غزو لصوص الثقافة؟

 

وينفرد فلاك

 

شبح "الأمْرَكَة" مخيِّم على العالم. وعواقبُها مُشَيْطَنةٌ في كلِّ مكان، إلى حدِّ تشبيهها أحياناً على سبيل المجاز بفيلم خيال علمي (من نافلة القول إنه أمريكي) بعنوان "غزو لصوص الجسم"، يقوم فيه غرباء عدائيون خُلسةً بتولِّي السيطرة على أجسامنا وأذهاننا. غير أن الغلوَّ بلاغةً في الكلام على الغزوات يفوتُه تعقيدُ التغير الثقافي الحاصل من حولنا.

لا يقدِّم أيٌّ من طرفي المساجلة حول الأمركة تعليلاً للظاهرة مقنِعاً. فالمحاجِجون بأن الأمركة شكلٌ خبيث من أشكال "الإمبريالية الثقافية" يرون فيها، على ما يبدو، نتيجة من نتائج هيمنة اهتمامات وسائل الإعلام الأمريكية المتعاظمة على السوق. إلا أن العديد من الهيئات الثقافية العملاقة – سوني اليابانيةَ الملكية، سيغرام الكنديةَ الملكية، إمبراطورية مُردوخ، أو بِرْتِلْسمان الألمانية – لم تعد أمريكية، وإن تكن تروِّج لنماذج ثقافية أمريكية.

وحتى إذا كانت وسائل الإعلام أمريكيةَ الملكية، ما أيسر القول بأن مستهلكي الثقافة في العالم أجمع إنما هم مجرَّد صلصال في أيدي خبراء التسويق الماهرة. فلعل من الأصْوَب أن نفترض أن ثمة بعض عناصر الإشباع الاجتماعي والنفسي والجمالي تعلِّل ذلك التجاوب مع النماذج الثقافية الأمريكية وتغذي صلاحيتها التجارية.

أما الطرف الآخر في المساجلة حول الأمركة فيشدِّد على القدرة المحرِّرة، المعادية للنقل، للثقافة الأمريكية الشعبية. قد يصح هذا في بعض الأحيان: ففي ألمانيا الخمسينات، على سبيل المثال، اتصفت الثقافة الأمريكية الشعبية بمكوِّن معادٍ للنقل ساعد على تقويض الثقافة النقلية وساهم في عملية إحلال الديمقراطية في فترة ما بعد الحرب.

إلا أن الثقافة الأمريكية الشعبيةَ الاستلهام لا تتصف بهذا البعد إلا فيما ندر. فالأعمُّ الأغلب أن تتخذ حملتُها على المنقول شكلَ الاستفزاز المقصود أو التصوير التخطيطي والمطلق العنان للعنف. وفي أحيان أخرى تُستغَل جاذبيةُ معاداة النقل المنعشةُ، التي تتصف بها برامج من نحو برنامج سِمْسونْس، استغلالاً تجارياً لتعزيز إمبراطوريات وسائل الإعلام الشاملة، من نحو إمبراطورية روبرت مُردوخ. بعبارة أخرى، لا تقدِّم معاداة النقل هي الأخرى تعليلاً كاملاً للمسألة.

ينبغي علينا أن ننظر بعين أكثر تمييزاً للفروق إلى المسيرة الماضية قُدُماً للثقافة الأمريكية، بدلاً من أن نرميها بالشَّيْطَنَة بوصفها شكلاً فجاً من أشكال الإمبريالية أو أن نحتفل بكمونها المحرِّر. وبصفة خاصة، يجب رؤية الثقافة الأمريكية الشعبية في ضوء السيرورة التاريخية المتطاولة للتحديث الثقافي.

كانت الثقافة في الماضي مرتبطة بالامتياز والثراء. فحتى القرن الثامن عشر، كانت الكتب غالية الثمن نسبياً، وكانت ملكيتها مقتصرة في الأغلب على الطبقات الميسورة. إلى ذلك كانت أرضية تعليمية معينة (مثل معرفة اللاتينية أو اليونانية) ضرورية لاستيعاب معظم الموضوعات الثقافية.

"الثقافة الشعبية" هي ما نصطلح على إطلاقه على شكل من أشكال الثقافة أزال تدريجياً هذه القيود. فلقد أوْجَدَ بكرُ تجلِّياتها – الرواية –، بمعونة تقنيات الطباعة، سوقاً يسَّر سبيلاً إلى الأدب أوسعَ بكثير؛ إذ لم تعد معرفةُ العَروض أو فن الشعر الكلاسي ضرورية. فصارت الرواية أدب الطبقة الوسطى، ووسَّعت الروايةُ الجُعَيْدِية* – وهي "رواية مختصرة" بسعر 10 سنتات ومختزَلة إلى قياس مجلة – نطاقَ القرَّاء إلى طبقات المجتمع الدنيا، ولا سيما إلى القرَّاء المراهقين.

ولقد ساهم تنامي "الثقافة الترفيهية" حوالى منعطف القرن العشرين، بما فيها مسرح المنوَّعات، ومتنزَّهات اللهو، وسُعار الرقص الذي أطلقه تدجين رقصات زنوج المزارع، والأفلام الصامتة، في المزيد من اختصار مستلزمات فهم الثقافة. كما وسَّع اختراع الراديو والتلفزيون نطاق متابعي هذه الثقافة "الجماهيرية" الجديدة أكثر فأكثر، وأدَّى الانتقال إلى أولوية الصور والموسيقى إلى إيجاد لغة "عالمية" لا تقتصر على جماعة معينة.

هناك عدة أسباب جعلت أمريكا تتبوأ صدارة هذه الثورة الثقافية. فمن جراء تركيبتها المتعددة الأصول والمتعددة الثقافات، وبخاصة في السنوات التشكيلية للثقافة الترفيهية الحديثة حوالى عام 1900، واجهت الثقافةُ الأمريكية الشعبية تحدي سوقٍ استبق السوق الشامل الحالي، إنما على مقياس أصغر. ولقد أدَّى هذا إلى تنامي أشكال من العُروض غير الناطقة، المفهومة على نطاق واسع، المعتمدة تفضيلاً على أشكال التعبير البصري والسمعي. فقبل أن تصير أمركة مجتمعات أخرى ممكنة كان لا بدَّ من "أمركة" الثقافة الأمريكية نفسها.

فما هو معنى سيرورة "الأمركة" هذه، وما هو المغزى الثقافي منها؟ قد يؤكِّد الاختصارُ الدائمُ في مستلزمات استيعاب الثقافة الرأيَ القائلَ بأن مستهلكي الثقافة الجماهيرية سلبيون. فالموسيقى الشعبية، بخاصة، فعالة للغاية في التسلُّل خُلسة تقريباً إلى المستمع؛ إذ لا حاجة إلى معالجة فكرية لمضمونها لأنها لا تدَّعي نقل معلومة أصلاً. بدلاً من ذلك، تُفتعَل الأمزجة بالأثر ما تحت الوصيدي**.

إن الشكل الخصوصي الذي تنشِّط به الموسيقى المخيِّلةَ هو باستدعاء صورٍ خارجة عن السياق، أو شعورٍ متفشٍّ باللامحدودية، لا حاجة لكليهما إلى الاندماج في أيٍّ سياق ذي معنى. فلا حاجة لمستمعي الموسيقى الشعبية إلى "اكتساب" خبرتهم الجمالية عبر المشاركة. فعلى العكس من الأشكال البصرية للتعبير الثقافي، بما فيها السينما، لم تعد ثمة حاجة للاستمرارية في دفق الصور؛ وبعكس ما يحدث لدى قراءة رواية، ليس ثمة ضرورة لأية ترجمة ذهنية لأن التأثير الحسِّي للموسيقى يوجِد تداعياتٍ لا يشكِّلها السرد بل المزاج.

أوجَدَ تنامي الثقافة الشعبية، من الرواية، مروراً بالصورة، وصولاً إلى انتصار الموسيقى الشعبية وتباين الأنواع "اللامركزي" للتلفزيون، أشكالاً من التعبير الثقافي مفيدة بنوع خاص لأغراض التمدُّد الذاتي والتعزيز الذاتي الخياليين. والنتيجة عزلٌ متزايدٌ للعناصر التعبيرية عن السياقات الأخلاقية، والاجتماعية، وحتى السردية. ذلكم هو انتصار "المزاج على الأخلاق". فالأمركة، بالفعل، محمولة على وَعْدٍ بالتحقق الذاتي الخيالي المشدَّد لأفراد محرَّرين من قيود الأعراف الاجتماعية والتقاليد الثقافية.

بذلك لا يصح أن ننظر إلى الأمركة بوصفها استيلاءً ثقافياً خفياً مدبَّراً له ضمناً، بل بوصفها سيرورةً القوةُ الدافعةُ فيها هي الفَرْدَنَة. وهذه السيرورة متقدمة للغاية في الولايات المتحدة لعدد من الأسباب. فالوعد بشكل معين من أشكال الفَرْدَنَة يقدِّم تفسيراً للإقبال الواسع على الثقافة الشعبية الأمريكية في مجتمعات أخرى حيث أحكمتْ سيطرتَها بدون مقاومة تُذكَر (يحملها على الأغلب جيل شاب يحاول أن يفلت من التقليد).

بذلك فإن الأمركة الثقافية جزء من سيرورة تحديث. الأمركة ليست شكلاً من أشكال الإمبريالية الثقافية، بل تجسيد لوعد الحداثة بتحقُّقٍ ذاتي ميسور لكلِّ فرد، بالتباين مع متطلبات تصورات أكثر تقليدية للتحرُّر. والعولمة التي كثيراً ما تبدو كانتصار للتنميط الثقافي تقوِّض التنميط في الواقع. إذ ما من ثقافة قومية واحدة هي القوة الدافعة، بل، عوضاً عن ذلك، تقتات العولمة بفردانية لا يقرُّ لها قرار، تتلقَّى المَدَدَ من مخزون متنامٍ من الرموز الجماهيرية. وإذن فنحن لا نُؤَمْرَكُ، بل "نتأمْرَك".

*** *** ***


* قصة (أو رواية) فيها حوادث شائقة، إنما عديمة القيمة الأدبية. (المترجم عن المغني الأكبر)

** تقنية في التأثير على الإنسان بتعريضه لمؤثرات بصرية أو صوتية أسرع من أن تحيط بها واعيتُه أو شعورُه الواعي، إذ تفعل فعلها في مستوى ما تحت وصيد (= عتبة) الوعي وتؤثر في "عقله الباطن" مباشرة. (المترجم)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود