english arabic

تأمُّلات

 

ج. كريشنامورتي

 

هذه القطوف المختارة حول التأمل مستقاة من كتب كريشنامورتي التالية: دفتر ملحوظات كريشنامورتي، بدايات التعلم، يقظة الفطنة، فيما يتعدى العنف، أنت العالم، طيران النسر، المسألة المستحيلة، الثورة الوحيدة، التحرر من المعلوم، تأملات 1969، وأحاديث مع طلاب أمريكيين.

***

 

1

الذهن المتأمل ذهن صامت. غير أنه ليس الصمت الذي يمكن للفكر أن يتصوره؛ ليس صمت أمسية هادئة؛ إنه الصمت الذي يحل حين الفكر – بصوره وكلماته وإدراكاته كلِّها – يتوقف توقفًا تامًّا. هذا الذهن المتأمل هو الذهن المتديِّن – بمعنى الدين الذي لم تمسسْه الكنيسة أو المعابد أو الأناشيد.

الذهن المتديِّن هو تفجر المحبة. هي تلك المحبة التي لا تعرف الفَصْل. البعيد لديها قريب. إنها ليست الواحد أو الكثير، بل بالأحرى تلك الحال من المحبة التي يتوقف فيها كل انقسام. إنها – كالجمال – لا تخضع لمقاييس الكلمات. ومن هذا الصمت وحده يعمل الذهن المتأمل.

2

التأمل واحد من أعظم الفنون في الحياة – ولعله أعظمها طرا – وليس في إمكان أحدهم أن يتعلمه من أيِّ أحد – وذلك هو جماله. ليست له أية طريقة ولا أية مرجعية بالتالي. عندما تتعلم أمورًا عن نفسك، تراقب نفسك، تراقب كيف تمشي، كيف تأكل، ماذا تقول، الثرثرة، الكراهية، الغيرة – إذا وعيت ذلك كلَّه في نفسك، من دون أيِّ اختيار – فذلك جزء من التأمل.

كذا يمكن للتأمل أن يتم وأنت تجلس في باص أو تسير في الغابات المترعة بالنور والظلال، أو تنصت إلى غناء الطيور أو تحدق في وجه زوجتك أو طفلك.

3

ما أغرب الأهمية التي صار الناس يُضفونها على التأمل! التأمل لا نهاية له، ولا بداية. إنه مثل قطرة المطر: في تلك القطرة توجد الجداول كلها، الأنهار العظيمة، البحار، وشلالات المياه. تلك القطرة تغذي الأرض والإنسان. من دونها تغدو الأرض صحراء. من دون التأمل يغدو القلب صحراء، أرضًا يبابًا.

4

التأمل هو اكتشاف ما إذا كان يمكن للمخ، بنشاطاته كلِّها، وبتجاربه كلِّها، أن يهدأ هدوءًا مطلقًا. ليس قسريًّا، لأنك حالما تقسر ثمة ثنائية. فالكيان الذي يقول: "أود أن أحصل على تجارب رائعة، ولهذا يجب أن أحْمِل مخِّي على الهدوء" – كيان كهذا لن يستطيع أن يفعل ذلك أبدًا. لكنك إذا بدأت تستقصي، ترصد، تصغي إلى حركات الفكر كافة، إشراطه، مساعيه، مخاوفه، ملذاته، فتراقب كيف يعمل المخ – إذ ذاك سوف ترى أن المخ يصير خارق الهدوء؛ وذلك الهدوء ليس النوم، لكنه نشاط هائل، وبالتالي، هادئ. الدينامو الضخم الذي يعمل بإتقان يكاد أن لا يصدر صوتًا؛ فقط حين يوجد احتكاك يصدر ضجيج.

5

الصمت والرحابة متلازمان. شساعة الصمت هي عينها شساعة الذهن الذي لا يوجد فيه مركز.

6

التأمل عمل شاق. إنه يتطلب أرقى أشكال الانضباط – ليس الانصياع، ليس التقليد، ليس الطاعة – بل انضباط يأتي عبر الانتباه الدائم، ليس إلى الأشياء من حولك خارجيًّا وحسب، بل داخليًّا أيضًا. من هنا فإن التأمل ليس نشاطًا عازلاً، بل هو فعلٌ في الحياة اليومية يتطلب التعاون والحساسية والفطنة. فمن دون وضع أساس لحياة مستقيمة، يصير التأمل هروبًا، وبالتالي، لا قيمة له أيًّا تكن. والحياة المستقيمة ليست التقيد بالآداب الاجتماعية، بل التحرر من الحسد والجشع والسعي إلى السلطة – وكلُّها ينسل العداوة. التحرر من هذه لا يأتي عبر نشاط إرادي، بل بالانتباه إليها عبر معرفة النفس. فمن دون معرفة نشاطات النفس، يصير التأمل مجرد استثارة حسية، وبالتالي، غير ذي مغزى يُذكَر.

7

السعي دومًا إلى تجارب أوسع، أعمق، تجارب تجاوُزية، هو شكل من أشكال الهروب من الواقع الفعلي لـ"ما هو موجود" – وهو نحن، ذهننا المشروط نحن. الذهن اليقظ، الفطين، الحر – ما حاجته إلى أية "تجربة"، ما العلة من تحصيله لأية "تجربة" أصلاً؟ النور هو النور؛ إنه لا يطلب نورًا أكثر.

8

التأمل واحد من أكثر الأشياء خَرْقًا للعادة، وإذا لم تكن تعرف ما هو فأنت أشبه بالأعمى في عالم من الألوان الساطعة والظلال والضوء المتحرك. إنه ليس قضية فكرية، ولكنْ حين يلج القلبُ في الذهن، يتصف الذهنُ بخاصية مختلفة تمامًا؛ إنه يكون، حينئذٍ، غير محدود حقًّا، ليس في قدرته على التفكير وعلى العمل بفعالية وحسب، بل كذلك في شعوره بالحياة وسط فضاء شاسع تكون فيه جزءًا من كلِّ شيء.

التأمل هو حركة المحبة. إنها ليست محبة الواحد أو الكثير. فهي أشبه بماء يستطيع أي أحد أن يشربه من أية جرة، من ذهب كانت أم من تراب: إنه لا ينضب. ويحدث شيء عجيب، ما من عقار ولا من تنويم ذاتي يمكن له أن يستجلبه: فكأن الذهن يلج في ذاته، بادئًا بالسطح، ثم سابرًا أعمق فأعمق، حتى يعدم العمقُ والعلوُّ معناهما وتتعطل أشكالُ القياس كافة. في هذه الحال يستتب سلامٌ تام – ليس الرضا الحاصل من خلال الإثابة – بل سلام يتصف بالنظام والجمال والكثافة. بالإمكان تدميره كله، مثلما يمكن لك أن تدمِّر زهرة؛ ومع ذلك، بسبب هشاشته نفسها، فهو غير قابل للتدمير. هذا التأمل لا يمكن لأحد أن يتعلمه من غيره. عليك أن تبدأ من غير أن تعرف شيئًا عنه، وتتحرك من براءة إلى براءة.

