطلاقاً من وجهات نظرهم الضيقة، وقياساً على
دينهم كما يفهمونه وعلى "حضارتهم"
المفترضة، ليدل على أن إطلاق حكم اعتباطي على
الهندوسية (أو أي "دين" شرقي آخر) أمر
أسهل بكثير من محاولة مخلصة للتعمق والفهم. لعل أيسر تقريب لا
يجانب الصواب للهندوسية إلى العقلية "العلمانية"
هو تشبيهها ببستان للفاكهة تتنوع صنوف أشجاره
وثماره وألوانه بحيث يستطيع كل إنسان أن يقطف
منها ما يناسب طبعه وخصوصيته كفرد. فمع أن
الهندوسية كثيراً ما تُرمى بـ"التصوُّف"،
أي بالزهد في الحياة "الواقعية"
وباعتزالها، فهي، بالمقابل، تبدي، بما لا ريب
فيه، واقعية قصوى، من حيث إنها تعترف
باختلاف البشر بعضهم عن بعض (ليس بين فرد
وآخر وحسب، بل بين فرد في فترة من حياته
والفرد عينه في فترة أخرى منها)،
وبالتالي بأن
طرقهم للتقرب إلى الله (برهمن Brahman)، أو بالحري إلى
"التحقُّق" به، ينبغي أن تختلف وتتنوع
بالضرورة. فإبَّان عمرها المديد عبَّدت
الهندوسية طرقاً لجميع صنوف البشر، لكل
الأعمار، وعلى كل المستويات. ويرى المؤمنون
أن في جعبتها لكلٍّ ما يلائم وضعه في الحياة
كل الملائمة. فالفلاح الأمِّي يلوِّن حياته
ويجمِّلها ويسمو بها بالشعائر، والمناسك،
والمواكب، والأعياد، والاحتفاءات المقامة
على شرف أبطال أساطير دينه الأثيرة إلى قلبه (شكل
3)؛ وبذلك قد يظهر بمظهر "المشرِك" بنظر
من يتعبد في قريته لآلهة أخرى، فما بالك
بالمتعبد لآلهة دين آخر – ولاسيما تلك
الأديان الموسومة بـ"السماوية"؟ أما
الهندوسي المفكِّر، اليوغاني العارف، فهو
بالمقابل راسخ في توحيده، ومئات الصور
المختلفة التي تمثل آلهة الهندوسية ما هي في
نظره إلا رموز إلى المظاهر والتجلِّيات
والقدرة اللانهائية للإله الواحد أو الحق
الأسمى الذي (أو "التي") يدعى برهمن، وهو مستمسك بإيمان وبرجاء لا يتزعزعان
أن كل إنسان، إنْ في هذا العمر، أو في عمر مقبل، سوف يضع لا محالة
جانباً، متى آن الأوان، هذه الحقائق الجزئية، وسوف يتخلَّى
عنها شأن الشاب يخلف وراءه ألعاب طفولته،
وسوف يعرف الفرح اللانهائي متي عرف الحق
واتحد به.[3]
إن هذا الاعتقاد الراسخ في الطبيعة
الجوهرية للإنسان وفي قَدَره المجيد هو ما
يشكل الوحدة الأساسية والملاط الجامع بين كل
عقائد الهندوسية، أياً كان مقتربُها أو
توجُّهها.
شكل
3: غنيشا،
الإله الشعبي ذو رأس الفيل، ابن شيفا،
والمعبِّر عن ممكنات الحياة بتناقض ظواهرها
الزائلة. النصوص
التأسيسية: الفيدا والأوبنشاد
إن بدايات الهندوسية
تغيب فيما قبل التاريخ. ويُعتقَد أن بعض
معالمها يضرب بجذوره في حضارة وادي السند
القديمة. كما جاء الآريون، مع اجتياحهم
للبلاد من الشمال الغربي إبان الألف الثاني ق
م بعناصر أساسية أخرى – وإن لم يكن هناك جزم
بهذا الصدد. ويتجلَّى أقدم تعبير عن هذا الدين
وأكمله في مجموعة الأناشيد والصلوات
والتعازيم السحرية المقدسة التي تنضوي
جميعاً تحت اسم الـفيدا Vêda
– وهي كلمة تعني "النظر" أو "الحكمة".
إن ثَمَّ اعتقاد راسخ لدى الهندوس بأن الفيدا
موجودة منذ الأزل وتنوقلت شفهياً من جيل إلى
جيل حتى وصلتنا؛ ومن البحَّاثة الغربيين من
يعتقد بأن بعض أجزائها يعود إلى منتصف الألف
الثاني قبل الميلاد. لكن المرجَّح برأينا
أنها أقدم من ذلك بكثير لأن النقل كان يتم
دوماً عبر الذاكرة الجمعية والتعليم الشفهي
المباشر. مهما يكن من أمر، لابد من الإشارة
إلى سرَّانية ما جاء فيها واستعصائه على
التفسير الحرفي، وضرورة التأويل لفهم ما ترمي
إليه رموزها. تتضمَّن الفيدا
أربعة أسفار هي: رِغْ فيدا Rig-vêda، يَجُر فيدا Yajur-vêda، ساما فيدا Sâma-vêda، أتهَرفا فيدا Atharva-vêda؛ وينقسم كل سفر
من هذه الأسفار الأربعة بدوره إلى أربعة
أبواب هي: الـمنترا Mantra، الـبرهمنا Brâhmana، الـ الـآرَنـْيـَكا
Aranyaka، الـأوبنشاد Upanishad. أما أشهر أسفار
الفيدا وأقواها شاعرية فهو الـرِغْ فيدا الذي
يرجَّح أنه اتَّخذ صيغته النهائية في القرن
التاسع قبل الميلاد. والـمنترا mantra (المقاطع
الصوتية المقدسة) فيه مرفوعة في المقام الأول
إلى آلهة الطبيعة والعناصر، مثل إندرا Indra، إله العواصف
والحرب، وأغني Agni،
إله النار، وسوما Soma،
إله العصارة المسكِرة التي كان الآريون
يستخرجونها من النبتة التي تحمل عين الاسم
والتي ترمز حالة السكر التي تنتاب شاربها إلى
الوَجْد الروحي ecstasy: قد
شربنا سوما وصرنا
من المخلَّدين؛ قد
بلغنا النور، وشاهدنا
الآلهة. فهل
للكيد أن ينال منَّا بعد الآن؟ وهل
لغمِّ المائتين أن يطال بعد إلهاً مخلَّداً؟ بيد أن الـرِغْ
فيدا قد يعلِّمنا أيضاً أن المهرقات
الشعائرية لا تكفي لتفسير الكون وتعليله
ولصنع قدر الإنسان. بذلك صار فارونا Varuna، وهو أصلاً إله
السماء، حارساً على النظام الكوني، مادياً
ومعنوياً: إذا
خطئنا بحقِّ إنسان يحبنا، أو
أسأنا يوماً إلى أخ، أو
صديق، أو رفيق، أكان
جاراً أم غريباً، طهِّرنا،
أيا فارونا، من هذا الإثم. إذا
غششنا في اللعب ونحن نلعب، وإذا
خاتَلنا، سواء كنَّا أسأنا من حيث
لم ندْرِ أو أثِمنا عمداً. اطرح
عنا هذه الآثام كما
تُطرَح أصفاد تقع. واجعلنا،
أيا فارونا، أبناءك الأحبَّة. ويبلغ الـرغ فيدا أوج
التأمل فيما وراء الطبيعة في "أنشودة
التكوين" التي تُعتبَر من أعمق ما عبَّر به
الفهم الإنساني عن حالة "ما قبل" التكوين
وعن بدء سيرورة التجلِّي الكوني: 1. لم
يكن ثَمَّ حينئذٍ وجود أو لاوجود: ولم
يكن ثَمَّ هواء أو فضاء يتعدًّاه. أكان
من شيء يغلِّفه؟ أين
كان؟ وفي حفظ مَن؟ أو هل
كانت ثمة لُجَّة كونية من
مياه لا يُسبَر لها غور؟ 2. لم
يكن ثَمَّ موت ولا كائن مؤبَّد؛ ولا
أية علامة لتمييز النهار من الليل. وتنفَّس
الواحد بلا هواء متقوِّتاً بذاته. وكان
ذلك الواحد حينئذٍ وحده
ولاشيء سواه. 3. في
البدء كانت ظلمة تتلفَّع بظلمة؛ وكان
ذلك الوجود لُجَّة لم يغْشَها نور. كان
الوجود بالقوَّة يسبح غير
متعيِّن بعد في الفراغ، إلى أن
أوجدت قدرة الحرارة الواحد
الأحد. 4. في
البدء نزلت فيه الرغبة – وتلك
كانت البذرة الأولى، مولودة من العقل. والحكماء
الذين تملُّوا قلوبهم بالحكمة يعلمون
ما هو موجود وما هو غير موجود. 5.
