القرب المُعْمي من الواقع: مقدمة
ميشيل بيتبول
لا ترى التجريبية أننا بحاجة إلى معرفة ما الذي نبحث عنه، وإلا
ما كنا لنبحث عنه؛ ولا ترى العقلانية أننا بحاجة إلى عدم معرفة
ما الذي نبحث عنه، وإلا فإننا مرة أخرى ما كنا لنبحث عنه.
م. مرلو بونتي
M. Merleau-Ponty
-
Phénoménologie de la perception
ما
هو الحقيقي؛ ومن هو الواقعي؟ إن "الواقع"
réel،
هذه اللفظة - القيمة، و"الواقعية"،
réalisme
هذه اللفظة - العقيدة، هما كلمتان فائقتا التحديد بدرجة كافية
لكي يمكن لهما أن تغطيا، دونما صعوبة تذكر، ووفقًا للظروف،
مواضع شبه متعارضة. وتبدو مسألة معرفة ما هو الواقعي محسومة في
الحقيقة مقدمًا بمقتضى المفردات المستخدمة، في الجدل التقليدي
الذي يتواجه فيه الواقعيون العلميون من جهة والتجريبيون أو
الذرائعيون (الأداتيون) من جهة أخرى. والحال أن التجريبي
يستطيع التصرف بسهولة إزاء هذا التصنيف المسبق، بمواجهته بشبكة
قراءته الخاصة وبمصطلحاته الخاصة. وهو يرى أن الفلاسفة الذين
يصفون أنفسهم بأنهم واقعيون علميون عليهم أن يسموا أنفسهم
بالأحرى "عقلانيين"، لا بل (إذا ما أبدوا تصلبًا) "عقلانيين
عقائديين". أفلا يميلون إلى الاعتقاد بوجود كينونات بيِّنة
(مدركة بالعقل)، تسلم بها نظريات ذات ركائز رياضية، والتي ليس
مستوى ظاهراتها المتجلية في المختبر وفقهم سوى الأثر أو
البرهان غير المباشر عليها؟ ألا يقتربون بذلك من بعض العقائد
المثالية التي يبدو أن كل شيء بدءًا بتسميتها كان يفصل مع ذلك
بينها؟ وبمواجهة ذلك، فإن التجريبي، الذي يحفظ دائمًا نظره
متجهًا نحو الحقائق العينية، أو الملموسة أو بشكل أعمٍّ
الحسية، التي يختبرها الباحث يمكن أن يقع في مطب اعتبار نفسه
أنه "الواقعي"[1]
الأصيل الوحيد، فيستعيد بذلك لصالحه اللفظة - القيمة "حقيقي".
يعيد الواقعي والتجريبي، في إطار دراسة العلوم، إنتاج بنية
الديالكتيك الأقدم للفيلسوف وللفنان. إن الفيلسوف، وفق بول
فاليري[2]
P. Valery،
يعمل على رؤية اللامرئي إلى حدِّ أنه يكون عليه أن يجتاز من
أجل ذلك المرئي متجاهلاً إياه؛ أما الفنان فإنه على العكس
يستنفذ ذاته في العودة إلى المرئي، على الرغم من المدرَك
المعقول المشبع به. يوجِّه الفيلسوف انتباهه، إلى ما وراء مثل
هذه الأوجه التي يتم الحصول عليها تحت منظورات معينة، نحو
[...] هندسية هذه المناظير وكافة المناظير، أي إلى الحدِّ أو
المصطلح الذي لا منظور له حيث يمكن اشتقاقها كلها منه [...][3].
أما بالنسبة للفنان، فإنه لا يريد أن يفقد شيئًا من المظهر ومن
تغيراته، ومن إضاءته غير المؤكدة، ومن وجوده غير الموصوف. فهو
يرفض على سبيل المثال أن يتنصل من أن "[...] البحر يمتد في عمق
المشهد"[4]،
باسم أفقيته المتصوَّرة وعمقه الذي نستشعره. وهكذا فإنه يصبح
من السهل تحديد وجود مؤشر على تسلسل مزدوج، يمتد من "فيلسوف"
فاليري إلى الواقعي العلمي، ومن الفنان إلى التجريبي. نجد هذا
المؤشر بداية عند غاليليه، الذي كانت الواقعية العلمية عنده،
المعارضة بشكل مأساوي لذرائعية الكردينال بلارمين
Bellarmin،
هي صلة الوصل لخيار مقصود لصالح عقلانية رياضية مستلهمة من
أفلاطون[5].