التربة التي يمكن للذهن المتأمل أن ينبت فيها هي تربة الحياة اليومية – الكفاح، الوجع، والفرح الهارب. يجب أن يبدأ هناك، فيجلب النظام، ومنه يتحرك إلى ما لا نهاية. لكنك إذا كنت مهتمًّا باستتباب النظام وحسب، إذ ذاك فإن ذلك النظام بعينه سوف يستجلب محدوديته نفسها، والذهن سوف يصير سجينًا لها. في هذه الحركة كلِّها عليك أن تبدأ، على نحو ما، من الطرف الآخر، من الضفة الأخرى، ولا تهتم دومًا بهذه الضفة أو بكيفية عبورك للنهر. عليك أن تجرؤ على الغطس في الماء، من دون أن تعرف كيفية السباحة. وجمال التأمل في أنك لا تدري أبدًا أين أنت، إلى أين أنت ماضٍ، وما هي النهاية.

9

التأمل ليس شيئًا مختلفًا عن الحياة اليومية. فلا تنتبذ مكانًا في زاوية غرفة وتتأمل مدة عشر دقائق، ثم تخرج منها وتكون جزارًا – مجازًا وفعليًّا معًا.

التأمل أمرٌ من أكثر الأمور جدية. بمقدورك أن تقوم به النهار كلَّه، في المكتب، مع الأسرة، حين تقول لأحدهم "أحبك"، حين تعتني بأطفالك. لكنك من بعدُ تربِّيهم على أن يصيروا جنودًا، على القتل، على القومية، على عبادة العَلَم، تربيهم على الوقوع في فخِّ العالم الحديث هذا.

رصدُك هذا كلَّه، وإدراكُك إسهامَك فيه – ذلك كله جزء من التأمل. وحين تتأمل على هذا النحو ستجد في ذلك جمالاً خارقًا؛ سوف تفعل على الوجه السليم في كلِّ لحظة. وإذا لم تفعل على الوجه السليم في لحظة معينة لا تبالِ؛ فسوف تواصل من حيث توقفت – لن تضيِّع الوقت في الندم. التأمل جزء من الحياة، وليس شيئًا مختلفًا عن الحياة.

10

إذا عقدت العزم على التأمل، فهذا لن يكون تأملاً. إذا نويت أن تكون طيبًا، فالطيبة لن تزهر أبدًا. إذا روضت نفسَك على التواضع، فهو يكف عن أن يكون. التأمل هو النسمة التي تدخل حين تترك النافذة مفتوحة؛ لكنك إذا تعمدت تركها مفتوحة، تعمدت دعوتها إلى المجيء، فلن تظهر أبدًا.

11

التأمل ليس وسيلة إلى غاية. إنه الوسيلة والغاية معًا.

12

أي شيء خارق هو التأمل! إذا كان ثمة أي نوع من أنواع القسر أو الجهد لجعل الفكر ينصاع، يقلِّد، إذ ذاك فإنه يصير عبئًا مرهقًا. الصمت المرغوب لا يعود منوِّرًا؛ إذا كان سعيًا إلى رؤى وتجارب، إذ ذاك فإنه يقود إلى الأوهام والتنويم الذاتي. ليس للتأمل من مغزى إلا عند تفتُّح الفكر، وبالتالي، إنهاء الفكر. والفكر لا يقدر أن يتفتَّح إلا في الحرية، وليس في نماذج المعرفة المتسعة أبدًا. قد تمنح المعرفة تجاربَ أَجَدَّ ذات إحساس أعظم، لكن ذهنًا يسعى إلى تجارب من أيِّ نوع ذهنٌ غير ناضج. النضج هو التحرر من التجارب كلِّها؛ إنه لا يعود تحت أيِّ تأثير لكي نكون أو لا نكون.

النضج في التأمل هو تحرير الذهن من المعرفة؛ إذ إن هذه تشكِّل التجارب كلَّها وتتحكم فيها. والذهن الذي يكون نورًا لنفسه لا يحتاج إلى أية تجربة. عدم النضج هو تشهِّي تجربة أعظم وأوسع. أما التأمل فهو التجوال عبر عالم المعرفة والتحرر منه للولوج في المجهول.

13

على المرء أن يكتشف بنفسه، لا عبر أيِّ شخص آخر. لقد عانينا من مرجعية المعلِّمين والمخلِّصين والأساتذة. فإذا أردت حقًّا أن تكتشف ماهية التأمل، عليك أن تنحِّي جانبًا المرجعياتِ كلَّها تنحيةً تامة وكاملة.

14

السعادة واللذة، تستطيع شراءهما من أيِّ سوق في مقابل ثمن ما. أما الغبطة فلا تستطيع شراءها – لا لنفسك ولا لسواك. كلا السعادة واللذة يشدك إلى الزمن. أما الغبطة فلا توجد إلا في الحرية الكاملة. اللذة – كالسعادة – تستطيع أن تفتش عنها، وتجدها، بطرق شتى. لكنهما تأتيان وتذهبان. أما الغبطة – ذلك الشعور العجيب بالفرح – فلا دافع إليها. ليس بإمكانك أن تفتش عنها أبدًا. إذ حالما تحضر، بحسب حالتك الذهنية، تبقى – لازمنية، لاسببية – شيئًا لا يقاس بالزمن. التأمل ليس طلب اللذة، ولا هو التفتيش عن السعادة. التأمل، على العكس، هو حالٌ ذهنية خالية من أيِّ مفهوم أو صيغة، وهو، بالتالي، حرية كاملة. في مثل هذا الذهن وحده تأتي الغبطة – بلا سعي ولا دعوة. وهي، حالما تحضر، على كونك قد تعيش في العالم، بضوضائه ولذته وقسوته جميعًا، لن تمسَّ هذه ذلك الذهنَ. حالما تحضر، يتوقف النزاع. غير أن إنهاء النزاع ليس الحرية التامة بالضرورة. التأمل هو حركة الذهن في هذه الحرية. وفي هذا التفجر من الغبطة تصير العينان بريئتين، وتكون المحبة حينئذٍ بَرَكة.

15

لا أدري إذا لاحظت يومًا أنك حين تولي انتباهك كاملاً يسود صمتٌ تام. وفي ذاك الانتباه لا حدود ثمة، ولا مركز، بوصفه "الأنا" الذي يعي أو ينتبه. ذاك الانتباه، ذاك الصمت، هو حال تأمل.

16

نكاد أن لا نصغي إلى صوت نباح كلب، إلى بكاء طفل، أو إلى ضحكة رجل وهو يمر. نفصل أنفسنا عن كلِّ شيء، ثم، من هذه العزلة، ننظر ونستمع إلى الأشياء كلِّها. هذا الفصل عينه هو الفصل الشديد التدمير؛ إذ إن فيه يكمن النزاع والتشويش. لو كنت تصغي إلى صوت تلك الأجراس في صمت تام لكنتَ ركبتَه – أو، بالحري، لكان الصوتُ حَمَلَك عبر الوادي حتى أعلى التلة. لن تشعر بجماله إلا حين لا تكون – أنت والصوت – منفصلين، حين تكون جزءًا منه. التأمل هو إنهاء الفَصْل، لكنْ ليس بواسطة أيِّ فعل إرادة أو رغبة.

التأمل ليس شيئًا منفصلاً عن الحياة؛ إنه جوهر الحياة بعينه، جوهر العيش اليومي نفسه. والإصغاء إلى هاتيك الأجراس، الإصغاء إلى ضحكة ذلك الفلاح وهو يسير مع زوجته، الإصغاء إلى صوت الجرس على دراجة البنت الصغيرة وهي تقودها على مقربة: إنها الحياة بكلِّيتها يفتحها التأمل، وليس جزءًا منها وحسب.