فأشعَّتهم قد أصدرت النور عن الظلمة. ولكن،
هل كان الواحد في الأعالي أم في الأسافل؟ قوة
الخلق كانت ثمة، وكذلك القوة المخصبة. في
الأسافل كانت الظلمة، وفي الأعالي كان الدافع. 6. منذا
يعلم حقاً، ومنذا له أن يجزم من أين
انبثق ذاك، وكيف تشكَّل هذا الوجود؟ حتى
الآلهة نفسها أحدث منه. 7. منذا
له أن يعلم حقاً عمَّا صَدَر؟ أكان
هو من صوَّره، أم لم يكن هو؛ هو
العالِم من أين صدر هذا الوجود، هو
وحده الساهر في أعالي السماوات يعلم
ذلك فعلاً – ولكن
حتى هو لعلَّه لا يعلم! لقد تشكلت هذه
الثيمات الرئيسية للهندوسية، فيما يرى
المؤرخون، خلال أربعة أو خمسة قرون بدءاً من
عام 800 ق م (وإن كان هذا التاريخ مثار جدل كبير)
وصيغت في سلسلة من المقالات الميتافيزيائية
سميت بالـأوبنشاد Upanishad –
وهي تسمية مشتقة من الكلمات السنسكريتية أوبا
upa التي تعني "قريب"،
وني ni
التي تعني "أسفل"،
وشاد shad التي تعني "يجلس".
فالمقصود بها إذن الحقائق التي كان المريدون
يأخذونها عن أساتذتهم وهو جالسون عند أقدامهم.
والـأوبنشاد، بما هي معنية بالكلِّيات
أكثر منها بالجزئيات، تترك هذه الأخيرة
لاجتهاد الأفراد في حدود ما يسمح به الـدهرما،
ولا تعرِض للكثير من المسائل التفصيلية،
مركِّزة ثيماتها على الخير المطلق المتمثل
بالتحقُّق بالحق. وتشدد الـأوبنشاد على
التمييز الدقيق بين طريق الأنانية الجاهلة
التي تقود إلى السرور المؤقت الزائل، وبين
طريق الحكمة التي تقود إلى الانعتاق النهائي
(مُكتي mukti). لكل فرد، في ضوء ما
تقدم، الحرية في قراره بتصوُّر الحق الأسمى
بوصفه ذاتاً صرفة أو ماهية روحية محضة،
لاشخصية، منزَّهة عن كل الصفات والأسماء،
تدعى بالتالي برهمن (محايد)، أو بوصفه إلهاً
شخصياً تُخلَع عليه شتى الصفات البشرية، يدعى
بالتالي برهما (مذكَّر). وعلى النحو نفسه، لكل
مؤمن أن يقرر فيما إذا كان ينظر إلى العالم
باعتباره مظهراً من مظاهر برهمن أو برهما أو
تجلِّياً من تجلِّياته، أو مجرد "خلق"
هذا أو ذاك – كما أن بوسعه أيضاً أن يُبقي
المسألة مفتوحة غير مبتوت فيها، قبل أن
تحسمها الذائقة الداخلية المباشرة.[4] في كلا الحالين يعتبر
الهندوسي العالَم المرئي مايا mâyâ – وهي كلمة
سنسكريتية تصح ترجمتها من أحد الأوجه بـ"الوهم"،
الأمر الذي جعل عدداً من البحَّاثة يستنتجون
أن الهندوسي يعتبر أن العالم المرئي ليس إلا
هلساً hallucination. أما ما يقصد
الهندوسي فعلاً من هذا المصطلح فهو ببساطة أن العالَم
ليس ما يبدو للحواس البشرية للوهلة الأولى.[5]
فلما كان البشر يشكلون جزءاً من العالَم
المرئي يقتضي ذلك منطقياً أنهم، هم أيضاً،
ليسوا ما يظهرون عليه. فكل إنسان يعتبر نفسه
شخصاً فريداً ومستقلاً عن غيره، وكل إنسان
مستحوَذ عليه بأفكاره، ورغباته، وأفراحه،
وأتراحه، ومخاوفه، وخيباته. إن هذا
الانشغال بالأنيَّة الظاهرة هو المصدر
الحقيقي لكل شر ولكل بؤس بشري بحسب
العقائد الهندوسية. أما الأنيَّة Ego
الباطنة الحقة فهي مدفونة عميقاً تحت طبقات
عديدة من الوعي. وهذه الأنية تدعى آتمن âtman،
الروح الشامل الكلِّي الحضور. المعلِّم
شنكرا ومذهب التوحيد الفيدنتي
أما وقد أتينا على
ذكر المصادر الكتابية للعقيدة الهندوسية من
فيدا وأوبنشاد، وأشرنا إلى المقصد الأسنى من
كل تفكُّر في الحياة والوجود، متمثلاً في
إقامة الصلة مع الأنيَّة الحقة في باطن
الإنسان، حري بنا أن نقول كلمة في شنكرا،
الحكيم والمصلح الهندوسي العظيم، وشارح أسس
الـأدْفـَيـْتا فيدنتا Advaita Vêdânta
(شكل 4). شكل
4:
شنكرا. عُرِف شنكرا المولود
في جنوب الهند من أبوين من البراهمة باسم
شنكراتشاريا Shankarâchârya،
أي "المعلِّم شنكرا". إذ سرعان ما ظهرت
عليه منذ الصغر علامات النجابة، من قدرات
عقلية رفيعة وتضلُّع بالمسائل الروحية
والعقيدية المختلفة. كان همُّه الأول النهوض
بتأليف شامل بين مختلف ألوان طيف الرموزيات
الهندوسية، فلسفيِّها وإلهيِّها، في منهاج
واحد متساوق، قائم على الميتافيزياء الصرفة.