ونكتشفه بعد ذلك عند إرنست ماخ
E. Mach
الذي يرى أن التجريبية بلا توفيقيات وُلدت، في اعترافه الصريح[6]،
من تجربة فنان عاشها خلال فتوته: وهي تجربة ذوبان انطباعي
للعالم وللأنا في ما لا يحصى من اللمسات الحسية.
لكن مما لا شك فيه أن السمة غير المفسَّرة للتعارض بين
الواقعية العلمية والتجريبية تتأتى من أن أنصار هاتين
العقديتين لا يحاولون تعميق الجهد المزدوج في اتجاهين، جهد
"الفنان" باتجاه الأصل المزعوم للمعرفة، وجهد "الفيلسوف"
باتجاه هدفه الذي خطط له، بل يتجهون عمومًا لإنهاء بحثهم إنهاء
مثاليًا.
غالبًا ما يتصرف الواقعي العلمي كما لو كان يملك سلفًا تمثيلاً
مستنفدًا للعالم، يضمِّنه واقعَ أننا نشكل جزءًا منه كظرف
هامشي، والذي يفسِّر أنه يمكن أن يظهر لنا كما هو يبدو لنا.
وحتى لو غير الواقعي العلمي تمثيله هذا خلال التاريخ، لكن
خياره الأساسي يبقى، وهو تقييم كل ظاهرة وكل شهادة وفق مقياس
رؤيته الفكرية الشاملة، بدلاً بالأحرى من حصول العكس. وقد
اتخَذ هذا الخيار في الفيزياء المعاصرة الشكل الشفاف لعلاقة
تراتبية بين "التناظر" و"شرخ التناظر". إن معظم الفيزيائيين
يعتبر أن عدم تغيُّر المقادير أو القوانين بتأثير منظومة دائمة
من التحولات (راجع الفصل الثالث) إشارة لا ريب فيها على أن هذه
المقادير أو هذه القوانين تصف فعلاً "واقعًا مستقلاً". فالبقاء
ثابتًا لا يتغير على الرغم من التغيرات الظاهرة والتنوع
اللانهائي للمقاربات، تلكم هي الميزة الذي يعرف بها الواقع. إن
التناظرات التي تعبِّر عن عدم التأثر الكامل بما يصفه تغيُّر
وجهة النظر، تميل مذاك لأن تصبح محمَّلة بمعنى أنطولوجي يضاف
إلى أهميتها المنهجية ويكرسها: أفليس من المغري، على غرار
"أينشتين البرمنيدي" وفقًا لوصفِ كارل بوبر[7]،
أن نرى في ذلك دليلاً لنا نحو الثبات المفترض للكائن إلى ما
وراء دفق الظهور؟ وعلى النقيض من ذلك، فإن الظاهرة المحلية،
والمعايَنة المعزولة، لا يمكنهما أن ينتجا إلا من تحديد، أو من
جهل أو من قابلية انقسام. إن تقريرًا تنقصه بعض عناصر اللاتغير
يؤخذ كشاهد متبق عن تناظر أوسع يمكن أن يُستدلَّ عليه من خلال
شرخ في التناظر.
تكمن المشكلة أنه فقط في نظر منظومة المفاهيم النظرية
المنجَزَة (بشكل مؤقت) إنما تتبدى الظاهرات والمعاينات
الواقعية كمشتقات بسيطة لثابت شكلي يفترض أنه يمثل رفلاً من
الواقع أو طرفًا منه. إن الاستراتيجية التي تشتمل على تقديم
البيانات الخاصة على أنها ناتجة عن "شرخ" منظومة أساسية، بل
و"واقعية"، لا تقوم في العمق سوى بترجمة هذه الدرجة
الاستنباطية كما والثقة الموضوعة فيها. غير أن هذا الوضع انقلب
تقريبًا خلال صيرورة إعداد النظريات. فخلال عملية (إعادة)
صياغة النظريات العلمية، تم تفسير استحالة دمج بعض النتائج
الواقعية، دون القيام بمراجعات ممزِّقة، في منظومات الثوابت
المتوفرة كإشارة على مقاومة للأشياء، أو أيضًا كتعبير على
"شحنة الغيرية"[8]
التي على النظري أن يأخذها بعين الاعتبار. إن غياب التناظر
يعدُّ في وقتنا الحالي أنه التجلي الوحيد للواقع الذي نحاول
سبره، في حين أن الثوابت الشكلية المستخدمة والمطبَّقة، تلك
التي تمَّ رفضها أو تلك التي اقترحت حديثًا وأخضعت لاختبار
التجربة، فيتم النظر إليها دونما لبس كإنتاجات للذكاء
العلمياتي الذي تترجمه الرياضيات.