17

التأمل هو رؤية الموجود والذهاب إلى أبعد منه.

18

الإدراك من غير الكلمة، أي من غير فكر، هو واحد من أغرب الظاهرات. إذ ذاك يكون الإدراك أكثر حدَّة بكثير، ليس بالمخ وحده، لكن بالحواس جميعًا أيضًا. مثل هذا الإدراك ليس هو الإدراك المجزَّأ للفكر، ولا هو من شؤون الانفعالات. بالإمكان تسميته إدراكًا كليًّا، وهو جزء من التأمل. الإدراك من غير المدرِك في التأمل هو التواصل مع ارتفاع الشاسع وعمقه. وهذا الإدراك مختلف اختلافًا كليًّا عن رؤية موضوع من دون راصد، لأنه في الإدراك التأملي لا موضوع ثمة، وبالتالي، لا تجربة. غير أنه يمكن للتأمل أن يجري والعينان مفتوحتان والمرء محاط بموضوعات من أنواع شتى. لكن هذه الموضوعات حينئذٍ لا أهمية لها على الإطلاق. المرء يراها، لكن من دون وجود عملية تعرُّف، مما يعني عدم جود اختبار.

ما معنى مثل هذا التأمل؟ لا معنى، ولا نفع. لكن في ذاك التأمل ثمة حركة وَجْدٍ عظيم لا يصح أن يلتبس باللذة. إنه الوَجْد الذي يَهَبُ العينَ والمخَّ والقلبَ صفةَ البراءة. من دون رؤية الحياة كشيء جديد بالكلِّية، تُختزَل هذه إلى الروتين، إلى السأم، إلى شأن تافه. لذا فإن التأمل عظيم الأهمية. إنه يفتح الباب على ما يستعصي على الحساب، على ما لا يقاس.

19

التأمل لا يجري أبدًا في الزمن. فالزمن لا يمكن له أن يستجلب التحول؛ يمكن له فقط أن يُحدِثَ تغييرًا، يحتاج إلى أن يتغير مجددًا – ككل الإصلاحات. التأمل المنبجس من الزمن مقيِّد دومًا، لا حرية فيه – ومن دون الحرية ثمة دومًا اختيار ونزاع.

20

علينا أن نبدل بنية مجتمعنا، ظلمه، مناقبيته الفظيعة، التقسيمات التي اصطنعها بين الإنسان والإنسان، الحروب، الافتقار التام إلى المودة والمحبة الذي يدمِّر العالم. إذا كان تأملك مجرد أمر شخصي، شيئًا تستمتع به شخصيًّا، إذ ذاك فإنه ليس تأملاً. التأمل ينطوي على تغير جذري تام في الذهن وفي القلب. وهذا يكون ممكنًا فقط بوجود هذا الحس الخارق بالصمت الداخلي – وذاك وحده يستجلب الذهن المتدين. ذاك الذهن يعرف ما هو مقدس.

21

الجمال يعني الحساسية – جسمًا حسَّاسًا – الأمر الذي يقتضي حِمْيَة سليمة، طريقة معيشة سليمة. إذ ذاك فإن الذهن، في صورة طبيعية، من حيث لا ندري، سوف يصبح هادئًا حتمًا. ليس في مكنتك أن تجعل الذهن هادئًا، لأنك أنت مسبِّب البلبلة، أنت نفسك مضطرب، قَلِق، مشوَّش – كيف يسعك أن تجعل الذهن هادئًا؟ لكنك حين تفهم ماهية الهدوء، حين تفهم ماهية التشويش، ماهية الأسى، وفيما إذا كان بالإمكان إنهاء الأسى يومًا، وحين تفهم اللذة، إذ ذاك، يتمخض ذلك كلُّه عن ذهن خارق الهدوء؛ لست في حاجة إلى السعي في طلبه. عليك أن تبدأ من البداية، والخطوة الأولى هي آخر خطوة – وهذا هو التأمل.

22

التأمل هو التبرؤ من الزمن.

23

التأمل ليس هروبًا من العالم، ليس نشاطًا عازلاً، مسيِّجًا للذات، بل هو بالحري فهم العالم وأساليبه. ليس للعالم ما يقدِّمه إلا القليل ماخلا المأكل والملبس والمأوى واللذة، بمآسيها الكبيرة.

التأمل هو التجوال بعيدًا عن العالم: على المرء أن يكون غريبًا تمامًا. إذ ذاك يكون للعالم معنى، ويكون جمال السماوات والأرض دائمًا. إذ ذاك المحبة لا تكون اللذة. ومن هنا ينطلق كل فعل ليس نتاجًا للتوتر والتناقض والبحث عن تفوق الذات أو ضلالة السلطان.

24

إذا تعمَّدت اتخاذ موقف، أو وضعية، لكي تتأمل، عندئذٍ يصير الأمر ألعوبة، لعبة من لعبات الذهن. إذا عزمت على استخلاص نفسك من تشويش الحياة ومن بؤسها، عندئذٍ يصير تجربة من تجارب المخيِّلة – وهذا ليس التأمل. على العقل الظاهر أو العقل الباطن ألا يتدخلا فيه؛ عليهما ألا يعيا حتى مدى التأمل وجماله – فإذا وعياهما، لك أن تستعيض عن الأمر بشراء رواية رومانسية وحسب.

في الانتباه الكامل للتأمل ليس من معرفة ثمة، ولا من تعرُّف، ولا من تذكُّر لشيء ما قد سَبَقَ أن حصل. فالزمن والفكر قد وصلا إلى نهايتهما تمامًا؛ إذ إنهما المركز الذي يحدُّ من رؤيته نفسها.

في لحظة النور، يذوي الفكرُ متلاشيًا، والجهد الواعي للاختبار ولتذكُّره هو الكلمة التي مضت – والكلمة ليست الشيء الفعلي أبدًا. في تلك اللحظة – وهي ليست من الزمن – يكون الأقصى هو الآني؛ لكن ذلك الأقصى عديم الرمز، لا يأتي من شخص، ولا من إله.

25

التأمل هو اكتشاف ما إذا كان ثمة مجال لم تصبْه بعدُ عدوى المعلوم.

26

التأمل هو تفتح الفهم. والفهم لا يقع ضمن نطاق الزمن؛ فالزمن لا يجلب الفهم أبدًا. الفهم ليس سيرورة متدرجة، بحيث ينبغي تحصيلُه شيئًا فشيئًا بعناية وصبر؛ فالفهم يكون الآن أو لا يكون أبدًا. إنه ومضة مدمِّرة، وليس قضية محاباة. وهذه الانتفاضة هي التي يخشاها المرء، وبالتالي، يتجنبها، من حيث يدري ومن حيث لا يدري. فمن شأن الفهم أن يغير مسار حياة المرء، طريقة تفكيره وعمله؛ قد يبدو قول ذلك لطيفًا أو لا، لكن في الفهم خطرًا على العلاقات كلِّها. لكن من غير الفهم، سيستمر الأسى لا محالة. لا ينتهي الأسى إلا من خلال معرفة النفس، وعي كلِّ خاطرة وكلِّ شعور، كلِّ حركة للواعية ولما هو مستور. التأمل هو فهم الوعي – الخفي والصريح – والحركة التي تجري أبعد من كلِّ فكر وشعور.