ولقد كان مستقيم الرأي في تمسكه بالـفيدا،
غير أنه سعى إلى إبراز التوافق في ظاهر
التناقض بين تعاليمها بالتركيز على الأجزاء
الختامية للـفيدا، ألا وهي الـأوبنشاد.[6] نسب شنكرا تأسيس الـفيدنتا
إلى الحكيم بادراينا Bâdarâyana
(400 م) الذي شكلت تصانيفه أهم الثيمات التي عرض
لها شنكرا لاحقاً. وعلى الرغم من زعم هذا
الأخير بأنه مجرد شارح على الـفيدنتا فقد
كان، بلا أدنى ريب، من أكابر "العارفين
بالله" الذين أنجبتهم الهند. وقد ساح
طويلاً في طول البلاد وعرضها، مؤسِّساً "معتزلات"
رهبانية ashrama عديدة،
ومصنِّفاً المقالات في الـفيدنتا "اللاثنوي"
advaita. كان، على قصر
عمره، عاملاً دؤوباً لا يعرف الكلل،
وديالكتيكياً بارعاً لا يُجارى. وإذ حضرته
الوفاة كانت منزلته قد توطدت توطُّداً قوياً
وصارت نظرياته في الإلهيَّات (= الميتافيزياء)
من أشد العقائد تأثيراً في صرح علم الباطن في
الهندوسية، بما مهَّد الطريق لبناء قاعدة
راسخة لتجديدات فقهية أصيلة وللقيام
بإصلاحات عميقة طالت مختلف مناحي الحياة. استمد شنكرا العناصر
الأساسية لنظرياته من نقاط مختارة من الـأوبنشاد،
فأعمل فيها عقله مستنبطاً وشارحاً، سندُه
الحاسم في ذلك خبرتُه الروحية المباشرة.
فالنصوص في نظر شنكرا، على سعتها وكثافتها،
مشبعة بتعليم باطني يشدد أن للذات أو الهوية
الحقة (آتما âtmâ، أو "الروح")
لكل إنسان علاقة نوعية وماهوية مع روح كلية
سرمدية هي آتمن âtman؛ وهذه تدعى في
المطلق برهمن. يقول: "إنما برهمن وجود
دائم، نقي، منير، طليق، بكل شيء عليم، وعلى كل
شيء قدير." وهو مصدر الظواهر والتجلِّيات
في الوجود ومآبها جميعاً. لهذه الإلهيات وجهان
على جانب خاص من الأهمية: بما أن برهمن
وحده حقٌّ ودائم، فإن كل الموجودات
المتعيِّنة والمتناهية في العوالم الأربعة
"وهمية" وإلى زوال. ولكن بما أن هذه
الموجودات، بما هي صور عابرة، هي في صميمها
تجلِّيات لـبرهمن فإن لـ"الوهم"
نفسه قيمة أيسية (= أُنطولوجية) موجبة. إن
الوهم يشار إليه بمصطلح مايا mâyâ، كما مر بنا، وهو
مصطلح يشير كذلك إلى قدرة الوهم على حجب
الحق بما ليس له وجود بذاته، بل يستمد وجوده
من وجود الحق (= برهمن). وإلى هذا
مردُّ تسمية عقيدة شنكرا بـأدْفـَيـْتا
– "اللاثنوية" (وهو اسم آخر للتوحيد
الميتافيزيائي) – من حيث إنها لا تألو جهداً
في إرجاع كل الظواهر إلى مبدأ أصلي دينامي
مبدع.[7] لا يدرك الإنسان
بحواسه إلا المظاهر الوهمية الخادعة للحق
الأسمى. وهذه المعرفة المحدودة، المقيَّدة
والمقيِّدة، هي، بالمعنى الوجودي، "جهل"
(أفِديا avidyâ، "لامعرفة")
لأنها غير متسقة مع ما يتعالى عن الظاهرات
المتجلِّية في الزمان والمكان، ويشتمل عليها
كافة ويتخلَّلها في آن. يتمثل هذا "الجهل"
في عدم التمييز، بالكشف العقلي، بين الروح
المتعالي من جهة وبين تجلِّياته الطارئة من
جهة أخرى. ذلكم هو "اللبس" الذي هو "أصل
كل شر"، على حد قول شنكرا. غير أنه تبقى لبعض
الأشكال المحددة، ضمن الإطار "الأدنى"
والطارئ للوجود، قدسية خاصة ذات صفة دائمة:
الـفيدا، شعائر العبادة المنقولة
ومناسكها، ناموس كرما، نظام المراتب
الاجتماعي، إلخ. فثمة "خواص جوهرية" guna
للنظام الكوني، أو "صفات" تعيِّنه. فلئن
صح قولنا إن برهمن، بما هو الوجود المطلق
والحق الأسمى، متعالٍ عن هذه التعيُّنات وهو
"بلا خواص" (نيرغونا nirguna)
يصح أيضاً أنه ينطوي بالقوة والإمكان على
الخواص الثانوية لإله شخصي (سَغونا saguna)
التي تنبسط عندما يدخل في علاقة مع الكون، كما
ينطوي على الـدهرما والشرائع والأخلاق: برهمن
هو مصدر "الأسفار المقدسة وكل المعارف،
ومسؤول عن التمايز إلى آلهة وحيوان وبشر
ومراتب ومراحل حياة". إن المشاركة رمزياً
في هذه الأشكال النقلية، على كونها ثانوية،
من خلال العبادة ورياضة النفس والسلوك
القويم، تهيِّئ الفرد الذي تفتَّح توقُه
الإلهي للمعرفة إلى اختبار معرفة برهمن
المطلق اللامتعيِّن. وتصير المعرفة في صورتها
النقية هذه مصدر كشف ووعي كلِّيين للوحدة
المبدئية بين الروح الفردية ("الذات"
âtmâ) وبرهمن؛
وعي هو في الوقت نفسه تحرر من مكائد وهم
العالم وانعتاق من عجلة الولادة والموت (سمسارا
samsâra): "غاية الـأوبنشاد
إزالة الوهم ببلوغ معرفة وحدة الذات [مع برهمن]."
قد تبدو هذه العقيدة الصوفية ناسخة لجميع
الأشكال الأخرى للمنقول الهندوسي،[8]
من حيث إنها تعتبِر التمايزات في التجلِّي
الكوني وهمية برمتها؛ لكن هذه التمايزات
تُعتبَر أيضاً في هذه العقيدة مظاهر متعددة
لتجلِّي الذات الإلهية. لذا يشدد شنكرا على
استقامة الـفيدا وكل الشرائع الاجتماعية
الهندوسية، لكنه يشرحها في ضوء إلهيات الـأوبنشاد
ويكشف بذلك عن معناها العميق. ثمة الكثير في عقيدة
شنكرا مما يشي بمؤثرات بوذية، حتى إن بعض
المستشرقين مال إلى الاعتقاد بأنه كان بوذياً
في الخفاء إبان حياته، مارس نوعاً من "التقية".
لكن هذا الرأي مجانب للصواب لأنه لا يأخذ
بالحسبان وحدة المنقولات الروحية في بعدها
الباطن ("دين الحكمة")، وبالتالي
وحدة التحقُّق بالمبدأ الإلهي الأعلى، الأمر
الذي يستتبع تشابه التعابير عن هذا التحقق.
ثم إن التأليف العقيدي الشامل الذي نهض به
شنكرا كان عاملاً حاسماً في إقصاء البوذية من
الهند، باعتبارها فرعاً من فروع باطن
الهندوسية لا يصلح منهاج حياة للجماهير
العريضة بل للنخبة وحدها. وبذلك وطَّد شنكرا
الـدهرما في الهند وأحياه من جديد.[9] غاية
الدهرما: الانعتاق في الحياة
ضمن هذه الثيمات
أيضاً يملك أشياع الهندوسية الخيار بين
تأويلات مختلفة، وبالتالي طرق مختلفة. فلصاحب
الفكر المجرد ألا يعتبر نفسه شخصاً إلا
بمقدار ما تكون كذلك "قطرة من رذاذ طرحته
موجة من المحيط". أما صاحب العاطفة
الحارَّة والشعور المتَّقد فقد يميل إلى
تصوُّر إله محايث immanent،
هو آتمن، الروح الشامل الكلِّي الحضور،
الملازم للإنسان والمتميِّز عنه في آن معاً.
غير أن كلاهما – المتأمِّل والمتعبِّد –
متفقان على أن الاتحاد النهائي مع الله أو
الذات العليا هو مآل البشر جميعاً وغايتهم
القصوى. يصطلح الهندوس على
تسمية هذا الاتحاد الصوفي بـسمادهي samâdhi؛ فيه تستغرق
الأنيَّة الحقة في الحق نفسه، ويبلغ أقصاه
في "الانعتاق" (موكشا moksha). ومن الأسماء
الأخرى التي تُطلق في الأوبنشاد على هذا
المقام الرفيع وتُبرِز وجهه السلبي اسم نيرفانا
nirvâna الذي اعتمده
البوذا فيما بعد. ولما كان مصطلح نيرفانا (من
جذر نير–فا، "أُطفِئ") ينطوي على
معنى "الإخماد" فقد دار في خلد عدد من
الباحثين أن الغاية القانطة للهندوسي (أو
البوذي الذي ينتمي إلى الأسرة الروحية عينها)
هي تعطيل كل وجود والنكوص إلى ظلمة لا معرفة
فيها ولا مشاعر. غير أن الصحيح هو أن ما "ينطفئ"
في الـنيرفانا هو الرغبة التي تُمِدُّ
الأنيَّة الكاذبة بأسباب الاستمرار وترى
وجودها كله منحصراً في العالمين الجسماني
والنفساني. بذلك يكون "انطفاء" الرغبة
إيذاناً بكسر قوقعة الأنيَّة واستغراق الذات
الفردية في الذات الكلِّية. ذلكم مؤدَّى
الاصطلاح.[10] يوصف الـنيرفانا
في الأوبنشاد بكونه حالة الوَجْد التي يبلغها
المرء متى أدركت الأنيَّة الحقة أخيراً بأنها
وآتمن واحد. أما البوذا الذي استبعد كل
المماحكات الفقهية الزائفة لصالح قضايا
الحياة الواقعية فهو لايني يصف حالة الـنيرفانا
بكونها "عصية على الفهم والوصف والتصور
والتعبير"، وعبارته الإيجابية الوحيدة هي
الآتية: "الـنيرفانا هو السعادة القصوى." أما الطريق المؤدي
إلى الـنيرفانا فهو شاق وطويل. بيد أن
الهندوس يعتقدون أن الحياة والسعادة
البشريتين محكومتان بقانون أخلاقي وطبيعي
ملازم للطبيعة البشرية ومتأصل في فطرتها.
وهم يرون أن كل فكرة تخطر على بال أحدهم وكل
فعل يقوم به يعيِّنان طبعه، ويجاهرون (باستثناء
غلاة الـأدفَيـْتـا) أن إرادة الإنسان
كلِّية الحرية. الاتفاق والمصادفة غير
موجودين في قاموس الهندوسي التقي. بيد أن
المعتقد الهندوسي يذهب إلى أبعد بكثير من
تصورات الفلسفة الحديثة لهذه المفاهيم. إن
كلمة كرما karma المشتقة من جذر كْرِ
kri السنسكريتي تعني
"الفعل" أو "العمل" – فكرياً كان أم
مادياً. وقانون كرما اللاشخصي، الحتمي
والتلقائي يحمِّل كل إنسان مسؤولية لا
عذار فيها لكل فعل من أفعاله الأرضية. وللنفس
بعد الموت أن تقيم مدة، قد تطول أو تقصر، في
السماء أو في "الأعراف"، بحيث تولد بعدها
في بيئة تمثل محصلة الأعمال التي قامت بها في
كل أعمارها الماضية. فإذا كان الحساب الختامي
سلبياً فإن النفس، بحسب المعتقد الشعبي
الهندوسي، أو أجزاء منها، تولد من جديد في
إنسان من مرتبة دنيا، لا بل في حيوان أو في
حشرة أو في نبتة.[11] أما إذا كان
الحساب إيجابياً فإن النفس تولد من جديد في
مرتبة أعلى، أو تتدرَّج صعوداً نحو الغاية
الحقة من الوجود الإنساني. وغني عن القول أن
هذا المعتقد يمثل الجانب الظاهري والشعبي من
عقيدة التقمص أو "العَوْد للتجسُّد"
(بونَر جـَنـْمـَن punar janman).[12]
وإن الارتحال الخاص بالنفس، أو بأجزاء
منها، مما قد يُتّفَق له أن يندرج في بنية غير
بشرية، لا ينطبق على الروح، أو الذات، التي
تتخذ دوماً مركبة ذهنية تامَّة ولا يمكن أن
تعود في هيئة حيوانية أو أدنى. ومتى انفتحت
النفس على الروح فإن وحدة آتما مع برهمن
قد تنكشف للنفس المتجسِّدة في لحظات خاطفة.
إنما لا يتم كسر عجلة الولادة والموت إلا متى
تم بلوغ "الانعتاق" (مُكتي mukti) و"الاتحاد"
(يوغا yoga)
النهائي مع الذات الإلهية فيما يُعرَف باسم نيرفانى
أو كَيْفاليا kaivalia. إن مفهومي كرما والعَوْد
للتجسُّد هما اللذان ربطا نظام المراتب
المنقول إلى العقائد الدينية في كل متَّسق
بحيث إن كل انتهاك لنظام المراتب كان يُعتبَر
زندقة في نظر الهندوس المتزمِّتين من أهل
الظاهر.[13]
لقد كان هذا النظام يكفل التناغم والتساوق
بين الاستعدادات والمواهب الفردية
والجماعية، وكان بذلك يشكِّل بنياناً
اجتماعياً متماسكاً ناتجاً عن إفراز الطبيعة
نفسها لأدوار الناس، كلٍّ بحسب إمكاناته
وواجباته، بما يضمن التكامل والتوازن في
المجتمع، ولم يكن بأي وجه من الوجوه نظاماً
"طبقياً"، بحسب تصنيف الفكر الغربي،
يكرس بقاء المستغَلين والمستغِلين. غير أن
هذا النظام انحطَّ مع الوقت بحيث احتكرت
طائفة البراهمة صريح معرفتها، واضطلعت
بسيادة مطلقة على شؤون الدين والدنيا، تحدوها
في ذلك غيرة شديدة، ولم يعد لديها ما تقدِّم
لرعاياها سوى الشعائر الجوفاء والفرائض
الباهظة من القرابين. وبحسب مزاعمها الصارمة
كان مقضياً على غالبية البشر بطواف دورة لا
تنتهي من الولادات والميتات. البوذا:
حياته وتعاليمه
شهد عصر الانحطاط ذاك
تألق نجمي معلِّمَين روحيين لا تفصل بينهما
إلا بضع سنين، تقدَّم كل منهما بطريق واضحة
المَعالِم نحو الخلاص. أما الأول فهو مؤسِّس
الجَـيْـنِـيـة نَتابوتَّا فردهامَنا Nataputta
Vardhamana،
الملقَّب بمهافيرا Mahavira
("البطل العظيم") أو جِنا Jina ("المنصور")،
الذي علَّم بأن من شأن حياة البِرِّ والزهد
الكامل، إذ تُفني الأنيَّة الكاذبة
ورغباتها، أن تقود إلى النيرفانا. ومن
المفاهيم الرئيسية في أخلاق جِنا مفهوم أهِمسا
ahimsa الذي يعني
الرفض المطلق لإيقاع الأذى بأي مخلوق حي.[14]
وأما الثاني فكان من المجدِّدين أعظمهما
بالروح: إنه سِدْهرتا غَوْتاما Siddharta
Gautama،
الملقب بالبوذا Buddha
("المتنوِّر")، مؤسِّس البوذية وواحد من
أعظم الحكماء في كل الأزمنة والبلدان.
شكل 5
:
مهافيرا، مؤسس المذهب الجَـيْـني، تحمله
الآلهة في هودج للخروج من المدينة، وفي
نيَّته الزهد في العالم. البوذية، ككل عقيدة
باطنية، لا تندرج في إطار أي من التصانيف
الغربية للفكر. فهي ليست ديناً ولا فلسفة
بالمعنى الغربي لهذين المصطلحين، إنما
بالحري مسلك باطني ("طريقة" بالمصطلح
الصوفي) يستهدف تحقيق "الهوية المطلقة"
فيما يُعرَف بالـنيرفانا. وهي تقوم على
عقيدة رحبة ومُحكمة التماسك في بسطها
ومنطقيَّتها. كلمة "بوذية"
مشتقة من لقب بوذا – وهو مصطلح لا يشير
إلى شخص معين بقدر ما يشير إلى التحقق بدرجة
عليا من الوعي: البوذا هو المتنوِّر، هو
الكائن المتحقق بأسمى درجات الإشراق الروحي.
أما الإنسان الذي كان تجسيداً رفيعاً لهذه
الدرجة فهو الأمير الهندي سدهرتا غوتاما.[15]
وتخبرنا السِيَر أن سدهرتا غوتاما ولد سليلاً
لطائفة المحاربين النبلاء (كشَتْريا kshatriya) بالقرب من
كبيلافستو حوالى سنة 563 ق م. وقد أضفت الأسطورة
زخارف كثيرة على سيرة حياته التي لا يُعرَف
عنها نسبياً إلا القليل. عاش سدهرتا في مستهل
حياته عيش الأمراء في قصر والده. وفي السادسة
عشرة اقترن بياسودهارا Yasudhara
التي أنجبت ابنهما راهولا Rahula.
وتذكر السِيَر أيضاً أن والده أبقاه في القصر
وأحاطه بالشبان والشابات فقط لكي يمنع عنه
رؤية البؤس البشري؛ إلى أن أصرَّ ذات مرة على
الخروج وصادف في طريقه، على التوالي، شيخاً
مسناً ومريضاً وميتاً ثم ناسكاً متوحِّداً.
نبَّهه الثلاثة الأُوَل إلى الألم الذي يكتنف
الوجود البشري، فيما أبصر في رابعهم إشارة
إلى رسالته في الحياة. على أثر هذه الرؤيا
التي زلزلت كيانه، غادر الأمير قصره المنيف،
هاجراً زوجه وابنه، متخلياً عن أملاكه،
عازفاً عن حياة الترف واللهو، طالباً المعرفة.
وإذ تنسَّك، شرع في صحبة نسَّاك (سامنا sâmana) آخرين يفتش عن
علاج جذري للألم الشامل. وعندما أخذ عنهم كل
ما كان بوسعهم أن يعلِّموه غادرهم مواصلاً
طريقه بمفرده. وقد فرض في البداية على نفسه
تقشفات وإماتات بدنية ونفسية سرعان ما هددت
حياته بخطر الموت. لكنه، إذ أدرك الغرور
المقنَّع الذي ينطوي عليه الإفراط في الزهد،
أقلع عنه مكتشفاً "طريقاً وسطاً" "تقع
بين الحدَّين المتطرِّفين وتتخطاهما معاً"،
على حد تعبير الفيلسوف البوذي كرستمس همفريز.
ثم اقتعد موضعاً تحت شجرة (عُرِفت منذئذٍ
بشجرة بودهي Bodhi – "الحكمة")
قرب غايا Gaya
واستغرق في تأمل عميق موصول (شكل 6). وقد ارتقى
بوعيه مراتب الوجود مرتبة مرتبة، واتسعت
رؤياه، حتى إذا حلَّ الهزيع السابع من الليل
ولج، فجأة، عالم النور الخالص، واجداً ضالته
التي طالما فتش عنها، مكتشفاً المغزى الأسمى
من الكون والحياة، ودخل حياً في الـنيرفانا:
صار جيفَن موكتا jivan-mukta، أي "منعتقاً
في الحياة"، بالمصطلح الهندوسي. إنه
التنوُّر! لقد صار سدهرتا الأمس "بوذا"،
"المتنوِّر"، أو بالحري "تحقَّق"
بطبيعته الأصلية.
شكل
6:
هيكل مهابودهي في بودغايا، حيث يضم الطابق
العلوي الحَرَم المركزي وأربعة مصلَّيات
ركنية. شُيِّد حوالى عام 526 م حول فَجْراسَنا،
عرش إشراق البوذا. أدرك البوذا، إذن،
بملء وعيه، أن الحياة تنطوي على الألم،
وأن الألم بالمرصاد لكل من لا يزال أسير عجلة سمسارا
samsâra، عجلة الولادات
والميتات؛ أدرك أن ما من شيء دائم في هذه
الدنيا وأن كل شيء فيها إلى زوال. فالإنسان
غير المتحرِّر داخلياً "لاذات" (أنـَتـْما
anatma) غير مطمئن، يعود
شقاؤه إلى جهله وتعلُّقاته الناجمة عن رغبته
التي لا ترتوي. الرغبة هي علَّة الألم،
ولا زوال للألم إلا بإخماد نارها المستعرة.
وقد صاغ البوذا هذه العلَّة فيما دعاه بـ"الحقائق
النبيلة الأربع" في الألم، ألا وهي: 1.
حقيقة
الألم: فالألم متأصِّل
في الحياة كما يفهمها الإنسان العادي؛
أ.
الفهم
السليم: رؤية الحياة كما
هي عليه، بالانسجام مع خصائصها الثلاث، الألم
والتغيُّر واللاذاتية، والأخذ بالحقائق
الأربع (وجود الألم وعلَّته والتغلب عليه
والطريق إلى ذلك بالسير على "الطريق الوسط"). ب.
التفكير السليم:
تجرُّد التفكير من الغلاظة والتعصُّب تجاه
البشر وكل أشكال الحياة. ت.
الكلام السليم:
الكلام اللطيف وقول الحق وسرد الأحداث
الجارية بدقة وبأمانة. ث.
العمل السليم:
السلوك بحذاقة وبرأفة واجتناب المجهود
العنيف أو العقيم. ج.
العيش السليم:
على مسلك المرء في العيش ألا يتسبب في إلحاق
الأذى بالنفس أو بأي من الكائنات وأن يُعِدَّ
المرءَ لميتة كريمة لائقة بإنسانيته. ح.
الاجتهاد السليم:
تحقيق الكمال بنبذ الصفات الوضيعة الذميمة
والتخلُّق بالخصال الرفيعة الحميدة. خ.
النظر السليم:
تنمية الانتباه الداخلي ومراقبته، وكذلك
العطف والرحمة الناتجين عن الاتكال على النفس
والحِلم. د.