لهذا فإن عصور العلم "الثوري" هي عصور ملائمة للشكِّ اتجاه
الموضوع المفترض للبحث، وللعودة الانعكاسية نحو ما نعدّه مثل
مصادر تجريبية له[9].
إن موقفًا ذرائعيًا أو تجريبيًا كلاسيكيًا، يهدف إلى إدامة
وتوسعة هذه المرحلة من انكفاء المعتقدات، لن يلقى مع ذلك موانع
أقل من الموقف الواقعي الذي يديم من جهته ويطيل مرحلة الالتزام
الأنطولوجي البحت لفترات "العلم العادي". وليست هذه الصعوبات
سوى المقابل الدقيق للصعوبات التي تصطدم بها الواقعية العلمية.
فكما أن الواقعي يتوضع من وجهة نظر تمثيل للعالم المنجَز، فإن
التجريبي الكلاسيكي يتخذ موضعه من منظور مطابقة منجزة للمادة
الواقعية للمعرفة. ويصطدم التجريبي الكلاسيكي كما الواقعي
بتفنيد عدم اكتمال تكويني للصيرورة التي يحرِّضها. فماذا عن
الوقائع "البحتة"، المجردة من توجه نظري مسبق؟ وكيف نجيب على
ملاحظة أينشتين التي تقول "إن النظرية وحدها هي التي تقرر ما
الذي يمكن أن يُرصَد"[10]؟
لقد كان لجانب من النقد الفلسفي المعاصر، المستلهم بشكل غير
مباشر من كانط إنما الذي يأخذ أحيانًا شكلاً ظاهراتيًا
وأحيانًا شكل تحليل للغة وللممارسات، رد فعل ضد هذه المبالغة
المزدوجة. وهو يشتمل في خطه العام على معارضة وجهات نظر العمل
الكامل والمنجَز بالملاحظة الملحة التي نكون وفقها، في كل لحظة
من لحظات البحث والتقصي، "في موضع ما ضمن اللامنجز وغير
المكتمل"[11].
إن الظاهراتية، من هسّرل
Husserl
إلى مرلو بونتي
Merleau-Ponty،
تتسم بتجريبية كلاسيكية، حسيَّة، كما وبالقدر نفسه بالتذهنية
التي تلهم الواقعية العلمية. فهي من جهة تأخذ على هذه التذهنية
أنها
[...] تفترض بأنها تحقق في موضع ما ليس بالنسبة لنا سوى نية:
أي منظومة من الأفكار الصحيحة بشكل مطلق، والقادرة على تنسيق
كافة الظاهرات[12].
وهي من جهة أخرى تدين التجريبية الحسية بفقدان منظور أن
الإدراك الحسي يحمل دائمًا اتجاهًا ما، يقوده توجُّه مسبق
محمَّل بـ "تقدير مسبق". وعلى غرار حالة ركود مثالية لكون
يرتكز على ذاته أو في مادة واقعية بحتة متوفرة من أجل بناء
تمثيل ما، فإنها تعارض بين ديناميكية المواريث أو التقاليد
والتوقعات، بين الماضي المخزن في الذاكرة والتأليفات الوارثة
المحتملة له. أما بالنسبة لتيار فلسفة اللغة والممارسات الذي
كان ويتغنشتاين
Wittgenstein
رائده فيتميز بشكل عميق عن الظاهراتية بتصوُّره الأصلي لـ
"مكان ما في اللامنجز أو اللامكتمل" حيث تجري نشاطات البحث.
