|
تطوُّر علم الطاقة الحيوية
سألني الناس دائمًا: "ما هو الاختلاف بين علم الطاقة الحيوية والعلاج الرايشي؟" وأفضل صيغة للإجابة على هذا السؤال هي متابعة سردنا التاريخي حول تطور علم الطاقة الحيوية. عندما أنهيت مدتي كطبيب مقيم في عام 1952، قفلتُ عائدًا من أوروبا في هذا العام المنصرم، وأدركتُ بعض التغييرات في مواقف رايش وأتباعه. فقد حل محل الشجاعة والإثارة اللتين كانتا واضحتين جدًا، مشاعرَ الاضطهاد واليأس. كان رايش قد أوقف كل علاجاته الفردية وانتقل إلى رانغلي مين Rangeley Maine حيث كرَّس نفسَه للفيزيائية الأورغونية. وحلَّ محل مصطلح "الفيجيتوتِرابي" vegetothérapy أي العلاج العصبي النباتي لسمات الطبع التحليلية، ما أسماه بـ"العلاج الأورغوني". وأدى هذا إلى فقدان الاهتمام بفن تحليل الطبع، وتأكيد أعظم على تطبيق الطاقة الأورغونية وذلك من خلال استخدام جهاز ادخار الطاقة الأورغونية. نَجَمَ الشعور بالاضطهاد في قسمٍ منه عن الموقف النقدي للجمعيات الطبية والعلمية فيما يتعلَّق بأفكار رايش، وقسمٍ آخر بسبب معاداة بعض المحلِّلين النفسانيين له والتي عبَّروا عنها عَلَنًا، وكان كثيرون منهم مستائين، هذا فضلاً عن عامِلٍ ثالث وهو ما يتعلَّق بقلق رايش نفسه هو وأتباعه. وأدى اليأس إلى إخفاق تجربة قامَ بها رايش في مين Maine حيث احتوى مختبره على تفاعل بين الطاقة الأورغونية والنشاط الإشعاعي. فكان للتجربة أثرًا سلبيًا انعكس على رايش ومساعديه، فاعتلَّت صحَّتهم، مما توجَّبَ عليهم تركَ المختبر لبعض الوقت. وعدا عن ذلك كله فإن فقدان الأمل بعلاجٍ للعُصَاب بشكلٍ سريع وفعَّال نسبيًا، قد ساهم أيضًا في نشوء حالةٍ عامة من تثبيط للهمة. أما عني فأنا لم أشاركهم تلك المشاعر، لأن عزلتي عن رايش وأتباعه، خلال خمسة أعوام، قد ساعدتني على احتفاظي بشعور الإثارة وحماسةَ الخمس سنين الأولى. كما أن تنشئتي الطبية المدرسية، والتجربة التي حصلتُ عليها في فترة عملي كطبيب مقيم في المشافي، أقنعَني كل هذا أكثر من أي وقتٍ مضى بالصلاحية العامة لأفكار رايش. وبالنتيجة عانيتُ صعوبةً في التأقلم مع فريق عمل العلاج الأورغوني. ومما زادَ من تلك الصعوبة في التأقلم مع المعالجين الأورغونيين هو إدراكي بأن أتباع رايش قد نمُّوْا تكرُّسًا يكاد يكون تعصُّبًا لشخص رايش وعملِه. ولم يكن الآخرون يعتبِرونه مدَّعِيًا فحسب، بل هرطوقيًا أيضًا، وبالتالي كانت، بالنسبة لي، مناقشة تصريحاته أو تعديل أفكاره غير ممكنة إلا من خلال قاعدةٍ تقوم عليها تجربةٌ شخصية. وعلى هذا النحو كان واضِحًا بالنسبة لي أن موقفًا كهذا، سواءً في معاداته أو اتِّباعه على نحوٍ تعصُّبي، بوسعه خَنق أي عملٍ خلاَّق أو أصلي. وهكذا جعلتني كل هذه الاعتبارات أتبنى موقفًا مستقلاً فيما يتعلق بعمل رايش. بينما كنتُ بهمَّة الروح هذه، حَصَلَ نقاشٌ بيني وبين معالجٍ رايشي آخَر يُدعَى الدكتور بيليتيِر Dr.Pelletier الذي كان خارج الدوائر الرسمية، ففتحَ عينيه حول إمكانية تعديل أو توسيع طُرُق عمل تقنيات رايش. فأثناء عملي كله مع رايش كان هذا الأخير يشدِّد دائمًا على أن استرخاء المنطقة الفكية يجب أن يتم في موقف من التخلي أو الاستسلام للجسد. وفي سنواتي كمُعَالِجٍ رايشي كنت أشدِّد أنا أيضًا على هذه الوضعية. ففي النقاش الذي أشرتُ إليه قبل قليل مع الدكتو لويس بيليتيِر Dr.Louis G Pelletier لاحظَ أنه سيكون من المفيد للمرضَى أن يمدوا منطقةَ فكِّهِم إلى الأمام في موقف تحدٍّ. وحقيقة الأمر أن تحريك هذا التعبير العدواني يساعد في استرخاء بعض توترات عضلات المنطقة الفكية المنقبضة. وتضمَّنَ ذلك بشكل واضح أن هذا التمرين سيكون قابلاً للتنفيذ، ووجدتُني حرًا للمناقشة أو حتى لتعديل مآثر رايش. ووجدتُ فيما بعد أن تمارينًا كهذه يمكنُها أن تكون فعّالةً على نحوٍ أفضل فيما إذا مورِسَت تناوبيًا. إن تحريك العدوانية والتشجيع عليها عند المريض يسهِّل "استسلامه" أوالتخلي للمشاعر الجنسية. ومن جهة أخرى، فإذا ما بدأ الفرد في موقفِ استسلام، فغالبًا ما تحدث في النهاية مشاعِر حزنٍ وغضب بسبب الألم والعذاب اللذين تمَّ اختبارهما من قِبَلِ الجسم. وفي عام 1953 اشتركتُ مع الدكتور جون بيِرَّاكوس Dr.John Pierrakos الذي أنهى مؤخرًا إقامته في مشفى للطب النفسي Kings County Hospital، وكان الدكتور بيِرَّاكوس قد قام بعلاج وفقًا للطرائق الرايشية. كان تابِعًا لرايش. وحتى هذه الفترة كنا نعتبِر أنفسَنا معالِجين رايشيين على الرغم أننا لم نعُد على اتصال بمنظمة الأطباء الرايشيين. خلال عام انضمَّ إلينا الدكتور وليم ب.ويلينغ Dr.William B.Walling وهو ذو تكوين مماثلٌ لذلك الذي للدكتور بيِرَّاكوس Dr.Pierrakos، وكان الاثنان زميلين في مدرسة الطب. كانت النتيجة الأولية لتلك المشاركة برنامجًا لحلَقَاتِ دراسة سريرية قدمنا فيها، شخصيًا، مرضانا كهدفٍ للسعي نحو فهمٍ أعمَق لمشاكلهم النفسية، وفي الوقت نفسه لتعليم معالِجين آخَرين المفاهيم الأساسية للعمل على الجسد. وفي عام 1956 بدأ معهد تحاليل علم الطاقة الحيوية عملَه بشكل رسمي، مؤسِّسين بذلك مؤسَّسةً لا تهدف إلى الأرباح المادية، ولا تسعى إلى هذه الغايات. في أثناء ذلك الوقت، واجَهَ رايش بعض الصعوبات مع قانون الدولة. وكما لو أن الأحداث كانت تجري لكي تؤكِّدَ أكثر مشاعر رايش بالاضطهاد، فمديرية الغذاء والدواء Food and Drug Administration قامَت برفع دعوى قضائية ضدَّه لمنعه من بيع أو شحن المدَّخَرَات الأورغونية وذلك على مستوى التجارة العالمية، وأُقيمَت الدعوى على أساس عدم وجود شيء كهذا المدعو بالطاقة الأورغونية، وعلى هذا فإن بيعه لهذه المدخرات ليس أكثر من نصب واحتيال. رفضَ رايش الردَّ أو الدفاع إزاء هذا الإجراء القانوني زاعِمًا بأن نظرياته العلمية لا يجوز مناقشتها في محكمة العدل. وهكذا أحرزَت مديرية الغذاء والدواء الـ FDA انتصارًا ساحقًا، وذلك بأمر رسمي لتغيُّبِه عن الامتثال أمام القضاء. قالوا إن رايش قد تجاهل الأمر الرسمي، وانتهكَ أحكامَهم، إذ بعدَ قليلٍ من الوقت تم اكتشاف انتهاكِه لأمر المحكمة من قِبَل عملاء للـ FDA، فتمت محاكمته بعدم احترامه للسلطة، وأُعلِنَ أنه مذنبٌ، وحوكِمَ بالحبس في سجن الإصلاح (وهو سجن لإعادة تأديب المحكومين) الفدرالي لمدة سنتين. ومات في سجن Lewisburg في تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1957. إن مأساة موت رايش جعلَتني أفهم أن أي رجلٍ لا يستطيع الاقتصارَ على نفسه. فماذا بوسعنا أن نقول عن فردٍ آلى على نفسه خلاصه الشخصي؟ وإذا كانت كلمة "خلاص" تعني الحرية من "المكبوتات" و"التقييدات" المفروضة على تنشئتنا، فأنا لا أستطيع الاعتراف بأنني توصَّلتُ إلى حالةٍ من النعمة كهذه. وعلى الرغم من أنني أنهيتُ علاجي مع رايش بنجاح إلا أني كنتُ ممتلئًا بالوعي بأنه ما تزال توجد الكثير من التوتُّرات العضلية المزمنة في جسمي، والتي لم تكن تسمح لي باختبار اللذة التي كنت أنتظرها طويلاً. كان بوسعي الشعور بتأثيره الضيِّق على شخصيتي، وكنتُ لا أزال أنشد تجربةً جنسية أكثر اكتمالاً وغنىً، تجربةً كنتُ أدرك أنها ممكنة. كان الحل الذي توصَّلتُ إليه هو أن أبدأ العلاج أيضًا مرةً أخرى. بالطبع لم يكن ممكنًا الرجوع إلى رايش، كما لم يكن لدي ثقة بأي معالِجٍ رايشي آخر. فقد كنتُ مقتنعًا أنه على المقارَبَة أن تكون جسمانية، وبالتالي، حسمتُ الموقف على اختياري للعمل مع زميلي جون بيِرَّاكوس Dr. John Pierrakos في ائتلافٍ مجازف، على الرغم من أنني كنتُ أكبر سنًا وأكثر تجربةً منه. يمكنني القول أنه بدءًا من هذا العمل المشترك على جسمي الخاص قد تم تمثُّل علم الطاقة الحيوية. فالتمارين الأساسية التي استخدمناها قد تمَّ اختبارها من قِبَلي أولاً، ذلك أن تجربتي الشخصية علَّمَتني كيف يمكننا استخدامها، وأية نتائج يمكن أن تؤدي إليها. وطوَّرتُ طوالَ هذه الأعوام التقنية على أن أختبِرَ بجسمي نفسِه كل ما كنتُ أطلبه من مرضايَ، ذلك أنني لا أومن أن من حقنا الطلب من الآخرين ما لم نكن نحن أنفسنا مهيئين لأن نطلبه من جسمنا، هذا ومن جهة أخرى، فأنا لا أؤمن أن بوسعنا أن نفعل للآخرين ما ليس بوسعنا أن نفعله لأنفسنا. دام علاجي مع بيِرَّاكوس Pierrakos نحو الثلاثة أعوام. وكان لهذا سمةً مختلفة بشكل كامل عما كنتُ أقوم به مع رايش. فقد حوى هذا العلاج عددًا أقل من التجارب الانفعالية تلقائيًا. وكان ذلك بشكل أساسي لأنني كنت أوجِّه العملَ في جزء كبير على الجسد، ولكن لأن هذا العمل كان يتركز أيضًا على إرخاء التوتُّرات العضلية أكثر من الاستسلام للمشاعر الجنسية. كنت واعيًا تمام الوعي بعدم رغبتي في معاودة المحاولة من جديد. كنتُ أريد بأن يأخذ أحدهم على عاتقه زمام المبادرة، ويقوم بذلك لي. فالمحاولة والسيطرة هما مظهران للسمة العصابية، ولم يكن الاستسلام الكلي بالأمر السهل عليَّ. كنتُ قادِرًا على فعل ذلك مع رايش بسبب احترامي لمعرفته وسلطته، لكن استسلامي كان مقتصِرًا على تلك العلاقة. وحُسِمَ الصراع بواسطة التزام. ففي النصف الأول من الجلسة كنتُ أشتغِلُ على نفسي واصِفًا أحاسيسَ جسدي لبيِرَّاكوس، وفي النصف الثاني من الجلسة كان يضغط على العضلات المتوتِّرَة بيديْه القويتين والحارتين مرخيًا إياها على نحوٍ يسمح بجريَان اهتزازات الطاقة. باشتغالي على جسمي نفسه، طوَّرتُ وضعيات وتمارين أساسية تُعتبَر اليوم قواعِد علم الطاقة الحيوية. ولاحظتُ أنني كنت بحاجة للشعور أكثر وعلى نحوٍ كامل بساقيَّ، وأزمعتُ على بدء الجلسة في وضعية عمودية، لا مائلة على نحو ما كان يقوم به رايش. وكنتُ أمطمط الساقين وأدوِّر أصابعي نحوَ الداخل، وأطوي ركبتيَّ، وأحني الظهر في محاولةٍ لتحريك المنطقة السفلى من جسمي. وكنتُ أبقى في هذه الوضعية لعدة دقائق، ذلك أنها تجعلني أشعر بأني أكثر قربًا من الأرض. كان لطريقة العمَل هذه أثرًا إضافيًا إذ جعلَتني أتنفَّس مع البطن على نحوٍ أكثر عمقًا. وفي حقيقة الأمر تُسَبِّبُ هذه الوضعية ضغطًا ما في القسم الأسفل من ظهري، وكنت أقوم بعكس هذه الوضعية بمَيَلانٍ إلى الأمام وملامسة الأرض بخفة برؤوس الأصابع، مبقيًا على ركبتيَّ مطويتين بشكلٍ خفيف. وبدءًا من هنا، بدأت الشعور أكثر بساقيَّ اللتين بدأتا شيئًا فشيئًا بالاهتزاز. أصبح هذان التمرينان البسيطان هما مفهوم الاتصال مع الأرض[1] grounding، وهو المفهوم الوحيد لعلم الطاقة الحيوية. وقد تطور هذا المفهوم رويدًا رويدًا عبر السنين بقدر ما صار واضحًا بالنسبة لجميع المرضى شعورهم بعَوَزِهم إلى أن تكون أقدامهم راسخةً بثبات على الأرض. كان هذا العَوَز يعود إلى كونهم "يحلِّقون بين الغيوم"، بعيدًا عن اتصالِهم بالواقع. إن الاتصال مع الأرض grouding هو، بعبارة أخرى، العمل على أن يتصِل المريض مع الواقع من خلال الأرض حيث يطأ بجسمه وجنسانيته. وهكذا صار الاتصال مع الأرض grounding واحدًا من الحجارة الأساسية التي يقوم عليها علم الطاقة الحيوية. سأقدِّم في الفصل السادس عملاً كاملاً حول مفهوم الاتصال مع الأرض grounding، وعلاقته مع الحقيقة والوهم. وسنرى أيضًا في هذا الفصل وصف عدة تمارين مستخدمَة للحصول على الاتصال مع الأرض grounding. من الابتكارات الأخرى التي طوَّرناها طوال مدة هذا العمل كانت "كرسي حمَّال لأجل التنفس". فالتنفس أساسي بالنسبة لعلم الطاقة الحيوية، كما هو الحال بالنسبة للعلاج الرايشي. ومع ذلك فقد كانت مشكلة دائمة أن يتوصل المرضى إلى التنفس بعمق وامتلاء، لا بل ما هو أكثر صعوبة كان التوصل إلى جعل هذا التنفس حرًا وتلقائيًا. أتت فكرة "الكرسي الحمَّال" من ملاحظة الميل المشترَك بين الأشخاص إلى انحنائهم إلى الوراء على مسند كرسي، وذلك بعد جلوسهم لفترة طويلة، إذ يشعرون بالحاجة إلى المطمطة والتنفس. أنا نفسي نمّيتُ هذه العادة خلال العمل مع مرضايَ. وواقع الحال أن الجلوس على كنباية كان يجعل تنفسي يبدو ضعيفًا، واعتدتُ على إمالَة رأسي إلى الوراء ومطمطة جسمي لكي أجعل من تنفسي يعود ليصبح عميقًا. إن أول نموذج عن الكرسي الحمَّال الذي استعملناه كان مرقاة مطبخٍ خشبية ارتفاعها ستون سنتيمترًا، وكانت ملفوفة بغطاء مربوطة به بشدة. وبالاتكاء على هذا المقعد كان الفرد يتوصل إلى مفعول ينشط التنفس دون الحاجة إلى استخدام تمارين نوعية. فأنا شخصيًا استفدتُ من استعمال هذا المقعد أثناء علاجي مع بيِرَّاكوس Pierrakos، وبدءًا من ههنا بدأت باستعمال الجهاز على نحوٍ منتظَم. كانت نتائج الفترة الثانية من العلاج مختلِفَة بشكلٍ واضح. ففي هذه الفرصة كان لدي اتصالٌ مع الحزن والغضب اللذين فيَّ أكثر من أي وقت مضى، وخصوصًا فيما يتعلق بوالدتي. كان لتحرير هذه المشاعر تأثير ممتع. كما وُجِدَت فرصٌ انفتح فيها قلبي وشعرتُني مشرِقًا ومنتعِشًا. إلا أن الأكثر أهمية من ذلك كان حسِّي الدائم بحضوري الجيد الذي كنت أشعر به. وكان جسمي يصير أكثر استرخاءً وقوةً بشكلٍ تدرجي. كما أذكر كيف نحيتُ عني الشعور بالضعف. وكنت أشعر أنني حتى ولو تعرضتُ لإهانة فهذا لن يجعلني أتحطم إلى عدة أجزاء. كما تحرَّرتُ أيضًا من الخوف اللاعقلاني من الألَم. فقد تعلَّمتُ أن الألم كان يأتي من التوتر، واكتشفتُ أنه باستسلامي للألَم سيكون بوسعي اكتشاف التوتر الذي كان وراء الألَم، وكانت طريقة العمل هذه تجلب الاسترخاء على نحوٍ غير متبدل. من الجدير بالذكر أن انعكاس هزَّة الجماع كان يحصل أثناء العلاج عَرَضيًا. ولم أكن قلقًا إزاء هذا الغياب لأنني كنت أركِّز على توتراتي العضلية، وهذا العمَل المكثَّف قد استولى على انتباهي إلى درجة لم أعطِ أهميةً فيها لعملي على استسلامي للمشاعر الجنسية. وكانت نزعتي للقذف المبكر مستمرة على الرغم من نجاحي الظاهري في علاجي مع رايش، وتناقَصَت هذه النزعة بشكلٍ كبير وصارَت استجابتي للذروة الجنسية أكثر إشباعًا. قادَني هذا التقدُّم إلى فهم الطريق الأكثر فعاليةً للوصول إلى مركز صعوبات المريض الجنسية، ويكمن هذا الطريق في العمل على مشكلاته الشخصية، هذه المشكلات تتضمن لزومًا مشاعر الذنب فيما يتعلق بالجنس والقلق. التشديد الذي أولاه رايش للجنسانية، رغم أنه صحيح، نادرًا ما كان يؤدي إلى نتائج يمكن الحفاظ عليها في ظروف الحياة الحديثة. أكَّدتُ كمحلِّلٍ رايشي على أهمية تحليل الطبع. ففي معالجتي معه كان هذا الجانب من العلاج مصغَّرًا إلى حدٍّ ما. كما قُلِّلَ من شأنِه عندما تحول "الفيجيتوتِرابي" vegetothérapie "العلاج العصبي النباتي" لسمات الطبع التحليلية إلى علاج أورغوني. وعلى الرغم من أن عمل تحليل الطبع يأخذ وقتًا وصبرًا طويلين، فإنه يبدو لي أنه لا غنى عن عمل كهذا فيما إذا أردنا نتيجةً متماسِكَة. وهكذا قرَّرت بهذا الشأن، وبصرف النظر عن الأهمية المعطاة للعمل على التوترات العضلية، أن يستحق أي شخص كان، ويتصرَّف بشكل ما، انتباهًا مساويًا بالأهمية للعمل الآنِف الذكر، وذلك من خلال القيام بتحليل الطبع على النحو الاعتيادي. قمتُ بدراسة مكثفة حول أنواع الطبع المتعلِّقَة بالديناميات الجسمانية والنفسانية لأنماط السلوك. ونُشِرَت هذه الدراسة عام 1958 بعنوان الديناميات الجسمانية لبنية الطبع[2] The Physical of character Structure. وبالرغم من كونه غير مكتمِل في علاقته بأنواع الطبع، فهو يشكِّل قاعدة العمل كله حول الطبع في علم الطاقة الحيوية. كنت قد أنهيتُ عملي مع بيِرَّاكوس Pierrakos سنين كثيرة فيما قبل، وشعرتُ بارتياح كبير لما حققناه. ومع ذلك فإذا ما سألني أحدهم: "هل وجدتَ حلاً لكل مشكلاتك، وهل أكملتَ نموَّكَ، وهل حقَّقتَ كل قدرتك كشخص وأرخيتَ كل توتراتك العضلية؟" فإن إجابتي ستكون: "لا". توجد مرحلة يشعر فيها الفرد أنه ليس في حاجةٍ إلى متابعَة العلاج، وإذاك فإنه يتخلَّى عنه. وإذا كان العلاج ناجحًا جدًا يشعر الشخص بأنه قادرٌ على الإمساك بزمام الأمور، وتحمُّل المسؤولية الكاملة فيما يتعلَّق بشعور حضوره الجيد، ونموِّه غير المنقطِع. جعلني شيءٌ ما في شخصيتي أميل دائمًا نحو هذا الاتجاه بشكل أو بآخَر. فالتخلِّي عن العلاج لا يعني أنني أوقفتُ العمل على جسدي. لقد تابعتُ القيامَ بتمارين الطاقة الحيوية التي كنتُ أستخدمها مع مرضايَ، سواءً وحيدًا أو مع مجموعة. أؤمن أن هذا الالتزام مع جسدي هو المسؤول إلى حدٍّ ما عن واقع حال استمرار حدوث تغيرات إيجابية كثيرة في شخصيتي. وبشكل عام فإن هذه التغيرات مسبوقة بإدراك أكثر عمقًا لشخصيتي، سواءً بمصطلحات ماضيَّ أو فيما يتعلق بجسدي. والآن، وقد مرَّ أكثر من أربع وثلاثين سنة منذ أن التقيت رايش لأول مرة، وأكثر من اثنين وثلاثين سنة منذ أن بدأت علاجي معه، ومارستُ عملي مع مرضى لأكثر من سبع وعشرين سنة، مشتغلاً ومفكرًا وكاتبًا حول تجاربي الشخصية وتلك التي لمرضاي، تمكَّنتُ من الوصول إلى نتيجة: "حياة فرد هي حياة جسده". ذلك أن الجسد الحي يتضمن كلاً من العقل والروح والنفس، وأن نحيا حياة الجسد بشكل كامل يعني أن نكون منتبهين وروحانيين وشرفاء. وإذا كان لدينا عيب ما في أي من هذه المظاهر لكينونتنا، فهذا يعني أننا كذلك لسنا بشكل كامل مع جسدنا. فقد اعتدنا على معاملة جسدنا كوسيلة أو ماكِينَة. وندرك جيدًا أن هذا الجسد إذا ما أخطأ فستكون الضيقات حليفتنا. وأيضًا الشيء نفسه يمكن إسقاطه على من يملك سيارة ويتعلق بها إلى درجة كبيرة. فنحن لسنا متطابقين مع جسدنا[3]، وفي الواقع غالبًا ما نخون هذا الجسد كما أوردتُ في كتاب سابق[4]. إن كل صعوباتنا الشخصية تأتي في الحقيقة من هذه الخيانة لجسدنا، وأعتقد أن معظم مشاكلنا الاجتماعية تأتي من هذه الخيانة أيضًا. علم الطاقة الحيوية هو تقنية علاجية تساعِد الفرد على أن يلتقيَ مجددًا مع نفسه وجسمه، وأن يستغل أعلى درجة ممكنة من الحياة التي تكمن فيه. وهذا التأكيد على دور الجسد يتضمن الجنسانية، وهي واحدةٌ من الوظائف الأساسية، لكنه يتضمن أيضًا الوظائف الأكثر أساسيةً كالتنفس والحركة والشعور والتعبير الذاتي. فالفرد لا يتنفس بالشكل السليم، وبالتالي فإنه يُنقِص من حياة جسمه. وإذا لم يتحرك بحرية فإنه يحدُّ من حياة جسمه. وإذا لم يشعر بنفسه بشكل كامل فستكون حياته ضيِّقةَ الأفق وستقلُّ درجة تعبيره عن ذاته، وتنتهي لتكون حياة جسده محدودة. في الحقيقة، أن التقييدات للحياة ليست إلزامات طوعية، فهي تنمو كهيئة من البقاء على قيد الحياة في الوسَط العائلي والثقافي الذي يتنكَّر لقِيَم الجسد لصالِح السلطة، والوجاهة، والخيرات المادية. ورغم ذلك، فنحن نقبل تقييدات كهذه في حيواتنا لأمر بسيط هو أننا لا نشكِّك بصحتها. وفي النتيجة، فإننا نخون أجسادنا. وفي هذا السياق، ندمِّر أيضًا البيئة الطبيعية التي يرتبط بها جسمنا للشعور بحضوره الجيد. وبالتساوي فإنه لحقيقي أن أغلبية الناس ليس لديها وعي لصعوبات معينَة تعاني منها أجسادها، وتنتهي عيوب كهذه لتصير طبيعة ثانية مؤلِّفةً هيئتها الاعتيادية للعيش في العالَم. وفي الواقع إن أغلبية الناس تعبُر الحياة مستخدمة جزءًا صغيرًا جدًا فقط مما تحويه من طاقة وشعور. إن غاية علم الطاقة الحيوية هي مساعدة الفرد على استعادة طبيعته الأصلية التي تقوم على وضع الكائن حرًا، وحالته ككائن لطيف، وصفته ككائن جميل. فالحرية واللطافة والجمال هي صفات طبيعية لأي كائن حي حيواني. الحرية هي غياب أي تقييد لتدفُّق المشاعر والأحاسيس، واللطافة هي التعبير عن هذا التدفق في حركات، في حين أن الجمال هو مظهر الانسجام الداخلي الذي يسبِّبه تدفق كهذا. تنمُّ هذه العوامل عن جسم سويٍّ وعقل سويٍّ. الطبيعة الأصلية للكائن الإنساني هي أن يكون منفتحًا على الحياة والحب. ولكن أن يكون محميًّا ومتدرِّعًا ومرتابًا ومنغلقًا على نفسه، فهذا كله يشكل طبيعة ثانية لثقافتنا. هذه هي الطريقة التي نتبناها لحماية أنفسِنا من الألَم، ولكن عندما تصير صفاتٌ مميزة كهذه هيكليات للطبع أو منظومات في الشخصية، فإنها تساهم بدورها أيضًا في تكوين ألم أكثر حدةً، مسبِّبًا حتى بترًا للجسم أكثر خطورة من ذلك الذي يحصل بشكل طبيعي. إذن، غاية علم الطاقة الحيوية مساعدة الفرد على انفتاح قلبه للحياة وللحب. وهذه ليست بالمهمة السهلة. فالقلب محميٌّ بشكل حسنٍ جدًا في قفصِه الصدري، والطرق التي تقود إليه محميةٌ بشدَّة بقدر ما هي جسمانية كذلك نفسانية. ويجب أن يتم فهم هذا الدفاع والعمل عليه لكي نحصل على الغاية المذكورة آنفًا. ولكن ما لم يتم بلوغ ذلك، فستكون النتيجة مشؤومةً. فعبور الحياة بقلبٍ مسجون هو أشبه بالقيام في رحلةٍ عبر المحيطات مقفولاً عليه في قبو السفينة. إن كل المعنى والمغامرة والإثارة وعَظَمَة الحياة بعيدةٌ عن رؤيتها ولمسها. إن علم الطاقة الحيوية مغامرة لاكتشاف الذات. وهي تختلِف عن الأشكال المشابِهَة لاستكشاف طبيعة الكائن من خلال المحاولة والسعي وراء هدف فهم الشخصية الإنسانية في مصطلحات الجسم الإنساني. معظم الاستكشافات السابقة تركزت في أبحاث عن العقل، وقدَّمَت لنا هذه الأبحاث معلومات قيِّمَة، ولكن يبدو لي أنها لم تصِل إلى مناقشة المجال الأكثر أهمية للشخصية، وقاعدة هذا المجال تكمن على نحو دقيق في سياقات الجسم، وبإمكاننا التأكيد بسهولة أن ما يحصل مع الجسم حتمًا يؤثر على العقل، لكن هذا لا يشكل أي جديد. أما موقفي أنا فهو أن سياقات الجسد الطاقيَّة هي التي تحدِّد ما يحصل في العقل بالطريقة نفسها التي تحدِّد ما يحصل في الجسم. ترجمة: نبيل سلامة *** *** *** [1] إن كلمة ground في الإنكليزية تعني تربة، أو أرض. ومصطلح grounding يُطبَّق على ديناميكية أن يكون المرء على الأرض وهو في اتصال معها، وللتعميم فهي تشير إلى مفاهيم الرسوخ والثبات والاتصال مع طاقة الأرض وذلك من خلال مشاركة القدمين واليدين في التمرين المذكور أعلاه. (المترجم) [2] ألكسندر لووِن. الديناميات الجسمانية لبنية الطبع The Physical Dinamics of character Structure (نيويورك Grune & Stratton) وأيضًا متوفر في كتاب الجيب تحت عنوان لغة الجسد The Language of the body (نيويورك Maccmillan 1971) وهو متوفر بالبرتغالية (São Paulo, Summus Editorial 1977) O corpo em terapia. [3] عبارة الجسد هنا يقصد فيها المؤلف كما أشار قبل قليل إلى وحدة الجسم والعقل والنفس والروح، وبالتالي فالتطابق مع الجسد لا يعني التطابق مع الجسم فقط وإنما مع الجسد الذي هو التجلي لعلاقة الجسم والعقل والنفس والروح في وحدة يطلق عليها تسمية الجسد الحي. وسوف نرى فيما بعد كيف أن هذه الوحدة محطَّمَة في الطبع الفصامي الذي يطلق عليه البعض تسميته بالطبع المجزأ.(المترجم). [4] ألكسندر لووِن Alexander Lowen, The Betrayal of the Body (New york, Macmillan, 1967). وفي البرتغالية: O corpo traído (São Paulo, Summus Editorial 1979).(ملاحظة عن النسخة البرتغالية).
|
|
|