التركيز
السليم: التأمُّل حتى
بلوغ ذروة الكشف العقلي – الحكمة. وإذا امتلأ البوذا
الجديد بالرحمة على العالم، عزم على نقل
النور والخلاص الذي انكشف له الطريقُ إليه
إلى بني الإنسان. لقد كان في الخامسة
والثلاثين من عمره عندما شرع في تعليم
عقيدته، الـدهرما، وثابر على ذلك طوال ما
تبقى من حياته مثالاً حياً على الحكمة
المطمئنَّة والطيبة اللامتناهية، إلى أن
وافاه الأجل في الثمانين. لقد أوصى البوذا من
أجل بلوغ غاية الحياة باتباع شريعة أخلاقية
رفيعة هي انعكاس مباشر للناموس الأخلاقي
المدوَّن في سريرة الإنسان. إن منهجه يقوم،
بدون أن يُلمِع إلى وجود أي إله،[16]
على التأمل والرياضة العقلية أكثر منه على
الزهد. وإننا لنقع في العقيدة البوذية على
عناصر هندوسية عديدة، الأمر الذي يؤكد على
عدم التعارض بين ظاهر الهندوسية والبوذية إلا
بمقدار ما يختلف ظاهر منقول عن باطنه. ولم
يكتفِ البوذا بتعليم العقيدة وحسب، بل أسَّس
"رهبنة" الـسَنْغها sangha التي أوكل إلى
أفرادها (الـبهِكشو bhikshu)
مهمة نشر البشارة البوذية في العالم.[17]
ولقد لاقت البشارة نجاحاً عظيماً، وانتشرت
البوذية في الهند بعد قرنين من موت غوتاما
ورهبانه الأوائل في عهد آشوكا Ashoka،
ذلك الملك العظيم الذي راعته الفظائع التي
ارتكبتها جيوشه الغازية، فتحوَّل، وهو في أوج
فتوحاته وانتصاراته، إلى البوذية معتنقاً
إياهاً ومتعمِّقاً فيها، وصار من أنبل الوجوه
الإنسانية التي مثَّلت لها عبر التاريخ (شكل
7). وظلت البوذية مزدهرة في الهند حتى بعد مرور
1500 سنة على دخول مؤسِّسها في الـبَرينـِرفانا
parinirvâna ("الانطفاء
التام").
شكل
7:
تاج عمود آشوكا ذو السباع في سارنات، 240 ق م.
تشاهَد على ناصيته "عجلة الناموس" مكررة
أربع مرات بين ثور وحصان وأسد وفيل،
باعتبارها رموز البوذا. شعار جمهورية الهند. البوذية في نقائها
الأصلي، بما هي طريقة باطنية تأملية، عقيدة
مُحْكَمة تقوم على منطق عملي لا يفسح للعاطفة
إلا مجالاً ضيقاً للغاية. فلما كان الشعب
الهندي يتميز بشفافية الشعور وبعاطفة ثرَّة،
وكان ذا ميل فطري إلى الإلهيَّات والمُدارَسة
النفسية، فقد شقَّ تيار جديد طريقه وسط
العالم البوذي في القرن الأول الميلادي، حتى
توطَّد أخيراً منهجان اثنان: منهج الجنوب (ويدعى
كذلك هينيانا Hinayâna،
"المركبة الصغرى"، أو تهِرَفادا Theravada) الذي اعتبر
نفسه، وما يزال، حامي العقيدة في صورتها
الخام؛ ونهج الشمال (مهايانا Mahâyâna، "المركبة
الكبرى") الذي تلوَّنت البوذية بتأثيره
بلون جديد أدرج فيها بعداً "بهكتياً"،
تعبُّدياً، وأبرز أهمية التأملات
الميتافيزيائية. ومع الانتشار الجغرافي
للبوذية، تفرَّعت عن هذين المنهجين أغصان
عديدة متنوعة.
شكل
8:
تمثال للبوذا مانح البركة، مصدره هيكل
مَهابودهي، بودغايا، القرن الخامس. ففي القرن الثالث ق م
دخلت البوذية الصين، ومنها امتدت إلى كوريا
(372 م)، ثم إلى اليابان (552 م)، كما تسرَّبت بعض
المؤلفات البوذية إلى التيبت في حوالى القرن
الخامس الميلادي. ومن سيلان (شري لنكا) التي ما
تزال منذ أكثر من اثنين وعشرين قرناً معقِل
منهج الجنوب اكتسحت البوذية بورما (450 م)، ثم
كمبودجيا. وفي القرن السابع بلغت سيام (تايلاند)
حيث أصبحت دين الدولة الرسمي. واليوم، ما تزال
البوذية حية رغم أن عمرها "التاريخي"
تخطَّى القرون الخمسة والعشرين؛ وإن
تسرُّبها إلى الغرب، الذي ناسبته
عقلانيَّتها الرصينة، لفي ازدياد مطَّرد.
شكل
9:
رأس بوذا من الرخام، عُثِر عليه قرب كابل،
أفغانستان الحالية. كانت العلامة بين العينين
في الأصل ثقباً يُظَن أنه يبثُّ أشعة نور، مثل
عين شيفا الثالثة. يتركز مجهود البوذية
برمَّته في قدرة الإنسان على الانعتاق من
عجلة الولادات والميتات التي تلقي به في هوة
الألم. ولأنه ما من إله شدَّه إلى هذه
العجلة (سمسارا) فليس خلاصه منوطاً بأحد
سواه. لا مكان في البوذية للصلوات وللقرابين
التي يعتقد أهل الظاهر أن بالإمكان من خلالها
استنزال رأفة إله غاضب أو شفقته؛ وبذلك تعود
إلى الإنسان كرامته ومنزلته اللائقتان به
ككائن فاعل في هذا الوجود. و"كهنة"
البوذية مدرِّسون للـدهرما وليسوا أبداً
وسطاء بين الإنسان والحق. ولأن البوذية لا
تقدِّم نفسها بوصفها "وحياً منزَلاً"
فإنها لا تفرض أي شيء، إنما بالحري تقترح "تعليلاً"
منطقياً وموضوعياً للإوالية المسؤولة عن ألم
الإنسان وعبوديته. كل علَّة فهي تحتِّم
معلولاً يصير بدوره علَّة لمعلولات متلاحقة (ناموس كرما)،
وما من تدخُّل، أياً كان مصدره، يمكن أن يجعل
الواقع على غير ما هو عليه. لا شيء في البوذية
يدعى "خطيئة" أو "إثماً" بمعنى
إساءة تثير سخط "رب" أو "إله"، لكن كل
فعل خاطئ، أي في غير محلِّه، يقود إلى الألم.
لقد أصاب كرستمس همفريز إذ قال: "المرء
يعاقَب بـخطاياه، وليس عليها." لئن
كانت البوذية تمنح الإنسان قدرة مذهلة، وتلقي
على عاتقه المسؤولية التامة عن مصيره وخلاصه،[18]
إلا أنها في الوقت نفسه تنفيه كشخص أو "أنا"[19]بالمفهوم
العطالي للمصطلح. فالأنيَّة ego،
من وجهة النظر البوذية، ما هي إلا ملتقى طرق
لمؤثِّرات خاضعة للتحول الدائم. وربما رأى
بعضهم في هذه الفكرة، للوهلة الأولى، تناقضاً
أساسياً في الديالكتيك البوذي. غير أن
الأنيَّة بنظر البوذي (كما بنظر أيِّ صوفي
مشرقي) ليس لها وجود بذاتها، شأنها في ذلك شأن
العالم. فمع أنهما موجودان في الواقع على
صعيدهما الخاص فإنهما في المطلق وهم لأن وحدَه
المطلق موجود بذاته. لذا على المرء، كيما
يكون "حقيقياً"، أي يحيا في الحق وبالحق،
ألا يكون محدوداً بشيء، مقيَّداً به، وألا
يتكل على أي كائن آخر أو ظرف خارجي – وبعبارة
أخرى، عليه أن يكون كلِّياً. وهذا قطعاً
ينفي عنه الشكلانية والاسمية. إن كل ما نصادفه
أو نكتشفه في أنفسنا وفي كل ما تقع عليه
حواسنا من العالم مقيَّد وزائل، وبالتالي غير
حقيقي بالمعنى البوذي للكلمة. ما تزال البوذية حتى
الساعة تبدو لنا مجرد منهج مادي خلو من أي
مضمون روحي، لكنها ليست كذلك في الواقع، من
حيث إن المرء، متى أخمد في نفسه لهيب
الرغبة الذي يستمد وقوده من تماس الحواس مع
الأشياء وأطلق أنيَّته من تقوقعها على نفسها وتملَّص
بذلك من الدوران مع عجلة الولادات، عاش "حالة"
النرفانا. إن وعي فراغ الأنية الزائفة وفراغ
الأشكال من أي ماهية دائمة هو السبيل إلى
تحقيق الانعتاق. والسلوك في هذا السبيل ليس
بالأمر السهل على الإطلاق؛ فإنه يتطلب
مجهوداً جباراً ويقظة للوعي متواصلة وسبراً
عميقاً للنفس يخترق الفكر الذي يُتخطَّى إلى
الوعي الكلِّي. ولئن صح أيضاً أن
البوذية تعلِّم أخلاقية ما فهي في مآل الأمر
ليست بالمنهج الأخلاقي. فالأخلاق فيها ليست
غاية بحد ذاتها، إنما هي موطئ قدم مبدئي على
"درب" النرفانا وأول خطوة؛ لكنها خطوة لا
معنى لها إلا بمقدار ما تمهِّد للغاية القصوى.
إن النظرة البوذية الثاقبة إلى الوجود لتثير
الإعجاب حقاً، وعمقها في "التحليل النفسي"
للدوافع التي يلقي انحرافُها بالإنسان في هوة
الجهل، وإقصاؤها، ككل طريقة باطنية مستقلة عن
الظاهر، كل الفروق الاجتماعية والعرقية
والعقائدية – كل ذلك يحملنا على الوقوف
طويلاً عند صرحها الشامخ متأمِّلين، خاشعين. أحاديث
بوذاوية
هاكم الآن بعض
الأحاديث المأثورة عن البوذا، استقيناها من
مصادر مختلفة غير مراعين في ذلك أي ترتيب أو
تبويب: -
لا
تفتش عن ملجأ إلا في نفسك. -
حرِّر
نفسك من القيود كما تخرق السمكة شبكة الصياد. -
لا
في السماء، ولا في عرض البحر، ولا في كهف
جبلي، ولا في أي مكان من العالم، يستطيع المرء
أن يهرب من سيِّئ فِعالِه. -
كما
أن الشمعة التي أطفأتها الريح لا تُعرَف
هويَّتها، كذلك الحكيم المطمئن الذي تحرر من
الفكر والجسم لا تُعرَف هويَّته. -
الطريق
الوسط تجيء بالمعرفة والفهم، تجيء بالرؤيا
الداخلية وتقود إلى الطمأنينة والحكمة، إلى
اليقظة، إلى النرفانا. -
الحكيم
المطمئن، الحرُّ من وجهات النظر المبنية على
أشياء رآها وسمعها، يتحرر من وزر حمله، فلا
يعود خاضعاً للزمن، وبذا يتخطَّى الرغبة
والزهد معاً. -
متى
سيطر المرء على شيء ما، عليه ألا يقيس نفسه
إلى الآخرين، مادحاً أو قادحاً، بأي وجه من
الوجوه. -
الإنسان
الكامل لا يهتم بكيفية نشوء العالم، فلا
يعتبر من الزمان إلا الحاضر، ولا يجعل من
الولادة في أي عالم من العوالم همَّ قلبه. -
صالح،
طالح... انفعالات كهذه تنجم عن التداعيات
والانطباعات الفكرية. أما متى تمَّ تخطي هذه
التداعيات الفكرية لا يعود ثَمَّ تمييز بين
مفهومي مُلِذّ وغير مُلِذّ. -
بعض
المتديِّنين يجزم: "الحقيقة هي كيت وكيت؛
أعرف؛ أرى!"
ظانِّين أن كل شيء يتوقف على اعتناق الدين
الصحيح؛ لكن متى عرف الإنسان حقاً لم يعد
بحاجة إلى دين. -
كما
النحلة تجمع الرحيق دون أن تؤذي الزهرة، كذا
يفعل الحكيم وهو بين الناس. -
لا
تتعلق بالمُلِذّ ولا بالمؤلم؛ ففي فقدان
المُلِذّ وفي اقتناء المؤلم ألم. -
الصراع
لا يُلطَّف بالكراهية؛ الصراع يتوقف بالمحبة.
هذا ناموس أزلي. -
لو
لم يكن ثمة ما لا يولَد، ما لا أصل له، ما لم
يُخلَق، ما لا شكل له، لما وُجِدت إمكانية
النجاة من عالم الولادة والخلق وذي الشكل. -
الأفكار العقيمة مرض
وقرحة وشوكة. ومتى تم تخطِّي كل الأفكار
العقيمة، حُقَّ للإنسان أن يدعى "مفكراً
صامتاً"؛ والمفكر، الحكيم، لا يخضع
للصيرورة. لقد تعرضت البوذية مع
تزايد انتشارها إلى مؤثِّرات عديدة عدَّلت
قليلاً من منهجها. ولكن، أليس من العجب أنها
حافظت بعد خمسة وعشرين قرناً على حيوية روحية
متميِّزة؟ أما لقاؤها التاريخي مع العقلية
والروحانية الصينيتين فكان مصدراً لتلاقح
خصب أثمر عما سُمِّي ببوذية تشآن Tsh'an (كلمة مشتقة من
كلمة دهِيانا dhyâna
السنسكريتية التي تعني "التأمل") في
الصين وبوذية زِنْ Zen في اليابان
اللتين تتميَّزان بجرأة وقوة فريدتين
وتعبِّران عن نضج روحي مذهل. فهذان المنهجان
يقترحان إمكانية القيام بقفزة مباشرة نحو
النيرفانا بتحدي المنطق الفكري الصارم
وتحطيم طغيان الفكر والكلمات بما يفضي إلى
يقظة مباغتة (ساتوري satori). يبقى أن نشير إلى
الرقة والجمال الرائعين اللذين يدين بهما
الفن والثقافة إجمالاً للبوذية، سواء في
الهند وآسيا خصوصاً، أو في الحضارة الإنسانية
جمعاء عموماً.