27

كان صباحًا من تلك الأصباح البديعة التي لم تكن قط. كانت الشمس بدأت لتوِّها تشرق، وكنتَ تراها بين أغصان الكينا والصنوبر. كانت فوق المياه، ذهبيةً، مُسْمَرَّة – نورًا كالذي يوجد فحسب بين الجبال والبحر. كان صباحًا من تلك الأصباح الصافية، المذهلة، الممتلئة بذلك النور الغريب الذي لا يراه المرء بعينيه فقط، بل وبقلبه أيضًا. وحين تراه، تكون السماوات قريبة جدًّا من الأرض، وتكون أنت ذاهلاً عن نفسك في الجمال. ليتك لا تتأمل أبدًا جهرًا، أو في صحبة آخر، أو وسط مجموعة: تأمَّلْ وحدك فقط، في سكينة الليل، أو في الصباح الباكر الساكن. وحين تتأمل وحدك، فلتكنْ وحدتُك وحدةً حقًّا. كن وحدك تمامًا، لا تتبع نظامًا، منهجًا، أو تكرر كلمات؛ لا تلاحق خاطرة، أو تشكِّل فكرة بحسب رغبتك.

هذه الوحدة تأتي حين يكون الذهن متحررًا من الفكر. عندما تكون ثمة مؤثرات من الرغبة أو من الأشياء التي يسعى إليها الذهن، سواء في المستقبل أو في الماضي، ليس ثمة وحدة. في شساعة الحاضر فقط يأتي هذا التوحُّد. وحينئذٍ، في السِّرية الهادئة التي يتوقف فيها كل تواصُل، والتي يغيب فيها الراصد، بشهواته ومشكلاته الحمقاء – إذ ذاك فقط، في ذلك التوحُّد الهادئ، يصير التأمل شيئًا لا تستوعبه الكلمات. إذ ذاك يكون التأمل حركة أبدية.

لا أدري إن كنت قد تأملت يومًا، إذا اتفق لك يومًا أن تكون وحدك، بمفردك، بعيدًا بعيدًا عن كلِّ شيء، عن كلِّ شخص، عن كلِّ خاطر ومسعى، إذا اتفق لك يومًا أن تكون وحدك تمامًا – غير منعزل، غير منكفئ إلى حلم أو رؤيا ما من بنات المخيِّلة، بحيث لا يوجد فيك شيء قابل للتعرف، لا شيء تلمسه بالفكر أو بالشعور – في مكان قصيٍّ إلى حدِّ أن الصمت نفسه، في تلك الوحدة المترعة، يصير الزهرة الوحيدة، النور الأوحد، والجوهر اللازمني الذي لا يقاس بالفكر. فقط في مثل هذا التأمل تتكون المحبة. لا تأبه للتعبير عنها: فهي ستعبِّر عن نفسها. لا تستعملها. لا تحاول أن تفعِّلها: فهي سوف تفعل من تلقاء ذاتها. وحين تفعل، في ذلك الفعل لن تكون ثمة حسرة، ولا تناقض، ولا شيء من بؤس الإنسان وشقائه.

تأمَّلْ وحدك، إذن. اذهلْ عن نفسك. ولا تحاول أن تتذكر أين كنت. إذ إنك إذا حاولت أن تتذكر سيكون الأمر شيئًا ميتًا. وإذا تشبثت بذكراك عنه، إذ ذاك لن تكون وحدك أبدًا من جديد. تأمَّلْ، إذن، في تلك الوحدة اللانهائية، في جمال تلك المحبة، في تلك البراءة، في الجديد أبدًا – إذ ذاك تستولي عليك الغبطة التي لا تفنى.

السماء شديدة الزرقة – الزرقة التي تأتي بُعيد المطر – وهذه الأمطار هطلت بعد شهور عديدة من القحط. بعد المطر تكون السماوات قد استحمَّت وعادت نقية، التلال تبتهج، والأرض تسكن. وعلى كلِّ وريقة شجر ينطبع نور الشمس؛ والشعور بالأرض يكون شديد القرب منك. تأمَّلْ، إذن، في خفايا قلبك وذهنك السِّرية نفسها، التي لم تستكشفها قط.

28

ليس التأمل وسيلة إلى غاية؛ إذ ليس من غاية ثمة، ولا من وصول. إنه حركة في الزمن وخارج الزمن. كل نظام، كل منهج، يشد الفكرَ إلى الزمن؛ أما وعي كلِّ خاطرة وشعور، من دون اختيار، وفهم دوافعهما، آليتهما، والسماح لهما بالتفتح، فهو بداية التأمل. حين يزهر الفكر والشعور ويموتان، يكون التأمل هو الحركة فيما يتعدى الزمن – وفي هذه الحركة وَجْد. ففي الفراغ التام تكون المحبة؛ ومع المحبة هناك دمار وخَلْق.

29

التأمل هو ذاك النور في الذهن الذي ينير سبيل العمل؛ ومن دون ذاك النور ليس ثمة محبة.

30

التأمل ليس الصلاة أبدًا. الصلاة، التوسل، يولدان من الإشفاق على الذات. أنت تصلي حين تكون في مأزق، حين تعاني من الأسى؛ لكنْ حين تكون ثمة سعادة، فرح، لا مجال للتوسل. هذا الإشفاق الذاتي، المنغرس عميقًا في الإنسان، هو جذر الفَصْل. فما يكون منفصلاً – أو يظن نفسه منفصلاً، ساعيًا أبدًا إلى التماهي مع شيء ليس منفصلاً – لا يجلب إلا المزيد من الانقسام والوجع. ومن قلب هذا التشويش يتوسل المرء صارخًا إلى السماء، أو إلى الزوج، أو إلى إله ما مِن صُنْع الذهن. وهذه الصرخة قد تجد جوابًا عليها، لكن الجواب هو صدى الإشفاق الذاتي، في انفصاله.

تكرار الكلمات، الصلوات، منوِّم ذاتيًّا، مطوِّق للذات، مدمِّر. وعَزْلُ الفكر يقع دومًا ضمن مجال المعلوم، وإجابة الصلاة هي استجابة المعلوم.

التأمل بعيد عن هذا كلِّه. ففي هذا المجال، ليس في مكنة الفكر أن يدخل؛ إذ لا فَصْل ثمة، وبالتالي، لا هوية. التأمل يتم في الهواء الطلق؛ ليس للسِّرية من مكان فيه. كل شيء صريح، واضح – وعندئذٍ يكون جمال المحبة.

31

في هذا الصباح كانت صفةُ التأمل هي العدم، الفراغ التام من الزمن والمكان. وهذا واقع، وليس من قبيل الأفكار أو محيِّرات الظنون المتعارضة. يجد المرء هذا الفراغ الغريب حين يذوي جذرُ المشكلات كلِّها متلاشيًا. وهذا الجذر هو الفكر، الفكر الذي يقسِّم ويتشبث. في التأمل يصير الذهن فعلاً فارغًا من الماضي – مع كونه يستطيع أن يستعمل الماضي بوصفه فكرًا. وهذا يتواصل طوال النهار، وفي الليل يكون النوم هو الفراغ من الأمس، وبالتالي، يلامس الذهن ما هو لازمني.