وهو يشير إلى "هذا المكان" على أنه مجمل أشكال الحياة التقنية
واللغوية في آن واحد التي تتقاسمها مجموعة اجتماعية، بالأحرى
منه مثل دفق من الوعي الحامل للذكريات والتوقعات. وعلى ذلك،
فإن الفكر ما بعد الويتغنشتيني قابل أكثر بكثير للاستخدام بشكل
مباشر بالنسبة لتحليل تطبيقات البحث العلمي من الظاهراتية. غير
أنه في نقده القياسي للتجريبية وللواقعية يتبع إلى حدِّ ما خط
المواجهة والمهاجمة الذي تعتمده الظاهراتية.
وعلى عكس التجريبية الكلاسيكية، يشير هذا الفكر إلى أن تأكيدات
حول المواضيع والقوانين لا يمكن تخفيفها أو تحويلها إلى
التحليل الانعكاسي لسلسلة محدودة من الأحاسيس أو الوقائع، وذلك
ليس إلا لأن هذه التأكيدات لا يمكن أن تكون معزولة عن المنظومة
الكاملة من أشكال الحياة ومن المفترضات المسبقة المرتبطة بها
التي تحدد معناها. وهكذا مقابل الواقعية العلمية في نسختها
العقائدية، فإن الفكر "ما بعد الويتغنشتيني"، يظهر من جهة أخرى
أن التمييز بين الظاهر والواقع، وهو أمر مفيد جدًا في الحياة
اليومية، لا يقتضي بحال من الأحوال الرجوع إلى شيء مفارق بشكل
مطلق. إن الاستراتيجية المشتركة في الفصل بين الواقعي
والمصطنع، والمستخدمة في آن واحد في الحياة وفي العلوم، تسمح
قبل كل شيء بتجاوز لحظة معزولة عن الممارسات والتطبيقات
وبالإحالة إلى دورة من التطبيقات الأكثر تكاملاً؛ على سبيل
المثال تجاوز المحاكمة البصرية اللحظية حول انكسار قضيب مغمور
لنصفه في الماء، ومكاملته في مجموعة من التطبيقات التي تتضمن
انغماره العكوس والتقييم اللمسي لانحنائه. أما الواقعي
العقائدي، فإنه يمد بضربة واحدة حتى اللانهاية السلسلة المرتبة
من الإحالات والإرجاعات؛ فهو يؤسس فكره إجمالاً على كون مفارق
لا تكون كافة الأحكام الإدراكية فيه سوى آثارًا جزئية غير
مباشرة، ولا تستمر كافة التطبيقات والممارسات بالنسبة لها سوى
كوسيلة غير كاملة للوصول. فهو كشخص مبهور ومغيَّب بـ "ما وراء"
ما، يسقط من حسابه أن يولي انتباهه إلى الإجراءات والمناهج
الموجودة ببساطة ههنا. ولما كان مقتنعًا وهو محق باستحالة وجود
نشاط بلا توجُّه، فإنه يترك لنفسه أن يُفتن بالموصوف الذي يحدد
المحرق أو النقطة الأساسية، وينسى موقع الانطلاق المألوف لخطوط
الهرب التي تقود إليه.
تصور لنا فكرة القواعد والفرضيات الرياضية التي يدافع عنها
ويتغنشتين العلاقة الوثيقة القائمة عنده بين نقد الواقعية
العقائدية ونقد الاختزالية الانعكاسية التي تقدم لنا التجريبية
الكلاسيكية مثالاً عليها. فمن جهة، يؤكد ويتغنشتين، كما يشرح
لنا ذلك بوفريس[13]
J. Bouveresse،
على الفارق الكبير بين الإعلان أن "2 × 2 =4" والتأكيد أن
"البشر يعتقدون أن 2 × 2 =4". إن الاختزالية الانعكاسية من
النمط الأنثروبولوجي أو الاجتماعي (المعبر عنها بالمقترح
الثاني) تخفق في الحقيقة في الأخذ بعين الاعتبار لمدى الارتباط
والالتزام الذي تشتمل عليه الفرضية الأولى. ولكن من جهة أخرى،
فإن هذه الاختزالية لفرضية 2 × 2 =4 إلى بيانات حول التطبيقات
والعقائد لا تقتضي عدم وجود وقائع خارجية بشكل جذري على
المستوى المتأصل للتطبيقات والعقائد، والتي تجعل من هذه
الفرضية صحيحة. فمحاولة إقناع متشككين بأن 2 × 2 تساوي واقعيًا
4 لا يختلف بعد كل شيء أبدًا عن محاولة إقناعهم باستخدام هذه
المساواة في عملياتهم الحسابية وفي تسوياتهم وصفقاتهم. فإذا
نجحنا بجعلهم يستخدمون مثل هذه المساواة وإذا أدركوا أن
ممارساتهم وتطبيقاتهم تحسنت بشكل كبير، فلن نشك أبدًا بأنهم
سيصلون عندها فيما يخص هذه المساواة إلى بلوغ درجة من الالتزام
يكافئ بالنسبة لهم القبول (وإعلان ذلك لمتشككين آخرين) بأنها
ببساطة مساواة صحيحة.