*** *** للتوسع -
Bhagavad-Gîtâ (La),
traduite du sanskrit par Alain Porte, Arléa, 1995. -
Bhagavadgītā
(The), with an introductory essay,
Sanskrit text, English translation and notes by S. Radhakrishnan, George
Allen & Unwin, London, 1963. -
BRODOV, V., Indian Philosophy in Modern Times,
Progress Publishers, Moscow, 1984. -
COOMARASWAMY, Ananda K., Hindouisme
et bouddhisme, coll. « Idées », Gallimard, Paris, 1949. -
COOMARASWAMY, Ananda, The Dance of Shiva:
Fourteen Indian Essays, with a forward by Romain Rolland, Asia Publishing
House, Bombay & Calcutta, 1956. -
DANIÉLOU, Alain, Les Quatre Sens de la vie : Système social des Hindous,
Éditions du Rocher, Monaco, 2000. -
DASGUPTA, Surendranath, Indian Idealism,
Cambridge University Press, 1962. -
GARRATT, G. T. (ed.), The Legacy of India,
Oxford University Press, 1938. -
GUÉNON, René, L’homme et son devenir selon le Vêdânta,
Éditions traditionnelles, Paris, 1986. -
HERBERT, Jean, Spiritualité
hindoue, coll. « Spiritualités vivantes », Albin Michel, Paris,
1972. -
HUMPHREYS, Christmas, Buddhism, 3rd
ed., Penguin Books, 1981. -
HUMPHREYS, Christmas, Exploring Buddhism,
A Mandala Book, Unwin Paperbacks, London, 1980. -
LANE SUZUKI, Beatrice, Mahayana Buddhism: A
Brief Outline, with an introduction by D. T. Suzuki and a forward by
Christmas Humphreys, George Allen & Unwin, London, 1959. -
LEVY, John, The Nature of Man According to the
Vedanta, Routledge & Kegan Paul, London, 1956. -
NARAVANE, V. S., Modern Indian Thought: A
Philosophical Survey, Asia Publishing House, Bombay, 1967. -
RADHAKRISHNAN, S., Indian Philosophy,
vols. I & II, The Macmillan Company, New York, George Allen & Unwin,
London, 1956. -
RADHAKRISHNAN, S., The Hindu View of Life,
George Allen & Unwin, London, 1954. -
Romain Rolland, Asia Publishing House, Bombay
& Calcutta, 1956. -
Sept Upanishads, traduction commentée, précédée d’une introduction
générale aux Upanishads par Jean Varenne, coll. « Sagesses », Éditions du Seuil, Paris, 1981. -
THOMAS, Edward J., The Life of the Buddha as
Legend and History, 3rd ed., Routledge & Kegan Paul, London,
1975. -
Trois Upanishad : Îshâ,
Kena, Katha,
traduites du sanskrit et présentées par Alain Porte, Arfuyen, Orbey, 2000. -
Upanishads du Yoga, traduites du sanskrit, présentées et annotées par
Jean Varenne, coll. « Connaissance de l’Orient », Gallimard /
Unesco, 1971.
[1]
سنأتي على ذكر السيخية في دراسة بعنوان "ناناك
وديانة السيخ" في عدد لاحق من معابر. [2]
مما لا ريب فيه أن عدد الآلهة المتداوَل في
المعتقدات الشعبية – وهو 330 ألف ألف - ليس
حصيلة دراسة إحصائية، إنما هو رمز يشير من
أحد أوجهه إلى ما لا يُحصى. [3]
جاء في أوبنشاد مونداكا: كما
الأنهار تجري لتصب في المحيط متلاشية،
تاركة اسمها وشكلها، كذا
من يعرف، إذ يتحرر من الشكل والاسم، يمضي
إلى الشخص السماوي، الأعلى من العليِّ. من
يعر ف برهمن يَصِر برهمن. [4]
وهو على كل حال أبعد ما يكون عن اعتبار رأيه
صحيحاً بإطلاق وعن فرضه على غيره. [5]
لا ينسجم هذا الرأي مع نظرة عمانوئيل كنط
وحسب، بل يتطابق مع رأي العديد من علماء
الفيزياء الطليعيين المعاصرين. جدير
بالذكر أيضاً أن فلاسفة الهند كانوا أسبق
من الفيلسوف الإغريقي ديموقريطس الذي
يُعتبَر "أبا الذرة" إلى صياغة مفهوم
متماسك عن الذرة. [6]
تنطوي الـأوبنشاد على زبدة التعاليم
الباطنية التي تسمى أيضاً بالـفيدنتا Vêdanta،
أي "نهاية الـفيدا". وبرأينا، تصح
الترجمة أيضاً بـ"غاية الـفيدا"
باعتبار أن "نهاية" الشيء هي "غايته". [7]
وبلغة الفيزياء يجوز أن نقول: "إلى "حقل
موحَّد" دينامي مبدع. يقابل هذا المسعى
في الفيزياء الحديثة محاولة العلماء إرجاع
القوى (أو التفاعلات) الأربع في الطبيعة (النووية
الشديدة، النووية الضعيفة،
الكهرمغناطيسية، الثقالية) إلى قوة واحدة
أصلية تُشتَق منها. [8]
الواقع أن دور حكيم من نمط شنكرا (بخلاف دور
البوذا) لا يتمثل في "نسخ" ما قبله من
الأشكال المنقولة بل في "تجديدها".
دليلنا على ذلك، فيما يختص بشنكرا بالذات،
هو أنه، إلى جانب عقيدته "التوحيدية"
الخالصة، كان كذلك نصيراً متحمساً لعبادة
الإله شيفا الذي رفع إليه العديد من
القصائد والصلوات والأدعية، الأمر الذي
يعكس الأفق الواسع لحساسيته الصوفية في
جانبها "التعبُّدي" (بهكتي bhakti).
من هنا لا يسعنا إلا أن نشير إلى التوازي
بين دور شنكرا في تجديد الهندوسية وبين دور
محيي الدين بن عربي في "إحياء" الإسلام. [9]
لقد ظهرت البوذية في وقت كان فيه الـدهرما
قد بلغ نهاية حدِّية دنيا، فكان لابد من
ظهور حكيم من عيار البوذا للنهوض بالتجديد
الروحي انطلاقاً من الباطن؛ وبذلك مُهِّد
الطريق لشنكرا لإتمام هذا التجديد حتى يشمل
الظاهر أيضاً انطلاقاً من المنقول
الهندوسي نفسه. على أنه لا مجال للمقارنة،
من حيث التحقق الروحي، بين "النهر"
شنكرا و"البحر" بوذا. [10]
بهذا المعنى، وبهذا المعنى وحده، ينبغي فهم
مصطلح "الفناء" المقابل للـنيرفانا
في باطن الإسلام. [11]
ذلك هو "التماسخ" بالمصطلح
الشائع، أي نكوص النفس الدنيا أو الأجزاء
الغليظة منها إلى ممالك "أدنى" من
المملكة الإنسانية. [12]
راجع: ديمتري أفييرينوس، مقالة في التقمص،
سلسلة الحكمة 2، ولاسيما ص 39-43. [13]
لم تنجُ البوذية التي أسقطت نظام المراتب
من حسابها (من حيث إن من تتوفر فيه الأهلية
لنيل المسارَرة البوذية يقف على صعيد أعلى
من صعيد المراتب جميعاً) من هذه التهمة. [14]
هذا المفهوم هو الذي بنى عليه المهاتما
غاندي فلسفته في "اللاعنف" non-violence. [15]
عُرِف الأمير سِدهرتا أيضاً بلقب
سَكْياموني Sakya Muni،
أي "متوحِّد الساكيين"، لأن والده
سودودهانا Sudodhana
كان ملكاً على هذه القبيلة، عاصمته
كبيلافَستو Kapilavastu
في النيبال على بعد حوالى مئة ميل شمال
مدينة بِنارِس (فارَنَسي Vâranasi)
عند سفوح الهملايا. [16]
الواقع أن البوذا يتجنب في تعاليمه الشفهية
أي ذكر للألوهة. [17]
"التبشير" بالـدهرما البوذي سمة
مميِّزة للبوذية؛ وهو يتم بشرح العقيدة
بتسامح تام بدون أي فرض أو إكراه، وحتى بدون
رغبة ملحَّة في الإقناع. [18]
يقول البوذا: "ليس بإمكان أحد سواك أن
يساعدك." [19]
يعبَّر عن هذه العقيدة بقولهم: "لا
أنية" في البوذية.
|
|
|