32

التأمل ليس مجرد السيطرة على الجسم والفكر، ولا هو بطريقة للشهيق والزفير. على الجسم أن يبقى ساكنًا، صحيحًا، وغير مُجهَد؛ وعلى حساسية الشعور أن تحتدَّ ويحافَظ على سلامتها؛ والذهن، بكلِّ ثرثرته وتقلباته وتلمُّساته، أن يؤول إلى السكوت. فالبدن ليس هو ما يجب البدء منه، بل بالحري الذهن، بآرائه وأحكامه المسبقة واهتمامه بذاته، هو ما يجب الالتفات إليه. حين يكون الذهن صحيحًا وحيويًّا ونشيطًا، إذ ذاك فإن الشعور سوف يستدق ويتصف بحساسية فائقة. وإذ ذاك فإن الجسم، بفطنته الطبيعية التي لم تُفسِدها العادةُ والذوق، سوف يعمل كما ينبغي عليه أن يفعل.

على المرء، إذن، أن يبدأ بالذهن وليس بالجسم – الذهن بوصفه الفكر وتنوعات التعبير عن الفكر. مجرَّد التركيز يجعل الفكر ضيقًا، محدودًا، وهشيمًا؛ لكن التركيز يأتي كشيء طبيعي حين يكون ثمة وعيٌ لأساليب الفكر. وهذا الوعي لا يأتي من المفكر الذي يتخيَّر ويستبعد، يتشبث وينبذ. هذا الوعي لا اختيار فيه، وهو يحيط بالخارج وبالداخل معًا؛ إنه سريان متبادل بين الاثنين، بحيث إن التقسيم بين الخارجي والداخلي ينتهي.

الفكر يدمِّر الشعور – الشعور بوصفه المحبة. فالفكر لا يقدِّم غير اللذة؛ وفي السعي إلى اللذة تُزاح المحبة جانبًا. فلذة الأكل، لذة الشرب، تستمد استمرارها من الفكر، ومجرَّد السيطرة على هذه اللذة التي يستجلبها الفكر أو قمعها لا معنى له؛ إنه لا يولِّد سوى مختلف أشكال النزاع والقَسْر.

الفكر – وهو من طبيعة مادية – ليس بمقدوره طلب ما يتعدى الزمن؛ إذ إن الفكر هو الذاكرة، والاختبارُ في نطاق تلك الذاكرة ميتٌ كورقة شجر من الخريف الماضي، سواء بسواء.

في وعي هذا كلِّه يأتي الانتباه، الذي ليس نتاج عدم الانتباه. فعدم الانتباه هو الذي أملى عادات الجسم اللذيذة وذوَّب حدَّة الشعور. وعدم الانتباه لا يمكن له أن يصير انتباهًا. أما وعي عدم الانتباه فهو انتباه.

رؤية هذه السيرورة المعقدة برمَّتها هي التأمل، الذي منه وحده يحلُّ النظام في هذا التشويش. وهذا النظام مطلق، مثله كمثل النظام في الرياضيات؛ ومن هذا النظام يتم العمل – الفعل الآني المباشر. والنظام ليس الترتيب والتصميم والتناسب: فهذه تأتي بعده بوقت طويل. النظام ينبثق من ذهن غير مزدحم بأشياء الفكر. وحين يصمت الفكر يسود فراغ، هو النظام.

33

كان نهرًا رائعًا حقًّا، وسيعًا، عميقًا، على ضفتيه مدنٌ كثيرة جدًّا، لا يبالي في حرِّيته بشيء، ومع ذلك لا يترك ذاته على عواهنها. كانت الحياة كلُّها هناك على ضفتيه: حقول خضراء، غابات، بيوت متوحدة، الموت، الحب، والدمار. كانت فوقه جسور طويلة، عريضة، رشيقة، يستعملها الناس أحسن استعمال. كانت سواقٍ وأنهار أخرى تصب فيه، لكنه كان أمَّ الأنهار قاطبة، صغيرها وكبيرها. كان دومًا ممتلئًا، أبدًا يتطهَّر. وفي تلك الأمسية كانت مشاهدتُه بَرَكة، بوجود لون الغيوم المائل تدريجيًّا إلى الدكنة ومياهه الذهبية. لكن وشل المياه الضئيل بعيدًا، بين تلك الصخور الماردة التي بَدَتْ منشغلة كلَّ هذا الانشغال في استيلاده، كان بداية الحياة، بينما كانت نهايتها أبعد من ضفافه ومن البحار.

كان التأمل أشبه بذلك النهر؛ غير أنه كان بلا بداية ولا نهاية. كان يبدأ، ونهايته كانت بدايته. لم يكن من سبب ثمة، وحركته كانت تجدده. كان جديدًا دائمًا؛ لم يكن يتراكم أبدًا ليصير قديمًا؛ لم يكن يتلوث أبدًا لأنه كان بلا جذور في الزمن. ما أطيب أن يتأمل المرء، من دون قسر، من دون بذل أيِّ جهد، بادئًا بوَشَل صغير، ثم ماضيًا أبعد من الزمن والمكان، حيث الفكر والإحساس لا يستطيعان الدخول، وحيث تنعدم التجربة.

34

التأمل هو الإطلاق الكامل للطاقة.

35

في الحيِّز الذي يوجِده الفكر من حوله ليس ثمة محبة. فهذا الحيِّز يفصل الإنسان عن الإنسان؛ وفيه تجري الصيرورة برمَّتها، معركة الحياة، العذاب، والخوف. التأمل هو إلغاء هذا الحيِّز، هو إنهاء "الأنا". إذ ذاك يكون للعلاقة معنى مختلف تمامًا؛ ففي ذلك الفضاء، الذي ليس من صنع الفكر، ينعدم وجود الآخر، لأن وجودك أنت ينعدم.

التأمل، إذن، ليس طلب رؤيا ما، مهما يكن تقديس الموروث لها. إنه، بالأحرى، ذلك الفضاء اللانهائي الذي لا يمكن للفكر ولوجُه. أما في نظرنا، فإن الحيِّز الضئيل الذي يصطنعه الفكر من حوله – وهو "الأنا" – هو على غاية من الأهمية؛ إذ إنه كلُّ ما يعرفه الذهن، متماهيًا مع كلِّ شيء يوجد في ذلك الحيِّز. والخوف من انعدام الوجود يولد في ذلك الحيِّز. أما في التأمل، حين يُفهَم هذا حقَّ فهمه، فيمكن للذهن ولوج بُعْدٍ من الفضاء حيث الفعل هو لافعل.

نحن لا نعرف ماهية المحبة؛ ففي الحيِّز الذي يصطنعه الفكر من حوله بوصفه "الأنا"، يكون الحب هو النزاع بين "الأنا" و"اللاأنا". وهذا النزاع، هذا التعذيب، ليس حبًّا.

الفكر هو حصرًا انتفاء المحبة، وهو لا يستطيع أن يلج ذلك الفضاء حيث "الأنا" غير موجودة. في ذلك الفضاء تسري البَرَكة التي يطلبها الإنسان ولا يجدها. إنه يطلبها ضمن نطاق الفكر، والفكر يدمِّر وَجْدَ هذه البَرَكة.