يمكن نقل التحليل السابق دونما صعوبة، لقاء بعض التعديلات، من
الرياضيات إلى الفيزياء. فمن جهة، ليس مطروحًا للنقاش أبدًا
ردُّ فرضية مثل "للإلكترونات علاقة تناسب للشحنة على الكتلة
تساوي
e/m"
إلى الفرضية التي تقول "إن المجتمع الحالي للفيزيائيين يعتقد
بأن للإلكترونات علاقة تناسب للشحنة على الكتلة تساوي
e/m".
فقبول الفرضية الأولى يقتضي بأننا مستعدين للإلتزام بممارسات
وتطبيقات تفترض مسبقًا وجود كينونات "الإلكترونات" وفي الوقت
نفسه العلاقة
e/m؛
أما قبول الفرضية الثانية فلا يقتضي بالمقابل شيئًا سوى
التقيُّد على الأقل بشكل كامن ضمن نشاط بحث اجتماعي. ولكن من
جهة أخرى، فإن عدم إمكانية اختزال الفرضية الأولى إلى بيانات
حول المعتقدات والممارسات لا يقتضي أنه يجب الافتراض، من أجل
جعلها صحيحة، وقائع خارجية تمامًا عن المستوى المتأصِّل
للمعتقدات والممارسات والظاهرات الناتجة عن هذه الممارسات. أما
محاولة إقناع أحدهم بأن العلاقة بين شحنة وكتلة الإلكترونات
تساوي واقعيًا
e/m
فهو أمر يعود من حيث الجوهر إلى محاولة إقناعه بأن يترك لنفسه
أن تقاد في بعض هذه الممارسات من خلال المفترض المسبق بأن
كينونات أو جواهر تسمى إلكترونات متوفرة وأنها مزودة بالعلاقة
النوعية "الشحنة على الكتلة". فإذا نجحنا بجعله يطبق مجموعة من
النشاطات التي يقودها هذا الافتراض المسبق، وإذا لاحظ أن
النتائج التي يحصل عليها متوافقة بشكل ملحوظ مع ما جعله التوجه
المسبق المعتَمَد على هذا النحو يتوقعه، فلا شك بأنه سيصل
عندها، فيما يتعلق بالفرضية المعنية، إلى درجة من الإلتزام
مكافئة للقبول بأنها صحيحة. سوف نتوسع في هذا النوع من التحليل
في الفصل الخامس فيما يتعلق بـ "النظرية الذرِّية" وفي الفصل
الثامن فيما يتعلق بـ "الصدفة الموضوعية".
في المحصِّلة، فإن النقد الظاهراتي كما والويتغنشتيني
للتجريبية الكلاسيكية ينتهي إلى موقف في الرؤية، وإلى طريقة
معينة في التصرف تبعًا لهذه الرؤية، إنما ليس إلى عقيدة
واقعية. يبدو الاختلاف غير قابل للإدراك بشكل حسي، خاصة عندما
يهدِّد تبلورٌ عقائدي بتجميد النجاح المستمر للموقف والرؤية
المساعدة له. لكن هذا الاختلاف يصبح حاسمًا عندما تجعل موانع
مؤقتة أو دائمة من الصعب أن نأخذ حرفيًا العناصر المرجعية
والتنبؤية التي تتدخل في الفرضيات النظرية.
لأن هذا الموقف، بالدرجة الأولى، القريب من الموقف الموصوف في
الفصل الرابع بـ "شبه الواقعي"، يترك المجال مفتوحًا للقيام
بإعادة صهر جذرية، الأمر الذي تميل بالأحرى لمقاومته المعتقدات
والآراء المؤسسة جيدًا بواسطة مركَّب عقائدي. أفلا تعلمنا أن
نرى في البنى الشرعية وفي الأنطولوجيات المرتبطة بالنظريات
العلمية نظامًا مقترحًا بدلاً بالأحرى منه نظامًا مفروضًا؟
نظام مقترح عبر النشاطات التجريبية التي تساهم هذه النظريات في
توجيهها وفي تنظيمها، نظام مؤكَّد بشكل وقتي بواسطة قدرة الذين
يفترضونه مسبقًا لإزالة المقاومات التي تنبثق من داخل
التنسيقات التي تؤدي إليها تطبيقاته، وليس نظامًا مفروضًا من
الخارج بواسطة شيء غريب تمامًا عن هذه التطبيقات.
وبالدرجة الثانية، فإن عودة الانتباه للـ "مشترك" بين
الإجراءات التجريبية والمشاريع يسهِّل قراءة غير اتفاقية
للصعوبات المصادفة في البحث العلمي.
وفقًا للتجريبية الكلاسيكية، فإن إخفاق العلوم والحواجز
المنبثقة الناجمة عن ذلك أمران يعودان للسمة المنتهية لقائمة
"المعطيات" التي جعلتها التجريبية متوفرة؛ ووفق نسخ أكثر حداثة
للتجريبية، يجب أن نضيف إلى هذه المشكلة الأولى الابتعاد
المعترف به (والدائم ربما) للهدف الذي يشتمل على العزل بشكل
متواطئ ومشارك لما هو واقعي بحت، أو "معطى" فعلي، في نتائج
التجربة. وعلى العكس، وفق الواقعية العلمية، تتأتى صعوبات
البحث الحالية من المسافة الكبيرة جدًا أيضًا (والمتعذر
إنقاصها ربما، والتي تقود إلى الحديث عن "حجب" أو عن إخفاء)
التي تفصلنا عن الهدف الذي يشتمل على التمثيل المخلص والمستنفذ
للواقع كما هو. والحديث عن الابتعاد، والمسافة، وبالتالي عن
الثنوية، يشير إلى سمات عديدة مشتركة بين التجريبية والواقعية.
ثنائية الواقعي (بشكل حسي) والنظري العقلاني بالنسبة
للتجريبية؛ وثنائية الثابت الواقعي (بشكل موضوعي) والظاهرة
المردودة إلى ذاتية مستقبِلَة بالنسبة للواقعية.
بمواجهة ذلك، فإن إبستمولوجية للـ "مدى"، مخلصة لروح النقد
الظاهراتي أو الوتغنشتيني، ستظهر بداية أن العديد من الصعوبات
المواجهة تتأتى من التعارض بين التوليد المحدود للفرضيات
النظرية والعرض غير المحدود الذي يمكن تعيينه للنشاطات التي
تقود إلى تصور المشروع. وكما كتب محقًا فرانسوا جوليان
Francois Jullien
في كتاب حول موضوع الحضور
immanence،
فإنه يمكن للإنطباع، بأن شيئًا ما مخفيًا، أن ينتج بالتأكيد
ليس عن عدم إمكانية بلوغه، بل من حقيقة أننا لا ننتهي من رؤية
منافذ فيه (أو بشكل أدق من أن تكون لنا منافذ له)[14].
فالحديث عن "إخفاء" هو طريقة ملائمة هنا، على الرغم من
تناقضها، للإحاطة بإفراط ما يظهر نفسه، أو ما تكون التجربة
قابلة لإظهاره.
من جهة أخرى، فإن إبستمولوجية "المشترك" ستجنبنا الاعتماد على
تفاصيل ذات أقطاب مسبقة التشكل، وستتساءل بالأحرى حول شروط
إمكانية بناء مثل هذه الأقطاب. وتشتمل مهمتها الأولية بالتالي
على التعرُّف، في عدد كبير من الحواجز التي يعتمدها التجريبيون
أو الواقعيون في سبيل ترجمة ابتعاد للهدف الذي يجب الوصول
إليه، على إشارة قربه المفرط. أوليس من الواضح (ربما من الواضح
جدًا)، كما يذكر بذلك هنا أيضًا فرانسوا جوليان بأن
[...] أصعب شيء للرؤية [...] هو من رتبة القريب، والمبتذل
واليومي[15]؟
أفلا يمكن أن يحصل، في العلوم كما في الحياة، أن ذاك
[...] يعفي نفسه بوضوح - قريب - إلى درجة أننا رغم وجوده
دائمًا تحت أنظارنا، أو بالأحرى لأنه موجود دائمًا تحت
أنظارنا، فإننا لم نعد نراه [...][16]؟
لقد عالجنا موضوع تكييف النظر هذا، الذي أشرنا إلى ضرورته
الملحة في الفصلين الثاني والسابع، في الفصل الأول فيما يتعلق
بموضوع "التقارب نحو الحقيقي"، وفي الفصل الثالث فيما يتعلق
بالواقعية البنيوية، وفي الفصل الخامس فيما يخص الجواهر الذرية
وفي الفصل السادس فيما يتعلق بالميول.
وأخيرًا، فإن الإبستمولوجية البديلة لـ "في مكان ما في
اللامكتمل" أو لـ "المشترك" تجد نفسها مدعوة لتقديم تفسير
معقول لمناطق استقرار ووحدة المفاهيم العلمية، والتي يبدو أن
تأكيدها على الصيرورة الديناميكية لتشكيل المعارف يبعد هذا
التفسير. أما الواقعية، فتعتقد بأنها تعرف كيف تأخذ على عاتقها
هذه النوى المقاومة للمعرفة من خلال مفهوم توافق جزئي مع
العالم كما هو، وتحاول التجريبية ضبطها بعبارات التوافق أو
التأقلم شبه الأمثلي مع الوقائع. والجواب الذي أقترحه أمام هذا
التحدي (انظر المقطعين 1-6 و 3-6) يرتكز على استعادة فلسفة
تجاوزية وفق نمط براغماتي، فلسفة غالبًا ما تُختزَل إلى
تطلعاتها الأساسية الأولى.
مما لا شك فيه أن التفكُّر حول الميكانيك الكمومي كان ولا يزال
يشكل اختبار هذه المقاربة. إن الميكانيك الكمومي في نسخته
المعيارية يضطرب بشكل واضح أمام القراءة التجريبية وأمام
القراءة الواقعية في الوقت نفسه. فالقراءة التجريبية تصطدم
بغياب مقابل مباشر، في شكلانية هذه النظرية، لمفهوم الأحداث
المتنافية المتأتية عن ذاتها؛ فإذا كان عليها الاستمرار فيجب
إما أن تفرض الحدث من خارج الشكلانية (من خلال المسلمة المضافة
لتقليص حزمة الأمواج)، أو عليها القبول بانفصال كامل بين
التطور الزمني لقوى الحالة الموجهة وسلسلة الأحداث (كما هو
الحال في التفسير المشروط لفان فراسين[17]
Van Fraassen).
أما القراءة الواقعية فعليها من جهتها مواجهة (أو الالتفاف أو
تجاوز) الحالة الأولية التنبؤية، وليس الوصفية، لرموز
الميكانيك الكمومي المعياري. وعلى النقيض من ذلك، وبعيدًا عن
الشعور بهاتين "الغرابتين" للميكانيك الكمومي كعقبتين، فإن
ابستمولوجية للـ "المشترك" ترى فيهما دعوة لا مثيل لإصرارها
للعودة والدراسة المعمقة للعقلانيات الإجرائية والأساليب
المنهجية للتوقع التي تشكل المادة اليومية للبحث. تعتقد
الإبستمولوجيا الواقعية، في مواجهة الميكانيك الكمومي، أنه إما
أن هذه النظرية تميل إلى أن تصف لنا كونًا يقع تمامًا خارج
المألوف، أو أنها ليست سوى مرحلة وسيطة نحو مكان آخر وزمان لا
يمكن تجاوزهما للفيزياء. أما إبستمولوجيا "المشترَك"، فإنها
تأخذ هذه النظرية كفرصة ممتازة لكي نتذكَّر أنه يجب البحث على
الأرجح على مفاتيح فهم العلوم في التحليل الدقيق للمشترك في
الممارسات بدلاً من البحث عنها في مطابقة الصلة التي يمكن
للنظريات إقامتها مع أي مكان آخر مهما كان.
ترجمة: موسى ديب الخوري
*** *** ***