36

الاعتقاد ليس ضروريًّا، كما هي المُثُل: كلاهما يبدِّد الطاقة المطلوبة لمتابعة تفتُّح الواقعة، تفتُّح "ما هو موجود". المعتقدات، كالمُثُل، مهارب من الواقع؛ وفي الهروب ليس من نهاية للأسى ثمة. إنهاء الأسى هو فهم الواقع من لحظة إلى لحظة. وليس ثمة منهج أو طريقة توصِل إلى الفهم. وحده وعي لا اختيار فيه لواقعة من الوقائع من شأنه أن يفعل. التأمل وفقًا لمنهج ما هو تجنب لواقع ما أنت إياه. لذا فأهم بما لا يقاس أن تفهم نفسك – أن تفهم التغير الدائم للوقائع عن نفسك – من أن تتأمل من أجل أن تجد الله أو تحصل على رؤى وإحساسات وضروب أخرى من التسلية.

37

التأمل في تلك الساعة كان حرية، وكان أشبه بالدخول في عالم مجهول من الجمال والسكينة. كان عالمًا بلا صور ولا رموز ولا كلمات، بلا أمواج من الذاكرة. والمحبة كانت موت كلِّ دقيقة، وكلُّ موت كان تجديد المحبة. لم تكن تعلقًا؛ إذ كانت بلا جذور. كانت تزهر بلا سبب، وكانت لهبًا يحرق الحدود، أسوار الوعي المرفوعة بكلِّ حرص. كانت هي الجمال أبعد من الفكر والشعور؛ لم تكن ململمة على قماشة، في كلمات، أو في الرخام. التأمل كان فرحًا – ومعه حلَّت بَرَكة.

38

تفتح المحبة هو التأمل.

39

في التأمل، على المرء أن يكتشف فيما إذا كانت ثمة نهاية للمعرفة، وبالتالي تحرر من المعلوم.

40

كانت السماء قد أمطرت بغزارة طوال الليل والنهار، وأسفل الغبيب كانت الساقية الموحلة تصب في البحر، جاعلة إياه بنيًّا بلون الشوكولاته. وأنت تسير على الشاطئ كانت الأمواج هائلة، وكانت تتكسر بقوة خارقة، راسمة انحناءات بديعة. كنت تسير بعكس اتجاه الريح – وفجأة، شعرت بأن لا شيء يفصل بينك وبين السماء – وهذا الانفتاح كان الفردوس. أن تكون هكذا منفتحًا تمامًا، معرَّضًا – للتلال، للبحر، وللإنسان – ذلك بعينه هو جوهر التأمل.

ألا تُبدي أية مقاومة، أن تنعدم حواجزُك الداخلية نحو أيِّ شيء، أن تكون حرًّا حقًّا، طليقًا تمامًا، من النوازع الطفيفة والدوافع القاهرة والمطالب، بكلِّ ما فيها من نزاع ونفاق وضيع – هو أن تسير في الحياة بذراعين مشرعتين. وفي تلك الأمسية، وأنت تسير هناك على تلك الرمال الرطبة، ونوارسُ البحر من حولك، كنت تشعر بذلك الشعور الخارق بالحرية المشرعة وبجمال المحبة العظيم الذي لم يكن فيك ولا خارجك – بل في كلِّ مكان.

نحن لا ندرك مبلغ أهمية أن نكون أحرارًا من الملذات النقَّاقة وأوجاعها، بحيث يبقى الذهن وحده. وحده ذهن متوحد تمامًا ذهنٌ مفتوح. شعرتَ بذلك كلِّه على حين غرة، كريح عظيمة كنست الأرض وتخلَّلتْك. هناك كنت – متجردًا من كلِّ شيء، فارغًا – وبالتالي منفتحًا تمامًا. جمال الأمر لم يكن في الكلمة ولا في الشعور، بل كان يبدو في كلِّ شيء – حولك، فيك، فوق المياه، وفي التلال. التأمل هو هذا.

41

التأمل ليس التركيز – الذي هو استبعاد، استقطاع، مقاومة، وبالتالي، نزاع. الذهن التأملي يستطيع أن يركِّز – وهذا عندئذٍ ليس استبعادًا أو مقاومة؛ أما الذهن المركِّز فلا يستطيع أن يتأمل.

42

في فهم التأمل هناك محبة؛ والمحبة ليست نتاجًا للمناهج، للعادات، لاتِّباع طريقة. المحبة لا يمكن للفكر أن ينمِّيها. فلعل المحبة يمكن لها أن تتكوَّن حين يسود صمتٌ تام، صمت يكون فيه المتأمِّل غائبًا كليًّا. والذهن لا يقدر أن يصمت إلا حين يفهم حركتَه هو بوصفه فكرًا وشعورًا. وفهم حركة الفكر والشعور هذه يستوجب ألا تكون ثمة إدانة في رصدها. الرصد بهذه الطريقة انضباط؛ وذلك الضرب من الانضباط سَلِسٌ، طليق، وليس انضباط الاتباع.

43

في ذلك الصباح كان البحر أشبه ببحيرة أو بنهر عظيم – بلا تموجات، ساكنًا إلى حدِّ أنه كان في وسعك أن ترى انعكاسات النجوم في ذلك الوقت المبكر من الصباح. لم يكن الفجر قد انبلج بعدُ؛ لذا فإن النجوم وانعكاس الجَّرْف الصخري والأضواء القصية للبلدة كانت منطبعة على الماء. وبينما كانت الشمس تصعد فوق الأفق في سماء خالية من الغيوم كانت تشق لنفسها دربًا ذهبية، وكانت خارقةً رؤيةُ نور كاليفورنيا ذاك يملأ الأرض، يملأ كلَّ ورقة شجر وعشب.

وأنت تشاهد، حلَّتْ عليك سكينةٌ عظيمة. الدماغ نفسه أصبح شديد الهدوء، بلا أيِّ ردِّ فعل، بلا أدنى حركة؛ فما أعجب شعورك عندئذٍ بهذه السكينة الهائلة! "شعور" ليست الكلمة الملائمة. فخاصية ذلك الصمت، تلك السكينة، لا "يشعر" بها الدماغ؛ فهي أبعد من متناول الدماغ. في وسع الدماغ أن يتصور، أن يصوغ، أو يضع خطة للمستقبل؛ أما هذه السكينة فهي أبعد من مداه، أبعد من كلِّ خيال، أبعد من كلِّ رغبة. فأنت من السكون بحيث إن جسمك يصير تمامًا جزءًا من الأرض، جزءًا من كلِّ ما هو ساكِن.

وبينما كان النسيم اللطيف قادمًا من التلال، يداعب أوراق الشجر، لم تضطرب هذه السكينة، خاصية الصمت الخارقة هذه. كان البيت واقعًا بين التلال والبحر، مُطِلاً على البحر. وبينما أنت تشاهد البحر، ساكنًا تلك السكينة الشديدة، صرتَ حقًّا جزءًا من كلِّ شيء. كنتَ كلَّ شيء. كنتَ النور، وجمال المحبة. كذلك قولك "كنتَ جزءًا من كلِّ شيء" هو من قبيل الغلط: فكلمة "أنت" ليست ملائمة، لأنك حقًّا لم تكن هناك. لم تكن موجودًا. وحدها كانت تلك السكينة، ذلك الجمال، ذلك الإحساس الخارق بالمحبة.

44

كلمتا "أنت" و"أنا" تفصلان بين الأشياء. غير أن هذا الفَصْل في هذا الصمت والسكينة الغريبين معدوم. ففيما كنت تنظر خارج النافذة، بدا وكأن المكان والزمن بلغا نهايتهما، وكأن المكان الفاصل لم يكن حقيقيًّا. ورقة الشجر تلك، وشجرة الكينا تلك، والماء الأزرق المشع، لم تكن مختلفة عنك.

التأمل في الحقيقة شديد البساطة. نحن الذين نعقِّده، ننسج شبكة من الأفكار تطوِّقه – ما هو وما ليس هو. لكنه ليس شيئًا من هذه الأشياء. ولأنه شديد البساطة إلى هذا الحد فهو يتملص منَّا، لأن أذهاننا شديدة التعقيد، أبلاها الزمن الذي تتأسَّس عليه. وإذ يُملي هذا الذهنُ على القلب نشاطَه، تبدأ المشاكل. غير أن التأمل يجيء مجيئًا طبيعيًّا، في يُسْر خارق، حين تسير على الرمل أو تنظر خارج نافذتك أو ترى تلك التلال البديعة تشويها شمسُ آخر الصيف. لماذا نحن البشر على هذا القدر من تعذيب أنفسنا، تملأ الدموع عيوننا ويرتسم ضحكٌ زائف على شفاهنا؟ لو أنك تستطيع أن تسير وحدك بين تلك التلال أو في الغابات أو على طول الشاطئ ذي الرمال البيضاء المحروقة، لعرفت في تلك الوحدة ماهية التأمل.

وَجْدُ الوحدة يجيء حين لا تخشى من أن تكون وحدك – حين لا تعود منتميًا إلى العالم أو متعلقًا بأيِّ شيء. إذ ذاك، مثل ذلك الفجر المنبلج هذا الصباح، يجيئك في صمت، ويرسم دربًا ذهبية في السكينة نفسها، التي كانت في البدء، وهي كائنة الآن، وستكون دومًا.

45

التأمل هو حركة في المجهول وحركة للمجهول. لستَ موجودًا؛ وحدها الحركة موجودة. فأنت أصغر أو أعظم من أن تستوعب هذه الحركة. ليس وراءها شيء أو أمامها. إنها تلك الطاقة التي لا يستطيع الفكر–المادة أن يمسَّها. الفكر تحريف؛ إذ إنه نتاج الأمس. إنه واقع في شِراك القرون، وهو بالتالي مشوَّش، مبلبل. مهما فعلت فإن المعلوم لا يقدر أن يبلغ إلى المجهول. فالتأمل هو الموت عن المعلوم.

46

تأملُ ذهنٍ صامتٍ بالكلِّية هو البَرَكَة التي يسعى إليها الإنسان أبدًا. وفي هذا الصمت توجد خواص الصمت كافة.

47

ما أن تضع الأساس للفضيلة – وهي النظام في العلاقة – تتكوَّن خاصيةُ المحبة والموت هذه، التي هي الحياة برمَّتها. عندئذٍ يصبح الذهن خارق الهدوء، طبيعيَّ الصمت، وليس مرغمًا على الصمت من خلال القمع والانضباط والسيطرة – وذلك الصمت هائل الثراء.

فيما يتعدى ذلك، ما من كلمة، ما من وصف فيه طائل. عندئذٍ لا يتساءل الذهن عن المطلق، لأنه لا حاجة له إلى ذلك. إذ إنه في ذلك الصمت هناك ذاك الكائن. وهذا في مجمله هو بَرَكة التأمل.

48

كانت التلال بعد الأمطار بديعة. كانت ما تزال بنِّية من شمس الصيف، وقريبًا سوف تخرج منها الأشياء الخضراء كلها. كان المطر قد هطل في غزارة شديدة، وجمال تلك التلال كان لا يحده وصف. كانت السماء ما تزال غائمة، والهواء عابقًا برائحة السماق والمريمية والكينا. كان بديعًا المكوثُ بينها، حين استولتْ عليك سكينةٌ غريبة. فخلافًا للبحر الذي كان واقعًا بعيدًا إلى الأسفل منك، كانت تلك التلال ساكنة تمامًا. وفيما أنت تراقب وتنظر من حولك، تركت كلَّ شيء في الأسفل في ذلك البيت الصغير – ثيابَك، أفكارَك، وأساليبَ الحياة الطارئة. هنا كنتَ مسافرًا في خفة شديدة، بلا أية خواطر، متخففًا من كلِّ الأعباء، شاعرًا بالفراغ التام والجمال الكلِّي. والدغلات الخضراوات الصغيرات سرعان ما سوف تَصِرْنَ أشد اخضرارًا، وفي غضون أسابيع قليلة سوف تشتد رائحتهن. السمَّانيات كنَّ ينادين وبضعٌ منهنَّ طار. من حيث لا يدري، كان الذهن في حال تأمل، وكانت المحبة تتفتح فيها. فقط في تربة التأمل هذه، على كلِّ حال، يمكن لهذه الزهرة أن تتفتح. كان الأمر رائعًا تمامًا بحق. والعجيب فيه أنه طوال الليل استمر يلاحقك. وحين استيقظت، قبل شروق الشمس بوقت طويل، كان ما يزال هناك في قلبك، متصفًا بفرحه المذهل، بلا أية غاية إطلاقًا. كان هناك، بلا سبب، يترعك نشوة. وظل هناك طوال النهار كلِّه، دون أن تسأله أو تدعوه قط إلى المكوث معك.

49

هناك، على الشرفة المعطَّرة، حينما يكون الفجرُ بعيدًا ما يزال والأشجارُ بعدُ صامتة، الجوهرُ هو الجمال. لكن هذا الجوهر غير قابل للاختبار. فعلى الاختبار أن يتوقف؛ إذ إن الاختبار يعزِّز المعلوم وحسب. والمعلوم ليس الجوهر أبدًا.

التأمل ليس أبدًا المزيد من الاختبار؛ إنه ليس فقط إنهاء الخبرة – وهي الاستجابة للتحدي، كَبُر أم صَغُر – بل هو فتح الباب على الجوهر، فتح باب أتون ملتهب، نارُه مُفنِية تمامًا، دون أن تخلِّف أيَّ رماد. ما من بقايا ثمة. والبقايا نحن – القائلون نَعَمْ لآلاف البارحات، السلسلة المتواصلة من ذاكرات لا تنتهي، من الاختيار واليأس. الذات الكبرى والذات الصغرى هما نموذج الوجود، والوجود هو الفكر والفكر هو الوجود، بوجعه الذي لا ينتهي أبدًا.

في لهب التأمل ينتهي الفكر، ومعه الشعور – فكلاهما ليس المحبة. ومن دون المحبة، لا جوهر ثمة؛ من دونها ليس ثمة إلا رماد يتأسَّس عليه وجودُنا. ومن الفراغ تكون المحبة.

50

التأمل فعل الصمت.

51

ليس للتأمل من بداية ثمة ولا من نهاية؛ ليس فيه من نجاح أو من إخفاق، لا من امتلاك ولا من زهد. إنه حركة لا غائية لها، وبالتالي، تجري أبعد من الزمن والمكان وتعلو عليهما. اختباره هو نفي له؛ إذ إن المختبِر مشدود إلى الزمن والمكان، إلى الذاكرة والتعرف. أساس التأمل الحق هو ذلك الانتباه المنفعل الذي هو الحرية المطلقة من أية مرجعية أو طموح، حسد أو خوف. التأمل لا معنى له، ولا مغزى منه على الإطلاق، من دون هذه الحرية، من دون معرفة النفس. فمادام هناك اختيار لا معرفة للنفس ثمة. فالاختيار ينطوي على نزاع، يحول دون فهم الموجود. والشرود في نوع من جمحات الخيال، في نوع من المعتقدات الرومانسية، ليس التأمل. فعلى الدماغ أن يتجرد من كلِّ أسطورة ووهم وأمان، ويواجه حقيقة زيفها. ما من تَلَهٍّ ثمة، بل كلُّ شيء هو ضمن حركة التأمل. الزهرة هي الشكل، العبير، اللون، والجمال – التي تشكِّل كلِّيتها. قطِّعْها مِزَقًا، فعليًّا أو لفظيًّا، فلا يبقى من الزهرة شيء: فقط استذكار لما كانت عليه – وهو ليس الزهرة أبدًا. التأمل هو الزهرة كلُّها، في جمالها وحياتها وذبولها.

52

التأمل هو الحرية من الفكر، وحركةٌ في وَجْد الحقيقة.

53

كان هدوءٌ شديد يخيِّم على ذلك الوقت الباكر من الصباح؛ إذ لم يكن عصفور واحد أو ورقة شجر تأتي بحركة. والتأمل، الذي بدأ في أغوار مجهولة، واستمر في شدة واكتساح متصاعدين، كان ينتقش في المخ، محوِّلاً إياه إلى صمت تام، جارفًا أعماق الفكر، مجتثًّا الشعور، مُفْرِغًا المخ من المعلوم ومن شبحه. كان الأمر عملية جراحية، لكنْ من غير فاعل، من غير جرَّاح. كان يتواصل، شأنه شأن جرَّاح يُجري عملية على سرطان، فيستأصل كلَّ نسيج مصاب بالعدوى، لئلا تنتقل العدوى من جديد. هذا التأمل تواصَل مدة ساعة في حساب عقارب الساعة. وكان تأملاً من غير متأمِّل. فالمتأمِّل يتدخل بحماقاته وغروره، بطموحاته وطمعه. المتأمِّل هو الفكر، يقتات من هذه النزاعات والإصابات؛ لذا على الفكر في التأمل أن يتوقف تمامًا. هذا هو الأساس للتأمل.

54

التأمل هو التعالي على الزمن. فالزمن هو المسافة التي يسافرها الفكر في منجزاته. والسَّفَر يكون دومًا على الدرب القديمة، متستِّرةً بِطِلاء جديد، بمَشاهِد جديدة، لكنها دومًا الدرب نفسها، لا تقود إلى أيِّ مكان – ماعدا الألم والشقاء.

فقط حين يتعالى الذهنُ على الزمن تكف الحقيقة عن كونها تجريدًا. إذ ذاك فإن الغبطة ليست فكرة مشتقة من اللذة، بل واقع فعلي ليس لفظيًّا.

إفراغ الذهن من الزمن هو صمت الحقيقة؛ ورؤية هذا هي الفعل. إذ ذاك يزول التقسيم بين الرؤية والفعل. ففي الفاصلة بين الرؤية والفعل يولد النزاعُ والبؤس والتشويش. أما ما لا زمن له فهو الدائم أبدًا.

55

أبطأ الفجر في المجيء. كانت النجوم ما تزال متلألئة، والأشجار ما تزال غافية منسحبة. ما من طائر كان ينادي، ولا حتى الأبوام الصغار التي تنعب مبعبعة طوال الليل من شجرة إلى أخرى. كان هدوء عجيب مخيمًا – ما خلا زمجرة البحر. وكان الجو عابقًا برائحة أزهار عديدة وأوراق شجر متعفنة والتراب البليل. كان الهواء ساكنًا جدًّا جدًّا، والرائحة تفوح في كلِّ مكان. الأرض كانت في انتظار الفجر والنهار الآتي، وكان ثمة لهفة وصبر وسكينة غريبة. والتأمل تواصَل مع تلك السكينة، وتلك السكينة كانت المحبة. لم تكن محبة شيء أو أحد ما – الصورة والرمز، الكلمة والرسوم. كانت محبة وحسب، بلا عاطفة، بلا شعور. كانت شيئًا تامًّا في ذاته، عاريًا، شديدًا، بلا جذور ولا اتجاه. صوت ذلك الطائر البعيد كان تلك المحبة. كانت الاتجاه والمسافة. كانت حاضرة، بلا زمن ولا كلمات. لم تكن انفعالاً قاسيًا، لا يلبث أن يزول. الرمز أو الكلمة قابلة لأن تُستبدَل بها كلمةٌ أخرى، لكن الشيء لا. وإذ كانت عارية، كانت مشرعة تمامًا، وبالتالي لا يُفنيها شيء. كانت تتصف بالقوة العصيَّة لتلك الآخَرية، لذلك الغير قابل للعلم، القادم عبر الأشجار وفيما يتعدى البحر. التأمل كان صوت ذلك الطائر يصدح من قلب ذلك الفراغ، وكان زمجرة البحر الراعد في مواجهة الشاطئ. المحبة لا تكون إلا في الفراغ التام. كانت الفجر المائل إلى الرمادي هناك، بعيدًا فوق الأفق، والأشجار كانت أشد دكنة وكثافة حتى. في التأمل لا تكرار ثمة، لا استمرارية للعادة، بل موتٌ لكلِّ ما هو معلوم وتفتحٌ للمجهول. كانت النجوم قد توارت والغيوم صَحَتْ مع الشمس القادمة.

56

التأمل حالُ ذهن ينظر إلى كلِّ شيء في انتباه كامل، في تمامه، وليس في مجرد أجزاء منه.

57

التأمل تدمير للأمان. وثمة في التأمل جمال عظيم، ليس جمال الأشياء التي رَصَفَها الإنسانُ أو الطبيعة بعضها إلى بعض، بل جمال الصمت. وهذا الصمت فراغ، فيه ومنه تفيض الأشياء كلُّها وتستمد وجودها. إنه غير قابل للعلم، والعقل والشعور لا يمكن لهما أن يشقَّا طريقًا إليه؛ إذ لا سبيل إليه، وكل منهج إليه هو من مبتكرات دماغ جَشِع. سُبُل الذات التي تحسب حسابًا ووسائلها كلها ينبغي أن تُدمَّر عن آخرها. كل تقدم أو تقهقر – طريق الزمن – يجب أن يوضَع له حدٌّ، بلا غد مأمول. التأمل هو التدمير؛ وهو خطر على أولئك الذين يمنُّون النفسَ بحياة سطحية، بحياة قوامها بنات المخيِّلة والخرافة.

58

الموت الذي يجلبه التأمل إنما هو خلود الجديد أبدًا.

59

ثمة شيء على غاية من الروعة إذا اتفق لك أن تقع عليه. في إمكاني أن أخوض فيه، لكن الوصف ليس هو الموصوف. يتعين عليك أنت أن تتعلم هذا كلَّه بأن تنظر إلى نفسك – فما من كتاب، ما من معلِّم في وسعه أن يعلِّمك عن هذا الأمر. لا تتكل على أحد، لا تنتسب إلى تنظيمات روحية – إذ على المرء أن يتعلَّم هذا كلَّه اعتبارًا من نفسه. وبذلك سوف يكتشف الذهنُ أشياء مذهلة. لكن ذلك يتطلب انعدام التجزئة، وبالتالي، استقرارًا وتجاوبًا ومرونة لا حدود لها. في مثل هذا الذهن ينعدم الزمن، وبهذا يحيا معنى مختلفًا تمامًا.

*** *** ***

ترجمة: ديمتري أفييرينوس

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود